تقع الكتابة في قبضة الوسائط الاعلامية على نحوين:
أولا من حيث ان تلك الوسائط هي أدوات نشر ووسائط اتصال، ثم من حيث انها تجر الكاتب الى أن ينخرط في «العمومي».
ففيما يتعلق بالنقطة الأولى نلحظ أن الكتابة والنشرعبر الوسائط الحديثة يلحقان تغيرات عميقة على الكتابة ذاتها، ويعطيان للمكتوب خصائص لم يكن له عهد بها من قبل.
ذلك أن تقنيات الكتابة ترسخ عوائد وتشرع قواعد. إنها تغيّر طرق الكتابة وأساليبها، لكنها قد تطبع أيضا تصرف الكاتب وتحدد سلوكه.
يتحدث رولان بارط عن علاقته بآلة الكتابة وما ترتب عن استعمالها من أثر على النص وعلى أسلوب كتابته. عندما ظهرت «آلة الكتابة» تبين أنها تتنافى مع إمكانيات كان يسمح بها قلم الرصاص، بل قلم الحبر نفسه من تحوير وخدش وحذف. ولا يخفى ما كان لذلك من أثر على الكتابة لا شكلا ومبنى فحسب، بل مضمونا ومعنى كذلك. نعرف ما قيل عن تأثير آلة الطباعة على الكتابة عند نيتشه. وقد كان أحد أصدقائه من الموسيقيين لاحظ ما أحدثه استعمال الآلة من تغيّرفي أسلوب كتابته مسجلا أن نثره الذي كان مقتضباً ازداد إيجازاً، وأن الأداة الجديدة جعلت من لغته لغة جديدة. «معك حق»، رد نيتشه «أدوات كتابتنا تسهم في تفتح أفكارنا». مع استخدام الآلة الكاتبة تغير أسلوب نيتشه فازدادت شذراته قصرا ومعانيه تكثيفا وربما عمقا.
لا شك أن الأمر أصبح أبعد أثرا عند ظهور الحاسوب. فقد تبين أن هذا الجهاز ليس مجرد آلة جديدة لكتابة النص وخطه ونشره فحسب، وإنما هو أداة مضمونة لحفظه وتعديله وضمه إلى نصوص أخرى و»إلصاقه» بها. إلا أن هذه الإمكانيات التي تتمتع بها هذه الأداة الجديدة لم تكتف بتغيير الكتابة شكلا ومضمونا هذه المرة، وإنما فتحت الأبواب لأخلاقيات جديدة في الكتابة. هذا ما أخذنا نلحظه عند كتاب اعتدنا قراءة نصوصهم عندما كانوا يخطونها بأيديهم قبل أن يسلموها المطبعة، وأصبحنا نقرأ على الشبكة ما يكتبونه هم أنفسهم مباشرة على الكمبيوتر الذي يساعدهم على التذكر والربط بين الأفكار، واستدراك ما فات والتنبيه إلى الهفوات، بل يسهم معهم في التأليف بأن يسهل عليهم الاقتباس عن غيرهم وحتى عن أنفسهم.
لا ريب أن من شأن هذه العادات الجديدة أن تنعكس على أسلوب الكتابة وشكلها، إلا أن الأهم هو أنها صارت تنعكس، فضلا عن ذلك، حتى على أخلاقياتها. لذا صار الكاتب يسمح لنفسه اليوم، حتى إن لم يستعمل الكمبيوتر أداة للكتابة، أن يكرر ما سبق أن كتبه، وأن يكثر من «الاقتباس الذاتي». بل إن من الكتّاب من أصبح يخلط شعورا منه أو بغير شعور، بين أقواله وأقوال غيره، فيهمل الضوابط التي تتقيد بها الكتابة «الخطية»، تلك الضوابط التي كان الخروج عنها يعتبر إلى وقت قريب ابتعادا عن «الأمانة العلمية»، بل خرقا لقواعد الأخلاق.
لكن ما هي السمات الأساسية التي يمكننا أن نقول أن وسائط الاتصال الحديثة جعلت الكتابة تتميز بها:
لعل أول ما يميز هذه الكتابة هو كونها تعتمد ذاكرة «مستقلة» عن ذاكرة الكاتب. فما ينشره الكاتب على الموقع الالكتروني لا يضيع بنسيانه ولا يتوقف على مدى تذكّره. وحتى إن رغب هو في إتلاف النص فلن يكون الأمر بمقدوره، لأن «ذاكرة الشبكة لا تنسى».
ثم إن الكاتب على الموقع الإلكتروني لا يمكنه أن يتحكم بالضبط في الموقع، أو على الأصح المواقع التي ينشر فيها. إذ بمجرد أن يظهر نصّه في أحدها حتى يدخل في مسلسل الاستنساخ اللامتناهي، وسرعان ما يقرأ الكاتب نفسه في منابر لم يكن له عهد بها، ويجد نفسه بين كتّاب آخرين لم يكن ليتصور أنه قد يشاركهم المنبر نفسه، إلى حد أن بإمكاننا القول انه لا يمكن للكاتب اليوم أن يزعم أنه يكتب في منبر بعينه، أو أنه يختار المنابر التي ينشر فيها. إنه يرمي بنصه في الشبكة، ويُلقي به على الملأ، على قارعة الطريق التي هي اليوم «طريق سيّار».
لن نتمثل خطورة هذا الأمر ما لم نستذكر العلاقة التي ترسخت لدينا مع المنابر التي كنا الى وقت قريب نتخذها حوامل لكتاباتنا. فقبل أن يظهر النشر الإلكتروني كانت لنا، لا أقول معايير ثابتة، وإنما أعراف متّبعة تسمح بالتّمييز بين ما يصلح للنشرعلى صفحات المجلات، وما يصلح للجرائد. وحتى إن كان النشر في الجريدة فهناك ما ينشر في الصفحة الأولى، وما يظهر على الأخيرة، بل هناك ما لا يمكن أن يظهر إلا في ملحق أسبوعي.
أضف الى ذلك أن حوامل الكتابة كانت دوما ملونة مسيسة مؤدلجة. كانت تنقسم مثلنا أحزابا وشيعا. فيها اليميني وفيها اليساري، فيها التقليدي وفيها الحديث، فيها المتحجر وفيها الطلائعي…
الخلاصة أنّ ما كنا نكتبه كان يُحدِّد، ويَتحدد بأين نكتبه، وأنّ منبر الكتابة كان يحدد قيمتها، بله شكلها وحتى مضمونها وانضواءها. في هذا الإطار تميّزت مجلات عن مثيلاتها، وكتّاب عن زملائهم. كان هناك في فرنسا، على سبيل المثال، كُتّاب مجلة نقد، وهم يختلفون تمام الاختلاف عن كتّاب المجلة الفرنسية الجديدة، بل حتى عن كتاب النقد الجديد، والإنسان والمجتمع. الأمر ذاته يمكن أن يقال بطبيعة الحال عن مجلاتنا العربية. كتاب الكرمل أو مجلة شعر أو أقلام أو الثقافة الجديدة ليسوا هم كتاب مجلات أخرى.
بل إن دور النشر ذاتها كانت تتوزع وقتها جهات غير متكافئة. فمن ينشر عند «المنشورات الجامعية الفرنسية» أو «فران» ليس كمن ينشر عند «ماسبيرو» أو «المنشورات الاجتماعية». وبالمثل، من كان ينشر في «دار الطليعة» عندنا في العالم العربي ليس كمن ينشر في «دار المعارف»، أو «دار العلم للملايين». لقد كان اسم دار النشر على الغلاف يكاد يدخل ضمن المحدّدات الفكرية للكتَاب ويعيّن توجّهه فيحدد قرّاءه.
كل هذا لندلّل بأن منابر النشر وحوامل الكتابة ليست مسألة عَرَضية، وإنما تدخل في وسم الكتابة وتحديد شكلها بل حتى معانيها. ولم يكن هذا الأمر ليخفى على قدمائنا الذين لم يحدّدوا الكتابة بالمنبر والمقام فحسب، وإنما أيضا بالمادة التي تكتب عليها والحامل الذي يحملها. ونحن نعرف كيف كانت قيمة النصوص عند قدمائنا تتغير بحسب حواملها. لنكتفي بالإشارة الى ما يراه الجاحظ في أن النصّ لا يلقى الاستجابة نفسها إذا كان مكتوبا على قطعة جلد أو على دفاتر القطني: «فليس لدفاتر القطني أثمان في السوق، وإن كان فيها كل حديث طريف، ولطف مليح، وعلم نفيس. ولو عرضت عليهم عدلها في عدد الورق جلودا ثم كان فيها كل شعر بارد وكل حديث غث، لكانت أثمن ولكانوا عليها أسرع». فكأن النص يستمد قيمته من الجلد الذي حُمل عليه. ولا عجب في ذلك فالجلود «أحمل للحك والتّغيير، وأبقى على تعاور العارية وعلى تقليب الأيدي، ولرديدها ثمن، ولطرسها مرجوع». ما يفيد أن قدماءنا كانوا على أتم وعي بأن «أرواح» النصوص تستمد من «أجسامها»، وأن للكتابة جسدا تعيش به وعليه.
هذه العلاقة الجديدة مع الحوامل توازيها علاقة مغايرة بين الكاتب والقارئ، بين المؤلف والناقد. وهذه إحدى المميزات الأساسية لهذه الكتابة، وهي أنها غالبا ما تدخل في مسلسل التعليق والتعليق المضاد بمجرد أن «تلعقها» الشبكة. هناك «سيولة نقدية» مخالفة لما كان معهودا في الكتابة الورقية. ذلك أن هاته الأخيرة، نظرا لما تعرفه من بطء النشر والانتشار تحتاج إلى كبير روية كي تُتلقى وتُهضم حتى يتم انتقادها. أما الكتابة الإلكترونية فهي تكاد تظهر مع حواشيها دفعة واحدة، بل غالبا ما يغدو حجم التعليقات والحواشي أضخم بكثير من النص ذاته. وهي تعليقات تتمتع بقدر كبير من «الحرية»، خصوصا وأنها معفية من الرقابات المتنوعة التي يفترضها النشر الورقي عادة.
لعل ذلك هو ما يبرر «غزارة» الإنتاج التي أخذنا نلحظها عند الكتّاب الذين ينشرون على الشبكة. فربما كانت سهولة التلقي وسرعة «الاستهلاك» والتعليق هي التي تجر الكاتب لأن يواصل حواره مع قرائه بمجرد أن يتلقى ردودهم. لنقل بأن التفاعل بين الكاتب والناقد يغدو بفضل النشر الإلكتروني أكثر اتساعا، وأكبر سرعة، وربما أشد إرغاما.
خلاصة النقطة الأولى اذن هي أن الكتابة عبر الوسائط الحديثة ترسخ علاقة مغايرة بالزمن: زمن التذكر، وزمن الإنتاج والكتابة، وزمن التلقي والقراءة، وزمن التفاعل مع النصوص.
وقبل أن ننتقل الى النقطة الثانية لا بأس أن نشير بسرعة الى ما يترتب عن كل هذا من تحوّل، لا في أساليب كتابتنا، وانما في مقومات جهازنا النقدي بكامله. ويكفي أن نتساءل بهذا الصدد هل يبقى لمصطلحاتنا النقدية المدلول نفسه مع هذه التحولات التي أحدثتها الوسائط الحديثة على فعالياتنا الفكرية ذاتها؟ هل بامكاننا اليوم أن نتحدث عن المفهوم نفسه للسرقة الأدبية الذي كنا نتداوله حتى الآن؟ وعن المفهوم ذاته للمؤلف، بل وللنص ذاته مع ظهور ما غدا يُدعى «النص الأعظم»؟ وهل يجوز مثلا الحديث عن مذهب واقعي في الأدب بعد أن غدا الواقعي يعانق الافتراضي على الدوام؟….
فيما يخص النقطة الثانية، أعني كون تلك الوسائط تجر الكاتب الى أن «ينخرط» في «العمومي»، فان هذا الانخراط يجعل الكاتب، على حد قول ميلان كونديرا، «يمر عبر مشهد وسائط الإعلام المضاء بكيفية لا تحتمل، تلك الوسائط التي تغيّب العمل الابداعي خلف صورة مؤلفه….وحينئذ يغدو العمل مجرد امتداد لتصرفات الكاتب وتصريحاته ومواقفه».
لن ندرك قوة هذا التأثير ما لم نتذكر أن الأمر الذي كان يُتوخى فيما قبل هو أن يتوارى الروائي خلف عمله الابداعي على حد قول فلوبير، أن يرفض الروائي أداء دور الشخص العمومي. الا أن الوسائط الاعلامية اليوم تعمل على تغييب العمل لا خلف مؤلفه، وانما، كما يؤكد كونديرا، خلف صورة مؤلفه، تلك الصورة التي تعمل على تشكيلها، بله صنعها وترسيخها، وسائط الاتصال المختلفة التي غدا بامكانها اليوم أن تصنع الأسماء وتخلق النجوم وتنتزع الاعتراف وتخلق الاهتمام وتضفي القيم وتعطي الاولويات والأسبقيات والمراتب. فهذه الوسائط هي التي تعمل اليوم متضافرة على أن ترسخ في عيوننا وعقولنا، على جدراننا وصورنا، في كتبنا وصحفنا، وأخبارنا وشائعاتنا، أن ذلك الموضوع هو الموضوع الأكثر أهمية، وذلك الاسم هو الاسم الأكثر ذيوعا، وذلك المؤلف هو المؤلف الأكثر جدارة.
اذا كان أحد أكبر اكتشافات الرواية، وهو شكل الكتابة الذي يهمنا هنا، هو «طابع المفارقة الذي يميز الفعل»، واذا «كانت روح الرواية هي روح التعقيد والالتباس» على حد قول صاحب فن الرواية، فانها على ما يبدو تقع على طرف النقيض مع ما تعمل الوسائط الإعلامية على زرعه وتثبيته.
ان الرواية لم تعد تسمع صوتها إلا بصعوبة في لغط االأجوبة السريعة المبسطة التي تسبق السؤال وتستبعده. هذه الأجوبة السريعة المبسطة تصدر عن وسائط الاتصال التي تعمل «في خدمة توحيد تاريخ كوكب الأرض، وهي تضخم سيرورة الاختزال وتقننها، وتنشر في العالم كله التبسيطات نفسها والكليشيهات عينها بهدف جعلها تقبل من طرف عدد كبير من الناس، من طرف الانسانية جمعاء.. ولا يهم أن تعلن مختلف المصالح السياسية عن نفسها في مختلف وسائلها. فوراء هذا الاختلاف السطحي تسود روح مشتركة…كل الوسائط تمتلك الرؤية ذاتها عن الحياة التي تنعكس في الترتيب نفسه الذي تشكل وفقه فهارسها، في الأقسام نفسها للمجلة، في الأشكال الصحفية نفسها، في القاموس نفسه، في الأسلوب ذاته، في الأذواق الفنية عينها، وفي الترتيب نفسه لما تجده مهمّا ولما تجده غير ذي قيمة. ان هذه الروح المشتركة بين وسائط الاتصال الثاوية خلف تنوعها السياسي هي روح عصرنا».
ما أبعدنا اذن عن روح التعقيد والالتباس، ما أبعدنا عن روح الرواية، بل ربما كانت روح عصرنا مضادة لتلك «الروح». لذا يستخلص كونديرا: «اذا كانت الرواية لا تزال تريد أن تتقدم بوصفها رواية، فانها لن تستطيع الى ذلك سبيلا إلا في تعارض مع تقدم العالم».
هذه الضدية التي يشير اليها صاحب فن الرواية هي كما يقول ضد «تقدم العالم» قاصدا بذلك التقدم، وبنوع من السخرية، التبسيط والتسوية وغياب الاختلاف.
الى وقت غير بعيد كان يعد طلائعيا من يسير سير العالم ومن يستبقه، ربما غدت الطلائعية اليوم هي مقاومة هذا السير، أو على الأقل التحرك في غير اتجاهه.