فيصل إبراهيم كاظم
باحث وكاتب عراقي
وأنا أقرأ آخر كتاب له عندي (ما يُمسَك وما لا يُمسَك) ارتسمت في ذاكرتي غيمة سؤال عنيد، ما الذي يمكن أن أمسكه وما لا أمسكه من تجربة هذا الرجل المبدع منذ قرأته مع (المملكة السوداء) وحتى اليوم ؟. وهل سأتمكن من أن أقدم شهادة بالعمق الذي يستحقه هذا الفنان المتفرد في كل ما كتب..؟ حقيقة أحسست بأني أجلس في غرفة من صفيح وسقفها صفيح وفي(درجة حرارة ٤٥ مئوية)* وفي لهيب تموزي حارق.. وهكذا انسابت من جسدي حبات العرق كخرز بلوري تنسرح من مجاز الذاكرة إلى (درابين) عالم محمد خضير الذي بدا مثل مدينة مفتوحة على كل الجهات.. مدينة سحتُ بها مثل قنفذ بري وأنا أحمل على ظهري بعض أسفار محمد خضير، بل كون مدينته التي تلبست بهيئة بلاد تؤثثها أسواق باعة التوابل ودكاكين العطارين والوراقين وباعة الأقلام والأحبار وصحائف البردي والجريد ومحلات أدوات السفن والصيادين والمحاريث وأدوات ومصاطب من أخشاب وحديد ودكات من لَبِن البناء وآجر وتبن وطين. مدينة مزدانة بغابات نخيل وسهول خضر وأخرى جافة وصحارى قاسية.. وهضاب ملونة متموجة، وجبال وأودية وشلالات ماء وحقول وزهور، وفيها متاحف من كل صنف وأبنية تخالطت بلون دهورها، فيها مرابط خيول وخانات فرسان ومحاربين من مختلف العصور وعُددهم وأعتدتهم التي استخدموها أو مرت في أزمنتهم ، ابتداء من القوس حتى الطائرات والصواريخ النفاثة وأزيائهم ونياشينهم، وشعراء وأدباء ونساخون ونحاتون ينسخون وينحتون صور دنياهم التي عاشوها كل حسب زمانه.. وقصور ملوك وأمراء ما زالوا ينادمون بعضهم وكأنهم ظلوا أحياء يتبادلون التاريخ وأصوات سنينهم ووقائعها وحروبهم وفتوحاتهم وهزائمهم (في، ومن) الجهات الأربع.. مدينة بأزقة ودرابين ضيقة محلزنة تدور كأوردة وشرايين الجسد الحي تتلوى في مساراتها داخل المدينة تمر على تكاياها، وكتاتيبها، ومساجدها، وقباب مآذنها ومصارفها النقدية وبيوت أموالها وثنياتها.. تسلك حيث تسلك أجساد أهلها وكأنها القنافذ المحملة بأسفارها مثلي، تدلف وتخرج من درابينها وأزقتها وطرقها وبيوتها مهمومة بحوادث أيامها وهي تتطلع إلى محطات القطارات ومرابط الخيل والحمير، ومهابط الطائرات والمركبات الفضائية في الجانب الآخر حيث مسار النهرين والأنهر الفرعية والأحواز التي توزعت في اتحادها النهائي عند جمجمة الجنوب وفي بطن (البصرة)، مدينته الأم الكبرى وشطها وبطاحها، ومزارعها، وبساتينها، وأطراف بيوت صفيحها، وصحراؤها، الماضية نحو منطقة حياد منسية، وثكنات عسكرها وبحارتها، وسوابط سفانتها، ومؤانئها ومرافئها المطلة على ثغر خليج ظل فاغرا شدقيه على مدلف السفن الداخلة والخارجة منه.. وفي مدينة محمد الإبداعية تجد ثمة زقورات على شكل أبراج تناطح هامات الفضاء تحمل على واجهاتها العريضة أخبار أهل هذه البلاد وتحفظ في البعيد العميق (كراريسها الكانونية)* ومخطوطات أسرارها في خزائن طبعت عليها بصمة خاتم حكاء ربما امتد عمره منذ أن سك أول كاتب سومري على رقيم طيني أول حرف له سافر على متن سفينة من قصب الأهوار إلى كل بقاع الارض.. ربما كانت تلك (بصرياثا)* التي ألهمت خضير أسرارها في يوم تساوى فيه الليل والنهار وتوقفت شمسها عند قرص الزوال.. مدينة جمعت في جبتها الجلدية بلادا بأكملها والعالم الدائر من حولها.. وأنا أغذ السير وجدت نخبة كبيرة من الحكائين والرسامين والكتاب والمؤرخين يجتمعون في مبنى عريق من مظهره وكأنه ملعب الأولمب أو ربما هو المسرح البابلي.. رأيت من الحضور ناسج ملحمة جلجامش وكاتب ملحمة الزير سالم.. وعنترة بن شداد وناسج حكايا ألف ليلة الخفي الذي ظل متخفيا برداء شفاف يموه صورة وجهه، ورأيت بورخس.. وكالفينو.. واستورياس.. وكاربنتير.. وماركيز ذي العزلة، ورشيد بو جدرة بحنينه الألفي، والطاهر وطار ومحفوظ، وإدريس، وحنا مينا، والطاهر بن جلون، وما يشبه الأشباح المضيئة منها الحسن البصري، وابن طفيل، والغزالي، وابن رشد، وابن سينا، وابن العربي والإدريسي، و.. و.. وغيرهم من عظام كتاب المدينة.. المئات كانوا يعقدون جلستهم في المبنى الفخم بعذوبة رائحة تاريخه الطويل.. رأيت كل هؤلاء يتقدمهم المعلم الأول علي جواد الطاهر وزمرة هائلة من الكتاب القدامى والمحدثين يدققون في علامات مدينة محمد خضير وشواهدها حتى تيقنوا بعد جلسة استماع صاخبة، ثم هادئة بأن مدينة محمد لا تشبه كل مدنهم، وأنها مدينة فريدة امتصت كل سحرهم وباحت بسحرها الذي لا يشبهه سحر.. ربما كان ذلك التجمع هو من دفع مؤخرا محمد خضير إلى القمة العليا من حكمة السؤال وتزيين مدينته بمنجز آخر ليكتب (ما يمسك وما لا يمسك)* كدلالة أسلوبية حداثية أخرى اعتادت أن تجرب تدمير ما بناه الحكاء المتمرد قبلها، أو ما بنى غيره لتلبس شكلها المغاير دائما ولتعزز فطرتها الحالمة في كل أوان بتجريب باصر ظل يعلم الأجيال كيف يكون السير فوق الطرق المزروعة بالشوك العاصي وألغام العصور.. كل هذا وأنا أجوب مدينة خضير وأقرأ وجوه أجيال تربعت عند حدائقها العتيقة وفوانيسها النفطية.. وجوه لمريدين وحالمين.. ومتعبين.. أطفال سِمان من تخمة الجوع، رجال ونساء أعمارهم بين الولادة والموت لا تساوي عطفة بغل تزينه الأقدار كوكبا.. وجوه من كل نوع، وعمر، وزمن.. ونساء بكور وعجائز وأرامل وعوانس شكلن الطوابير العظمى التي لا يدرك آخرها البصر، طوابير طويلة لاتحصى حسب تصنيف دائرة إحصاء المدينة.. فيما كانت طوابير المترفات تصطف بأناقاتها المفرطة الفريدة تستريح على مصاطب من مرمر كولونيالي، فينيسي مدهون كما أجسادهن بزبدة فستق شرقي ويتعطرن بعطر باريسي متفرد النفاذ و(مروج) مستحدثة من الخشخاش، تخدر لهن ليل الملل إن شعرن به في لحظة ما.. وأنا أدب بخطواتي الثقيلة في منعرجات تلك المدينة رصدت حتى متنزهاتها الكبيرة ومولات التسوق الحديثة المجهزة بأحدث وسائل الإضاءة وشاشات الفضائيات و الإنترنت والهواتف الجوالة بزمن بكورتها الحديثة المعلقة على جسور التواصل وحيث ميادين الحرية التي شابها نوع من رائحة التوابل الفاسدة بفعل الخزن السيئ ربما، أو بفعل نقص أوكسجين الطهارة أو جراء ارتفاع درجة حرارة الجو التي فاقت الخمسين درجة هذه المرة وليس خمسة وأربعين درجة مما أعطب بعض قدرتي وأنا أحمل على ظهري هودج أسفار ليست بالكثيرة لكنها ثقيلة بما احتوت حتى صرت أمشي بخطى بطيئة جدا وأنا أحمل هذه الأسفار.. أسفار تتشكل كأهرامات أولها يمسك آخرها، وآخرها يسابق أولها، حيث المتعة والجمال وجدة السؤال الإبداع الأدبي المستمر: (كيف).؟..كنت أتساءل مع نفسي: كيف أمسك هذا الطائر الذي لم تستطع حتى كفه أن تمسكه لتعرف بأي جناح يحلق على الدوام.؟.. ومن ثقب مضيء في مدينة أو مملكة محمد خضير المسورة بليل من حلكة الوقائع ومصائر البشر أبصرت برجه الذي شيده وكأنه يعيد صورة سفر التكوين بتخليق راقم بابلي مازال يطرز الوقائع والأحداث بإزميله المسماري العتيق فوق رقيم بدا لي وكأنه مرقوم أبجدية لا تشبه إلا أبجدية محمد خضير نفسه.. يستمر القنفذ المحمل بأسفاره الطرية الواقعية والأسطورية يستريح عند مفارق المدينة التي تأخذ أحيانا شكل مدينة مطرزة بالوهم المخلق بحرف يداعبه القاص بفتنة الروح ليتنقل به من مصطبة إلى أخرى وكأنه لا يريد له أن يستقر إلى معنى أو فضيلة تعبيرية تستنسخ ذاتها في كل منصوصة للحكاء البارع الباحث ربما عن متعة تلك العجوز الحكاءة التي قد تكون قلدته ذات طفولة مهنة التحليق في فضاء الحكي دون قيد أو شرط سوى أن يكون الحرف دالًا على شمولية المعنى في منظومة مبتكرة على الدوام.. منظومة تؤسطر واقعها لإثارة الجمال الكلي في الروح الهيمانة في فضاء اليومي المعاش وحلم الطائر المحلق في سماوات الفقراء.. فهو حكاء مبتكر يصنع متعة لا تنتهي بانتهاء القراءة وقد لا تكف أحبار دواة النساخين والنقدة عن مطالعتها لزمن قادم لن يكون قصيرا بالتأكيد.. ذلك هو محمد خضير الذي عرفته في أقل ما يمكن أن أوجزه بصعوبة بالغة.. وحرص لا يقل عنها صعوبة بالتأكيد لأن محمد خضير نص عراقي كرس فتوته التي لا تنثلم مهما حاول الرواة الدوران في فلك ديمومتها المضيئة طمعا في ملامسة بعض مجدها دون جدوى، ذلك لأن محمد خضير استطاع بمسيرة شديدة الإصرار أن يكون (ماسك المتعة ومانحها) الذي شرب وحده مجد نخبها الأكيد وشاركها فقط، فقرأه الذين عشق تصوير مجامر قهرهم عبر هذه المسيرة الطويلة من الحفر على حجر الفتنة الصلد لجوهر الكتابة ومعناها (مهما وكيفما) تغايرت الظروف والمحن والوقائع… هكذا أنهى القنفذ الثقيل رحلته قسرا في مدينة بدت كأنها يوتوبيا مضيئة، أو مدينة واقعية لكنها أسطورية تستوجب الكثير من التفحص والدوران وصحائف التقصي.