القصائد اليونانية، إحدى مجموعات الشاعر محمد الأسعد التي كتبها في العام 1983 في أثينا ونظرا لعدمم توافر الورق في غرفته آنذاك، أو معتقله بالأحرى، فقد سطرها على هوامش كتاب شعري مترجم ضاع منذ ذلك الوقت الى أن عثر عليه أخيرا لدى صديق كان قد زاره في سجنه، واحتفظ بالكتاب وهوامشه.
الأكروبولس
أميرات ذهبيات
من سلالات منقرضة
يتقدمن في فضاء أزرق
حاملات جرار النذور
والضوء الآتي
منذ فجر بعيد
يلامس وجوههن الجانبية
منحدرا على طيات الملابس
وأعضائهن الشفافة
وفجأة
تحت ظلال الأعمدة
ومع أول استدارة للجمهور
يتجمدن غارقات
في الرخام
مائلات للزرقة
ولون التراب
وعطن الخضرة في صدوع الصواري القديمة
يوم الخليقة
على الدرجات الحجرية
يسترخي السائحون ذوو السراويل المتسخة
والصديقات الشرهات
بأقدامهن العارية
وشفاههن المخضرة
من أثر البيرة
أو الماريجوانا
وحيث كانت تقف أثينا
بخصرها المعيق
مطلة على مدينتها
أوقعت في فستان ساحل
وشعر مهمل
امرأة بدينة
بحجم خرتيت أصابه البهاق !
ماراثون
المرشد السياحي
يتحدث عن حرب البلوبونيز
وحطام المعابد
وروائع براكستليز
وهو يحك قفاه بضجر
أو يهرش صلعته
أمام عجائز ألمانيات
تفوح منهن رائحة البول
والمقاعد الجلدية
وزيت البطاطا المقلية
كازانتزاكيس
كيف كتب كازانتزاكيس أشعاره؟
من أين جاء بالآلهة والأبطال مجددا؟
أي أرض خلق
للحرية والموت
وزوربا
أي يونان تحدث عنها هذا المعتوه؟
لو حدق في هذا الليل الدبق
والأشجار
وعناوين المراقص
وأصغي لزعيق الدراجات اليابانية
وصادف في العتمة
امرأة لاهثة من الوحدة
ومراهقتين يعلكان شفاه بعضهما
وأضواء المطاعم
ذات الوجبات السريعة
لو توقف لحظة على باب الهيلتون
وصدمته النساء المتأرجحات
بين الأكل واللذة
لكان عليه أن يبصق
بدل أن يقول الشعر
أو يمدح الانسان
أو يمجد نبيذ مقدونيا
الهذا لم يعطه أحد روحا
ولم تمر على جبينه الناتيء
ظلال الطقوس الكنسية!
أفروديت
أثينا هذه لم تخرج
من النهر الذي لا نعرفه مرتين
أو وصايا الذائب في البركان
أو ساحل القصائد الهوميرية
أثينا هذه خارجة
من مصانع السيارات اليابانية
والسكاير الأمريكية
وخضراوات السوق المشتركة
المحارب المجهول
المزيد من الصمت
ويتحول الحارسان
الى دميتين من الشمع الأحمر
بسراويل بيضاء ضيقة
وأحذية حمراء كقوارب الصيادين
.. المزيد من الحبوب..
ويطير الحمام الرمادي هادئا
بين نشوة الأطفال
وفضول المصورين
الهذا كان الحمام كسولا
والأطفال مشغولين
والعارة ذاهبين
حين تم تبديل الحرس..
حرس المحارب المجهول؟
ريتسوس
في مكان ما من أثينا
يسعل "ريتسوس"
ويمد يديه
ملامسا مجموعة أعماله الكاملة
متذكرا زمنا
ووجوها
وأمسيات
لكنه بالتأكيد
لن يجرؤ على الخروج الى الشارع
ورؤية هذا النسيم الذي
يجرف أوراق الخريف
والتحديق في أسماء المؤسسات
والحانات
وشركات السياحة
لن يطيق قراءة دليل السائح الأجنبي
الى أرض اليونان
أو رؤية هذه العجوز الصماء
تبيع الخردوات
على ناصية الشارع
نبوءة دلفي
ثلاثة أشياء خلقتها الآلهة:
النجوم لتذهب
وتعود
والأشجار
لتذهب
وتعود
والانسان
ليذهب
ويتلاشى
طروادة
حتى لا تقع حرب طروادة
تقاسم الثلاثة
هيلين الجميلة:
هكتور
ومنيلاوس
وأخيل
وجلسوا
في مشرب عتيق
يعبون خمرة "أوزو"
وظل النادل
يجيء ويذهب
طوال الليل
وصفير القطارات المتجهة الى عواصم أوروبا
يشقق طراوة فجر أثينا
سقراط
حين خيره الحلف الأطلسي
بين النفي
والموت
اختار الخروج
في المظاهرات السلمية
حادثة
ربما كانت هي التي خرجت
من القصيدة
في منتصف ليل أثينا
ووقفت وراء بابي
ممتلئة بكل ما هو خالد:
البحر
والنار
والنجوم
ربما كانت هي التي دقت الجرس
ووقفت بعيدا
نابضة بكل ما هو خالد:
السفر
والنبيذ
والليل
ربما كانت هي التي غارت في سمائي
وتلاشت في كل ما هو خالد:
الشعر
والصبا
والزمان
ربما كانت هي التي تلعثمت
وهي تسأل عني
فقلت ثلاث مرات:
لست أنا
لست أنا
لست أنا
هادويان
تذكرة واحدة
بمئة دراخمة
للمرور أمام هادريان العظيم
وقد فقد رأسه
وساقيه
وقطعت ذراعاه
وأوقف وسطه الامبراطوري
بعد أن رفعه الحمقى من التراب
ليعاينه جيل ما بعد الألف الثاني
تحت شمس "ايغورا" القديمة
بين نسمات أشجار الزيتون
والبندق
تراب
لن ندخلها أبدا
هذه الجنات التي كانت
هذه السمرات التي مرت
والتمعت تحتها
نيران المذابح
والطقوس
هذه النسمات التي عبثت ذات صباح
بأردية أرجوانية
لأناس توهجوا
وانطفأوا..
كل شيء ذهب معهم
وتحول الى تراب
الشجر
والسماء
والرياح
كل هذا…
كل هذه الأعمدة
والطرقات
و "الآلهة"
ما بقي منها في صورة بشرية
وما اندثر
وعاد الى أصله الحجري
من أجل أن تتلاشى الحياة
باستسلام كامل
للفناء..
يا للمهمة المضحكة !
حلم في المقهى
تحت هذي الشمس
وكل شمس تطل في هذه الساعة
على ميادين العواصم الغاصة بالمارة
ربما مررت مرة أخرى
والتفت الي غارقا في الظل
والخضرة
وواصلت سيرك
مثل المرة الأولى
ربما ضحكت
وسألت عن المكان الذي جئت منه
وقررت بينك وبين نفسك
أن تذهبي معي
مثل المرة الأولى
ربما آمنت أننا عاشقان
في أسطورة قديمة
وأننا عدنا
لنبدأ التكوين
مثل المرة الأولى..
أبدية
هل يكون أن أراك مرة أخرى
في قاعة المتحف
أو بين أطلال مدينة أثرية؟
هل يكون أن أراك
بين العابرين
أو أمام محل يبيع الوجبات السريعة؟
هل يكون أن أراك في المطار
أو محطة القطار الذاهب شمالا؟
هل يكون أن نقف مرة أخرى
متضاحكين
كأنما لا شيء يحدث
بينما نتباعد عن بعضنا البعض
حتى آخر الأبدية؟
تلك الأغنية
كانت تغني
كلمات
ذات شموس
وشواطيء
أو أجراس
ذات ظلال
تتفجر مثل النبع
أو الأمواج
ذات حنين
يتساقط مثل الماء
أو الأغصان.
غسان
في السفينة الراحلة
الى الجزر اليونانية
لم تبق امرأة
أو رجل
من ألمانيا
أو أمريكا
أو اليونان
الا وابتسموا لغسان الصغير
وعينيه الجميلتين
وسألونا بفضول:
من أين أنتم؟
وكنا نجيب بحب
ورغبة
من فلسطين..
كان الألماني يلتزم الصمت
وكذلك الأمريكي
الا اليوناني العجوز
الذي لا يجيد غير يونانيته
فقد تسلل وراءنا
ليسأل:
هل نحن من فلسطين حقا؟
مشهد
في سفح برناسوس
من نبع كستاليا المقدس
وحتى معبد أبولو
كان الطريق المرصوف بحجارة المعابد
والخضرة الطالقة من الشقوق
وقواعد الأعمدة الملقاة كالجذور
يتلوى صاعدا
حاملا معه الخلق
رجالا
ونساء
وأطفالا:
أمريكيون من لويزيانا
ألمان من بافاريا
فرنسيون من بريتاني
هنود من كشمير..
وعرب
من اللاشيء..
محمد الاسعد ( شاعر من فلسطين)