إعداد وترجمة: مها لطفي*
ناتسومي سوسيكي (اليابان، 9 فبراير 1867 – 9 ديسمبر 1916) كان الاسم الذي يكتب به ناتسومي سوسيكي، واحد من طلائع الروائيين اليابان في عصر الميجي. يعتبر سوسكي وموري أوجاي كاتبان طلائعيان من أعظم الكتاب اليابانيين المعاصرين. بعد أن درس في انجلترا في بعثة حكومية، بدأ سوسيكي العمل في جامعة طوكيو كأستاذ للأدب الانجليزي، ولكن فيما بعد استقال ليتفرغ للكتابة.
أول كتاب له، «واجاهاي ونيلو دو آرو» (أنا قط)، نقد تهكمي حول غرور الإنسان، تلاه فيما بعد روايات تزايدت في تشاؤمها مثل «كوكورو» (القلب) ورائعته التي لم تكتمل «ميان» (الضوء والظلام). كان أيضاً استاذاً في الأدب البريطاني ومؤلفاً للهايكو، شعر على الأسلوب الصيني، والقصص السحرية.
عزلة اللا إنسانية المعاصرة، البحث عن الأخلاقيات وصعوبة التواصل كانت مواضيع عامة عبر أعمال سوسيكي. منذ 1984 وحتى 2004 كانت صورته ظاهرة على العملة اليابانية من فئة 1.000 ين الورق.
سنواته المبكرة
ولد ناتسومي سوسيكي في 9 فبراير 1867(سنة ونصف تسبق بداية إصلاح الميجي، في طوكيو العصر الحديث)، والده ناوكاتسو، كان الزعيم الوراثي لقرية صغيرة في ايدو. عندما ولد ناتسومي، ناوكاتسو كان في الخمسين من العمر وزوجته تشي كانت في الواحد والاربعين، وكان لديهم خمسة أبناء وثلاث بنات. أن تحمل بطفل في سنوات متقدمة من العمر، في تلك الأيام، كان يعتبر «عاراً على المرأة». كانت تشي خجلة أن يكون لها ولد في مثل هذه السن المتقدمة، وكآخر طفل بين العديد من الأولاد، وضع ناتسومي في منزل للتبني إما في مخزن لبيع الاشياء المستعملة أو دكان خضروات. شقيقة سوسيكي الكبرى وجدت أنه كان يبقى في المحل لساعة متأخرة من الليل (الدكان كان ربما يبقى مفتوحاً حتى منتصف الليل). وهو يبقى محبوساً في قفص من القصب بالقرب من البضاعة. ولم تعد تستطيع النظر إليه ساكنة لفترة أطول، أحضرته إلى المنزل.
وعندما أكمل ناتسومي سوسيكي عامه الأول، أرسله والداه مرة ثانية بعيداً، وهذه المرة عند خادم سابق للمنزل، شوباراسانوسوكو، وزوجته. ناتسومي بدأ حياته كطفل غير مرغوب به بالرغم من أنه ترعرع حتى التاسعة معهم، إلا أنهما انفصلا كزوج وزوجة واعيد ناتسومي إلى منزل عائلته. رحبت به والدته، ولكن والده اعتبره مصدر ازعاج. وعندما أصبح في الرابعة عشر، ماتت والدته. العزله والتحدي الذي رآه فيما بعد في الحياة لم يكن مردّه لشخصيته، ولكن من محيطه الذي نشأ به. بعد عودته للمنزل كان مطلوباً منه أن يدعو والديه: «جدايا». شقيقه الأكبر، والذي كان يتردد على منازل الجيشا، كان يأخذه معه أحياناً، ولكن ناتسومي لم يسير وفقاً لأخيه. كانت امامه فرص عديدة ليدخل في اضطرابات، ولكنه لم يأخذ مثل هذا الطريق.
لم يحتفظ أحد بتسجيلات تفصيلية عن شباب ناتسومي، حيث لم يتخيل أحد أنه سيصبح إنساناً مهماً. في سنواته المدرسية الوسطى، أصبح ناتسومي مغرماً بالأدب الصيني، وتخيل أنه سيصبح يوماً ما كاتباً. على أي حال فإن عائلته كانت رافضة بشدة لمثل هذا الاتجاه، وعندما دخل ناتسومي جامعة طوكيو الامبراطورية (والآن جامعة طوكيو) في سبتمبر 1884، كان دخوله بهدف أن يصبح مهندساً. بدأ بدراسة الانجليزية، شعوراً منه أنه قد يكون مفيداً له في مستقبله المهني. كتب أبحاثاً عن والتر وايتمان والشعراء الانجليز.
في العام 1887، أصبح صديقاً لمسوكاشيكي والذي شجعه على هذا الطريق إلى مستقبل مهني ككاتب. درسه شيكي فن تأليف الهايكو. ومن هذه النقطة وإلى الأمام بدأ ناتسومي يمضي اسمه على شعره تحت اسم سوسيكي، والذي هو صفة صينية تعني «العنيد». في 1890 دخل سوسيكي قسم الأدب الانجليزي وأصبح بسرعة استاذاً في اللغة الانجليزية.
تخرج سوسيكي في عام 1893 وبقي لبعض الوقت كتلميذ متخرج واستاذ لبعض الوقت في مدرسة طوكيو العادية. في العام 1895 بدأ سوسيكي يدرس في مدرسة ايهيمي المتوسطة في المحافظة في شيكوكو، الخلفية لروايته بوتشان. بالإضافة لواجباته كمدرس، نشر سوسيكي شعر هايكو وشعراً صينياً في عدد من الصحف والدوريات. استقال من هذه الوظيفة في العام 1896 وبدأ يدرس في الثانوية الخاصة في كوماموتو. في 10 يونيو 1896 تزوج ناكاني كويوكو، الذي كان والدها السكرتير الأول لمجلس النبلاء.
سوسيكي في المملكة المتحدة 1901 – 1902
أرسل سوسيكي في العام 1900 من قبل الحكومة اليابانية ليدرس في بريطانيا. زار كيمبردج وبقي ليلة هناك، ولكن تخلى عن فكرة الدراسة في الجامعة لأنه لا يستطيع تحمل نفقاتها على منحة الحكومة. كانت حياته صعبة في لندن، عاش في أربعة مساكن مختلفة وصرف معظم وقته داخل الغرف مدفوناً بالكتب، خاف اصدقاؤه أن يكون قد فقد جزءاً من عقله. وكذلك زار بيتلوكري في سكوتلنده: وسّع معلوماته عن الأدب الانجليزي وعاد إلى اليابان في نهاية 1902.
أصبح سوسيكي استاذ الأدب الانجليزي في جامعة طوكيو الامبراطورية بعد خمس سنوات. في مقدمة بونجا كورون (النقد الأدبي) الذي كتبه حول الوقت الذي قضاه في لندن: «السنتان اللتان قضيتهما في لندن كانتا أكره سنوات حياتي. بين الأسياد الانجليز عشت بؤساً، مثل كلب فقير ضال بين حفنة من الذئاب». في 1984 افتتح متحف سوسيكي في لندن من قبل سامي ل. تسونيماتسو.
السيرة الأدبية
بدأت سيرة سوسيكي الأدبية في العام 1905، عندما كتب قصة قصيرة عنوانها «أنا قط» والتي كانت ناجحة جداً جماهيرياً بحيث أنه بدأ يكتبها كمسلسل في مجلة «ليتل كوكو»، مجلة أدبية قيمة في ذلك الوقت، اسسها صديقه ماساوكاشيكي. وبعد وقت قصير فيما بعد، نشر «بوتشان»، عمل آخر أكسبه إعجاب الجمهور بالإضافة إلى تقدير النقاد. وبدأ يكتب بشكل دائم منذ العام 1907، عندما ترك منصبه في الجامعة ليأخذ منصباً مع اساهي شيمتبون (واحدة من أكبر الصحف في اليابان). وبدأ يكتب رواية كل عام حتى مماته بسبب قرحة في المعدة عام 1916.
دور البطل في أعمال سوسيكي
ابتدأ سوسيكي في كتابة «أنا قط» كهيكل لعمل أدبي. رغم أن هذا الهيكل الأدبي ظهر كرواية، فلقد سار باتجاه يخالف الأسلوب السائد في الأدب في ذلك الوقت. هدف سوسيكي من الكتابة اختلف عن أسلوب معاصريه. شرح سوسيكي أن أحد المعالم الخاصة لذلك الرسم الأدبي هو أنه لم يكن له خط قصصي واضح. اتجاه القصة ينحرف تدريجياَ عن مسارها ويصبح المحتوى أكثر سواداً وعمقاً. خطوط القصة مربوطة معاً فقط عن طريق القط، والذي يتجول حول المكان.
«إلى اعتدال الربيع» و«بعد ذلك» كتبت بأسلوب مماثل لقصة «أنا قط» مستخدما كيتارو بطل الرواية، بنفس الأسلوب مثل القط. كيتارو لا يدخل إلى عالم سوناجا وشيبوكو، ولكن يتجول حول الأماكن المحيطة بهم. كونه قدم كيتارو كبطل للرواية، يصور سوسيكي وضعهم الجدي كمشهد أدبي. كيتارو يريد أن يكون بوليس تحري. على أي حال هو والقط ليسا تحريين حقيقيين يخرجان ليلتقطا مجرمين، ولكن مراقبان يحاولان معاً تقييم حياة الناس الأخرى. صوّر سوسيكي العديد من «المثقفين العاطلين» في أعماله.
عندما كتب سوسيكي «أنا قط» في العام 1905، كان الخط السائد في عالم اليابان الأدبي تحت تأثير الطبيعية الفرنسية. غطس سوسيكي في ذلك العالم الأدبي كإنسان خارجي. معظم الكتاب لم يعتبروا كتاباته أدباً. احتقر سوسيكي «الأدب المعاصر» في زمنه لأنه استخدم لغة فقيرة، المؤلفون يؤلفون تعبيرات من الكلمات البسيطة والتي كانت مستخدمة لتظهر معان أعمق في ذلك المحيط. فجمل سوسيكي المثقفة والمتعددة الألوان جذبت اهتماماً بالغاً. قبل أن يبدأ في كتاب كان يقرأ سوسيكي قواميس ليغني ما لديه من الكلمات الملونة حتى يستطيع أن يصف مشاهد ومشاعر بتفاصيل دقيقة. كتابه الثالث، كوساماكورا (العالم المثلث الزوايا)، حول رسام، واحد آخر من «المثقفين العاطلين عن العمل» الذي يذهب ليستقر في ضيعة بعيدة، لهو كتاب غنائي وشاعري. قال سوسيكي نفسه حول كوساماكورا أن مثل هذه القصة لم يظهر من قبل في التاريخ.
زبدة أدب سوسيكي
أصبح سوسيكي كاتباً مشهوراً بعد نشر كتابه الأول، وبقى كاتباً يابانياً مفضلاً. كتبه احتوت عمقاً له جذوره في الميراث الثقافي الماضي. الذي قطع معظم كتاب عصره صلتهم به. بدأ الكتاب المعاصرون يبتكرون الأدبيات الكونفوشيوسية السوداء والبيضاء وشهوانية إيدو (طوكيو)، التي ورثها سوسيكي بطبيعته.
لب أدب سوسيكي كان نوع من حساسية ايدو مجسداً بـ «يوسي» Yose مسرح تقليدي ياباني للمنوعات. «يوسي» مؤلف من عنصرين: اغان طويلة مغرية تغنى مصحوبة بعزف (جيتار ياباني) وطبول وزمامير، ومواضيع كونفوشيوسية حول الصواب والخطأ.
بالرغم من أن سوسيكي بدأ حياته كطفل غير مرغوب به، فوالده نواكاتسو بالوراثة زعيم بلده في ايدو. موضع الزعيم، الذي له سلطة حول إدارة البلدة والبوليس، وكان ينتمي إلى طبقة خاصة شكلت جسراً بين طبقة الساموراي والتجار الحرفيين. والده بالتبني، شيوبارا مسانوسوكي، كانت ينتمي إلى طبقة عليا من التجار والحرفيين. نشأ سوسيكي متفتحاً على ثقافة الاثنين: الساموراي والتجار والحرفيين.
تسوبوتشي شوبو 1859 – 1935، والذي مثل الأدب الحديث في ذلك الوقت، كتب شوسيتسوسينزو (لب الرواية) الذي قطع به صلته مع ثقافة ايدو القديمة، التي تمسك بها سوسيكي. العموم بمجملهم مازالوا يتشوقون للقيم الكونفوشيوسيه للصواب والخطأ، ووجدوها في أعمال سوسيكي.
السبب الثاني لشهرة سوسيكي أنه استطاع أن يميز الجانب المظلم من العصرنه. ذهب إلى لندن في خريف السنة الأخيرة من القرن التاسع عشر، وشاهد مسيرة جنازة الملكة فيكتوريا عندما مرت على جانب هايد بارك. تجربته للدراسة في لندن، عندما كان حزيناً حتى أعماق روحه، ساهمت في تجديد كتابته. استبقى حساسية وأخلاقيات الماضي، وفي نفس الوقت حاول أن يتغلب على مشاكل العصرنة. مثلاً في «بوتشان» البطل بوتشان يجسد حساسية وأخلاق الماضي بينما، مع المدرس ياماراشي، يجري بسرعة نحو الثقافة الحديثة. الكتاب بقصصه المضحكة والمسلية، هو لعنة سوسيكي على «الحياة الحديثة» أو الحداثة.
موضوع رئيسي في أعمال سوسيكي كان امتحان «الفردية» المخفية في الحضارة الحديثة. في كتاب «اعتدال الربيع وبعد ذلك» الشخصيات ليوود ولاسيفيوسي الفردية واضحة للجمهور. في «عابر السبيل» عام (1912 – 1913) يصف سوسيكي استاذاً جامعياً تسحقه الغيرة العمياء، يشك في أخيه وزوجته ويشتمهما دون أي مؤاخذة للنفس.
في «القلب» (1914)، يصور سوسيكي بطلاً جباناً يخون صديقه ويتسبب في وفاته، ثم يأخذ حبيبته. بالرغم من أنه في مذكراته في قصة «عشب على جانب الطريق» (1915) يتعاطى مع «الفردية» بشكل أقل قرباً، ويوجه تحية دافئة نحو الحياة الواقعية. في عمله الأخير الغير كامل «النور والظلام» (1916)، يصور سوسيكي الفرديين الذين يقاتلون بأسنانهم وأظافرهم حول أي شيء مهما كان ضئيلاً، ويستسلمون اخيراً ويهجرون ذاتيتهم. في أواخر أيامه، كان سوسيكي يتمتم لنفسه «استسلم للسماء والطبيعة واترك الأنا».
مواضيع أخرى في أعمال سوسيكي تتضمن أناساً عاديين يقاتلون ضد المصاعب الاقتصادية، الصراع بين الواجب والرغبة، الإخلاص والعقلانية الجماعية مقابل الحرية والفردية، العزلة الشخصية والانفصال، التصنيع السريع لليابان ونتائجه الاجتماعية، ازدراء تقاليد اليابان للثقافة الغربية، ورؤية متشائمة للطبيعة الإنسانية.
لماذا نحن جميعاً
قطة ناتسومي؟
عمر زعزع*
ليس هنالك فسلفة وحيدة تحكم فن الترجمة. البعض تمسك بفكرته أن على الترجمة أن تناضل لتبقى مخلصة قدر الإمكان للشكل والأسلوب الاصلي للقطعة التي تترجم إلى الحد الذي يضحي بجماليات الصوت والإيقاع. القارئ المؤيد لسيادة هذه الفلسفة عليه ألا ينسى أنه يقرأ ترجمة، وأن يكون شاكراً لنموذج عملي قريب من الأصل. عمل أدبي مميز يحمل المفردات الأصلية للغة النص.
مروجو هذه الفلسفة في الترجمة حتى لو لم يكونوا أكاديميين بمهنتهم، يحاولون إحاطة أنفسهم بتقليدية محافظة لأستاذ غير ملهم، يهتم بدقة المراجع أكثر من إحساس وسحر التعبير الخلاق. وكأن هؤلاء الافراد يريدون غرز ضرورة أرشيفية ما في التجربة الفردية للقراءة، عن طريق تجنب كلمات تفترض تشكيلات أكثر طبيعية وأكثر إغداقاً للسعادة.
قد لا يكون من المبالغة إذا ما اتهمنا المدافعين عن مقاربة «المخلصين المملين» للترجمة، بأنهم إذ ينسون أن الأعمال الادبية كتبت بهدف تحريك الناس أولاً وأخيراً، مهما كانت اللغة التي كتبت بها. وهل حقاً نكون قد بالغنا إذا ما فرضنا أن الكتّاب قد رغبوا في نفس التأثير الذي كانوا يهدفون أن يكون لعملهم الأصلي على جمهورهم المستهدف وأن ينقل عبر ترجمة ما؟! وعلى أية حال، كم سيكون مقدار الحرية التي على المترجم أن يأخذها ليحقق هذا؟
وكما تكون ال مسراتها حالة عادة بالمواضيع المثيرة للخلاف، فهنالك رأي عالمي كائن حول الموضوع، وهذا هو الفرع الأكثر إبداعاً. الذي يصر عن طريق التباين، أن على القارئ أن لا يكون واعياً وهو يقرأ الترجمة، فلغة المترجم يجب أن تعطي إحساساً طبيعياً حتى لتبدو وكأن القارئ يجابه نصاً مكتوباً بلغته أو لغتها الام أكثر منه عملاً مميزاً مترجماً. وهذه هي وجهة النظر التي يجب اتباعها مع الفرضيات المتعلقة مثل أن الشعراء هم أفضل المترجمين، لأنهم أصلاً طبيعيون في التلاعب بلغتهم الأم، حتى يصلوا إلى الذروة في التأثير المحتمل للكلمات على القارئ.
نحن لا نكتب هذه المقدمة لنأخذ موقفاً محدداً مع أي من الموقفين. ولكن لنعقد كلا منهما إلى حد ما، عن طريق اقتراح أن الاغراء بترجمة عمل سوسيكي ناتسومي الفذ من الأدب الياباني «أنا قط» إلى اللغة العربية، لهو عمل يبرز كلا وجهتي النظر في الترجمة بينما لا يظل مخلصاً كلياً لأي منهما. إنه، باختصار، عمل يتعلق بالتعامل مع اللغة التي تظهر مسراتها بوضوح كاف، ولكن تبقى قيمتها الكلية إلى حد ما صعبة المنال، طائشة وخفيفة مثل بطل قصة ناتسومي الاستطرادية الماكرة. وهذا بسبب وجود دلاله بعيدة خلف عملية الترجمة هذه أكثر من حجم المسرات المقبولة التي ينتجها بشكل مخادع الخط القصصي البسيط عند القراء في أية لغة كانت.
لنترك جانباً الغموض الفني. إذاً، ما الذي نعنيه بالدلالة التي تتجاوز مسرة القراء؟
لنضع الأمر ببساطة. فعملية ترجمة قصة ناتسومي غير الخطية (بشكل عام)، لهي عملية تصدّر تراثاً متعدد الثقافات، وربما حتى متعدد اللغات، والحصة العربية في هذا التراث هائلة في الواقع حتى ولو أُخرست بالجهل النسبي، فهي في الواقع هائلة. بل أكثر من ذلك، فعملية ترجمة قصة ناتسومي إلى العربية تسمح بالحفاظ على بعض النتائج الاسلوبية في اليابانية والتي هي مستحيلة في اللغة الانكليزية، التي هي ربما اللغة الثانية الأكثر رواجاً التي ظهر بها النص وعُرف خارج اليابان، بلده الأم.
سنبدأ بالاساسيات: وكما يقول لنا ايكو إيتو وجرايم ويلسون، في مقدمتهما عام 2002 للترجمة الانجليزية لـ «أنا قط»، فسيسوكي ناتسومي كان الاسم الذي عرف به كينوسوكي ناتسومي. عاش ناتسومي من 1867-1916، وقبل أن يصبح واحداً من الكتاب الأكثر شهرة في التاريخ والثقافة اليابانية، كانت له مكانة هامة من حيث انه خريج جامعة طوكيو الامبراطورية قسم الادب الانجليزي عام 1893. وفي عام 1900 قامت وزارة التربية (المؤسسة التي منحت ناتسومي قروضاً مكنته من متابعة دراسته الجامعية) بإرسال ناتسومي بمنحة لمدة سنتين لجامعة لندن. هناك، كما يحكي المترجمون كان بائساً، في الغالب لعدم تواصله مع أحد، فقرأ كميات مهولة من الكتب. وسرت في اليابان «إشاعة واسعة الانتشار أنه أصيب بالجنون».
عاد ناتسومي إلى طوكيو في العام 1903، وعمل لمدة اربع سنوات كمحاضر للأدب الانجليزي في جامعة طوكيو الامبراطورية، كبديل لمنحته. عند هذه النقطة، يخبرنا المترجمون، أن ناتسومي بدأ بالكتابة.
ونحن نعتقد أن المصدر الرئيسي لرواية ناتسومي المشهورة جداً «أنا قط» تستحق استعادتها كاملة، لأنها توضح لب شخصيتها الاسلوبية: في العام 1904، طُلب من ناتسومي المساهمة في مجلة ادبية تدعى الوقواق باليابانية (هوتوتوجيسو)، اسسها صديق مقرب. جامله ناتسومي وقدم له ما كان في ذلك الوقت قصة قصيرة: الفصل الأول من «أنا قط». طبعت القطعة تتبعها مراجعات مرموقة في عدد يناير من مجلة هوتوتوجيسو. بينما كان ناتسومي ينوي إنتاج القصة القصيرة البداية، جعل نجاحها ناشر المجلة يحث ناتسومي على إنتاج المزيد من حكايات السرد القصصي. والنتيجة كانت نص «أنا قط» في العام 1911، التي تعد الآن واحدة من القصص العظيمة في الأدب الياباني.
فمن جانب، تظهر هذه الحصيلة غنى التاريخ الأدبي في بدايات مضمون المسلسلات. ومثل هذه الحلقات تذكرني بقوة، كيف أن الأعمال الأدبية، بعيداً عن النتائج المباشرة لإلهام الكاتب وجهده، ليست إلا وكثيراً ما تكون نتائج تعاون صحي وحتى مفاجئ بين إلمام المؤلف وما يمليه تجاوب القراء ومادتهم، وحالة السوق. نحن نعتقد أن مثل وجهة النظر هذه للتاريخ الادبي والإنتاج، رغم عدم مساواته، لهو أكثر حماساً وإثارة للاهتمام من القصص الخاوية لعبقريات الأفراد والتي تعرّف، بسطحية، حضور المنجزات الادبية والفنية كأنها تعبير عن «العظمة» غير مزعج أو متحدي في كل العصور.
وتأكيداً لما قلناه، فهذا السرد يعترف بصراحة بالشخصية العرضية لـ «أنا قط». ومع بعض الاستثناء، يمكن قراءة الفصول دون ترتيب، ويستطيع القارئ مع ذلك اكتساب عنصر القصة. نتصوره كقصة قصيرة في الأساس. فالقصة تأتي ككل، كسلسلة من القصص القصيرة، متصلة بشكل فضفاض بالموضوع وتكرار وجود الشخصية الرئيسية، القط الذي لم يُعطى اسماً.
وكما يشير ايتو وويلسون بشكل هام إلى احاسيس ناتسومي الفنية في هذا المضمار، من أنها متأثرة بقراءاته للورنس ستورن، وجوناثان سويفت، وجين اوستن، فتأثير ستورن بشكل خاص يستحق التعليق عليه، وربما عمله الأكثر انتشاراً هو حياة وآراء تريتسرام شاندي، السيد. عمل ستورن ساعد في تأسيس سيادة أدب التشرد في الأدب الإنجليزي. وكتعريف فضفاض، يدور النوع الأدبي التشردي حول فشل مغامرات شخص رئيسي. إنه عرضي أكثر منه خطي بالشخصية، وقد يصور كثيراً عناصر متنافرة. دون كيخوت مثال اللغة الاسبانية لهذا النوع. وفي هذه اللحظة من الإلهام الادبي، قد يقال على ناتسومي أنه قد تأثر بالتجديد الادبي لثقافة وطنية ادبية حاول أن ينقلها ولو بشكل محلي إلى ثقافته.
ولكن القصة وراء القصة تصبح أكثر تعقيداً عندما نضعها في اقتراح وائل حسن بأن الادب التشردي الاوروبي انبثق من اللغة العربية، نوع المقامة التي سادت في القرن العاشر، أو ما قاله نوري جانه أو سعد الخادم في إشارته للكيفية التي استهلت بها القصة العربية والاوروبية من بعضها البعض. بحيث إن «التاريخ» الرسمي للقصة ليس حكراً على بقعة حضرانية واحدة، فهي تاريخ نموذج غني بالتبادل والإلهام المشترك (حاجزاً، حتماً، القوة الاستبدادية التي يملكها قطر يستمر في استغلال الآخر خلال الزمن، ويترجم هذه القوة إلى اسطورة كريهة للتعالي الثقافي ليبرر الإلحاق العسكري).
وما يعنيه هذا لترجمتنا الحالية لتحفة ناتسومي هو إننا نتعامل مع تجمع هائل لتأثيرات ثقافية ولغوية. ويبدو قريباً لنوع من «العدالة الشعرية» أن تعيد ترجمة هذا العمل إلى لغة قد ساعدت بشكل قوي في تشكيل النصوص الغير يابانية الهامة التي الهمت ناتسومي في رحلة الكتابة التي قام بها.
ولكن هنالك عامل يتنبأ بما ستكون عليه هذه الترجمة، وهو التقارب بين بعض ما هو مسجل داخل اللغتين اليابانية والعربية. وكما يشير المترجمون الإنجليز لقصة ناتسومي المؤثرة، هنالك تلاعب لفظي في عنوان القصة الذي هو لغوياً «لا يمكن ترجمته إلى الانجليزية». ومثل العربية فاليابانية تصور ظاهرة تعرف بالانجليزية «diglosia»، وهذا يعني وجود لغتي تعبير عامية / فصحى. وهذا يشير لوجود لغة عامية غريبة بشكل عام لبديلٍ رفيع المستوى الادبي. وهذا شيء يتعود عليه الناطق باللغة العربية وهو التمييز بين الفصحى والعامية ويعرف كل هذا جيداً. فالعنوان الأصلي لقصة ناتسومي كان مكتوباً بالنسخة اليابانية، ومن الممكن اعتباره عربية فصحى بحيث تأتي الفكاهة من مجرد قط يقدم نفسه بلغة رفيعة مناسبة أكثر لسيد إنسان. وهذا التناقض بين الرفيع والوضيع، بين العامي والعالي المقام، (كثيراً بطريقة ما بحيث أن التلاعب يظهر شيئاً ناقصاً فيما يعتبر «رفيعاً»، وبنفس الاسلوب يفرض بحساسية محترمة وبعيدة النظر إلى ما هو مفترض أن يكون «منخفضاً»). وهذا هو من الصفات المتعارف عليها في الادب التشردي / المقامة كحيوية ديناميكية، يجعلها ناتسومي خاصة له بكتابته عن شيئين في آن واحد: قصة لكل الأزمان وواحدة مخصصة لليابان في هذه اللحظة المتجهة للعصرنة.
وفي ما يلي، ندعو القراء بأن ينعموا بهذا التاريخ المضيء المشوش، والذي نعتقد أنه من الواضح أنه يسيل من كل حكاية مؤثرة في قصة ناتسومي الرئيسية. لأنه عند قراءة قصة هذه القطة التي لا توصف على ما يبدو، فنحن نؤمن أننا نقرأ – ونشارك بعضناً جميعاً، حتى في حياتنا الفردية وصراعنا، يحتفظ بنوعيتها المجيدة. وبهذه الطريقة، فنحن جميعاً «قط» ناتسومي بشكل ما، يربطنا ما وصفه الفيلسوف والتربنجامين بالظروف غير المكررة للحظاتنا التاريخية والتي مع ذلك تفسح المجال إلى انفتاح اوسع لإضاءة كونية.
خفيف الروح ذكي لا اسم له
تتعرض قصة سيسوكي ناتسومي «أنا قط» لعدة أشياء تليت في ثلاثة أجزاء، عبر قط مدعٍ خفيف الروح ذكي لا اسم له. «أنا قط» عمل عظيم السخرية، عمل صادق الرثاء، وعمل أدبي يخترق البصيرة. كُتب النص خلال الأعوام 1904-1906، وإذا ما كان هنالك شيء يظهره الكتاب، فهو أن الطبيعة الانسانية لا تتغير كثيراً عبر الأجيال.
وبينما يتم سرد القصة خلال عدسه قط، فإنها تدور أكثر حول الناس، رغم أن هنالك مقاطع، تزيد أو تنقص بصدقها عبر العالم الذي خلقه سيسوكي. وإذا ما افترضنا أنه يجب على الواحد أن يقبل كون القطط أكثر ذكاء ومعرفة من الناس الذين يملكونهم، فملاحظات القط مركز عليها. وبالرغم من الزمان الذي كتبت به، فـ«أنا قط» طازجة وحديثة وكأنما كتبت البارحة.
عندما يفتتح الكتاب يبدأ الماكر الذي لا اسم له: «أنا قط. وحتى الآن لا اسم لي: لا أدري أين ولدت». مالك القط أستاذ يتعامل معه بلا مبالاة، إلى الحد الذي لم يعبأ في تسميته. وبنفس الدرجة، فالقط لا يحترم سيده، لأنه يعرف أنه غبي. وكمثال على ذلك، نتابع هذا التعليق الذكي:
«فبمجرد أن يأتي إلى المنزل من المدرسة، يغلق على نفسه في غرفة الدراسة لباقي اليوم، ونادراً ما يخرج. باقي من في البيت يعتقدون أنه يعمل بشدة. وهو نفسه يتظاهر بأنه يعمل بشدة. ولكن في الواقع فهو يعمل أقل مما يعتقد أي منهم. أحياناً أمشي على رؤوس أصابعي إلى غرفة الدراسة لألقي نظرة فأجده يأخذ غفوة… المعلمون يعيشون ببساطة. لو ولدت انت إنساناً، فمن الافضل لك أن تصبح استاذاً. فلو كان باستطاعتك ان تنام كل هذا الوقت ولا تزال استاذاً، فإذا حتى القط يستطيع أن يدرس».
وفي لحظات أخرى تجسد غباء الأساتذة، تظهر حقيقة أنه يرفض أفكاراً يمكن أن يفهمها الواحد، وبدلاً من ذلك فهو يفضل أن يعيش على أفكار مشوشة لا يستطيع فهمها. ولكن كما يعترف القط، فالاستاذ ليس لوحده في هذه الحقيقة. «شيء لا يمكن تجاهله يتربص في أي شيء يمر في فهمنا، وهناك شيء متأصل النبل في ذلك الذي لا تستطيع قياسه»، يقول هو.
بينما الكثير من «أنا قط» هو نقد للأكاديميين والتفكير المؤسساتي، فالقط أيضاً يدور حول كم أناني هو الإنسان. ولهذا، فالقط يلاحظ بدقة ما يكتشفه. فمثلاً في أحد المشاهد عندما تعلق في فمه كعكة حلوة، بدلاً من أن يساعده الناس حوله لإخراجها، فهم فقط يضحكون على محاولاته للتخلص منها. وفي مشهد آخر، عندما تموت فجأة قطة في المنزل المجاور اسمها «صدفة السلحفاة»، يسمع القط مالكيها يلومونه انه هو المجرم مقتنعين بأنه هو الذي مرّضها. وهذه لحظة محزنة، لأنه بعد أن يسمع بموت «صدفة السلحفاة»، يُجبر القط على إلتزام وحدته. والمعلومة تقول أنه لو كان هو المريض لم يكن ليهتم أحد بحمايته، او أقل من ذلك أن يفتقده عندما يختفي.
في «أنا قط» لحظات شديدة الفكاهة، ولكن هناك أيضاً لحظات لها صدى حزين. يعترف القط أنه يحسد جيرانه من القطط، حيث يحصلون جميعهم، كما يبدو، على معاملة أفضل مما يحصل عليه هو. ومع ذلك فهو أيضاً يعترف أنه بالرغم من حسده، فهو سعيد كون واحد على الأقل يهتم بواحد آخر من فصيلته. (ففي مرة يسمع جيرانه يشيرون إلى ذات «الصدفة السلحفاة» وكأنها إنسان لا قط، وهذا يفاجئه). «أنا قط» لا تتبع النمط المضغوط التقليدي الذي يسيطر على الأدب الياباني. في الوقع هنالك أوقات تشعر أن الكتاب يميل إلى الاستطالة قليلاً. ينتهي في 470 صفحة بينما لا توجد أية لحظات من الكتابة الضعيفة. هنالك قليل من الشراسة عندما يصل الأمر التكرر لإظهار غباء الإنسان. وأنا أقول هذا ليس دفاعاً عن نوعي، ولكن ربما الرأي القديم حول «ما زاد عن حده انقلب ضده».
وبكلام آخر، فإن أكثر أجزاء كتاب «أنا قط» إثارة هو عندما يزوغ عن رؤيته وملاحظاته، سواء كانت عن حياته أو حياة الناس الذين حوله. ومع ذلك فأجزاء بكاملها تتألف من حوارات سخيفة يتبادلها مالكيه من الناس، لم تكن بحاجة لكل هذه الإطالة التي هي عليها، حتى وإن كانت ليست عديمة الفائدة.
بعض القراء انتقدوا ملاحظات القط على أنها «نمطية» أو «مبالغ بها» عندما نفكر بالنماذج الأكاديمية الرفيعة المستوى. ولكن هذا ليس هو المشكلة، بما أن المتكلم الذي نتعامل معه هو أولاً وأخيراً سنور. ثانياً، نحن نشاهد كل شيء من خلال منظور القط، ومن المفروض أن القط يفكر قليلاً بالناس كنوع. حتماً لن نشهد الناس تتصرف في قمتها، ولكن على الأغلب كيف يتصرفون بما يقومون به.
ومع ذلك فبالرغم من كل هذا، فالقط الذي لا اسم له مسلٍ جداً، جذاب ومحب. والواحد منا لا يلومه على رؤيته للناس بالطريقة التي يفعل، خاصة لأنهم يقيمونه بخفة حتى أنهم لم يهتموا بإطلاق اسم عليه.
قام بترجمة الكتاب ايكوايتو وجرايم ويلسون، وقدمت شركة توتل للنشر كتاباً جذاباً جداً.
«أنا قط» نقد للامتثال والاوساط الاكاديمية والسلطة والإنسانية من مصدر خارج أنفسنا. يتضمن لحظات شديدة الفكاهة ولحظات اخرى نفاذة. إنه عمل مكتوب بحصافه ويستحق القراءة، حتى لو لم يكن مؤلفاً بشكل مثالي.
«أنا قط».. الفصل الأول
أنا قط. حيث لم يطلق عليّ أي اسم بعد. لا أعرف مكان ولادتي. كل ما أذكره أنني كنت أموء في مكان رطب مظلم، حيث ولأول مرة، رأيت آدمياً. وهذا الآدمي، كما سمعت فيما بعد، كان من الأنواع البشرية الأكثر توحشاً، تشوسي. أحد هؤلاء الطلبة الذين مقابل الإيواء الكامل، يقومون ببعض الأعمال المنزلية. سمعت عنهم أنهم في بعض المناسبات، يلتقطوننا ويقومون بسلقنا ومن ثم يأكلوننا. على أي حال بما أنني لم أكن على دراية بمثل هذه المخلوقات، لم أشعر بخوف بشكل خاص. شعرت فقط أني عائم في الهواء عندما رفعني بتؤدة على باطن كفه. وعندما عودت نفسي على هذا الوضع، نظرت إلى وجهه. لا ريب أن هذه كانت المرة الأولى في حياتي التي أنظر فيها إلى إنسان. فالانطباع بالغرائبية الذي جاءني ما زال يرافقني. أولاً الوجه الذي كان من المفروض أن يمتلئ شعراً كان أصلعاً مثل إبريق الماء المغلي. منذ ذلك اليوم قابلت قططاً كثيرة ولكنني لم أصادف مثل هذا التشوه. منتصف الوجه يستطيل إلى الأمام كثيراً وأحياناً يخرج الدخان على دفعات من الفتحات في هذه الاستطالة. بداية أذهلني هذا التبخر قليلاً، لأنه كان يخيفني. ولكني عرفت مؤخراً أنه كان دخان التبغ المحترق والذي يستسيغ الإنسان تنفسه.
لفترة وجيزة جلست مرتاحاً في كف ذلك المخلوق، ولكن سريعاً ما تطورت بسرعة شديدة فلم أستطع القول ما إذا كان الشوسي يتحرك أو أنني أنا لوحدي كنت أتحرك. ولكن على أي حال بدأت أشعر أنني دائخ، وأشعر بالمرض. وعندما بدأت أفكر بأن هذه الدوخة ستقتلني، سمعت جلجلة ورأيت مليون نجمة. هذا الحد هو ما أذكره، ولكن مهما حاولت جاهداً لا أستطيع استعادة أي شيء فيما بعد.
عندما عدت لنفسي، كان المخلق قد غادر. كنت في وقت ما لدي سلة مملوءة بأخوة لي، ولكن الآن لا أرى أحداً. وحتى أمي الغالية اختفت. بالإضافة إلى ذلك أجد نفسي الآن في مكان مؤلم براق لا يمت بصلة لتلك الزاوية حيث كنت أقيم.
كانت في الواقع تتلألأ كثيراً بحيث كان من الصعب عليّ النظر إليها. من المؤكد أن هنالك شيئا خطأ. بدأت ازحف حول المكان، وهذا ثبت أنه مؤلم. فلقد انتزُعْت بعيداً من العشب الناعم جداً لكي أُرمى بعنف إلى عشب البامبو الخشن.
وبعد معركة طويلة، تمكنت من الالتفاف والتخلص من الأجمة، والخروج لأجد بركة واسعة ممتدة بعدها. جلست على حافة البركة محتاراً أقرر ما أفعل. لم تطرأ لي أي فكرة مساعدة. بعد فترة خطر لي فجأة أنني إذا ما صرخت فربما سيأتي الشوسي عائداً ليجدني. حاولت بعض المواء الضعيف، ولكن لم يأت أحد. سريعاً ما بدأت تهب ريح خفيفة عبر البركة وبدأ يحل الظلام. شعرت بجوع شديد. رغبت في البكاء. ولكني كنت ضعيفاً جداً لأفعل ذلك. لم يكن هنالك ما يمكن القيام به. وعلى أي حال، بعد أن قررت أنني ببساطة يجب أن أجد طعاماً، استدرت ببطء شديد وغادرت من حول البركة. كانت المغادرة مؤلمة جداً. مع ذلك، ثابرت وزحفت إلى الأمام بشكل ما، حتى وصلت أخيراً إلى مكان حيث التقط أنفي أثراً لحضور آدمي. زحفت إلى مكان عبر فجوة في الحاجز البوصي المكسور، ظاناً أن شيئاً قد يظهر بمجرد أن أدخل المكان. كان ذلك مجرد حظ. فلو لم يكن الحاجز البوصي مكسوراً في تلك النقطة بالذات، فلربما مت جوعاً على قارعة الطريق. أدركت الآن صدق القول المأثور ما سيكون سوف يكون. حتى هذا اليوم، هذه الفجوة كانت طريقي المختصر إلى ظهر سلحفاة الجيران.
حسناً. بالرغم من أنني تمكنت من الزحف نحو مكانهم، لم يكن لدي أية فكرة عما سأفعله فيما بعد. سريعاً، أصبحت الدنيا مظلمة إلى حد ما. كنت جائعاً. كان الجو بارداً وبدأ المطر يتساقط. لم يعد بإمكاني أن أفقد وقتاً أكثر. لم يكن لدي أي خيار سوى أن أناضل متجهاً إلى مكان كان يبدو، بما أنه أكثر إضاءة، فهو حتماً أكثر دفئاً. لم أعرف عندئذ، ولكنني كنت في الواقع داخل المنزل حيث تمكنت من مراقبة نماذج أخرى من الجنس البشري. أول من قابلته كان أوسان، الخادمة. وهي من النوع الأكثر وحشية من الشوسي. فبمجرد أن رأتني حتى أمسكتني من رقبتي ورمتني خارج المنزل. تغلبت فكرة يأسي، جلست جامداً كالحجر وعيناي معلقتان بإحكام وسلمت أمري للعدالة الإلهية. ولكن الجوع والبرد كانا أكثر مما أحتمل. توقفت برهة عندما استرخت اوسان عن المراقبة، زحفت مرة ثانية إلى أعلى نحو المطبخ. رميت مرة ثانية خارجاً. زحفت مرة ثانية، فقط لكي يعاود رميي مرة ثانية إلى الخارج. أذكر أن هذه العملية تكررت عدة مرات. ومنذ ذلك الحين، كنت مشمئزاً من هذه الشخصية اوسان. في اليوم الآخر تمكنت أخيراً من التخلص من الشعور بالحزن، لأني رديت حساباتي بسرقة عشائها من السمك الكراكي.
وبينما كنت على وشك أن أرمى خارج المنزل للمرة الأخيرة ظهر رب البيت شاكياً من الضوضاء طالباً تفسيراً. رفعتني الخادمة عالياً، ووجهت وجهي نحو السيد وقالت: «هذه القطة الصغيرة الضالة هي مصدر الإزعاج. استمر في وضعها خارجاً وهي تستمر في الزحف عائدة نحو المطبخ». درس السيد باختصار وجهي، بارماً الشعر الأسود تحت منخاره. «في هذه الحالة دعيه يبقى» قال هذا واستدار عائداً إلى الداخل. السيد يبدو انساناً قليل الكلام. رمتني الخادمة في المطبخ رغماً عن انفها. وهكذا جعلت من هذا المنزل مقر إقامتي.
نادراً ما اتوجه مع السيد. سمعت أنه استاذ مدرسة. فبمجرد أن يأتي من المدرسة، يغلق على نفسه غرفة المطالعة لبقية اليوم، نادراً ما يظهر إلى الخارج. كل الآخرين في المنزل يعتقدون أنه يعمل بمثابرة. وهو نفسه يدعي شدة العمل. ولكنه في الواقع يعمل أقل بكثير مما يظن أي منهم. أحياناً أدخل على أطراف قدمي إلى غرفة مطالعته لأنظر إليه فأجده يأخذ غفوه. أحياناً فمه يريل على كتاب كان قد بدأ بقراءته. معدته ضعيفة وبشرته شاحبة مصفرة اللون غير مرنة تنقصها الحيوية. ومع ذلك فهو شديد المحبة للطعام. فبعد أن يأكل الكثير يتناول بعض الدواء «تاكادباستاز» من أجل معدته، وبعد ذلك، يفتح كتابا. وبعد أن يقرأ بضع صفحات يشعر بالنعاس. يريل على الكتاب. وهذه هي العادة الدينية المتبعة كل مساء. هنالك أوقات حيث أجد نفسي أنا ألقطه أستطيع أن أضع فكرتين معاً. «المعلمون يستسهلون. فلو أنا ولدت إنساناً، فمن الأفضل لك أن تصبح مدرساًُ، لأنه من الممكن النوم كل هذا الوقت. وأن تبقى في نفس الوقت مدرساً، فيمكن إذا لقطة أن تدرس». على أي حال فبالنسبة للسيد، فليس هنالك أصعب من حياة المدرس وكلما جاء أصدقاؤه لرؤيته يتذمر بلا توقف.
في بداية أيامي في البيت، كنت لا أعرف أحداً ماعدا السيد، لم يكن مرحبا بي في أي مكان، ولم يكن لأي أحد شغل معي. فكون لا أحد فكر حتى اليوم، بأن يطلق عليّ اسماً يدل هذا بوضوح كم كان تفكيرهم بي ضعيفاً. كوني لا أعمل، حاولت أن أقضي أكثر وقتي الممكن مع السيد. الرجل الذي استضافني. في الصباح، وهو يقرأ الصحيفة، أقفز لأستقر على ركبته. خلال استراحته بعض الظهر، أجلس على ظهره. وهذا ليس لأنني مغرم بالسيد بشكل خاص، ولكن لأنني لا أملك بديلاً آخر، ليس هنالك أحد آخر أعود إليه. بالإضافة إلى ذلك، وعلى ضوء تجارب أخرى، فلقد قررت أن أنام على إناء الرز المغلي، والذي يبقى دافئاً حتى الصباح، وعلى لحاف تدفئة الأقدام خلال المساء وفي الخارج على الشرفة عندما يكون الجو حسناً. ولكن ما أستسيغه بشكل خاص هو أن ازحف إلى سرير الأطفال وألف نفسي بينهم. هنالك طفلان واحد في الخامسة والآخر في الثالثة: ينامان في غرفتهما الخاصة، يتشاركان في سرير. أستطيع أن أجد دائماً مكاناً بين جسديهما وأتمكن من أن أعصر نفسي بينهما بهدوء. ولكن إذا ما استيقظ أحدهما سبب سوء حظي، وعندئذ أصبح في مشكلة. لأن للأطفال طبيعة وسخة، خاصة الصغار، يبدآن في الصراخ بصوت مزعج، مهما كان الوقت، حتى ولو في منتصف الليل، وهو يصرخ، هاك القط، ثم شات يستيقظ العصبي المتجهم في الغرفة المجاورة ويأتي مسرعاً إلى الداخل. لماذا لقد قام سيدي في يوم خالٍ بضرب ظهري بمسطرة خشبية ليصبح أسود وأزرق.
حياتي بواقعيتها مع الكائنات الانسانية، وكلما كثرت ملاحظتي لهم، كلما وجدت نفسي مضطراً للاستنتاج بأنهم أنانيون. وخاصة هؤلاء الأطفال. أجد رفاقي في السرير لا يتكلمون.
وعندما يأخذهم الخيال يرفعوني من ساقي ورأسي إلى أسفل ويضعون رأسي في كيس ورقي، يلوحون بي ويرمونني إلى منطقة المطبخ. وأكثر من ذلك، فإذا ما قمت بأية أذية مهما كانت صغيرة، نجد كل المنزل يلاحقني حول المكان ويضطهدني. في أحد الأيام عندما تصادف أنني كنت أشحذ أظافري على بساط أرضي من البوص مما جعل سيدة البيت شديدة السخط لدرجة انها منعت عني الدخول إلى أي غرفة مغطاة ببساط، وبالرغم من انني أرتجف على الأرضية الخشبية في المطبخ فهي بقيت على رفضها القاسي.
الآنسة بلانش، القطة البيضاء التي تسكن في مواجهتنا والتي أقدرها كثيراً، تقول لي كلما رأيتها أنه ليس هنالك كائن حي بمثل قساوة قلب الإنسان. منذ أيام ولدت أربعة قطط جميلة، ولكن بعد ثلاثة أيام حمل سيد منزلها القاسي القلب الأربعة جميعاً ورماهم بعيداً في البركة الخلفية. وبعد أن تخبرنا الآنسة بلانش القصة بكاملها وهي تذرف الدموع، أكدت لي انه حتى يستعيد حبنا كأهل ونستمتع بعائلتنا الجميلة، فنحن سلالة القطط علينا أن نخوض حرباً ضروساً ضد كل بني الإنسان. ليس لنا أي خيار سوى أن نبيدهم. وأعتقد أن هذا خيار عاقل. والقطط الثلاث الملونة والتي تسكن في المنزل المجاور ساخطة بشكل خاص على أن الكائن الانساني لا يفهم طبيعة حقوق الملكية. بالنسبة لنوعنا فمن المفروض أن من يجد شيئاً اولاً، سواء كان رأس سردينة جافة أو بوري رمادي يجري يصبح حقاً له أن يأكله.
وإذا لم يحترم أحدهم هذا القانون عندئذ يستطيع أن يلجأ إلى العنف. ولكن الإنسان يبدو وإنه لا يفهم حقوق الملكية. ففي كل وقت نجد شيئاً جديداً لنأكله فيأتون بثبات وينحنون ليأخذونه منا. معتمدين على قوتهم البدنية، يسرقون منا ببرودة الأشياء التي من حقنا أن نأكلها. يعتمدون على قوتهم الجسدية، ويسرقون منا ببرودة الأشياء التي هي من حقنا لنأكلها. تسكن الآنسة بلانش في منزل رجل عسكري وسيد القطط محام. ولكن بما انني أعيش في منزل مدرس، فأنا أتعاطى مع الأمور التي من هذا النوع بخفة أكثر منهم. اشعر أن الحياة ليست بلا هدف طالما يستطيع الإنسان أن يزحف من يوم إلى يوم آخر. لأنه بالتأكيد حتى بني البشر لن يزدهروا إلى الأبد. أعتقد انه من الأفضل أن أنتظر بصبر ليوم القطط.
عندما نتكلم عن الأنانية أتذكر أن سيدي صغر من قيمته بسبب هذا الفشل. سأخبركم كل شيء عنه. أولاً يجب أن تفهموا أن سيدي هذا تنقصه الموهبة بأن يكون متوسطاً في أي شيء كلياً. ولكن مع ذلك لا يكل من محاولة تجربة كل شيء وأي شيء. إنه دائماً يكتب الـ «هايكو» ويقدمها وكأنها كوكو. يرسل شعراً حديثاً إلى مجلة المورننج ستار وله بال في النثر المليء بالأخطاء الجسيمة. طور رغبة شديدة في فن الرماية. يأخذ دروساً في الغناء، مقاطع غير مطروقه سابقاً، وأحياناً يكرس نفسه لعزف أنغام رهيبة على الكمنجة. ولكني وبكل أسف أقول أن هذه النشاطات لم تقده إلى أي شيء بتاتاً. ومع ذلك فبالرغم من أنه متخم فهو يصبح منغمساً فور توقفه عند أي عمل جديد.
وفي إحدى المرات، اتخذ لنفسه اسم «قائد خزانة الماء» بسبب غنائه في الحمام، ولكنه يبقى غير معني بتاتاً. ويبقى صوته يعلو بالغناء قائلاً « أنا تايرانو مونييوري». كلنا نقول «هاكم مونيسوري»، ونضحك في قلبنا من سلوكه هذا. لا أدري لما حدث هذا. ولكن في أحد الايام المشرقة (يوم بعد انقضاء أربعة أسابيع على إقامتي الموافق عليها)، جاء سيدي هذا مهرولاً إلى المنزل يحمل حزمة تحت ذراعه. تساءلت عما اشتراه. وتبين فيما بعد أنه اشترى ألواناً مائية. وفراشا وأوراقا خاصة «بأي رجل». وقد بدا لي أن كتابة الهايكو والغناء سوف يُلقى بهم جانباً لصالح الألوان المائية. وحتماً، منذ اليوم الثاني وفيما بعد كل يوم لفترة طويلة من الزمن، لم يكن ليفعل شيئاً سوى تلوين الصور في غرفة مكتبه. وحتى بدأ يتابع دون أن يأخذ فترة راحة بعد الظهر. وعلى أي حال، لم يكن أحد يستطيع معرفة ما لونه بالنظر إلى النتائج. ربما هو نفسه لم يعجبه عمله كثيراً، لأنه في أحد الأيام عندما جاء صديقه المتخصص في أمور الجماليات سمعت الحوار التالي:
هل تعلم أنه شيء صعب؟ عندما يرى شخصاً آخر يرسم بالألوان، يبدو الأمر سهلاً؟ ويبقى في نظره كذلك حتى يأخذ فرشاة بنفسه ويدرك كم هو صعب هذا الأمر. هكذا قال سيدي النبيل، وكان هذا كافياً.
وأشار صديقه، وهو ينظر إلى سيدي من فوق نظارته المذهبة، «هذا شيء طبيعي أن الواحد لا يستطيع الرسم في الداخل من قوة خياله فقط. فالاستاذ الايطالي، اندريا ديل سارتو، قال انه إذا كنت تريد رسم صورة، دائماً أنقل الطبيعة كما هي. ففي السماء هنالك نجوم. وفي الارض، هنالك ندى متلألئ، طيور تطير، حيوانات تركض. في البركة سمك ذهبي. وعلى شجرة قديمة يرى غربان الشتاء. الطبيعة نفسها هي صورة ممتدة حية. هل تفهم؟ إذا أردت أن ترسم صورة زائفة، فلما لا تحاول بعض الرسومات الأولية؟
رآه، فإذا اندريا ديل سارتو قال هذا؟ لم أعرف هذا بتاتاً. لو فكرت به، فهو شيء حقيقي. حتماً هو شيء حقيقي. تأثر السيد حقيقة. رأيت ابتسامة سخرية خلف النظارة المذهبة.
في اليوم التالي، مثل دوماً، كنت في إغفاءة سعيدة على الشرفة. خرج السيد من غرفة مكتبه (حركة غير اعتيادية بحد ذاتها) وبدأ من خلف ظهري يشغل نفسه بشيء ما. في هذه اللحظة صدف انني استيقظت متسائلاً ماذا يريد أن يفعل. ففتحت عيني بما يوازي جزءاً صغيراً من عشر الانش. وهنالك كان يقتل نفسه متمثلاً انه اندريا ديل سارتو. لم أتمكن من منع نفسي من الضحك.
فقد بدأ يرسمني لمجرد أن قدمه شدت من قبل صديق. كنت قد نمت بما يكفي، وانا أرغب في التثاؤب. ولكن عندما رأيت سيدي يرسم بعيداً بهذا الحماس، لم يعد لي قلب أن أتحرك لذلك تحملت هذا كله بتصميم. بعد أن انتهى من رسم شكلي العام، بدأ يرسم الوجه. اعترف بما انني اعتبرت القطط كعمل فني، فأنا بعيد كل البعد عن جامع تحف. حتماً انا أعتقد أن شكلي، وفروتي، وتقاطيعي أرفع من ما تمتلكه القطط الاخرى. ولكن مهما كنت بشعاً فليس هنالك أي شبه يرى بيني وبين ذلك الشيء الغريب الذي يخلقه سيدي. اولاً التلوين خاطئ. فروتي التي تشبه تلك الفارسية، تحمل علامات ظهر سلحفاة على أرضية من الرمادي الباهت المنحط. وهذه حقيقة لا جدال فيها. ومع ذلك فإن اللون الذي استخدمه سيدي ليس أصفرَ ولا أسودَ، لا رمادياً ولا بنياً، وليس هو أي خليط من كل هذه الألوان الاربعة المحددة. وكل ما يستطيع الواحد أن يقوله إن اللون المستخدم نوع من الألوان. وبالإضافة إلى ذلك، فوجهي ينقصه العيون بشكل غريب. هذا النقص يمكن تجاهله على أساس أن الرسم هو رسم لقط نائم. ولكن على أي حال، بما أن الواحد لا يستطيع أن يجد مجرد إشارة إلى موقع العين، فليس من الواضح إذا ما كان هذا الرسم هو لقط نائم أو لقط أعمى. ظننت بسرية بيني وبين نفسي أن هذا لن ينفع، حتى بالنسبة لأندريا ديل سارتو. على أي حال، لم أستطع أن أتمالك نفسي بالإعجاب من تصميم سيدي المتجهم. لو كان الأمر مرده لي، لكنت بسعادة قمت بالوقوف أمامه. ولكن الطبيعة كانت تدعو منذ بعض الوقت. العضلات التي في جسدي تحولت إلى مسامير وأبر. وعندما وصل التنميل إلى الحد الذي لم يعد بمقدوري احتماله ولو لدقيقة واحدة، اضطررت أن أتوسل حريتي. مددت مخالبي الأمامية أمامي، حركت رقبتي إلى أسفل وتثاءبت محركاً جسدي. وبعد أن فعلت كل هذا، لم يعد هنالك فائدة من الجلوس بلا حركة.
رسم سيدي تلخبط على أي حال. بحيث أصبح باستطاعتي أن أستدير عائداً إلى الساحة الخلفية، وأقوم بعملي. بعد أن حركتني هذه الأفكار، بدأت أزحف بكسل بعيداً. مباشرة، «أيها الغبي» جاءت بصوت سيدي صراخاً. خليط من الغضب وخيبة الأمل، في الغرفة الداخلية. لديه عادة ثابته بقول «أيها الغبي» عندما يشتم أي واحد. لا يستطيع ضبط نفسه بما أنه لا يعرف أية شتيمة أخرى. ولكني ظننت أنه من الوقاحة أن يدعوني «غبياً» بدون أي وجه حق. فأنا على أي حال كنت صبوراً جداً حتى هذه النقطة.
حتماً لو كان معتاداً على إظهار قليل من البهجة عندما أقفز على ظهره، لكنت حتماً تحملت لعناته. ولكنه شيء ثقيل أن أُدعى «غبياً» من قبل شخص لم يقم ولو مرة واحدة بعمل صالح من أجلي، فقط لأنني نهضت لأذهب وأتبول. والحقيقة الأولى هي أن بني آدم جميعاً منتفخين برضائهم الشديد عن أنفسهم بسبب قوتهم الوحشية. إلا إذا جاءت إلى الأرض مخلوقات تتجاوزهم قوة وتستضعفهم فلا يُعرف إلى أي مدى ادعاءاتهم الغبية سوف تحملهم. يستطيع الواحد تجاوز درجة الأنانية، ولكني سمعت مرة تقريراً حول عدم جدوى البني آدميين، مما لا شك هو أبشع بالعديد من المرات، وأكثر منها بؤساً.
خلف منزلي هنالك حقل صغير من الشاي، تقريباً حوالي ست ياردات مربعة. وبالرغم من كونه ليس كبيراً فهو مكان نظيف مشمس. كانت عادتي أن اذهب إلى هناك كلما شعرت بإحباط، مثلاً عندما يكون الأولاد في لحظة ضجيج بحيث لا أستطيع النوم بسلام، أو عندما يرهق الملل هضمي. وفي أحد الايام، يوم في الصيف الهندي، حوالي الساعة الثانية بعد الظهر، استيقظت من إغفاءة بعد الغذاء ومشيت نحو مزرعة الشاي حتى أمرن قدماي. أخذت أستنشق واحدة تلو الأخرى عند جذور شتلة الشاي، ووصلت إلى حاجز السرو عند النهاية الغربية، وهناك رأيت قطاً ضخماً نائماً نوماً عميقاً على سرير من الأقحوان الذابل، الذي سطحه يعظم وزنه. لم يبد أنه قد لحظ وصولي. ربما لاحظ ولكن لم يهتم. على أي حال، كان هناك، ممدداً بطوله ويشخر بصوت عال.
ذهلت من عظم شجاعته التي سمحت له، وهو عابر طريق، أن ينام دون اهتمام في حديقة واحد آخر. كان قطاً أسودَ صافياً. كانت شمس بعد الظهر المبكرة تسكب أشعتها المتلألأة عليه، وبدا وكأن شعلات غير مرئية تلمع من خارج فروته البراقة. كان تركيبه الجسدي رائعاً. جسد، يمكن أن يقال، لامبراطور مملكة القطط. كان ببساطه ضعف حجمي. كنت مملوءاً بالإعجاب والفضول، لدرجة أنني نسيت نفسي. وقفت جامداً مسحوراً، وعيوني مثبتة عليه.
أخذ النسيم العليل الهادئ لذلك الصيف الهندي يهز فرعاً من مظلة السلطان والتي كانت تظهر فوق حاجز السرو، وبعضاً من أوراق الأقحوان المسحوق تتناثر على المقعد. فجأة يفتح الامبراطور عينيه المستديرتين. أذكر هذه اللحظة حتى يومنا هذا. تلألأت عيناه أكثر جمالاً بمراحل من ذلك العنبر الذي يقيمه الإنسان غالياً. تمدد هادئاً هدوء الموتى، مركزاً الضوء المنبعث من داخل عينيه على جبهتي القزمة، وقال: «ومن أنت بحق جهنم».
فكرت أن جملته التي تحول إليها، عبارة عن ظل غير مصقول لا يناسب امبراطوراً، ولكن صوته كان عميقاً مملوءاً بقوة ما تستطيع أن تقمع قلباً شرساً. بقيت أخرساً وقد أصابني الرعب. وأظهرت، على أي حال، أني قد أقع في مشكلة إذا ما فشلت بتبادل الكياسة. فأجبته ببرود، وبرباطة جأش مزيفة بأكثر برودة ممكنة، «أنا يا سيدي قط. حتى الآن ليس لي اسم». كان قلبي في تلك اللحظات يضرب بشدة وتسارع يفوق المعدل.
وفي لهجة معنفة بشدة، لاحظ الامبراطور: «انت…قط؟ حسناً، انا ملعون. على أي حال، اين بحق الشيطان تقف؟».
فكرت أن هذا القط يتكلم بصراحة مطلقة.
«أنا أسكن هنا في منزل المعلم».
«هه، انا فكرت كذلك: هزيل رهيب. ألست كذلك؟؟»
تكلم كامبراطور حقيقي بحدة شديدة.
إذا ما حكمنا عليه من خلال أسلوبه في الكلام، فلا يمكن أن يكون قطاً من خلفية محترمة. ومن جانب آخر، فقد بدا عليه أنه يأكل جيداً وحالته مزدهرة وبدين الجسم في شكله اللماع. كان عليّ أن أسأله: «وأنت، من أنت بحق الأرض؟»
«أنا؟ أنا ريشكوف بلاكي» أجابني متفاخراً وبروح عالية.
لأن ريشكوف بلاكي معروف في الضاحية كزبون شديد القوة، كما يتوقع الواحد من هؤلاء الذين ترعرعوا في كاراج العربيات الهندية. إنه قوي ولكنه غير متعلم تقريباً. ولذلك فقليل منا يختلط به. وإنها لسياستنا العامة أن «نبقيه على بعد مسافة محترمة».
وتبعاً لذلك عندما سمعت اسمه، شعرت بشيء من الغضب والإحساس بالضيق ولكن في نفس الوقت شعرت بشيء من الترفع تجاهه. وتتمة لحديثنا، وحتى أتأكد من كم هو أمي، تابعت الحديث بالتساؤل. «من تعتقد هو الأهم، مالك الشاحنة أو المدرس؟»
«ماذا؟ طبعاً مالك الشاحنة. بالطبع أنه الأقوى. فأنظر إلى سيدك، أنه تقريباً جلد وعظم.»
«أنت، كونك قط مالك الشاحنة، من الطبيعي أن تبدو قوياً جداً. أستطيع أن أرى أن الواحد يأكل جيداً في مؤسستكم».
«آه حسناً. بالنسبة لي فلن يصعب عليّ إيجاد حاجتي أينما ذهبت. أنت ايضاً بدلاً من أن تزحف حول مزرعة الشاي، فلما لا تتبعني؟ فخلال شهر ستصبح سميناً ولن يعرفك أحد.»
«في الوقت الملائم ربما أحضر وأطلب أن ألتحق بك. ولكن يبدو منزل المدرس أوسع من منزل سيدك».
«أيها الابله، المنزل مهما بلغ كبره لن يساعد في ملء بطن فارغ». يحرك اذنيه بوحشية، أذنان حاميتان مثل الشرائح الرفيعة لقصب البامبو الجاف. وانصرف مشاكساً.
هذه كانت معرفتي الأولى بالأسود الذي يقيم عند مالك الشاحنة، ومنذ ذلك اليوم صادفته مرات عديدة، كما قابلته يتكلم بادعاء، كما هو متوقع من قط يمتلكه مالك الشاحنة، ولكن تلك الحادثة البائسة والتي ذكرتها سابقاً كانت قصة رواها لي.
في أحد الأيام كنت أنا وبلاكي مستلقيان كالعادة، نتشمس في حديقة الشاي. كنا نتبادل الأحاديث عن هذا وذاك، عندما بدأ في قصصه التفاخرية العادية وكأنه يتلوها للمرة الأولى. سألني: «كم من الجرذان التقطت حتى الآن؟»
بينما كنت أتفاخر بنفسي بأن معلوماتي العامة أكثر اتساعاً وعمقاً من معلومات بلاكي. فأنا أعترف مباشرة أن قوتي الجسدية وشجاعتي هي لاشيء إذا ما قورنت بحاله هو. على أي حال، فإن سؤاله الصريح تركني بشكل طبيعي أشعر باضطراب. ومع ذلك فالحقيقة حقيقة وعلى الإنسان الصدق. ولذلك أجبته: «في الواقع، بالرغم من أنني أفكر دائماً بالتقاط واحد، فحتى الآن لم ألتقط أي منها».
ضحك بلاكي بقوة وسوالفه الطويلة ترتجف، وقد غرقت بقوة في كمامته. بلاكي مثل كل المدعين الحقيقيين، ضعيف في تفكيره. طالما أنت تهمهم وتستمع باهتمام، وتظهر أنك متأثر بما يتفاخر به فهو قط يمكن التعامل معه. وسريعاً بعد أن تعرفه تتعلم طريقة معاملته. وتبعاً لذلك، ففي هذه المناسبة الخاصة ظننت أنه من الغباء أن أضعف موقفي بأن أحاول أن أدافع عن نفسي. وأنه ليكون أكثر فطنة في تحويل سير الموضوع، أن أدفعه ليتفاخر بنجاحاته. وهكذا، دون إثارة أية مشكلة عملت على قيادته إلى الأمام بأن أقول: «أنت إذا ما حكمنا على سنك، فلابد أنك التقطت عدداً وفيراً من الجرذان؟» وبمنتهى الثبات بلع الطعم باستمتاع.
«حسناً، ليس كثيراً، ولكن لا ريب انني قد التقطت ثلاثين أو أربعين»، كان جوابه المنتصر. «أستطيع أن أتغلب»، تابع كلامه، «مع مائة ومائتين من الجرذان، في أي وقت، ولوحدي. ولكن ابن عرس، كلا. ذلك لا أستطيع أن أغلبه. في أحد المرات مررت بوقت جهنمي مع ابن عرس.»
أنا قلت هذا ببراءة «هل حقاً فعلت؟»
رفع بلاكي عينيه الواسعتين ولكنه لم يتوقف.
«كان هذا في العام الفائت، يوم التنظيف العام للمنزل. وبينما كان سيدي يزحف تحت ألواح الخشب يحمل شنطة من الكلس، فجأة جاء ابن عرس قذر ينطلق إلى الخارج».
«حقاً؟» أظهرت نفسي متأثراً.
«قلت لنفسي، إذاً ما هو ابن عرس؟ فقط شيء صغير أكبر من الجرذ قليلاً. وهكذا لحقت به، وأنا أشعر بالحماس وأخيراً استطعت أن أحصره في زاوية عند مصرف».
«كان هذا عملاً جيداً»، حييته.
«ليس ذلك بتاتاً. وكآخر ما استطاعه أن يرفع ذيله ويرسل ضربة قذرة. يا للهول من ذلك الرائحة! منذ ذلك الوقت، فمجرد أن أرى ابن عرس، أشعر بضعف.»
عند هذه النقطة، رفع مخلبه الأمامي وضرب كمامته ثلاث أو أربع مرات وكأنما لا يزال يعاني من نتانة السنة الفائتة.
شعرت بأسى تجاهه، وفي محاولة للترفيه عنه، قلت: «ولكن عندما يكون الموضوع مع الجرذان، فأتوقع منك أن توقفهم بنظرة متوهجة منومة. وأعتقد أنه لأنك قط يلتقط الجرذان بشكل ساحر، فأنت قط يتغذى على الجرذان وكذلك فأنت ثخين جداً ولك جلد جيد».
وبالرغم من أن هذا الخطاب كان مقصوداً به أن يمدح بلاكي، فمن الغريب أنه كان له تأثير عكسي. فقد بدا عليه الشعور بالخيبة وأجاب بتنهيدة عميقة.
«هذا شيء مقبض»، قال، «عندما تحاول أن تفكر به. مهما كان الواحد منا مستعبد في عمله في التقاط الجرذان… ففي كل العالم الواسع ليس هنالك مخلوق أكثر صفاقة من الإنسان. كل جرذ التقطه يصادرونه ويأخذونه إلى أقرب صندوق بوليس. فينما أن الشرطي لا يستطيع القول من التقط الجرذان، فهو فقط يدفع بنساً على كل ذنب لأي شخص يحضرهم إلى الداخل. سيدي على سبيل المثال قد جمع ما يقارب نصف كراون من جهدي البحت، ولكن مع ذلك لم يجلب لي وجبة محترمة. الحقيقة الواضحة هي أن بني البشر، واحدهم وجميعهم، ليسوا سوى لصوص في قلوبهم.
بالرغم من أن بلاكي يبعد كل البعد عن الذكاء، فالواحد لا يستطيع تخطيئه على هذه النتيجة. يبدأ في إظهار غضبه الشديد والفروة المحيطة بظهره تقف في شعيرات. وبما أنني اضطربت إلى حد ما من قصة بلاكي وردود فعله، اتخذت عذراً غامضاً وذهبت إلى المنزل، ولكن منذ ذلك الحين أخذت عهداً على نفسي ألا التقط أي جرذ إطلاقاً. ومع ذلك فلم آخذ دعوة بلاكي بأن أصبح شريكه في التجول خلسة من أجل أطايب الطعام، خلاف القوارض، أنا أفضل الحياة الهادئة. وحتماً من السهولة بمكان أن ينام الواحد ولا يحاول الجري وراء المكاسب الصغيرة. بعد الحياة عند أستاذ، يبدو أنه حتى القط يصبح له شخصية أستاذ. ويجب أن أراقب نفسي حتى لا أصبح في يوم من الأيام متخماً.
الكلام عن الأساتذة يذكرني أن سيدي يبدو قد أدرك مؤخراً عدم قدرته على الرسم بالألوان المائية، لأنه بتاريخ واحد ديسمبر كانت يومياته تتضمن المقطع التالي:
«في اجتماع اليوم قابلت للمرة الأولى رجلاً والذي سيكون بلا اسم. قيل عنه انه عاش حياة سريعة. حتما يبدو عليه أنه رجل عالم. لأن النساء يحببن هذا النموذج من الناس، وربما يكون أكثر صحة القول إنه أجبر على العيش حياة سريعة أكثر من أنه هو الذي اختارها. سمعت أن زوجته كانت فيما مضى جيشا. من المفروض أن يكون محسوداً. ففي أكثر الأحيان هؤلاء الذين ينبشون في العيوب غير قادرين على الفجور. وأبعد من ذلك، فالعديدون ممن يظنون أنفسهم يشعلون النار هم ايضاً غير قادرين على الفجور. مثل هؤلاء غير مضطرين أن يعيشوا حياةً سريعة ولكنهم يفعلون ذلك برغبتهم، وهذا حالي في موضوع الألوان المائية. لن يستطيع أي منا الوصول إلى الدرجة اللازمة. ومع ذلك هذا النوع من الفسق يؤكد بصمت انه هو الوحيد رجل العالم. إذا ما قبلنا أن رجلاً يمكن أن يصبح رجل العالم بشربه للساكي في المطاعم او بزيارته المتكررة بيوت الدعارة، عندئذ يبدو وانني سأنال اسم رسام الألوان المائية. الفكرة التي تقول ان رسومي بالألوان المائية تصبح أفضل إذا لم أكن في الواقع أرسمها، تقودني إلى الخلاصة التالية أن من يقطن بلداً فقيراً هو في الواقع أفضل من رجال العالم الأغنياء.»
ملاحظاته حول رجال العالم تعطيني إحساساً بعدم القناعة. وبالذات اعترافه بالحسد، بالذات لتلك الزوجة التي عملت كفتاة جيشا هو اعتراف قليل الادب لا قيمة له من قبل أستاذ.
ومع ذلك فتأكيده على قيمة رسومه المائية هي حتماً عادلة. حتماً فإن سيدي حاكم ممتاز بما يتعلق بشخصيته، ولكن مع ذلك فهو متمكن من استعادة غروره. بعد ثلاثة أيام في 4 ديسمبر، كتب في مذكراته:
«ليلة البارحة حلمت بأن أحدهم التقط إحدى رسومي المائية والتي أعتبرها أنا لا قيمة لها، ورميتها جانباً. وهذا الشخص في حلمي، وضع اللوحة في إطار رائع وعلقها على نافذة فوقيه. وعندما حدقت في عملي وقد وضع في إطار، أدركت أنني اصبحت فجأة فناناً حقيقياً. شعرت بسعادة بالغة. صرفت أياماً بكاملها أحدق في عملي اليدوي، سعيد بقناعتي أن الصورة عمل رائع. بزغ الفجر واستيقظت، وفي شمس الصباح كان واضحاً أن الصورة ما زالت مثيرة للشفقة تماماً كما كانت عندما رسمتها.»
الأستاذ، حتى خلال أحلامه، يبدو محملاً بالندم حول ألوانه المائية. والرجال الذين يقبلون اعباء الندم، سواء من الألوان المائية أو من أي شيء آخر، هم ليسوا من المعدن الذي يصنع منه رجال العالم.
في اليوم الذي حلم به سيدي حول الصورة، زاره الذواقة الذي يضع النظارة ذات الإطار الذهبي. لم يزره منذ وقت طويل. وبمجرد أن جلس سأل، «وكيف حال الرسومات الآن؟؟»
افترض سيدي حالة غير مبالية وأجاب، حسناً، تبعت نصيحتكم وأنا الآن منهمك تماماً في الرسم. ويجب أن أقول عندما يرسم الواحد يبدو أنه يقبض على هذه الأشكال من الأشياء وتلك التغيرات الدقيقة في الألوان، والتي حتى الآن تمر غير ملحوظة. أعتقد أن الرسم تطور في الغرب إلى حالته المميزه الراهنة فقط كنتيجة للتركيز الذي، تاريخياً، وُضع دائماً على ما له من أساس. بالتحديد لاحظ اندريا ديل سارتو دون حتى أن يشير إلى المقطع الذي في مذكراته، هو يتكلم موافقاً على ما قاله اندريا ديل سارتو.
الذواقه حك رأسه، وقال ضاحكاً، «حسناً في الواقع تلك القطعة عن ديل سارتو كانت من اختراعي».
«ماذا كان؟» مازال سيدي لا يستطيع إدراك أنه قد خدع وجعل من نفسه إنساناً غبياً.
«حيث إن كل هذه الأمور حول اندريا ديل سارتو الذي يعجب بها، أنا اختلقتها بنفسي. لم أعتقد أنك ستأخذها جدياً» … ضحك وضحك، منتشياً بهذه الحالة. سمعت حوارهم من مكاني على الشرفة وكنت أتساءل ما هو المدخل الذي سيظهر في المذكرات اليوم. هذا الذواقه هو نوع من الرجال الذي سعادته الوحيدة هي في إرباك الناس بحوارات تتألف كلياً من الدجل والخداع.
يبدو أنه لم يفكر بنتيجة ثرثرته عن اندريا ديل سارتو وتأثيرها على مشاعر سيدي. حيث أثار أعصابه مفتخراً، «أحياناً اطبخ كذبة تافهة فيأخذها الناس بجدية، والتي تولد إحساساً ذواقاً مضحكاً جداً وأجده مسلياً. وفي اليوم التالي، اخبرت احد الطلاب الجامعيين أن نيكولاس نيلكبي اقترح على جينيان أن يتوقف عن الكتابة بالفرنسية في كتابة تحفته «تاريخ الثورة الفرنسية». وحتما أقنعت جينيان أن ينشره بالانكليزية.
والآن هذا الطالب كان رجلاً يملك ذاكرة تخيلية. كانت مسلية بشكل خاص وأنت تسمعه يكرر ما قلته له، كلمة كلمة وبكل الجدية، إلى مجموعة مناقشين من الجمعية الادبية اليابانية. وهل تعلم؟ كان هنالك حوالي المائة من الحضور. وجميعهم جلسوا يسمعون كلامه الفارغ بحماس شديد! في الواقع، لدي قصة أخرى، حتى أحسن من هذه القصة. «في أحد الايام، عندما كنت في صحبة بعض رجالات الأدب، ذكر أحدهم عرضاً «ثيوفانو»، قصة إينزوورث التاريخية عن الصليبيين. انتهزت الفرصة لأشير انها كانت دراسة رومانتيكية خارقة واضفت أن التعليق عن موت البطلة كان مثالاً للخيال-الشبح. الرجل الجالس مقابلي لم ينطق ببنت شفة. «لا أدري»، أجاب فوراً، «أن هذه المقاطع بالذات كانت لا شك كتابة جيدة». وفي هذه الملاحظة أدركت أنه هو، أكثر مني، لم يقرأ الكتاب بتاتاً».
وبعيون واسعة سأله سيدي المسكين المتخم، «حسناً تماماً، ولكن ماذا ستفعل إذا ما كان الفريق الآخر قد قرأ الكتاب فعلاً؟» فظهر أن سيدي ليس مضطرباً من عدم أمانة الخداع، فقط عن إمكانية الاحراج الذي سيسببه التقاط الكذب. السؤال يترك المثقف غير منزعج إطلاقاً. «حسناً، إذا ما حدث هذا، سأقول انني اخطأت العنوان أو شيء من هذا القبيل»، ومرة ثانية وهو غير معني، ترك نفسه يضحك.
بالرغم من أنه بذكاء، خدع بالنظرات الذهبية الإطار، فطبيعته قريبة بشكل شديد لطبيعة ريكشو بلاكي. سيدي لم يقل شيئاً، ولكن نفث حلقات من الدخان وكأنما اعتراف بعدم قدرته على هكذا جسارة. المثقف (الذي كان بريق عينيه يجيب، «ولا عجب أنك أنت كونك أنت لم تستطع حتى التعامل مع الألوان المائية») واستمر بصوت مرتفع. «ولكن، المزاح جانباً، رسم لوحة شيء صعب. من المفترض أن ليوناردو دي فينشي قال مرة لتلاميذه أن يرسموا لوحة على بقعة حائط للكتدرائية. كلمات معلم عظيم. في حمام مثلاً، إذا ما درس أحد باهتمام شكل زخات المطر على الحائط، تصميم مترنح، خلق طبيعي، لا شك سيظهر. عليك أن تبقي عيناك مفتوحة وتحاول الرسم من الطبيعة. أنا متأكد أنك ستفعل شيئاً ممتعاً».
«هل هذه أحد حيلك؟»
«كلا. هذه، أعدك، مقصود بها شيء جدي. حتماً، أعتقد أن تلك الصورة من حائط الحمام هي لا شك ذكية، ألا تعتقد ذلك؟ تقريباً مثل ذلك الشيء الذي كان قد يقوله دي فنشي».
«نعم، إنه حتماً ذكي»، اعترف سيدي إلى حد ما بلا حماس. «ولكن لا أعتقد أنه حتى الآن رسم شيئاً في الحمام.»
في الفترة الأخيرة كان ريكشو بلاكي قد أصبح أعرجَ. فروته الغزيرة خفت وتدريجياً أصبح قليل الحركة. عينان اللتان مدحتهما بأنهما أجمل من العنبر أصبحتا ملطختان بالبلغم. وما لاحظته أكثر شيء هو فقدانه لكل الحيوية ووضوح تراجع حركته. عندما رأيته المرة الأخيرة في حديقة الشاي وسألته عن حاله، جوابه كان محدداً بشكل مؤسف: «لقد اكتفيت من ضرط الثعالب وشللت من ضربات عصي بائعي السمك على جوانبي».
أوراق الخريف المنظمة في شرفتين أو ثلاث قرمزية بين شجر السرو، سقطت وكأنها أحلام قديمة. الأحمر والأبيض من الزهرة اليابانية sasanquas، بالقرب من بركة الحديقة الزخرفية. تسقط أوراقها مرة واحدة بيضاء ومرة واحدة حمراء، وفي النهاية تترك عارية. شمس الشتاء على الشرفة الجنوبية ذات العشرة أقدام طولاً تنزل كل يوم أبكر من اليوم السابق. نادراً ما يمر يوم حتى ينفخ الريح البارد. ولذلك فإن قيلولة بعد الظهر تقلصت بشكل مؤلم.
يذهب سيدي إلى المدرسة كل يوم، وبمجرد أن يعود، يغلق على نفسه في مكتبه. يقول لكل الزوار أنه تعب من كونه مدرساً. نادراً ما يرسم. توقف عن أخذ (التاكادباستاز)، قائلاً إنها لا تفيد في شيء. الأطفال، أحبابي الصغار، الآن يسيرون بعيداً، يوماً بعد يوم إلى روضتهم: ولكن عند عودتهم، يغنون أغاني ويرقصون رقصات، وأحياناً يحملونني من ذنبي.
وبما أني لا أتناول أي طعام محدد مغذٍ، فلم أكسب وزناً بشكل خاص. ولكني أناضل يوماً بعد يوم لأبقي جسدي مرناً حتى الآن، حتى لا أصاب بالشلل. لا ألتقط أية جرذان. مازلت أحتقر ذلك الأوسان (O-San). لم يعطني أحد اسماً حتى الآن. ولكن، بما أن البكاء للقمر لا يجدي نفعاً، فقد قررت أن أبقى، لما تبقى من حياتي، قطه بلا اسم في منزل هذا المعلم.
قلب ناتسومي سوسيكي الخفي
بإقامة احتفالين تذكاريين متعلقين بالكاتب ناتسومي سوسيكي حاول داميان قلاناجان أن يشرح روح واحد من أهم كتاب البلاد المعاصرين.
9 ديسمبر يسجل الذكرى المائة لوفاة ناتسومي سوسيكي (1867 – 1916)، روائي اعتبر على نطاق واسع واحد من أهم كتاب اليابان المعاصرين. المناسبات التي أحيت هذه الذكرى اقيمت طوال 2016 ولكن، إذا ما اعتقدتم انها ستنتهي عند احتفالات الميلاد، فإن معلماً رئيسياً آخر سوف يحتفل به في 2017 – 150 عام على ميلاده.
الانبهار والتبجيل جنباً إلى جنب يرتفعان عالياً في اليابان حول تقييم سوسيكي. قامت جريدة الأضاحي بنشر رواياته على حلقات يومية لعدة سنوات، بينما سيفتتح متحف جديد لسوسيكي في العام القادم في طوكيو في منطقة شينيجوكو، المكان الذي عاش فيه الروائي. وعلى التليفزيون، يعرض الآن مسلسل درامي بعنوان «زوجة سوسيكي» في محاولة لإظهار الكاتب المحترم من وجهة نظر زوجته.
وبحيّز واسع، يعتبر سوسيكي أكثر كتاب اليابان تحليلاً بالأدب الحديث. مئات فوق مئات من الكتب كتبت عنه وآلاف فوق آلاف من الأبحاث الأكاديمية نشرت.
غالباً يعتبر كواحد من ممثلي البلاد في «الكتاب الوطنيين» – رجل زين وجهه ورقة الـ ¥1000 بين 1984 و2004، وأعماله كانت أساساً في الكتب المدرسية لعشرات السنيين – وأصبح سوسيكي رمزاً لصراع اليابان الماضي مع العصرنه والتوجه نحو الغرب.
وبتأثير ضغط الحكومة ليصبح أهم المتخصصين في الأدب الانجليزي ومتشرب بمهمة محددة المعالم لينتج «نظرية في الأدب» ثورية، استسلم سوسيكي لجنون العظمة والحماس في منتصف الثلاثينيات من عمره. وفيما بعد كتب أن الأمة اليابانية برمتها كانت مضطره للذهاب نحو ما يعادل انهيار عصبي جماعي بسبب محاولة إستيعاب بضعة قرون من الحضارة الغربية خلال بعض عشرات قصيرة من السنوات.
ومع ذلك فإن بعض خصائص كتابات سوسيكي تبقى غامضة. لماذا مثلاً كان سوسيكي مهووساً بالعلاقة بين الفنون الجميلة والأدب حتى حاول أن يجسد الصو رالمرئية أو الأفكار المأخوذة عن الرسومات ويدخلها في رواياته الأولى، ولكن وفجأة توقف عن فعل ذلك في منتصف حياته المهنية؟ أو كيف نستطيع أن نفسر تغيراً في منتصف الطريق عبر أعمال سوسيكي الكتابية – من «وثم» (1909) إلى الأمام – ليكتب قصصاً عن «مثلثات الحب» عندما كان سوسيكي نفسه حسب ما نعلم – لم يكن له مثل هذه العلاقة؟
أو ربما هنالك أكثر الأمور غموضاً: لماذا كان الأمر كذلك أن أكثر الكتاب موهبة طبيعية بالكاد كتب كلمة من الروايات قبل أن يسبح في هذا النشاط عندما بلغ 37 من العمر في العام 1904؟
هذه التساؤلات استمرت تدق في عقلي حتى بدأت تتحول إلى نظرية جديدة. في خريف العام الفائت، طلب مني أن اتكلم عن لافكاديو هيرن (1904 – 1850)، الذي كان محاضراً في الأدب الانكليزي في جامعة طوكيو الامبراطورية. طلب من هيرن أن يترك مكانه في الجامعة في العام 1903 ليترك المجال لسوسيكي بعد عودته من دراسة سنتين في بريطانيا، قرار قوبل بالاستياء من قبل تلاميذ هيرن المخلصين.
وصل هيرن إلى اليابان في العام 1890 بنهاية رحلة اوديسيه حول العالم وبقي لمدة 14 عاماً حتى سنة وفاته في 1904. وانطلق يشرح لمن حوله، كتاباً بعد كتاب، عن الأرض الغامضة التي تدعى «اليابان» إلى القراء في الغرب. هيرن آمن بأنه يستطيع أن يلتقط القلب المخفي لليابانيين بالتدقيق المنتبه للعالم الذي حوله. وهو أيضاً اكتشف أنه يمكن أن يحقق داخل أعماق روحه في هذا العالم الآخر.
في نفس الوقت وبينما كان هيرن يحاضر في الأدب الانجليزي في جامعة طوكيو الامبراطورية، غادر واحد يدعى ناتسومي (كينو سوكي) أصبح سوسيكي فيما بعد، غادر اليابان في 1900 في رحلة اوديسيه نحو الغرب. غاص سوسيكي في الأدب الانجليزي وغذى حباً خاصاً في القرن الـ(18) وأدبائه التهكميين مثل جوناثان سويفت ولورنس ستيرن، ووصف نفسه في لندن وكأنه أحد سكان بروبدينجناجيا وسكانها العمالقة (في كتاب رحلات جالفير) كان «عقلة الاصبع» البطيء يتجول تائهاً في أرض ضبابية يتحرك حوله عمالقة سريعي الحركة. وفي الحديقة، اقتربت نحوه نساء يرتدين أغطية الرأس المزركشة مثل اللبوات ذوات القرون.
إن العزلة التي عاش بها سوسيكي في لندن بداية سمحت له أن يرى نفسه والمجتمع الياباني بشكل عام بعيون طازجة، وسريعاً ما استخدم تهكم سويفت في نقله صور اليابان نفسها.
عندما عاد سوسيكي إلى اليابان وانطلق نحو انتاج غزير، أول ما فكر في الكتابة عنه لم يكن ارنباً، ولكن قط، يراقب نقاط الضعف في المجتمع الياباني عن بعد. وبعد أن أخذ مكان هيرن كمحاضر في جامعة طوكيو الامبراطورية بدأ سوسيكي عندئذ يتهكم في أعماله على كتابات هيرن بشكل ضمني. إن الجهد المبذول من قبل هيرن حول الثقافة الانثروبولوجية المتعاطفة قد يكون ساعد بأن يهدم الجدران ويقدم «اليابان الغامضة» إلى القراء في الغرب، ولكنها ايضاً تتضمن الاحساس بأنها نتاج عالم طبيعة متحمس يراقب عن كثب نوعاً من الحيوانات الغريبة.
في «أنا قط» (1906 – 1905)، قلب سوسيكي كل هذا على رأسه وعزا هذه الملاحظات إلى حيوان صغير. والملذ في ذلك، أنه بدلاً من محاولات هيرن بأن يفهم اليابان، كتب سوسيكي قليلاً جداً عن أوقاته في انكلترا وشعر بأنه غير ملزم بتحليل بريطانيا أو البريطانيين. كتاباته القليلة حول انكلترا كانت في اغلبها حول نفسه أكثر من أن تكون محاولة لوصف دقيق للعالم حوله. هذا الاختلاف بالموقف بين سوسيكي وهيرن كان مبنياً ليس فقط على اختلاف في الشخصية، ولكن بسبب عمق تأمل سوسيكي بالطبيعة الحقيقية للأدب ذات نفسه. رفض سوسيكي فكرة أن الكاتب – أو حتماً الرسام – هو إنسان ينقل صورة العالم حوله. بل، هو مؤمن بأن الفنان هو إنسان ينقل انعكاساً للعالم تحول بمرآة احساسه الداخلي.
كتب الكثير عن تجربة سوسيكي الكريهة في الغرب. ومع ذلك، هل كان رفضه الجزئي للغرب سببه العديد من الحواجز الثقافية التي تفصل اليابان والأمم الاوروبية في ذلك الحين؟ معظم المؤرخين يقترحون أن هذا هو السبب، ومع ذلك اشك أن الجدار الذي منع سوسيكي من الكتابة حتى نهاية الثلاثينات لم يكن ثقافياً بالطبيعة. وبدلاً عن ذلك، سوسيكي ناضل مع فكرة الفن بحد ذاتها.
عمل سوسيكي كأكاديمي غامض نسبياً في ظل معاصره وأقرب أصدقائه، ماساووكاشيكي (1902 – 1867)، كاتب مشهور عن الهايكو.
كان سوسيكي مأخوذاً بمؤلفات شيكي عن الهايكو، وبتأثيره، أرسل مئات قصائد هايكو لصديقه. وإذا ما جئنا لتقييم كتابته للهايكو، فعلى أي حال، كان مساوياً لما كان عليه الوضع في فيلم «اماديوس». فسوسيكي لعب دور انتونيوسالييري وشيكي كان موزارت. مثل سالييري كان سوسيكي فناناً تنافسياً ولكن، عندما يصل الأمر للهايكو لم يكن ليتساوى مع عبقرية شيكي.
لم يكن شيكي منظراً أدبياً كبيراً ولكن كونه متأثراً بالرسام نكامورا فوسيتسو دافع عن نظرية «الرسم من الحياة» والتي شجعت الفنانين لمحو النظريات القديمة ونقل العالم المحيط بهم. مثل كوكب يدور حول شمس شيكي، كان سوسيكي الغرير المتأثر بشيكي ليكتب نثراً يلتصق بهذا الأساس. ومع ذلك امتلك سوسيكي حساسية أكثر تعقيداً، تنبعث من داخله تفوق تلك التي يمتلكها شيكي، وبالرغم من انه قد لا يكون أدرك ذلك، فإن «التصوير من الحياة» ببساطة لم يناسبه.
في نهاية الأمر، حصلت اشياء عديدة ساعدت سوسيكي على تحطيم ذلك الجدار الفني والخروج منه. أولاً، مات شيكي عندما كان سوسيكي في لندن في العام 1902. ثانياً، خلع سوسيكي، فكرياً نظريات شيكي التبسيطية عندما قام بنشر نظريته الادبية المتقدمة في تفكيرها.
ثالثاً، في العام (1907)، استخدم سوسيكي التهكم السويفتي ليقلب رأساً على عقب نظرية «الرسم من الحياة» التي تبناها الاثنان شيكي وهيرن. المشاعر المعقدة التي شعر بها سوسيكي نحو شيكي – تتضمن احساساً بالحب تجاهه، بينما في نفس الوقت يغذي سراً رفضاً لكونه مسجون بعبقريته الفنية – وهي بالنسبة لي الأسباب الأولى كون أعمال سوسيكي فيما بعد سيطرت عليها فكرة رجل يخون صديقاً مقرباً وتسكنه مشاعر من الخطيئة. حتماً، «مثلثات الحب» في روايات سوسيكي تحتوي، برأيي، قليلاً جداً من وجود نساء حقيقيات في حياته – كان سوسيكي، في الواقع، غير مهتم بالنساء في حياته الشخصية، ولكن كل ما له علاقة بمعركته مع الفن.
ومع ذلك فإن سوسيكي نفسه – واحد من أهم المحللين للحالة الإنسانسية- لم يظهر محللاً هذا الخليط من الحب والاستياء الذي شعر به نحو شيكي داخل أعماقه. وبدلاً من ذلك، حول مشاعره الشديدة الحرمان نحو رؤيا آمنه، خارجية: الغرب و»الأدب الانجليزي»؟
يدعي سوسيكي أن الأدب الانجليزي كان ضاغطاً عليه والسنتين اللتين قضاهما في لندن كانتا بعضاً من أكثر أيام حياته حزناً. فإذا ما وضعنا هذا في حسابنا، يعتقد البعض أن سوسيكي كان ممكناً أن يغوص أكثر بأعماق عالم الهايكو لو لم تكن أيامه في انجلترا ضاغطه.
بالنسبة لي، على أي حال، فهذا يبدو قلباً للحقيقة. حتماً، كان يمكن أن يناقش أن الأدب الانكليزي والعامين الذين قضاهما في لندن في الواقع حرّرا سوسيكي من التأثير الضاغط لصديقه الحبيب شيكي، ولولا الأدب الانجليزي وهؤلاء البريطانيون «المنافقون» كان سوسيكي سيقضي ما تبقى من حياته كتابع لشيكي ينتج شعر هايكو ثانوي ومنسي. بدلاً من ذلك، تهكم القرن الثامن عشر في الأدب الانجليزي – الخاص بسويفت وستيرن – وضع في أيدي سوسيكي سلاحاً ساعده على تحطيم الجدار الفني الذي سجنه، وحرر عبقريته الفنية.
ومع ذلك، كان مؤلماً جداً لسوسيكي – جارحاً للحب الذي شعر به نحو شيكي – والاعتراف بأنه صديقه المفضل هو الذي كبح حسه الفني، وبدلاً من ذلك وجّه سمومه إلى بريطانيا والغرب.
الحاجز المحسوس بين اليابان والعالم الخارجي كثيراً ما يكون وسيلة في متناول اليد لعالم في مرحلة ما بعد الحرب، لتحويل الكبت والتناقضات التي يشعرون بها حول أمور مختلفة تماماً. حتماً، يوكيو ميشيما مثل واضح جداً لمثل هذا في عمله.
إذاً، من المهم ألا نأخذ تعليقات الفنانين حول مثل هذه الأمور بقيمتها السطحية. بدلاً من ذلك من الضروري أن نمتحن ما إذا الفنان استخدم الانفصال بين اليابان والعالم الخارجي كوسيلة لتغطية شيء أكثر إيلاماً فيما تختزنه روحهم.
لسوء الحظ، لا أجد الفسحة المناسبة لاشرح بالتفصيل كيف تابع سوسيكي تفكيك ميراث شيكي في عمل بعد عمل، ولكن ارغب في العودة إلى موضوع كيف قلب سوسيكي فكرة أن الكتاب أمثال هيرن يستطيعون أن يفهموا اليابانيين عبر التدقيق بعاداتهم الخارجية ومظاهرهم.
في 1895 نشر هيرن كتاباً دعاه «كوكورو» وبعد تسعة عشر عاماً، نشر سوسيكي، الذي خلفه في جامعة طوكيو الامبراطورية رواية بنفس الاسم. وقد ظن العموم أن هذان الكتابان لا علاقة لهما ببعضهما البعض، ولكن اعتقد انهما مترابطان. فحتماً رواية سوسيكي يمكن أن ترى كتحويل تهكمي لكتاب هيرن.
ناقش هيرن الموضوع القائل أن قلب الياباني ممكن التقاطه عبر أسلوب «رسم حياته» ولكن سوسيكى يشير إلى عكس ذلك. إذا ما اراد أحدهم الاحتفاظ بسر ما، يناقش سوسيكي، فلن يتمكن من تمييزه إلا إذا اخبرك ذلك الشخص به. في كتاب سوسيكي «كوكورو»زوجة سينسي، شيزو، لا تعرف من زوجها السبب الحقيقي لوفاة شخص ما يدعوه فقط بـ «ك». ولا يستطيع الراوي، وهو رجل أصغر سناً معروف فقط بـ واتاسي، أن يفهم السر الخفي لسينسي إذا لم يكتب موضحاً عن حياته وقصتها له. القلب الإنساني أو الروح بكلمات أخرى يمكن أن يصعب ولوجها. وهذا لا علاقة له بما يسميه مستشرقو تلك الأيام «الياباني الغامض»، ولكنه يكون ثابتاً عالمياً للحالة الإنسانية.
في الواقع، عندما كتب سوسيكي «كوكورو» كان متأثراً جداً بمسرحية شكسبير «تاجر البندقية»، والتي تشبه باهتمام رغبة رجل عجوز أن تغرس ذاكرته في قلب رجل شاب.
يناقش سوسيكي أن مكنونات الرواية في الوصول إلى وتحليل الأفكار الداخلية لشخصية ما، تعطي الكتاب وسائل لسبر الروح الإنسانية. بكلمات أخرى، فإن أكثر الحواجز وضوحاً ليس، كما آمن هيرن سابقاً، أي نوع من الجدران الثقافية بين اليابان وبقية العالم، ولكن الجدار الذي وجد بين روح الفرد والناس المحيطين به.
هذا هو المعنى الضمني لرواية سوسيكي، ومع ذلك فعلى الصعيد الفردي لم يحلل هو نفسه الجدار الذي قسم بينه وبين الناس الذين حوله. وبدلاً عن ذلك فقد كان سعيداً بالمناقشة لأن يلعب إلى الأمام بالقصة المناسبة التي كانت تقهره بالجدار الذي كان قائماً بين اليابان والغرب.
في «كوكورو» الشخصية المنغمسة في ذاتها والمعروفة بسنساي يدعي أنه يشعر بأنه ملزم ليتبع مثال جين. نوجي ماراسوكي الذي انتحر باحتفالية في يوم جنازة الامبراطور ميجي. في الواقع، الهدف الصادق لسنساي هو أكثر شراسة. أراد أن يستخدم انتحاره ليوقف قلب الراوي، بنفس الطريقة التي اوقف (ك) قلبه من قبل. وبكلمات أخرى يستعمل روايات خارجية ليخفي نبضة شبق مثلي قوية، لا تروى. وهذه المعالجة البارعة المتعمدة للحقيقة الخارجية كغطاء للدوافع الداخلية الهائجة لتعكس ما يناقش من افعال سوسيكي في حياته الخاصة.
هل يعتقد أحد أن سوسيكي حتماً اخفى الحقيقة حول نفسه، وسأذهب بعيداً لأقول أنه كان يفعل ذلك كل الوقت – كلنا نفعل ذلك بدلاً من مواجهة الحقيقة حول انفسنا. إنه العالم الخارجي الذي هو مخطئ. نحب أن نقول لأنفسنا: هذه الجدران تمنعنا من أن نكون حقيقة أنفسنا. وفي أوقات أخرى، على أية حال، الجدران التي تمنعنا من التواصل مع هؤلاء المحيطين مباشرة بنا. هم لهم طبيعة الحماية، مؤكدين أن روحنا سالمة. انهم يغزون خيالنا، يجعلوننا نخرج مخاوفنا، واحياناً يساعدوننا على خلق فن لا زمان له كنتيجة لذلك.