تنهض القصة القصيرة النسوية في اليمن عبر نماذجها الجيدة التي أثبتت حضورا في الساحة العربية(1) ولم تعد تشكيلا غير واع موصولا بالقص التراثي التقليدي بل لجأت على يد القاصات اليمنيات الى تقنيات معاصرة طريفة تبلور من الفضاء السردي أفقا شعريا مخضلا بالهم الأنثوي وتطلعاته وهو يحيل في حقيقته الى تركيبة قصصية تمتزج في مناخاتها المدهشة انزياحات الصورة الشعرية وعناصر القصة.
وقد امتازت هذه النصوص بخصوصية سردية فرضتها طبيعة الأنثى المتوجسة خيفة من الإفصاح عما يخالج (الانا) من مشاعر متصادمة ازاء الآخر, فتلوذ بتقنية الاسقاط (Projection) التي تمنح النسيج القصصي أفقا مرآويا يشع في أكثر من اتجاه والتي عرفها كارل جوستاف يونج بأنها ؛العملية النفسية التي يحول بها الفنان تلك المشاهد الغريبة التي تطلع عليه من أعماقه اللاشعورية, يحولها الى موضوعات خارجية يمكن أن يتأملها الآخرون« (2) ويعلق الدكتور مصطفى سويف على هذا التعريف فيربط بين الاسقاط والترميز في قوله: »بان الاسقاط هو عملية لا غنى عنها في فهم عملية الامتصاص (Introjection)) حيث يسكب الشخص احاسيسه في شيء ما, – أي يموضعها- وبذلك يتسنى له ان يفصل بينها وبين الذات, وبقدر ما يكون هذا الشيء رمزا فان صاحبه يكون مبدعا عبقريا«.(3) من الواضح أن ما يهم هذه الدراسة هو الاسقاط الفني- إذا صح التعبير- وهو الذي يفضي إلى ترميز الأشياء والظواهر الطبيعية (الحية والجامدة) التي يسقط عليها المبدع احساسات شتى متباينة فتستحيل مادة لرموز متوترة لا حصر لها.
وستنتقي هذه الدراسة مجموعة (لأنها) للقاصة اليمنية هدى العطاس أنموذجا تطبيقيا يجلي فاعلية الاسقاط وحركته باتجاه بلورة رموز مشفرة ويرصد من خلال انزياحات الصورة البيانية بأنماطها الثلاثة »الصورة التشبيهية, الصورة الاستعارية, الصورة الكنائية« (4) انبلاجات (المسكوت عنه) وكما ستفصح عنه السطور اللاحقة.
وينتقي المخيال السردي في قصة (الجدران)(5) الطائر ليبلور منه شذرة ترميزية تجلي فضاء قصصيا مفخخا بالتغييب والسر اذ يرد:
؛صفق الطائر بجناحيه, عندما على حين غرة,.. وجد نفسه محاطا بجدران الغرفة التي دخل اليها عنوة وربما اعتباطا في رؤيته وكدرويش انتفض يرتل بجناحيه مدائح للخروج, وفي بحثه عن نافذة مشرعة, اصطدم بالسقف الخشن.. صفق الطائر بجناحيه أخذا بنطح الجدران. »هذا الصباح ملتف بالسخونة« قلت لنفسي.. قالت حورية من زاويتها المبذورة هزالا داخلها: لن أتزوج ابن عمي, غمغمت: لا تتزوجيه, وعدت الى ما أنا فيه, استرسلت التسجيل في مفكرتي المفتوحة أشداقها: ويحكى انه في ذلك الزمان هطلت أمطار غزيرة سوداء, ولجفاف مصدوع في الأرض ارتشفت الهبة المسبلة وفي فصل تبرعمها كانت رؤوس سوداء تظهر كدمامل تنبئ عن فصل الثمار القاتمة, صفق الطائر بجناحيه متطوحا في أرجاء الجدران الأربعة, نهضت حورية فتحت النافذة للطائر, مرددة: لن اتزوج ابن عمي,.. ولكن… الطائر عمي عن رؤية النافذة وظل يتخبط في الفضاء المحدود.. نادى صوت أجش: حورية, حورية.. أمرها بالنزول, عوت بأنين مفجع: انه هو, وهرولت مرتدية الحاجز الأسود فوق هامتها, لا يزال الطائر ينطح بهستيرية الفضاء المسور, حين لم يهتد للنافذة, خر نازفا صالبا جناحيه المنهوشتين من الجدار على الأرض.. نهضت.. أخذته بين كفي مشفقة ألما وأنا أرقبه يلج في غيبوبة شلل تام«.
تشكل عنونة القصة (الجدران) لافتة اشارية مشفرة تحيل الى تشظيات بطلة القصة (حورية) تحت سلطة أمكنة مغلفة بقمع الآخر, كما ان هذه العنونة لا تبقى نصا يوجه حركة التلقي في اتجاه المنتج السردي اللاحق وانما تغدو مهيمنة موضوعاتية تجثم على بنية المتن الحاضر وتتماهى برشاقة مع صورة القفص المتسللة من المتن الغائب التي استدعاها التعاشق المربك الملبس بين (حورية/ الطائر), ليتخلق من توحدهما الدلالي أفقا ترميزيا مرآويا يعكس عتمة الالغاء المتحركة بينهما (الطائر/ حورية) فكلاهما رهين حبسه و(وجد نفسه محاطا بجدران الغرفة) وكلاهما يبحث عن منفذ للخلاص (وفي بحثه عن نافذة مشرعة اصطدم بالسقف الخشن صفق بجناحيه أخذا بنطح الجدران), وكلاهما مثخن بجراحاته (لازال الطائر ينطح بهستيرية الفضاء المسور) وقد استغرقته المحنة فكانت فيها نهايته المضرجة (خر نازفا صالبا جناحيه المنهوشين من الجدار على الأرض) وكما أن (الطائر/ الرمز) لم ير النافذة (ولكن الطائر عمي عن رؤية النافذة وظل يتخبط في الفضاء المحدود+ لم يهتد للنافذة) فان بطلة القصة (حورية) لم تبحث لها عن منفذ وهو ما ألمحت إليه راوية القصة, وكأنها تزجي رؤيتها المفصحة عن سعة الحياة وتعدد منافذها إذ أن القفص ينبعث من داخل الإنسان وكما هو شأن بطلة القصة.
وتغوص قصة »ترتد ترتد الجدران« (6) الى أعمق طبقات اللاشعورية لتلتقط رموزها المشفرة والتي تذكرنا انزياحاتها بمقولة كارل جوستاف يونج: »إن الرمز يتضمن في نفسه عناصر شعورية وأخرى لا شعورية. ولا يستطيع خلق رمز جديد سوى الذهن المرهف المرتقي الذي لا ترتضيه الرموز التقليدية الموجودة فعلا, وكما ان الرمز يصدر عن اسمى مرتبة ذهنية, كذلك يلزمه ان يصدر عن أكثر حركات النفس بدائية ليمس في الانسانية وترا مشتركا» (7) إذ يرد:
»في البدء فاجأها البياض. كاد يخترق محاجرها مع الوقت أحست انه بدأ يستوطن وئيدا مساحات من مآقيها. هذا البياض الفج- تذكرت مشهدا من فيلم رأت فيه عيني سمكة تبيض مآقيها.. أرعبها المشهد حينها.. وبكآبة وملل تمسح- كما اعتادت- بنظرتها الجدران البيضاء, وتتوقف عند باب الغرفة لتتأمل الممر, فتخاله جسد دودة يمثل الباب فمها, ونهاية الممر مؤخرتها التي تقذف بها الى المطبخ في رحلاتها المتكررة عبره طوال اليوم. تتناهى إليها أصوات الجلبة في الخارج تتعالى. يشدها الفضول الذي تنامى. تنهض الى النافذة الموجودة والمسدلة بستارة قاتمة, مرسوم فوقها أشكال لحيوانات بحرية, وجرة العفريت الاسطورية وموج صاخب.. كل ذلك يفترش قماشها الغليظ ليحجب خلفها سماء تتمحور بشجرة تفتق ألسنتها الخضراء خيوط الفضاء تشظي الستارة قليلا, وتوارب الزجاج مطلة ببصرها إلى الخارج مستطلعة مصدر الضجيج.. قطة تجري هلعة.. ومجموعة من الصبية تهرول خلفها.. تقذفها بالحجارة, وهي تموء بحزن.. تمسح دمعتين تقاطرتا على صفحة وجهها وتفاجأ بأصابعها ضاغطة على لحم النافذة المواربة كمن تهم بتمزيقها شقفا.. وما تلبث نظراتها ترتد الى الجدران البيضاء«.
تنشطر حركة الترميز إلى بؤرتين متوازيتين فأما الأولى فانها تتموقع داخل المكان المغلق والأخرى تنبثق في حركة ارتدادية من المكان المفتوح المتمحور حول المكان المغلق, فأما الرموز المتشظية من اسقاطات السرد والمتشكلة تحت سجف المكان المغلق فان السمكة الميتة هي أول ما يواجهنا ونحن نتأمل تداعي الذاكرة المثخن بالاختناق حد الموت. ويبوح الرمز الثاني (جرة العفريت الاسطورية وموج صاخب) بحركة متصادمة بين (الانا) المحشورة داخل اقفاص الانغلاق والمترقبة للحظة الانعتاق وبين الآخر المتسلط ب-(صخبه) وعبثيته. وقد منحت ذاكرة لفظة (العفريت) هذه الكينونة المرهفة وافق انتظارها المعتم مدا زمنيا يجثم باسترخاء على الراهن المعاش ويستلب الآتي, ويفلح المخيال التشبيهي في تشكيل بنية رمزية ثالثة تصير- ومن خلال فعل التشبيه المنعكس على وعي بطلة القصة (تخاله)- جسد الدودة قسيما تشبيهيا للمكان المغلق الخانق (الممر) ليتخلق من توحد طرفي التشبيه (الباب فمها, ونهاية الممر مؤخرتها التي تقذف بها الى المطبخ في رحلاتها المتكررة عبره طوال اليوم) نسيجا كنائيا يلوح بدوامة الاستلاب والالغاء وتكون النافذة هي المكان الذي يعطف حركة الترميز باتجاه الخارج كما ان استدعاءها بوصفها عتبة دلالية يؤشر توق (الانا) الى الانفتاح على العالم والرغبة في الانفلات من اسار الانغلاق والوحشة (توارب الزجاج مطلة ببصرها إلى الخارج) وهي رغبة عكسها ببراعة الرمز المكتنز بالخصب والعطاء وهو يشع من المقول السردي (سماء تتمحور بشجرة تفتق ألسنتها الخضراء خيوط الفضاء) إلا أن هذا الرمز يتصادم دلاليا مع ما تحمله (القطة) الجريحة التي (تموء بحزن) من أفق معتم يبرز مكابدات الذات المستسلمة الضعيفة ازاء قهر الآخر المتسلط العابث والمرموز له ب-(مجموعة من الصبية تهرول خلفها.. تقذفها بالحجارة). ويصل التماهي بين بطلة القصة والرمز ذروته حين تعلن الساردة (تمسح دمعتين تقاطرتا على صفحة وجهها).
لقد استثمر المخيال السردي تقنيات فن الرسم وتشكيلاته اللونية, فكثف اللون الابيض الرامز للموت ليتشكل منه مهاد لوني يتحرك حركة دائرية تتحاور فيها استهلالة القصة (البياض, البياض, تبيض, الجدران البيضاء) بخاتمتها (الجدران البيضاء) ليتبلور وثاقا يؤطر المتن الحكائي ويحول دون انعتاق (الانا) من كفنها البليد المتفتق من عنونة القصة المتخمة بالحركة الشرسة الموقعة للبياض.
وتبلور قصة (كهف الماموث) (8) فضاء سرديا غرائبيا تنعكس طرافته منذ عنوان القصة إذ يشكل نصا قبليا تثير بنيته المشاكسة أكثر من احتمال فهو ينسب- وعبر الصياغة التركيبية- المكان المغلق بمرجعياته (الكهف) إلى الماموث لتتشذر منهما (المكان المعتم [الكهف]+ الكينونة المنقرضة [الماموث]) رمزان متوازيان يشظيان النسيج السردي ويفضحان مكابدات (الأنا) المسكونة بالوهج والحلم تحت سلطتهما إذ يرد:
»لابد مما ليس منه بد.. عليها ان تخرج الى الشمس تتسلل يدها اولا.. ترتد- إنها محرقة- تنكفئ الى الكهف, تسمع هسيس أنفاس المحشورين معها.. (برودة الكهف تقرض رئتيها).. ومن بصيص ضوء يخط دائرة على الجدار, تحدق في نقش لماموث لم تكتمل ملامحه- ولكن الدلائل تؤكد انه هو!! هو الثور المقدس الذي وثقه الاجداد في الجدار منذ عصور.. يستند الى جواره رمح. تتحسسه أناملها.. (الكهف يقرض..) تضغط سن الرمح, تشعر بخيوط الدم تشرشر بين اصابعها.. تقول امرأة في الصف الأخير: عيب, (الجدار البارد يقرض رئتيها) تتململ, تصرخ, تقذف نفسها تحت أتون الشمس.. يبدأ جلدها بالتآكل.. «.
تغلف هذا الفضاء السردي هالة من الغموض الشفاف تظهر من خلال عنصر المكان (داخل الكهف [البارد] و(خارج الكهف [الحارق] لتتراءى ملامح (الأنا) الساردة وهي تتحرك حركة متضادة تارة باتجاه الخارج (الاستهلالة+ الخاتمة) وتارة أخرى صوب الداخل (المتن السردي) وهي ثنائية تبلور محنة بطلة القصة إذ أنها بين اختيارين صعبين فهي إما تستسلم لموت بطيء في الداخل وقد عكس هذا المعنى الانثيالات الموقعة للفعل يقرض الكامن في (برودة الكهف تقرض رئتيها) و(الكهف يقرض) و(الجدار البارد يقرض رئتيها) أو أن (تقذف نفسها تحت أتون الشمس, فيبدأ جلدها بالتآكل) إيماء إلى الانسلاخ الواعي عن الهوية والتنصل عن انتماءاتها الروحية المتجذرة في المكان ويفيض (الماموث) على جسد النص باحتمالات متباينة, فهو كما يقول النص (نقش.. لم تكتمل ملامحه) إيماء الى سكونية حد التحجر بيد أنه لم يبطل تأثيره إذ أن بطلة القصة حين (تضغط سن الرمح, تشعر بخيوط الدم تشرشر بين أصابعها, تقول امرأة في الصف الأخير: عيب) مما يتيح لأفق التلقي أن يغلب كون هذا الماموث هو رمز متشظي من العرف الاجتماعي البالي, والجانب السلبي فيه على وجه التحديد. وهنا يمكننا أن نفسر في ضوء هذا الاحتمال أزمة بطلة القصة فهي إما أن تتحدى هذا العرف البالي وأن تخرج من دائرته مثخنة بالجراح ومعنى ذلك أن تنسلخ عن جلدها وان تتغير ملامحها وبين أن تحتمل البرد الرامز للمكابدة وسط (هسيس أنفاس المحشورين معها) تحت سطوة هذا الماموث البليد.
وتبلور قصة (جدتي تعرف ما الانسان) (9) بعدا إستكناهيا إزاء الكون والحياة إذ يرد منعكسا على وعي بطلة القصة وروايتها:
»زفرة ثم زفرة ثم … اقتعد مصطبة الكابة, يندلق بصري على دودة تزحف, تحزنني انعطافات جسدها الهلامي. أحدس: إنها لا تعرف وجهتها. يردني وجه جدتي الخلوق, وهي تقتعد فناء الدار, ترضع ابن (العبدة) كانت بفطرتها السمحة تعرف ما الانسان, من البدء خطواتها خضراء.. وحين أهالوا عليها التراب, قيل إن الحشد كانت مبتلة وجنتاها! وفي اليوم التالي, عضدوني (عزيمة) على زندي, تميمة بركة من عشب نما على قبرها, أتذكرها تهش فضول طفولتي قائلة: سأقص لسانك فأفر من أمامها ضاحكة, وما ألبث أن أعود إليها بسلة أسئلتي من جديد.. ولكن! أتعلم أني الآن أراقب دودة واحدس انها لا تعرف وجهتها«.
تشكل استهلالة القصة (ينطلق بصري على دودة تزحف, تحزنني انعطافات جسدها الهلامي, أحدس انها لا تعرف وجهتها) وخاتمتها (إني الآن أراقب دودة واحدس انها لا تعرف وجهتها) وثاقا نغميا ترميزيا تتحرك دلالته حركة دائرية تؤطر المتن الحكائي الملبد بفضاءات الفقد والحرمان وتزيح اسقاطات الرمز (الدودة وحركتها الدائبة) الفضاء السردي باتجاه أفق كنائي مثخن بالتخبط والضياع وقد كثفه اعلان بطلة القصة (لا تعرف وجهتها) وهو يفضح مواجهة حادة بين (الأنا) الساردة وحدث الغياب ومحاولة استكناه أبعاده وصياغة رؤية خاصة ازاء المصير الأزلي للانسان.
ثمة توازن واضح في قصة (تطلع) (10) بين حركة الحدث ونموه وحركة بطلة القصة باتجاه الانغمار في ماء السيل وفي اطار تقنية سردية تستثمر المونتاج في قطع الأحداث واعادة توليفها في ذهن القارئ وبشكل يحفز المخيلة على متابعة السرد القصصي وفي إطار حركة متصادمة بين الزمن الماضي الذي تسترجع ذاكرة البطلة وبأسلوب (Flash- Back) (01) وبين الراهن المعاش المنبئ عن خاتمة مفجعة. ويضيء الصندوق المغلق القابع في القبو في هذه القصة بنية ترميزية تحيل إلى التواصل المعرفي بين الأجداد والأبناء من جانب ومن جانب آخر فان حضور الصندوق المباغت المنبثق من المقول السردي (عند أول تجربة لها في الولوج الى القبو رأت الصندوق, وبفضول مفعم بالدهشة هرعت اليه تفتشه وازدادت دهشتها عندما لم تجد سوى بعض الكتب) يشكل نموا في شخصية بطلة القصة إذ يمنحها قدرة على اجتياز الزمن صعودا باتجاه المستقبل ونزولا باتجاه الماضي كما انه يوقد فيها الرغبة لامتلاك زمنها الخاص: (تمثلت الأحرف أمام عينيها, وتجسدت الكلمات صورا لشخوص نساء ورجال وجوه ودودة وأكف تتلامس وشفاه تنفرج وعيون تقرأ ككتاب وأصوات هامسة وأصوات صارخة.. عج القبو بالشخوص, أحست بنشوة وخيل إليها أن القبو يتسع حتى أصبح فضاء لا متناهيا, قالت لنفسها: لقد نبتت لي أجنحة).
ولأن ثقل الصندوق يتناسب تناسبا عكسيا مع منسوب الماء المنبئ عن خاتمة الشخصية وانسجاما مع عنونة القصة (تطلع) فان حركة متصادمة عنيفة يحدسها القارئ بين الماء الرامز لبطش الآخر البليد والساعي لالغاء (الأنا) وبين الصندوق الرامز للثقافة والمعرفة والتطلع لمشروع باتجاه الضياء وفي جو متوتر باح به السرد القصصي وكثفته خاتمة النص اذ يرد:
»ارتفع منسوب الماء, غطى الجذع كله وأخذ جسدها يغوص ويغوص)- طفح وجه أبيها أمام عينيها, ذلك الوجه دائم التجهم والكلمات الجافة تقذفها شفتاه كأنها نوى متعفنة.. والأم القابعة دوما باستسلام وارتخاء أبله.. وقفز صدى صوت من احدى الليالي الى أذنيها, كان خوار بقرة او عماء كلبة جريحة أو مواء قطة مستسلمة, أو كان عبارة عن نشيج مكتوم, فقد أختلط عليها تمييزه, وأرادت حينها ان تفتح عينيها ولكن داهمها شعور بوهيمي خجل أحجمها عن فعل ذلك. وفي الليلة التي تليها كانت تنام مع جدتها- (ارتفع منسوب المياه وصوت شلالات الساقية تحول الى هدير صاخب ينبعث منه همس لأصوات تتآمر وأصابع تمتد نحوها خفية. وعندما أصاخت السمع كان تهديدا وعزما بالزواج من ابن خالتها. تمثلت أمامها كفها كعصفور ميت في راحتيه ووجهه المتجهم يتداخل مع وجه الأب.. ولكن هي لم تكن تقبع أمامه مستسلمة, كانت تقبع في احدى زوايا القبو تحاول حمل صندوق كتب والطلوع به إلى الأعلى. – (منسوب المياه يرتفع ويرتفع حتى غامت الصور جميعا وطفا الجسد المنتفخ الى الأعلى وأخذت تجرفه المياه«.
وحين ننظر في البنية الترميزية لهذا النسيج السردي نرى اسقاطات جزئية رفدت الإسقاط الأساس في اللوحة القصصية فظهرت (الأنا) المهمشة وبوحها النازف رديفا لـ(خوار بقرة, عواء كلبة جريحة, مواء قطة مستسلمة) وهي صور معتمة تمهد لخاتمة الحدث.
وفي نمط القصة القصيرة جدا التي استوعبت قصة (اخضلال) نلمس أقصى الاسقاط والترميز لعناصر القصة كافة إذ نقرأ:
»مخضلة بالشاي كانت الملعقة ترقص وسط الفنجان.. بعد أن ذاب السكر مسجاة كانت على الطبق باهمال«.
تنزاح الألفاظ (ملعقة), (وسط الفنجان), (ذوبان السكر), (الطبق) من مضمارها الدلالي المألوف لتشئ بايحاءات جديدة, يحدس أفق التلقي خصوصية هذه التحولات في النسيج السردي وبقرائن انزياحية تؤشر طبيعة تلك الانخطافات الترميزية فالمخيال الاستعاري يهب المحمول اللفظي (الملعقة) (المستعار له) ملامح انسانية تجعلها تتحرك على مساحة النص بوصفها شخصية قصصية تمنحها القرائن الاستعارية (مخضلة+ ترقص) و(مسجاة) كينونة انثوية تحيل الى سلطة الآخر الجاحد لعطاءاتها والذي غيبته المخيلة السردية فبقي خارج النص كما ان تلك القرائن تمور بحركة متصادمة تنبثق من ثنائيات متوالية هي (الحياة/ الموت), (الفرح/ الحزن), (الحضور/ التغييب), (الحركة/ السكون) و… الخ وهي ثنائيات تفجر في أفق التلقي مدا زمنيا يستوعب رحلة عمر قصيرة نسبيا- تحيل آفاقها المكتنزة بالعطاء إلى أكثر من حالة إنسانية- تبدأ فيها (الأنا) متفاعلة مع الآخر ومتعاشقة مع همومه منغمرة في نشوة العطاء بيد أن الآخر سرعان ما يشيح بوجهه عنها ويهمشها بقسوة لا تتناسب مع حجم عطائها وانسانية دورها. وحسب السياق القصصي يبلور (وسط الفنجان) و(الطبق) تبئيرا مكانيا متضادا فالأول يوحي بالمكان الخصب المحبب, ويشي الآخر بالمكان المجدب المعادي. ويلف حدث القصة المتأرجح بين أقصى العطاء وأقصى الالغاء فضاء زمنيا طريفا يستقي من دور بطلة القصة الذي ينتهي بذوبان السكر المنبئ عن انتهازية الآخر ولا إنسانيته.
وبعد , فان مجموعة (لأنها) للقاصة اليمنية هدى العطاس قد استطاعت أن تخلق من البيئة وعناصرها المتنوعة معادلا فنيا يضيء ملامح شخصياتها ويعلن عن نموها وتفاعلها مع السياق القصصي, وقد تفننت مخيلة القاصة في تشكيل رموزها المكتنزة بالإيحاء فجاءت على شكل جمادات مثل (نقش الماموث) و(الصندوق) و(السيل) و(الملعقة) و(الجرة) و(البحر) و(الشمس), و(الشفق) و… أو كائنات حية غير عاقلة مثل (الشجرة), (العصفور), و(البومة) و(الحمار) و(الحمام) و(الدجاجة), و(القطة), و(السمكة) وهو تباين يفضح مهارة الفضاء السردي في إسقاط احساسات شخوصه وأفكار أبطاله ورؤاهم على هذه الرموز وفي سياقات مقنعة بحيث شكلت عالما قصصيا خاصا مترعا بالإيحاء ونائيا- وبوعي ومكابدة جمالية- عن المباشرة والرتابة السردية ومنعتقا عن تكرار تجارب الآخرين, فكانت المجموعة القصصية متميزة بلغتها الشعرية وبأسلوب معالجتها للهم الانساني عامة والهم الأنثوي على وجه الخصوص.
الهوامش
) هدى العطاس, لأنها, قصص قصيرة, مؤسسة عفيف الثقافية, صنعاء 2001م.
1 – حازت المجموعة القصصية قيد الدراسة على جائزة إبداعات المرأة في الأدب, أندية الفتيات, الشارقة 2000م, كما حازت مجموعة (هكذا حدث في بلاد النامس) للقاصة أروى عبده عثمان, على جائزة الإبداع, دائرة الثقافة والفنون, الشارقة 2001م, وحازت مجموعة (زفرة ياسمين) للقاصة نادية كوكباني على جائزة سعاد الصباح, الكويت 2001م.
2 – د. مصطفى سويف, الأسس النفسية للابداع العربي, دار المعارف, ط3, القاهرة 1969م, ص203.
3 – نفسه, ص207.
4 – د. وجدان عبدالاله الصائغ, الصورة البيانية في النص النسائي الاماراتي, الهيئة المصرية اللبنانية, القاهرة 1999م, ص150.
5 – هدى العطاس, ص24- 25.
6 – هدى العطاس, ص56- 57.
7- نفسه, ص12, 41.
8- نفسه, ص58.
9- نفسه, ص46- 50.
01- مجدي وهبة, معجم مصطلحات الأدب, مكتبة لبنان, بيروت 1974م, ص320.
وجدان عبدالإله الصائغ أكاديمية عراقية مقيمة في اليمن