إعداد وترجمة: مها لطفي
كاتبة ومترجمة لبنانية
ستيفن كرين (المولود في 1 نوفمبر 1871 والمتوفى في 5 يونيو 1900) هو شاعر وروائي أمريكي وكاتب للقصة القصيرة. كان غزير الإنتاج عبر حياته القصيرة، فكتب أعمالًا مميزة بالاتجاه الواقعي بالإضافة إلى نماذج مبكرة من المذهب الطبيعي الأمريكي وكذلك الانطباعي. وهو يعتبر عند النقاد المحدثين كأحد أبرز الكتاب المبدعين من جيله.
كان كرين الطفل التاسع الحي لعائلة بروتستانتية. بدأ الكتابة في الرابعة من عمره، وقد نشر مقالات متنوعة في سن السادسة عشرة. وبسبب عدم رغبته في الدراسة الجامعية، ترك الجامعة في 1891 ليعمل كمراسل وكاتب.
اعتبرت رواية كرين الأولى (ماجي فتاة الشوارع) التي كتبها في 1893 -وبطلتها ماجي فتاة شوارع- بشكل عام من قبل النقاد أول عمل أمريكي من المدرسة الطبيعية الأدبية. وأما روايته عن الحرب الأهلية “وشاح الشجاعة الأحمر”، التي كتبها عام 1895 دون أن تكون لديه أية تجربة حربية واقعية، فقد نالت تهليلًا عالميًا.
وفي العام 1896، تحمل كرين فضيحة عامة عندما ظهر كشاهد في محاكمة واحدة من معارفه، فتاة هوى مشكوك في أمرها، وتدعى “دورا كلارك”. وفي أواخر ذلك العام قبل عرضًا ليسافر إلى كوبا كمراسل حربي. وأثناء انتظاره للمرور في جاكسونفيل – فلوريدا، قابل كورا تايلور التي أقام معها علاقة مستديمة. وفي طريقه إلى كوبا، غرق مركب كرين الـ SS كومودور بعيدًا عن شاطئ فلوريدا، تاركًا إياه وآخرين في مركب مطاطي لمدة 30 ساعة. وقد وصف كرين المحنة في “القارب المفتوح “.
وخلال السنوات الأخيرة من حياته غطى الصراعات في اليونان (ترافقه كورا، التي اعتبرت أول مراسلة حربية) وبعد ذلك عاش معها في إنجلترا، حيث شكل صداقات مع كتَّاب مثل جوزيف كونراد وهـ. جـ. ويلز.
أصيب كرين بمتاعب مالية وساءت حالته الصحية، ومات لإصابته بالسل وهو في مستشفى في الغابة السوداء في ألمانيا في الثامنة والعشرين من عمره. وعند موته، اعتبر كرين شخصية مرموقة في الأدب الأمريكي. وبعد أن نسي ذكره تقريبًا لعشرين عامًا، أعاد النقاد اعتبارهم لحياته وأعماله.
تتميز كتابة كرين بتركيز حيوي ولهجات مجددة وتعبير ساخر. وتتضمن مواضيعه عمومًا الخوف والأزمات الروحية والعزلة الاجتماعية. وبالرغم من أن شهرته جاءت أولًا من “وشاح الشجاعة الأحمر” التي أصبحت من الكلاسيكيات الأمريكية، إلا أن كرين يُعرف أيضًا بشعره، وعمله الصحفي، وقصصه القصيرة مثل “القارب المفتوح”، “الفندق الأزرق”، “العروس تأتي إلى السماء الصفراء”، و”المسخ”. صنعت كتاباته تأثيرًا عميقًا على كتَّاب القرن العشرين، وأكثرهم أهمية إرنست هيمنغواي. ويعتقد أيضًا أنه ألهم الحداثيين والتصويريين.
في مقالة لآدم جوينيك كتبها في 18 أكتوبر 2021 بعنوان “ستيفن كرين المعجزة”، أكد على أنه رغم ولادة ستيفن كرين بعد الحرب الأهلية إلا أنه حول نفسه إلى أقوى شهودها، كما حدّث الرواية الأمريكية. ففي رواية كرين “وشاح الشجاعة الأحمر” تمنحنا المعارك شعورًا بكابوس سريالي حيث لا يوجد من يتحكم بقدره.
وجوينيك في مقالته تلك لخص ما قاله بول أوستر في كتابه الضخم عن “الصبي الناري: حياة وأعمال ستيفن كرين”، والذي يعتبر عملًا مليئًا بالحب من نوع نادر في الكتابات المعاصرة. كتاب تفصيلي يقارب الثمانمائة صفحة تشمل الحياة القصيرة لمؤلف “وشاح الشجاعة الأحمر” و”الفندق الأزرق”، وقراءات من أعماله وخلاصة وافية من ردود الفعل المعاصرة عليه، فيما يبدو نتيجة صافية للتقدير الشديد لأعمال كرين. عادة عندما يتوجه كاتب مهم نحو أحد السابقين الذين أُغفل حقهم فهذا يعني اعترافًا ضمنيًا بتقديم يتناسب مع عبارة “العودة إلى الأصل”، وهو ما يقوله الكاتب حقيقة. لقد حصل على مثل هذا التكريم في نقد مختصر لحياته من قبل الشاعر جون باريمان في خمسينيات القرن العشرين، تفسير فرويدي ثقيل حاول باريمان من خلاله تعريف من سبقه من أجل عامية شعره الأمريكي المبهرة، وذلك في مجموعات كرين “الفرسان السود” و”الحرب لطيفة”.
ولكن أوستر الغزير المادة والطويل النفس في جمله، يبدو قليل الشبه بكرين المقتضب التعبير والقاسي النبرات كمرجع غني للمرحلة ما قبل المعاصرة، وتجمع واسع للأساليب الأدبية التي تميز كتابة أوستر كمرجع للتعريف بكرين.
فالمقتطفات من شعر كرين القاسي، الشبيه بالهايكو، يخرج من صفحات أوستر اللطيفة الثرثارة بشكل واضح لا يمكن فصله. كما أن أوستر يحب كرين، ويريد من القارئ أن يحبه بالرغم من بعد كرين عن أية لطافة.
وأوستر صادق في ذلك، فكل ما ظهر مبتكرًا في الكتابة مما جاء بعد جيل آخر، موجود في روايته “ماجي فتاة الشوارع” (1893) و”وشاح الشجاعة الأحمر” (1895). فنبرة الكلام القليل التي اكتشفها هيمنجواي، فقط بعد الحرب الهائلة– بجذورها وتقاريرها الإخبارية، وشرها المقصود وتحريراتها المفتوحة، وقناعتها بأن التفاصيل الحسية بحد ذاتها كافية لتجعل كل النقاط الأخلاقية جديرة بأن تقال، هي جميعها محققة في أعمال كرين. وكذلك التلاقي مع الواقعية الجنسية غير الخجولة في “ماجي” والتي جاءت قبل “الأخت كاري” لـ درايسر على الأقل بما يقرب العشر سنوات.
كيف استطاع كرين أن يكون جيدًا إلى هذا الحد، وهو صغير جدًا؟
في بداية كتابه عن كرين كما يقدمه أوستر، بأنه وُلد في نيوآرك عام 1871، وكان الطفل الرابع عشر لرجل دين ميثودي وزوجته المسيسة الصليبية المزاج. بالإضافة إلى هذه الاكتشافات، يردنا ملف كامل للخطايا الأمريكية في فترة شباب كرين: المعركة الحربية مع الهنود ونهاية إعادة البناء إلى ما هنالك– كل هذا مهما كان خطيرًا حصل بعيدًا عن مكان إقامة كرين. إلا أن الكتاب يستعيد حيويته عندما يظهر معدن عائلة كرين في نيو جيرسي، التي كانت متعلقة تمامًا بالمدافعة عن تحرير المرأة وحقها في الاقتراع. لقد عاش كرين في عالم مليء بالفقر المدقع ولكن أيضًا مليء بالإمكانيات الثقافية الواسعة التي سمحت له بأن يقوم بدور ريادي ويمارس واقعية أخلاقية.
في سن العشرين أصبح كرين مراسلًا صحفيًا. ويفسر هذا الدور طرق كتابته وما يكتبه. وبدأ يكتب لمكتب إخباري في أوزبوري بارك، والذي كان أيضًا مسرحًا للطبقات الوسطى، وقفز مباشرة إلى الصفحة التي تشبهه. نبرة 1890 في كتابة الصحف: الكتابة اللاذعة لإضاءة وقحة قليلًا تجمع شيئًا من الفرادة مع بعض التوقعات التي تترك للصفحة الرئيسة، كانت كلها ملكه تمامًا كما كان تجميع التفاصيل، وقدرته على تلوين المشاهد ببراعة، والصورة النهائية الفكاهية التي لا تنسى تشد تفاصيل حادثة ما مع بعضها البعض.
من إرسال سابق:
[كل الأشكال والأحوال التي يمر بها الرجال نستطيع رؤيتها على مسار اللوحة. فهناك رجال أعمال نيويورك ذوو النظرات الحادة والثاقبة، وفلاحو جيرسي ذوو الأجساد الطويلة الرفيعة، وأبناء الهند ذوو البشرة الغامقة، رجل الصين المتماسك القوام، الجنوبي ذو الشعر الأسود، والرجل ذو القبعة الكبيرة من السهول المتوحشة الغربية ….. سماسرة البورصة يتجمعون في مجموعات صغيرة على الشرفة الواسعة، يناقشون مزايا ارتفاع وانخفاض البورصة. الفتاة الجميلة والمتألقة في أجمل ثيابها، تسير إلى أعلى وأسفل بعيدة بضع أقدام عن الأمواج المتلاطمة، وتتحدث مع شباب الكلية … (هم) يمضغون اللبان معًا في توافق مع تلاطم الموج والشاطئ الرملي.]
التحول من مراسل إلى روائي (وشاعر) كان يعد -بطريقة ما- المسار السائد للكتابة الأمريكية في ذلك الوقت. عندما لم يكن هناك مكتبات لكتاب “أيوا” أو الكثير من العقبات في طريق تقدم الناشر. كتب لصحيفة وتمنى أن يبيع كتابًا. تحدي الصحيفة للكلام المنمق أو الابتذال الفارغ في كل جزئية، يبدو مؤثرًا في مصاحبة نثرك ويجعلك تهتم أكثر ما تهتم بالأساسيات الخاصة مثل طريقة فلوبير. من خلفيته هذه كتب كرين “ماجي فتاة الشوارع”. فهي ليست رواية جيدة كما ينبغي لها أن تكون، حتى لو افترضنا ما كشفته في الأدب الأمريكي من الواقعية الصارمة! قصة فتاة محترمة أجبرت على ممارسة البغاء بسبب الفقر. إنها مذهلة بسبب غياب الحساسية عند البطلة أو محيطها: ماجي لديها قلب ليس مصنوعًا من ذهب في معظمه، بل من حديد. أكثر ما نتذكره في الرواية الآن هو الكلام، وطريقة كرين في وضع حوار متقطع ومتكسر تقابله خلفية هادئة وصفية لا يلمسها ناشر. وحتى عندما نشرها كرين بنفسه، فبالكاد فعل أي قرّاء ذلك أيضًا لحسن الحظ. كان هنالك رفض واضح لموجة عدم المبالاة:
“وليم دين هويلز، الرجل الطيب في الأدب الأمريكي في وقته، والذي لم يتعثر مرة في كتاباته، التي سمحت له أن يقدر إميلي ديكنسون قبل أي شخص آخر، وكذلك سمحت له بأن يتجاوب مع كرين (بالرغم من أن كرين دفعه مرة ثانية ليقرأها، فرجال الأدب المهمين يريدون قراءة العمل الذي يقوم به الصغار والوافدون؛ ولكنهم بحاجة إلى من يذكرهم بأنها أُرسلت لهم قبل شهرين).
وبين ليلة وضحاها كان لكرين مشرف أدبي واحد مقبول على نطاق واسع لقراء ميدلبرو، ومتناغم تمامًا مع الطليعيين. هويل كان راعيًا وموجهًا، بالرغم من أنه -كما قال من قبل أحد النقاد- هو أول من قرأ شعر ديكنسون لكرين. تعرضه لهذا حرر شعره… فإذا كانت ماجي مذهلة بطريقتها، فهي لا تقارب الشعر في مجموعة “الفرسان السود” منذ 1895، والتي تُقرأ كمشاركة بين ديكنسون وأحد المشاة – مادة مظلمة بمقاييس جمالية. وكما رأى باريمان، فهي ترتقي بالشعر بفعل المفاجأة بحداثة لغتها، ورهبة صورة تكشيرة الميت التي تقدمها:
“رأيت مخلوقًا، عاريًا، بهيميًا،
يجلس مقرفصًا على الأرض،
حاملًا قلبه بين يديه،
ويأكل منه.
قلت، “أطَعمُه جيدٌ، يا صديقي؟
“إنه مرّ – مرّ ، ” أجابني.
“لكني أحبه
لأنه مرّ
ولكونه قلبي أنا”
لم يكن أي شيء في “ماجي” يشير إلى المقياس الذي مشى نحوه كرين في “وشاح الشجاعة الأحمر” بعد سنتين فقط. إنها قصة صبي مراهق، انغماسه وآلامه في المعارك خلال الحرب الأهلية، وقصة حصوله على وشاح الشجاعة الأحمر، “جُرحٌ”، والشكر لله أنه ليس مميتًا. “وشاح الشجاعة الأحمر” هو أحد الأعمال الأمريكية الطريفة. وإذا ما كان ما يقوله أوستر صحيحًا بأنها اختفت من المقررات الدراسية، فاختفاؤها يصعب تفسيره. حيث إنها لا تناقض أية قيم، ولا تهاجم أية محرمات، ولا تخطو على أي ذرة مشتعلة بوضوح. فهي بالتأكيد ليست سياسية بطريقة ما، بحيث كما ذكر العديد من النقاد، تزيح أسباب الحرب من الحرب. إنها عمل انطباعي بالإحساس والعنف: لا سبب، لا هدف، لا تبرير – مجرد تيار من الوعي بالخوف، والخلاص عبر نوع من الشجاعة التي لا تختلف في النهاية عن الجنون.
ولكن هذا ما يعطيها أهمية كعمل حول الخيال الإنساني: الصبيان المراهقون يجلسون في عالم مثقل بالأعباء غير المحدودة، وفجأة يقاطعهم عنف مخيف وموت كلي الوجود. فلا يفكرون، حقيقة، بالسبب ولكن ببقائهم هم. يسعون فقط لموافقة الجنود العاملين معهم. القصة ليست حول الحرب ولكنها حول المعركة، الجنود يقاتلون ويموتون حتى لا يخذلون الرجال الآخرين المرابطين معهم في الصف. وأحد عجائب الرواية الأمريكية هو أن كرين إلى حد ما تخيل كل هذا، ومن ثم عرض بصدق رؤيته وكأنها حصلت… وما هو مذهل، ليس كونه استطاع أن يتخيل معركة ببساطة، ولكن الدقة التي تخيل فيها تفاصيل الإرهاق ونمط العمل، وهو شيء لا يعرفه كليًا:
[بدأ الرجال يعدون الأميال على أصابعهم، وأخذوا يتعبون: “أقدام محرقة وحصص قليلة، هذا كل شيء”، قال الجندي ذو الصوت العالي. كان هنالك تعرق وتذمر. بدأوا بعد قليل يفتحون حقائبهم. البعض يرمي بها أرضًا دون اهتمام، والآخرون يخفونها بانتباه، مؤكدين خططهم بالعودة إليها في الوقت المناسب. خلع الرجال عنهم القمصان السميكة. في الحقيقة، حمل القلائل منهم أي شيء عدا ملابسهم الضرورية وأغطيتهم الصوفية، حقائبهم الجرارة، أغنيتهم، سلاحهم وذخيرتهم. “باستطاعتك الآن أن تأكل وتطلق النار”، قال العسكري الطويل مخاطبًا الشاب.
“هذا كل ما ستفعله”.
كان هنالك تغير مفاجئ من النظريات الطفولية التأملية إلى تلك السريعة المجربة للشباب. تحررت الفرقة من الثقل بأن تلقت تعليمات جديدة. ولكن كانت هنالك خسارة كبيرة من الحقائب الثمينة، وبشكل عام مجموعة جيدة من القمصان. عاد الجيش حاليًا للجلوس مرة أخرى والتفكير. كانت رائحة الصنوبر المسالمة تملأ أنوف الرجال. وكان صوت الفؤوس المتراتبة يرن عبر الغابة، وتحرك الحشرات رأسها فوق مقعدها وتدندن مثل عجوز تغني.]
لقد قام كرين أكثر من أي روائي آخر، باختراع الصوت الصبور. وقد رأى إدموند ويلسون في كتابه “الوطني الدموي” (1962)، هذا النغم الجديد بحركاته غير العاطفية وشفاهه المحكمة الإغلاق، ازدواجية المعنى كتأثير واضح للحرب الأهلية على الأدب الأمريكي. والجواب الوحيد على عدم جدوى الحرب هو حيادية اللغة، بغضب يتحرك فقط في أسفلها. ما كتبه هيمنجواي عن الحرب العظيمة في “وداعًا أيها السلاح”، هو مدين تقريبًا لما كتبه كرين عن الحرب الأهلية.
كيف استطاع كرين أن يستحضر العلاقة غير العادلة بين الرأسمالية والسواد كله؟ حاول أوستر أن يستخرج الذكريات والمراجع التاريخية التي قد يكون كرين قرأها، ولكن الرواية يبدو أنها كانت حالة من الخيال من الدرجة الأولى، أخذت تعمل على ما أصبح كله مادة منتشرة. فمادة الحرب الأهلية والمحاربين كانت في كل مكان، عندما ذهب كرين إلى كوبا ليغطي الحرب الاسبانية – الأمريكية في العام 1898، كان العديد من قادة القوات الأمريكية ضباطًا في الحرب الأهلية، بما فيهم بعض الحلفاء.
إن أوستر عادة ذو عين ثاقبة وكتابة كاشفة حول تفاصيل كتابة كرين، مثل ما أشار أن نبرة كرين الهادئة الواسعة الأفق تعتمد على تركيب جمله السلبي. ولكن عندما يوحي بأن كرين مميز لأنه يستدعي تجارب داخلية بشكل ممارسات خارجية – يضع حالة نفسية عن طريق اكتشاف حقل من الإدراك الحسي – وهو يتوسع قليلًا بهذه العلاقة. وهذا على أي حال ببساطة، وصف لما هي الكتابة الجيدة: هوميروس وفرجيل في كتابيهما عن الحرب كانا يفعلان ذلك أيضًا. (نحن داخل رأس أوديسيوس، ثم خارجًا نحو السهل الطروادي. نزور الهدف، ثم يأتي الدم). والذي يجعل كرين مميزًا، ليس أنه حول الأشياء المحسوسة مثل الأشياء المرئية، ولكن كونه كان يكتب تقريرًا بانتباه بالغ حول أشياء كانت تُحس وتُرى فقط في مخيلته، مرة تلو الأخرى في روايته. كانت الكتابة مصداقية غريبة لصدمة نذكرها – ليس فقط بأشياء نعرفها ولكن بأشياء يجدها الروائي برعبها العادي مستعصية على النسيان:
[تساقط الرجال هنا وهناك كالصرر. قائد فريق الشباب كان قد قُتل في الجزء الأول من التحرك. تمدد جسده وكأنه رجل تعب يرتاح. ولكن على وجهه بدت سيماء الذهول والنظرة المليئة بالأسى، وكأنه ظن أن أحد الأصدقاء قد أوقع به. الشخص الذي يهذي أوقعته طلقة جعلت الدم يسرح كالنهر على خده. أقفل كفيه على رأسه، “أوه” قال وركض. وآخر أخذ بالشخير فجأة وكأنه أصيب بعصًا في معدته. جلس وحدق بغضب. كان هنالك في عينيه تعنيف صامت غير واضح المعالم. وبعيدًا على آخر الخط كان هنالك رجل يقف خلف الشجرة بعد أن أصيبت ركبته و تشظت بفعل إصابته. سقطت بندقيته فجأة، وأمسك الشجرة بذراعيه الاثنين وبقي هناك، معلقًا يائسًا يصرخ طلبًا للمساعدة حتى يفك تعلقه بالشجرة.]
الرجل الجريح المتعلق يائسًا بالشجرة له الصفة الواضحة غير المسرحية لشيء معروف. “وشاح الشجاعة الأحمر” لها نفس كثافة ما بعد الصدمة غير العمل بكامله، وكذلك في قصصه الأخرى. القدرة ليس فقط على الخيال ولكن أيضًا على تحول الخيال إلى واقع، لموهبة نادرة مثل تلك التي يملكها المؤلف للنغمة. وتظهر مثل هذه النغمة باكرًا، أو قد لا تظهر إطلاقًا.
بين الكتّاب الأمريكيين كان سالينجر فقط هو الذي يمتلك مثل هذا النضج المبكر ونفس الوضوح الحاد لقلقه. “الحارس في حقل الشوفان”، قصة شهيرة جدًا عن مراهق له مثل هذا الخيال، وهو يشارك كرين في حيويته الشديدة. ولو أعدنا قراءة الاثنين سنصدم كم هي صغيرة تلك اللمسات الوصفية؛ فتلك البطات في بحيرة الحديقة العامة، يأتي على ذكرها فقط، لا نراها. ويصل كرين إلى مثل هذه النتيجة عندما يضع هذا إلى جانب اللغة العامية العصبية لما يعرفه الجندي كله، مواجهًا النثر الريفي:
[انشغل العديد من الرجال في حوار حيوي، وأوجز أحدهم بطريقة فريدة سلسة كل الخطط التي وضعها الجنرال القائد، وقد ناقضه رجال دافعوا عن وجود خطط أخرى للحملة. أخذوا يصرخون على بعضهم البعض صراخًا عقيمًا لإثارة الانتباه العام. وفي هذه الأثناء، فإن الجندي الذي أطلق الشائعة أخذ يتفاخر حول الموضوع بتعالٍ. وقد تهافتت عليه الأسئلة من كل مكان:
“ماذا هنالك يا جيم؟”
“الجيش سيتحرك”
“آه ، عن ماذا تتكلم؟ كيف تعرف أنه كذلك؟”
“حسنًا، هل ستصدقني أم لا، كما تشاء. لا يهمني شيء”
كانت هناك حاجة ماسة للتفكير في الطريقة التي أجاب بها. لقد قارب من إقناعهم بتحديه بأن ينتج إثباتات. تحمسوا جدًا بعد ذلك.]
إن نبض روايات كرين واقعي إلى حد كبير وتبليغي. فمشاهد المعارك في (وشاح الشجاعة الأحمر) تعطي إحساسًا وكأنها كابوس خارج من خيال سوريالي، مع حذف التفسير وتنوع النتائج، لأن المعارك يجب أن تكون هكذا. والنتيجة تعطي إحساسًا ميثولوجيًا بالمعنى الإغريقي بأن كل شيء يبدو مكتوبًا، وأن لا أحد سيد مصيره. نعيش ونموت بالصدفة والحظ. وهذه الرمزية التي لها صفة البحث عن أسطورة في كتابة كرين، تمنحها فورية بشكل يجعل الكتاب الواقعيين الآخرين من نوع دريسر، والذين هم أكثر كآبة وصبرًا، يبدون مغبرين.
أوستر يدعو كتابة كرين “بالسينمائية”، بالرغم من أنه أقرب إلى الحقيقة أن نقول إن الأفلام الوثائقية هي اشتقاق من الروائية. كرين وديكنز يقدمان النموذج الأفضل المتداول لتقدم الروائية الحية.
في العام 1951، قدم جون هيوستن “وشاح الشجاعة الأحمر”. وقد كتبت عنه ليليان روس في مجلة “صور” أنه فيلم جيد وأمين للنص، وهو جيد لأنه أمين للنص. وقد قام بالأدوار محاربون شباب في الحرب التي انتهت، بما فيهم من فاز بالأوسكار “أودى مورفي”. بعد ذلك ارتفعت شهرة كرين.
كان كرين يأمل أن تعتبر روايته “ماجي”، عمل بحث منفصل. ولكنه كان يترأس “نساء الشوارع”. لم يقودهن بطريقة أخرى – ولكنه عاملهن كنساء مهمشات من قبل المجتمع، كانت لهن فرصة تجارب جنسية متنوعة مصحوبة بنوع من التحرر، كانت تتوق إليه النساء اللواتي حرمن منه. عاش مع واحدة، آني، التي كانت عاملة جنس أكثر منها امرأة عملت لتكسب قراراتها الجنسية لنفسها. حيث كانت لديها سلسلة حية من العلاقات مع رجال بخلاف كرين، حتى وهي تحبه. كانت نوعًا من الاتفاقية التي بقيت سارية حتى نهايتها.
في إحدى الليالي، عام 1896، كان كرين يكتب عن حياة الليل في المناطق المستهترة، التي كانت منطقة الضوء الأحمر، في الغرب الثلاثيني – مصطحبًا معه اثنتين من فتيات الليل. وقد التحقت بهما امرأة تدعى دورا كلارك، كانت قد اعتقلت سابقًا بتهمة الإغواء. وبينما كان كرين يضع واحدة من فتيات الفريق داخل حافلة، قام أحد رجال البوليس الفاسدين، تشارلز بيكر، باعتقال الفتاة الأخرى مع دورا كلارك، بسبب عرضها على رجلين مارين. تدخل كرين دفاعًا عن المرأتين، مؤكدًا لبيكر أنه كان زوج فتاة الفرقة. (“إذا كان من الضروري عقد زواج لإنقاذ فتاة ليست عاهرة من الاعتقال كعاهرة، فيجب أن يحصل ذلك، بالرغم من أن الرجل سيتعذب إلى الأبد”، كما قال فيما بعد). وفي صباح اليوم التالي في سرايا البوليس تدخل من أجل دورا كلارك أيضًا. “لو كانت عندي قناعة ما في حياتي، فأنا مقتنع أنها لم تغو هذين الرجلين”، كما كتب فيما بعد.
بداية كان كرين محبوبًا بسبب شجاعته. “كان ستيفن كرين شجاعًا مثل بطل روايته. وأظهر وشاح الشجاعة الأحمر في قسم بوليس في ولاية نيويورك واعترف بجسارة انه كان مرافقًا لامرأة مومس”. وكان هذا العنوان الرئيس لجريدة هيرست نيويورك جورنال.
وبعد خلاف مع رجل البوليس بيكر، اتهم كرين بمصاحبة مومس أخرى والسكن معها، وعندما جاء البوليس لتفتيش منزله وجد غليون الأفيون معلقًا في الشقة. كان كرين كتب قبل ذلك موضوعًا هامًا حول تدخين الأفيون، ولا يُعرف ما إذا كان هو يدخن الأفيون أم لا. إلا أنه ترك هذه الذكرى معلقة في منزله كذكرى لمغامرته.
تبدلت العناوين الرئيسة في الليل، كما يريدون، “اعترف البواب أن الروائي كان يسكن مع فتاة مومس تتعاطى الأفيون”. وهكذا فإن الموضوع كان عنوانًا رئيسًا في مجلة رئيسية في نيويورك. المدافع الشجاع عن النساء، وكذلك الأمل المشرق للأدب الأمريكي، يصبح فجأة حامي واحدة من هؤلاء النساء في مكان إقامته في تشيلسي ويدخن الأفيون.
فضيحته في نيويورك دفعته للخروج من المدينة. وبدأ فترة تجوال واسعة معظمها مع زوجته الحميمة كورا، امرأة تملك عقلًا عمليًا، أسست في وقت سابق، ما يشبه “الماخور” في فلوريدا. اتخذت رحلاته في اتجاهات شتى سببًا لدى المعلقين في تفسير هروبه. فلقد ذهب إلى اليونان في 1897 ليغطي المعارك مع الأتراك، ثم إلى كوبا ليغطي الحرب الإسبانية الأمريكية. الشهرة التي اكتسبها صغيرًا دفعته إلى الالتصاق بالمهام الصحفية كمراسل صحفي. كروائي أظهر تمكنًا غير متوقع من الكتابة عن الحرب التي لم يرها، أما تقاريره التي كان يرسلها عن الحرب التي يراها فقد انتهت بشكل أقل كفاءة بكثير من الأولى.
قضى سنواته الأخيرة في منزل في إنكلترا، حيث قوبل كاتب “وشاح الشجاعة الأحمر” بحفاوة بالغة من قبل المؤسسة الأدبية البريطانية أكثر منه في أمريكا. ولكنه مع ذلك لم يكن قادرًا على تحصيل معيشته عن طريق قلمه. أصبح كونراد من المقربين، وقال عنه “ذلك العبقري”. ولكن هـ. جـ. ويلز كان أكثر من عرف إنجازات كرين ككاتب: “التعبير في العمل الأدبي عن بعض الرفض الشديد”.
لم يتوقف كرين عن الكتابة، متابعًا الصحافة بنتائج ممتعة جدًا. وكذلك الشعر، في انفجارات طاقة شيطانية.. كتابه الثاني، “الحرب لطيفة” جيد ككتابه الأول، وأيضًا نافذ البصيرة بشكل مخيف. تعلم كرين من المراسلة الإخبارية ما تعلمه باقي شعراء جيله، فقط من الحرب الهائلة:
“ها علم الفوج يلتهب بشدة
نسر ذو عرف أحمر وذهبي
ولد هؤلاء الرجال كي يحفروا ويموتوا
أوضح لهم فضيلة الذبح
وأشرح لهم عظمة القتل
حيث حقل ترقد فيه ألف جثة”
كانت الأشهر الأخيرة في حياة كرين، محيرة للعلماء. أصيبوا، بشكل ما، بنفس الخيبة التي أصابتهم عند إقامة كيتس الأخيرة في روما. حيث كان كرين المسكين يموت من مرض السل الذي لم يكن له علاج. كان يسعل دمًا، ومع ذلك فقد حاول أن يحافظ على حبه للاحتفال مع الهواة المسرحيين ومحتفلي رأس السنة.
وبالرغم من موته دون أن يكمل حصاد موهبته، فقد غادر هذه الحياة بهدوء مفاجئ، ودون أن يشعر بمرارة. ومن آخر ما قاله لكورا: “أترك هنا بمنتهى اللطافة”، فلقد أكل قلبه.
مختارات شعرية من ديوان “الفرسان السود وقصائد أخرى”
I
فرسان سود أتوا من البحر.
كانت قعقعة رمح ودرع،
تصادم حافر وكعب،
صرخات متوحشة وتموج شعر
في التراكض عبر الريح:
كذا ركوب الخطيئة…
II
ثلاثة عصافير صغار في صف
جلسوا متأملين.
مر رجل بالقرب من ذلك المكان.
عندها دفع العصافير الصغار بعضهم بعضًا برفق.
قالوا، “يعتقد أنه يستطيع الغناء”.
ألقوا برؤوسهم إلى الخلف ضاحكين،
بملامح غريبة
نظروا إليه.
كانوا فضوليين جدًا،
هؤلاء الثلاثة العصافير الصغار في صف.
III
نعم، لدي ألف لسان،
وتسعمائة وتسعة وتسعون كاذبًا.
ورغم أنني أسعى لاستخدام الواحد،
فهو لا يغني بإرادتي،
ويقبع ميتًا في فمي.
IV
مرة جاء رجل
قال:
“اجمع لي كل رجال العالم صفوفًا.”
ومباشرةً
كانت هناك ضوضاء مخيفة بين الناس
لجهة تنظيمهم في صفوف.
وقع شجار صاخب، عبر العالم.
استمر لعصور؛
أريقت دماء
بين الذين رفضوا الوقوف صفوفًا
والذين رضخوا،
لذا، ذهب الرجل لملاقاة حتفه، باكيًا.
وأولئك الذين ظلوا في شجار دموي
لم يدركوا عظمة البساطة.
الثعبان
حيث ينطلق الممر عبر قمة الجبل، تحلق حوله شجيرات التوت البري والسرخس الحلو بموجتين ملفوفتين إلى أن تصبحا خطًا ملفوفًا واحدًا، يسهل متابعة تشابكه. كانت السماء صافية من الغيوم، وإشعاعات الشمس تنساب على قمة الجبل، مما استدعى أصوات حشرات لا حصر لها تغني حرارة النهار الصيفي بغناء جماعي ثابت خفاق لا ينتهي.
جاء رجل يصحبه كلبه من غابة الغار في الوادي، حيث تهدر الساقية البيضاء بين الصخور… أخذا يتبعان خط الممر عبر قمم الجبال. كان كلب الصيد ضخما لونه ليموني وأبيض، يسير بهدوء متأملًا خلف سيده.
فجأة جاءت من مكان مجهول قريب صرخة جافة تصفر بحشرجة، استدعت ضربة مباشرة من أطراف الرجل والكلب مثل أصابع الموت المفاجئة. بدا هذا الصوت وكأنه يمسك بالرجل من مؤخرة عنقه أعلى عموده الفقري، ويحيله في مثل ومضة الفكرة، إلى تمثال للرعب المسموع والمفاجئ والغاضب. كذلك الكلب ارتمى فوقه بنفس اليد المثلجة، ووقف جاثمًا يرتجف. فكه مرخي، وزبد الخوف على شفتيه، ونور الكره في عينيه.
حرك الرجل يديه باتجاه الشجيرات ببطء، لكن نظره لم يتحول عن المكان الذي أصبح شريرًا بسبب الصوت المنذر. أخذت أصابعه تبحث، بتخبط، عن عصا ذات وزن وقوة. وحال أطبقت على واحدة بدت كافية، تقدم الرجل ببطء صارخًا، يحمل هذا السلاح أمامه. أخذ الكلب بخياشيمه العصبية التي ترف بشكل صارخ، يتحرك بحذر، خطوة تلو الأخرى، خلف سيده.
ولكن عندما أحس الرجل بوجود الثعبان، انتابت جسده قشعريرة كما في الوحي، كأنه وقع في الفخ. قفز بوجه أبيض إلى الأمام وأخذت أنفاسه تتسارع. يعلو صدره ويهبط كما لو كان في تجربة عضلية خارقة للعادة. ذراعه تحمل العصا في تهيئة لدفاع متقطع.
كان من الواضح أن الثعبان يقطع الممر بطريقة غير مألوفة عندما أحس بقدوم أعدائه. وربما أوحى له النبض البليد فنفض جسده ليواجه الخطر. لم يكن لديه علم بالممرات، ولم يكن يملك الذكاء ليخبره أن يزحف بلا صوت داخل الشجيرات. عرف أن أعداءه العنيدين قادمون. هم يسعون إليه، بلا شك، ليصطادوه. لهذا صرخ في صلصلة سريعة لا تصدق لأجراس صغيرة، محملة بالرثاء مثلما يصنع صناج الحرب لدى الصينيين. لأن، حتمًا، كانت هذه موسيقى موته.
“حذارِ ! حذارِ ! حذارِ!”
جابه الرجل والثعبان بعضهما بعضًا. في عيني الرجل بغضاء وخوف. في عيني الثعبان بغضاء وخوف. ناور العدوان بعضهما، كل منهما جاهز للقتل. كانت معركة بلا رحمة. لم يكن أحد منهما ليعرف الرحمة في مثل هذا الوضع. كمنت في الرجل كل القوة المتوحشة لرعب أجداده، سلالته، ونوعه. رفض مميت توارثه الرجال واحدا عن الآخر عبر قرون مظلمة. وهذه تفصيلة أخرى، من حرب بدأت بشكل واضح منذ أن كان هناك رجال وثعابين. الأفراد الذين لا يشاركون في هذا الصراع، يحتاجون إلى فحص علمي. مرة كان رجل وثعبان أصدقاء… وفي النهاية سقط الرجل ميتًا وعلى قلبه الهندي الشرقي علامة مداعبة الثعبان. وصلت الطبيعة إلى ذروة تألقها في تشكيلها الأجهزة البشعة والمروعة، عندما خلقت الثعبان. فالكهنة الذين يصورون الجحيم بشكل جيد، يملؤونه بالثعابين بدلًا من النيران. تولد هذه الأشكال الملتوية والألوان المتألقة، عداوة مباشرة لا هوادة فيها، أكثر مما تخلقه القبائل البربرية. أن تولد ثعبانا يعني أن تلقى إلى مكان مزدحم بأعداء أقوياء. ولكي تستطيع تقدير هذا، عليك أن تتخيل جهنم كما صورها الكهنة الماهرون.
أما بالنسبة لهذا الثعبان في الممر، فقد كانت هناك لفّتان تبعدان بوصتين عن رأسه، وبتأثير خطوطهما، ولّدا لدى الرجل إحساسًا بشكل مبالغ فيه، بقبضة أصابع الموت على مؤخرة رقبته. كان رأسه الزاحف يتحرك ببطء من جهة لأخرى، وعيناه الساخنتان مضيئتين كأضواء ضئيلة لجريمة قتل. كان الهواء مشبعًا بالصفير الجاف الحاد لحشرجات الموت.
“حذارِ! حذارِ! حذارِ!”
قام الرجل بخدعة بدائية بعصاه. انحنى رأس الثعبان الثقيل ورقبته مباشرة إلى الخلف على المنحنى المزدوج. واندفع جسده إلى الأمام بقفزة منخفضة، مباشرة وقاسية. قفز الرجل بصوت متشنج وأرجح عصاه. سقطت الضربة العمياء الكاسحة على رأس الثعبان وأطبقته بحيث أصبحت، للحظة، الطبقات الرصاصية اللون في الأعلى. إلا أنه استجمع نفسه بخفة وسرعة. انحنت الرأس والرقبة مرة ثانية إلى الخلف نحو الالتفاف المزدوج، وأخرج الفم المفتوح بخارًا وهو يحاول يائسًا الوصول إلى العدو. هذا الهجوم، كما يمكن أن نرى، كان يائسًا. لكنه كان، على أي حال، متهورًا، شجاعًا وشرسًا. كما كانت محاكمة الزعيم المعزول عندما أحاطت به حيطان الوجوه البيضاء مقتربة منه في الجبال. لُوحت العصا مرة ثانية بشكل غير خاطئ. لف الثعبان المشوه والممزق، نفسه لفة أخيرة.
والآن، جن جنون الرجل مستجيبًا لعواطف أجداده وعواطفه. دنا مقتربًا. قبض بيديه الاثنتين على العصا وحركها بسرعة كالمذراة. قاوم الثعبان في غمرة اضطراب يأسه الأخير. عض هذه العصا التي كانت تأخذ حياته ورمى بنفسه عليها.
في النهاية، أمسك الرجل بعصاه ووقف يراقب بصمت. جاء الكلب ببطء ومد أنفه بحذر تام متشممًا. تحرك الشعر الذي غطى رقبته وظهره وتماوج كأنه تحت تأثير ريح قوية، بينما كانت الارتجافات العضلية الأخيرة للثعبان تسمح للصرخات الثلاثية الأبعاد للحشرجة أن تتتابع، ويسمع الصريخ وأغاني الحرب المجلجلة والترانيم العميقة للأشياء غير المحدودة، والتي لا يمكن تعويضها، والخارقة التي تواجه الأعداء.
“حسنًا يا روفر”، قال الرجل مستديرًا نحو الكلب بابتسامة نصر، “سنحمل السيد ثعبان معنا إلى البيت لنريه للفتيات”.
كانت يداه ما تزالان ترتعشان من ضغط المواجهة، إلا أنه نقب بعصاه أسفل جسد الثعبان ورفع الجانب المضار فوقها. تابع سيره في الممر، والكلب يمشي بهدوء متأملًا، خلف خطوات سيده.