إبراهيم ديب
يعتبر محمد الصباغ من أهم رواد الحداثة في المغرب، ذلك أنه عمل على إخراج الأدب المغربي الحديث منذ أواخر الأربعينيات وبداية الخمسينيات من القرن العشرين من تلك القوالب التقليدية المتحجرة التي منعته من الانطلاق والتحليق، وتحريره من أغلال اللغة البلاغية الزخرفية، واللغة التراثية الفقهية… وفتحه على آفاق جديدة، ومجالات وأنواع جديدة غير مطروقة، وأهم ما جاء به هو تكسير تلك الحدود الصارمة بين الشعر والنثر، فكتاباته الأدبية كلها تتميز بذلك العبور والجدل المستمر بين الشعر والنثر، وهذا ما جعله يكون من السباقين في المغرب الذين ثاروا على صفاء النوع، حيث نجد مختلف الأنواع الأدبية التي كتب فيها من مقالة، وخاطرة، ورواية، وقصة، وأدب الطفل، لا تخلو من الشعر ومن الخصائص الشعرية كالصورة الشعرية، والانزياح، والرمز، والمفارقة، والإيحاء… وهو ما أدى إلى صعوبة تصنيف أعماله الأدبية، وذلك ما لاحظناه عند الباحثين الذين اهتموا بأدبه سواء نقديا أو بيبلوغرافيا، حيث أدخلوا أغلب كتبه ضمن الشعر بما في ذلك كتبه ذات الطابع المقالي .
ولابد أن نسجل أن محمد الصباغ بالإضافة إلى هذا التجديد الأسلوبي، عبر المزج بين الشعر والنثر، والتقريب بين الأنواع، فقد كان رائدا لمجموعة من الأنماط الشعرية والأدبية الجديدة، على رأسها قصيدة النثر من خلال ديوانيه: “شجرة النار” الصادر سنة 1954، و”أنا والقمر” الصادر سنة 1956. حيث ظل وحيدا في هذا المجال الشعري الجديد بالمغرب، بخلاف البعض الذين وإن كتبوا قصيدة النثر إلا أنهم بقوا في حدود التجريب لقصيدة النثر، ذلك أنهم لم يتجاوزوا كتابة قصيدة أو بضع قصائد على الأكثر لم تصل إلى حدود تشكيل ديوان، ثم انقطعوا ولم يواصلوا السير في هذا النهج، والسبب حسب الكثير من الباحثين أن البيئة المغربية الثقافية لم تكن مؤهلة لاستقبال مثل هذا النوع الشعري الذي تمرّد على التقاليد الشعرية العريقة وعلى رأسها الوزن والقافية. وبعد أن أحس محمد الصباغ بعدم نجاح محاولته التحديثية تلك في مجال الشعر، فقد ابتكر نوعا شعريا جديدا هو القصيدة الشذرية، أو الكتابة الشذرية، من خلال كتبه: “شموع على الطريق” 1968، و”شجرة محار” 1972، ثم “دفقات” 1995. يقول محمد المسعودي: “يعد محمد الصباغ في طليعة الأدباء المغاربة المعاصرين الذين سعوا إلى تطوير طرائق الكتابة في الأدب المغربي الحديث. ولعل الاستناد إلى (البنية الشذرية) ميزة طبعت أدب الكاتب منذ مراحل مبكرة من حياته الإبداعية (أوائل الخمسينيات من القرن الماضي)”1. وقد ظل متفردا في هذا النوع من الكتابة الجديدة، وانضاف إليه رشيد المومني في بداية السبعينيات من خلال ديوانه “حينما يورق الجسد” الصادر سنة 1973، حيث كتب بعض القصائد القصيرة ذات الطابع الشذري، لكن دون أن يجعل منها نهجا إستراتيجيا كما فعل محمد الصباغ، وقد ظل الأمر كذلك حتى التسعينيات من القرن العشرين حيث ستصبح الشذرة نهجا شعريا جديدا عند الكثير من شعراء قصيدة النثر من قبيل: أحمد بركات، حسن نجمي، سعد سرحان، عبدالحميد بن داوود، محمد الصالحي، سعيد السوقايلي، عبدالسلام الموساوي، محمد بنطلحة، محمد عابد، عبدالدين حمروش، إيمان الخطابي، لبنى المانوزي…
فما هي مرتكزات الكتابة الشذرية؟ وما هي تيماتها، وبنياتها، وتقنياتها، وأفعالها المحرّكة؟ وهل القصيدة الشذرية نوع أدبي مستقل، أم نوع معرفي، أم نوع شعري، أم أنها كتابة عبر نوعية؟ وما علاقة الكتابة الشذرية بقصيدة النثر عند محمد الصباغ من خلال كتبه الشذرية الثلاث: “شموع على الطريق” (1968)، و”شجرة محار” (1972)، ثم “دفقات” (1995)؟
يذهب الكثير من نقاد محمد الصباغ ومتتبعيه، إلى اعتبار الكتابة الشذرية عنده تشكل بداية مرحلة أدبية جديدة في مساره الإبداعي، ذلك أنها أحدثت قطيعة مع ما كتبه هو نفسه في السابق (كتب قبل كتاب “شموع على الطريق” الشذري: المقالة، والرواية، وقصيدة النثر السطرية) ، ومع ما عرفه المغرب والعالم العربي من أنواع أدبية، فالشذرة صنف جديد من الكتابة، غير مألوف على الأقل كشكل مستقل، لأن البعض يعود بالشذرة إلى النثر الجاهلي، وإلى القرآن الكريم، والحديث النبوي، وخاصة إلى ما كتبه المتصوفة من شعر ومن شذرات مفتوحة غير محكومة بقوانين النوع الضيقة. يقول عبدالعلي الودغيري عن كتابيه “شموع على الطريق” و”شجرة محار” باعتبارهما يشكلان مسلكا جديدا في الكاتبة العربية: “لكن هناك شيء مهم تنفردان به عن بقية مؤلفات الصباغ السابقة واللاحقة، وذلك هو طريقة تأليفهما، وهي تكاد تكون وحيدة نسجها في الأدب العربي”2 . ونظرا لجدة هذا النوع من الكتابة، فقد طرحت مشكلا في تصنيفها، فقد قيل عنها: خواطر، وتأملات، وكلمات جامعة، وإلهامات، وأفكار موجزة، وحكم، وتوقيعات، وومضات، وإشارات ضوئية… لكن هناك بالمقابل شبه اتفاق على أنها نوع جديد من الكتابة، يقول عبدالعلي الودغيري في هذا السياق: “ويمكن أن ندعوها أيضا خواطر، وأشتاتا من الكلام الفني الرصين المختصر مما لا يمكن أن يكون مقالة، أو شعرا، أو قصة، أو غيرها من فنون القول المعروفة”3 … أما محمد الأمري فيدخل هذا النوع من الكتابة فيما كان يسمى عند العرب بالحكمة، والمثل السائر، وكل ما يمكن أن يدخل في الأشكال الوجيزة، يقول: “هذا اللون من الأدب يذكرنا بالحكم المتداولة، والجمل القصار، التي تحفل بها الكتب الأدبية، وتتداولها الألسن نظرا لإيجازها، ولعمق معانيها، ولكونها تصلح لكل زمان ومكان”4. وهو نفس التصنيف الذي ذهب إليه المستشرق المجري أشتوان بوكا حينما قال: “يشتمل هذا الكتاب على مجموعة من الحكم والأفكار القصيرة التي نسميها بالفرنسية على العموم بـ (5Maxim)” . ويبقى التساؤل هل الشذرة fragment سمة أسلوبية أي تقنية فنية، أم سمة نوعية أي أنها خاصة بنوع محدد؟
هناك إشارة مهمة لناقد متميز حول هذا الأسلوب الجديد في الكتابة عند محمد الصباغ، أي الأسلوب الشذري: وتخص بولس سلامة، وهو ناقد لبناني معروف، ومتتبع ذكي لأعمال محمد الصباغ منذ يفاعته أي قبل أن ينشر أي عمل أدبي، الدليل على ذلك أنه هو من قدّم لأول كتاب نشره محمد الصباغ، أي كتاب “العبير الملتهب” سنة 1953، ولذلك نجده في حديثه عن أول كتاب لمحمد الصباغ في الشذرة، لاحظ الاختلاف بين كل ما كتب سواء في الشعر (قصيدة النثر السطرية) أو الرواية أو المقالة، وما كتبه الآن من خلال هذا الكتاب “شموع على الطريق” الذي نشره سنة 1968. ووجد أن الاختلاف لا يطول النوع فقط، بل حتى طريقة أو أسلوب الكتابة، ففي السابق كان يميل محمد الصباغ إلى الغموض على عادة الاتجاه الرمزي الذي كان يمتح منه وينتمي إليه، كما كان يميل أيضا أكثر جهة المبنى، والشكل، وجمالية الأسلوب على حساب المعنى، بخلاف مع كتابه الجديد الشذري “شموع على الطريق”، فقد لاحظ أن محمد الصباغ أصبح أكثر حرصا على المعنى، وعلى التوازن بين الشكل والمحتوى، ذلك أن القارئ لن يجد مشاكل كبرى في فهم وتأويل هذا الشكل الشذري، يقول عن شكل الكتاب وأهميته: “ولعله [يقصد كتابه “شموع على الطريق”] أقصر مؤلفاتك، ولكنه بلا ريب، أنفسها. فلقد كنت أجد في كتبك السالفة الصدف حيال اللؤلؤ أما في هذه “الشموع” فلم أكن أرى إلا الجمان يتلو الجمان”6. فالسمة الفنية الأولى التي لاحظها بولس سلامة تتعلق بحجم الكتاب، فهو قصير مقارنة مع ما كتبه في السابق، وذلك طبيعي لأن الشذرة تعتمد على الاقتصاد والتكثيف، و تتجنب الإسهاب والشرح. أما السمة الثانية التي لاحظها فتخص جمالية الشذرات، فكلها مركزة وكثيفة وشاعرية، بخلاف في السابق حيث يمكن العثور على لغة عادية إلى جانب اللغة الشاعرية. أما عن الاهتمام بالمعنى، والتوازن بين الأسلوب والفكرة، فيقول: “لقد كنت بالأمس تجعل وكدك في الجمال، وتعبّر عن إنسانيتك وعن القيم العليا التي استقطبت خاطرك تعبيرا رمزيا فتكثر في الأصباغ فأصبحت اليوم تعنى بالفكر من غير أن تتخلّى عن الأسلوب الزاهي الأنيق “7. وما يعزز هذا التوجه أن هناك من يعتبر الشذرة شعر العقل، أو شعر الفكرة. لدرجة أن البعض جعل الشذرة قصيدة الفلسفة والتأمل والحكمة والخلاصة. وهذا التوجه هو المهيمن منذ نشوء أو ظهور الشذرة كإبداع جديد، وكتابة جديدة. فكل نقاد محمد الصباغ اعتبروا شذراته في كتابيه “شموع على الطريق”، و”شجرة محار” شذرات أقرب إلى الحكم والأمثال السائرة والأقوال المأثورة، وجوامع الكلمة… يقول علال الفاسي مقدّم كتابه “شموع على الطريق”: “وشموع على الطريق كلمات جامعة تعبّر عن روحانية عميقة”8. ثم يقول أيضا “إن شموع على الطريق “مجموعة إلهامات، تستحق أن تقرأ وأن يتأمل في ما تبعثه من قلق، ومن إيمان”9. نفس الأمر يعبّر عنه الأديب اللبناني بولس سلامة، يقول عن الكتاب إنه يذكّره “بسفر الحكمة وسفر الأمثال لسليمان بن داود، وبروائع الأقلام الغربية”10. هذا التصنيف سنجده عند ناقد آخر هو عبدالقادر الصحراوي، لكنه أكثر دقة وحيطة في تحديد نوعية هذه الكتابة الشذرية، إذ اعتبر أن بعض الشذرات فقط هي ما يمكن اعتبارها حكما، وليس الجميع، بمعنى أن هناك شذرات أخرى تأخذ شكلا آخر وتصنيفا آخر، أو يصعب تصنيفها بالمطلق، يقول: “فبعض مقاطع هذا الكتاب يمكن اعتبارها من باب الحكم، أو من باب الكلمات السائرة المطلقة “11. أما المستشرق المجري أشتوان يوكا، فقد كان حاسما منذ البداية، إذ اعتبر هذه الكتابة الشذرية، أو الكتابة المقطعية بلغة عبدالقادر الصحراوي تدخل ضمن حقل الحكمة، يقول بنوع من الجزم ودون تردد: “يشتمل هذا الكتاب على مجموعة من الحكم والأفكار القصيرة التي نسميها بالفرنسية على العموم بـ (12Maxim)”.
هذا التوجه التصنيفي لشذرات محمد الصباغ باعتبارها حكما، أو على الأقل البعض منها كما قال عبدالقادر الصحراوي، يزكّي فكرة البحث عن المعنى، والبحث عن التواصل مع القارئ الذي كان يشتكي من نخبوية كتابة محمد الصباغ، وغموضها، وصعوبتها. فالشاعر محمد الصباغ أحس بضرورة البحث عن صيغة أخرى جديدة للانفتاح على القراء والتقرب منهم، وتوصيل رسالته أو رسائله إليهم، ولعله كان موفقا في اختيار صيغة الشذرةـ الحكمة. ثانيا هذه الصيغة جعلته يتحرّر من فكرة “الفن للفن” الرمزية، ومن الانفعالات الحارة أو الساخنة التي كانت تجعل كتابته أكثر سخونة وانفجارية على عادة الرومانسيين. فالكتابة هنا في كتابيه الشذريين “شموع على الطريق” و”شجرة محار” وأيضا في كتابه الثالث الذي نشره بعدهما بمدة طويلة “دفقات” (1995)، أصبحت أكثر واقعية، وأكثر بساطة، وأكثر رشاقة، ذلك أنها تخلصت من الكثير من الزخارف والأصباغ الشكلية، كما لاحظ ذلك بولس سلامة، يقول: “لقد كنت بالأمس تجعل وكدك في الجمال، وتعبّر عن إنسانيتك والقيم العلى التي استقطبت خاطرك تعبيرا رمزيا فتكثر في الأصباغ فأصبحت اليوم تعنى بالفكر من غير أن تتخلّى عن الأسلوب الزاهي الأنيق”13. ولعل ذلك يعود لتأثير المحيط عليه سواء المحلي (المغربي) ، حيث كان يشعر بنوع من الاغتراب، والانفصال عن مجتمعه، لأنه رغم الإشادة بأعماله من طرف مبدعين عالميين وعرب مشهورين، إلا أنه على المستوى المغربي، ظل مبدعا غير مقروء، وغير متابع بخلاف الكثير من مجايليه، رغم قوته الإبداعية، ثم إن مرحلة الستينيات وبداية السبعينيات هي بداية انتشار الفكر اليساري الذي يقول بالتزام المبدع وعضويته وطليعيته، أي أن كتابته ينبغي أن تكون تنويرية ومباشرة وقريبة من المجتمع ومشبعة بوظائف أيديولوجية وتنويرية وتوعوية، الشيء الذي لم يكن يفعله الصباغ نظرا لرؤيته الخاصة للإبداع، حيث اعتبر أن دور الفن ينبغي أن يكون أكثر عمقا، إذ لا يروم التغيير السريع، وإنما التغيير العميق الخاص بالذهنيات. ولا ننسى أنه على المستوى العربي، كان هناك نوع من الإقبال على الفكر الاشتراكي الثوري، الذي يستهدف التغيير السياسي، خاصة بعد هزيمة 1967.
هكذا يمكن القول إن محمد الصباغ، اهتدى للوصفة السحرية التي تجعله، يقترب من المتلقي بما في ذلك القارئ العادي، دون أن يفرط في منظوره الإبداعي، أو فيما يتعلق بشعرية اللغة وشعرية النص. هذه الوصفة هي قصيدة النثر الشذرية. فالشذرة حسب الشاعر والناقد محمد السرغيني هي شكل من أشكال قصيدة النثر، يقول: “على أنه يمكن أن نميز في قصيدة النثر بين الأشكال الآتية: الخاطرة، والشذرة، والهايكو الياباني، والمغناة”14. والشذرة فيما يرى الشاعر محمد الصباغ، تقوم على التأمل في المرئيات، وذلك “بوضعها في سياق ما يمكن أن يكون شبيها بالحكمة “15.
هكذا نستنتج أن قصيدة النثر الشذرية عند محمد الصباغ بدأت تقترب من الحكمة، ومن أساليب الفلسفة التأملية، لكي تكون أكثر تأثيرا في المتلقي، وأكثر استجابة لهواجسه وتطلعاته ورغباته. ومن أهم مميزاتها كما سنرى، وعلى الأقل في البعض منها أنها تتوفر على وحدة موضوعية، إذ غالبا ما يكون العنوان هو بؤرتها، وكأن القصيدة هي تعريف للعنوان/ الموضوع، أو هي تمطيط وتوسيع له.
وعلى العموم فالكتابة الشذرية عند محمد الصباغ هي خليط من الحكمة، والملاحظة، والحكي، والشعر، والتأمل، والتفلسف… وهي تتأسس على المفارقة غالبا في أفق استكشاف الجوانب غير المعروفة في الأشياء، وهو ما يحدث الدهشة، والغرابة، وتكسير أفق انتظار القارئ… كما تقوم الشذرة أيضا على الكثافة والاقتصاد والفجائية والوميضية… وبذلك فهي تعمل على رفد الخيال بارتعاشات وانتعاشات ممتعة وعجيبة، مما يجعلنا نلمس ما لا نراه فيما نراه، أي أنها تعيد تشكيل الواقع وخلقه من جديد، أو على الأصح تخلق واقعا موازيا مختلفا عن الواقع الحقيقي، أو تحديدا تخلق واقعا حقيقيا مختلفا عن الواقع المزيف، أي الواقع المعيش، الذي ننغمر فيه، فعبر هذه الشذرات نلمس الماهية والجوهر والأصيل… وهي من جهة أخرى كتابة تفاؤلية مرحة، تزوّد القارئ بشحنات وطاقات نفسية جبارة…
وتتميز الكتابة الشذرية عند محمد الصباغ بالتنويع في الأداء الفني، والبناء الشعري الهندسي، فهي تعمل على استغلال البياض والصمت والحذف وجعلها مكونات فنية أساسية لا يقلان قيمة عن الملء والكلام والذكر…
والكتابة الشذرية لها وظائف شتى، وظائف معرفية وتنويرية ونفسية وتحفيزية… ذلك أنها تعلمنا أن نرى ونسمع ونحس بطريقة جيدة، بطريقة فنية… فهي توقظ المتلقي، وتشحن حواسه، وخياله، ورؤاه بطاقة جديدة، فتخرجه من انطوائه وقوقعته، ومن رؤيته الرتيبة والثقيلة للعالم والأشياء… هكذا تصبح كل الحواس متحفزة ومستعدة لالتقاط الجمال، واصطياد الشعر أينما كان… وتصبح الأذن مثلا قادرة على أن تسمع هسيس الأشياء، أن تسمع الفجر وهو يتململ في قلب محارة استعدادا للانبثاق والظهور… والعين هي الأخرى تمتلك قوى جديدة، إذ يغدو بمكنتها أن ترى روح الأشياء، أن ترى في القمر زوجا مفترضا، وفي الزهرة عاشقة متولهة “ترنو إليه، وفي يمناها باقة زهر”16.
ومن أهم الملاحظات التي يمكن تسجيلها حول الكتابة الشذرية عند محمد الصباغ، أنه لم يكن هناك اتفاق حول تصنيفها، فقد مثلت نوعية جديدة من الكتابة غير مألوفة، حتى وإن عرفت في القديم لكنها كانت عابرة ومخترقة للنصوص، ولا تشكل هي ذاتها نصا مستقلا، أو كتابا كما هو الحال مع محمد الصباغ .
يمكن أن نشير أيضا إلى أن هذه الكتابة الشذرية عرفت إقبالا عليها من طرف الشباب، والطلبة، وعموم القراء (أي ذوي المستوى العادي)، وهذا ما لاحظه الناقد المجري أشتوان بوكا، حيث عاين انجذاب تلامذته لهذا النوع من الكتابة، يقول: “قرأت من هذا الكتاب حكما كثيرة على تلاميذي فوجدت عندهم إقبالا عليها، واهتماما بها أكثر مما وجدته في كتابيه “اللهاث الجريح” و”عنقود ندى” “17. هكذا فبفضل هذه الكتابة الشذرية، وبفضل هذا الأسلوب الشعري الجديد، وجد محمد الصباغ الطريق إلى قلب القارئ وذهنه. فهو يمزج في شذراته بين بلاغة الإمتاع وبلاغة الإقناع. ذلك أن محمد الصباغ يستهدف قلب القارئ حينا، وعقله حينا آخر، وهما معا في أغلب الأحيان. والأكثر من ذلك أن كتابته تتميز بما سماه عزالدين المناصرة بـ”تبريد اللغة”، حيث التأمل، والانفصال عن الأشياء وعرضها في استقلاليتها وعرائها. فمع هذا النوع من الكتابة سيجد القارئ نفسه يقرأ بسعادة ولهفة ورغبة، لأنها كتابة خالية من الإبهام والتعقيد وهيمنة الزخارف والأصباغ، كما هو الشأن في بعض كتاباته السابقة… فالقارئ وهو يقرأ كتابات محمد الصباغ الشذرية يشعر بقربه منه، ومن عالمه، ومن زمانه… وهكذا يكتشف أن محمد الصباغ شاعر عظيم، ومعلّم، وملهم، وقائد، وناشر عبير وفرح، ومحفز على القراءة والكتابة معا…
ختاما.. يمكن القول إن محمد الصباغ كان سبَّاقا في البحث عن صيغة جديدة للكتابة الشعرية، صيغة تحافظ على شعرية الكتابة دون التفريط في القارئ. وقد نجح فعلا في إعادة القراء للشعر من خلال هذه الكتابة الشذرية التي لا تخلو من عمق فني ودلالي بخلاف القصيدة التفعيلية أو النثرية التي كانت خلقت نوعا من الفجوة بين الشاعر والقراء عبر ما سمّي بالغموض الذي يصل إلى حدود الإبهام والتعقيد والتعمية. وبالتالي يمكن اعتبار أن الصيغة الشذرية إلى جانب الصيغة السردية لقصيدة النثر ساهمتا في إخراج الشعر من الأزمة التي تخبّط فيها في الثمانينيات مع بداية انتشار نموذج قصيدة النثر بين الشباب في العالم العربي، وما سببه ذلك من نفور من الشعر، ومن هجوم على قصيدة النثر بتحميلها السبب فيما وصله الشعر من تخبط وتلبّك وتعقيد ورثاثة…
الهوامش
* محمد الصباغ: ولد بمدينة تطوان سنة 1930. درس بالمغرب، ثم التحق بإسبانيا سنة 1957 لدراسة “علم المكتبات”. عمل بالصحافة رئيسا لتحرير عدد من المجلات. عمل ملحقا بوزارة الثقافة والشؤون الإسلامية سنة 1961، ورئيسا لقسم الدراسات العربية بالمركز الجامعي للبحث العلمي التابع لجامعة محمد الخامس بالرباط سنة 1964، ورئيسا لقسم الآداب بوزارة الثقافة سنة 1968، ومديرا لديوان وزير الشؤون الثقافية سنة 1981، ورئيسا لقسم المكتبات بنفس الوزارة . توفي سنة 2013.
من أعماله الأدبية :
– العبير الملتهب- 1953 -شجرة النار- 1955 -اللهاث الجريح- 1955 -أنا والقمر- 1956.
– شلال الأسود- 1956 -فوارة الظمأ- 1961 -عنقود ندى- 1964 -شموع على الطريق- 1968.
– نقطة نظام- 1970 -شجرة محار- 1972 -“عندلة ” و”بسمة “- قصص للأطفال 1975.
– كالرسم بالوهم- 1977 -تطوان تحكي- 1979 -أريج الكلام- قصص للأطفال 1983.
– العلال- 1985 -رعشة- 1988 -بغدادات- 1991 -دفقات- 1995.
– أطال بدم الكلمة- 1995.
– صدرت أعماله الأدبية الكاملة في أربعة أجزاء عن وزارة الثقافة المغربية سنة 2001.
1 – الكتابة الشذرية في الأدب المغربي الحديث -محمد المسعودي- منشورات سليكي- أخوين/ طنجة ـ ط1 ـ 2017ـ ص9 .
2 – قراءات في أدب محمد الصباغ- عبدالعلي الودغيري- دار الثقافة/ الدار البيضاء ـ ط1ـ 1977- ص91 3 – نفسه ـ ص91.
4 – محمد الصباغ بأقلام النقاد والأدباء- عبدالعلي الودغيري- دار الثقافة/ الدار البيضاء- ط1ـ 1980 ص124 5 – نفسه- ص109
6 – نفسه- ص96
7 – نفسه- ص96
8 – نفسه- ص94
9 – نفسه- ص95
10 – نفسه- ص97
11 – نفسه- ص105/ 106
12 – نفسه- ص109
13 – نفسه ـ ص96
14 – إشكاليات قصيدة النثر: نص مفتوح عابر للأنواع- عزالدين المناصرة- المقدمة العربية للدراسات والنشر/ بيروت -ط1- 2002 – ص288- نفس المرجع ونفس الصفحة
16 – شجرة محار- محمد الصباغ- الجزء3 -الأعمال الكاملة- منشورات وزارة الثقافة والاتصال المغربية -ط 1- 2001 ص7
17 – محمد الصباغ بأقلام النقاد والأدباء -إعداد عبدالعلي الودغيري- ص110