ان كنا نتحدث عن العلاقة مع انتاج المفكر السوري صادق جلال العظم، فلا بد ان كثيرين منا مرّوا بصدمة القراءة الاولى لبعض كتبه، خصوصا في زمن الخوف من كشف المستور وملامسة المقدسات فكريا.
أتحدث عن نهايات السبعينات، عندما أخبرتني زميلة في كلية الحقوق بالكويت وهي صديقة مقربة، عن كتاب «نقد الفكر الديني» لمؤلف لم أكن سمعت باسمه بعد. كنا نجلس في غرفتها بحضور شقيقتها الاصغر سنا منها، وحكت لي عن كتاب بدا لي من سرد ملخصه انه جريء جدا، أجرأ من كتب نزار قباني التي تتحدث عن الحب وتصف جسد المرأة واحاسيسها وكنا نمررها بسرية داخل الفصل الدراسي فترة مراهقتنا. فالكتاب هذه المرة عن المقدّس الديني لا عن المحرّم الجنسي.
راحت صديقتي التي اقترحت الكتاب تحكي عن قصة الشيطان الذي تمرد على وضع البشرية وزر اخطائها على اكتافه، واعتباره خارجا عن طاعة الله مطرودا من جنته… وصراخه «انا بريء».
مضمون تحمست له الصديقة وأختها، لكنه اصابني بالتوتر، خصوصا عندما قلّبته قليلا بعد ان حملته معي الى البيت. وضع جعلني أتجاهل الكتاب وأتركه في مكان خفي على أرفف مكتبتي، اذ كيف لي ان اواجه من يفكك الخطاب الذي درجنا على ان لا نسائله، حتى لو كان خطاب بشر، مثل فقهاء المذاهب الذين تحولت اجتهاداتهم نفسها الى كلام مقدس امتدادا للمصدر المقدس.
لم يكن سقف تمردي الاجتماعي والفكري في حينها قد تجاوز حالات مثل رفض الحجاب أمام ضغط الاهل، ومحاججة استاذ الشريعة بمسألة ضرب المرأة من قبل زوجها «بعودة (عصا) رفيعة تأديبا وزجرا من غير أن يكون المقصود الأذى»، بحسب ما كان يجيبني استاذي، فأرد عليه ان الأذى معنوي والاهانة واقعة ولو بـ«عودة صغيرة».
مرت ايام ولم أقرأ الكتاب الجريء. وكذلك لم أر الصديقة فقد كنا في العطلة الصيفية. وعندما سنحت الفرصة للقاء، سألتني عن الكتاب الذي استعرته؟ أجبتها بالنفي. وعندما بدأت ابرّر مخاوفي قاطعتني بجواب بارد. «تفسيري لتصرفك فقط أنك جبانة»… ولم تنتظر ردي. اضافت، ان القراءة بحد ذاتها ليست ذنبا، وان ايماني إذا اهتز بسبب كتاب فهذا معناه ان المشكلة بي أنا. وأنني افتقد الشجاعة.
انا هي الموصوفة بالجُبن. التهمة لم تكن سهلة عليّ. ولا تزال. غير أنني تصرفت بما يوحي بهذا الفعل… خشيت قراءة كتاب لا يحمل سلاحا، بل افكارا. فهل من مثال لجُبن، أكثر من هذا؟
عدت الى الكتاب. بثقة عالية هذه المرة مدعومة بالتحدي وإثبات الشجاعة. وكنت كلما صدمني تعبير اثناء القراءة، تذكرت صفة «جبانة» بصوت صديقتي الأكثر جرأة مني وموافقة من اختها الاصغر منها.
وهكذا اكملت نص الكتاب الذي لم اقرأه مرة اخرى بعد ان اعدته الى صاحبته. لكني اتذكر متعة قراءته ومقاربته غير التقليدية لموضوعة كانت خارج النقاش في محيطي المحدود آنذاك في الكويت. اطّلعت على المحاكمات التي تعرض لها الكاتب في لبنان وحكم البراءة الذي حصل عليه، وخصّص الكتاب الفصل الاخير لتفاصيل تلك المحاكمة.
تغيرت طريقة تفكيري من وقتها. لم تعد نظرتي للأمور كما في السابق. فقد امتلكت اداة جديدة، هي المحاكمة العقلية التي هي آخر ما تعلمه المناهج والتربية.
لم يكن الأمر بعد قراءة الكتاب، إيماناً او فقدان ذلك الايمان بل تعلّم طريقة تفكيك الخطاب المقدس الذي يحمل قوة سلطته من المفسرين، اي من الكلام البشري المكمل للنص، أكثر من سلطة التنزيل نفسها، فالله طالب المسلمين بالتفكر ولم يقل «حُرّم عليكم العقل». كانت لدي الجرأة «النية» في ذلك السن ولم تكن لدي الخبرة لترشيدها بعيدا عن الانفعالات. لكن تفكيك الخطاب والنصوص بطريقة صادق جلال العظم ساعدتني مع تجارب اخرى شبيهة لاحقة، في النظر لكل الأفكار والموضوعات، من منطلق قابليتها للتفكيك ورؤيتها بالعين المجردة بعيدا عن ضبابية التقديس.
وقد أسعدني الحظ بعد ذلك بعشر سنين، فالتقيت في دمشق بالدكتور صادق عبر اصدقاء مشتركين في مقهى الشام، وحكيت له عن تلك التجربة مع كتابه «نقد الفكر الديني» تحديدا الذي قادني الى كتاب آخر هو «النقد الذاتي بعد الهزيمة» فبدا سعيدا بنتائج حفره الفكري لدى قرائه. وبعد عام 2011، التقينا في لندن بمناسبة محاضرة له في جامعة «كينغز كوليج» مصحوبا بزوجته الرائعة ايمان شاكر، وسمعت منهما تقريظا بخصوص مقالات كنت نشرتها عن الثورة السورية في صحيفة «الحياة». وكان عليّ ان اشعر بالزهو امام كاتب ومفكر ارعبتني فكرة القراءة له قبل سنوات بعيدة… غير ان قراءته والتاثر بشجاعته قاداني الى اسلوب كتابة جعلته هو الذي يقرأني هذه المرة، وقد نسي أمر تلك الشابة التي اعترفت له مرة في مقهى الشام بالصدمة الذهنية التي غيرت طريقة تفكيرها.
—————————
غالية قباني