هذه النصوص – دون أدنى شك – هي محاولة اساسية لتفجير اللغة فلا موضع هنا لوجود لغة عادية او تراكيب كلاشيهية بل ولا حتى استعارات مسبوقة.. وانما ابتكارات لا تنتهي على امتداد الديوان. تراكيب لغوية تفجر اللغة فتخلق صورا جديدة في محاولة للتعبير عن العالم الذي تصفه الشاعرة فتنبثق التجربة الوجدانية اللغوية في نغمات او موجات متلاحقة في الاول تخلق اللغة حالة نفسية وتعبر عنها في عمق ثم تأخذ هذه التجربة المتخلقة بعدها فتعاود بدورها صياغة مفرداتها.
اننا لا نستطيع الافلات من اسر الاحساس بالاغتراب الطاغي والوحدة كعنصرين اساسيين في خلق عوالم هذه النصوص ولكن كيف ترسم ”سعاد الكواري” بكماتها هذه الوحدة ؟ وكيف تجسد الغربة الموحشة.. القاسية ؟!
"يائسة تلك المرأيا بين ايقاع الطبول
تسعل الريح وحيدة على جلدي
ولا شي ء هنا.. غيري..
وهذا العنكبوت
ارسم حزني فوق تربة عجوزة
وانحنى الى الداخل ثم ادخل الى الفراش في المساء
ابكي قسوة البكاء
كانت غربتي توزع السر على
قمة شمس حائرة."(1)
والشاعرة في هذا النص تحديدا «ترهلات» تستكمل تجربتها اللغوية بمحاولة تجريبية أخرى بايجاد نص مواز لهذا النص تضعه في مستطيلات تتخلل النص الاساسي وكأن هذه الومضات هي المحور الذي يرتكز عليه باقي التجربة او كأنها تطلق للاوعي العنان ليعبر عن نفسه في لحظات كتابة النص.
واذا كان هذا النص يحشد مرادفات الحزن والغربة والصمت وجياع القلق والوجد الطويل وتحتشد كتلة النص لتفجير النهاية السابق الاشارة اليها فان الصور الشعرية عل امتداد الديران والنصوص تتوالى للتنويع من حالة تؤدي لتابعتها، فكأن الوحدة والاغتراب لا يخلقان الا الحزن الذي تعرفه الشاعرة اخيرا فتقول :
”الحزن.. صمت.. وتوق..
يعاوده الاشتعال
فيدخل عين الغراب
ويسقط في قمم الاحتراق
كأشجار صدري
وينبت كالعوسج المتداخل
في صبر هذا الصقيع
ويدخل عين الغراب ورأسي".
ولا شك ان محاولة تفسير النصوص هي مغامرة يشتبك معها احساس قوي بان الشاعرة نصبت فخا من خلال تركيباتها اللغوية المتجددة الفياضة بالرمز غير انه يبقى من المؤكد ان الحالة الوجدانية التي تعبر عنها الشاعرة او حتى تحاول التعبير عنها بامكانها الوصول بشكل ما. ونص ”خيوط الماء" احد هذه النصوص التي تشيع الاحساس بالتورط عند اي بادرة لتفسيرها.. ولكن ما كان كان على اي حال ! ولم يعد الرجوع ممكنا..
”الصعلكة..
تلك التي تسرقني من نخلة..
عارية..
في نكبة المدينة الموحشة
التي تحنط السواد فوقها
افيض بالقشور
من عواسج الوخز
أقيس قيشرة الدم الملامس"
"انسج من غمد الفراغ.. مركبا
واصنع السخط
وحاجز العناكب الضبابية
في كل الروابي..
تتطاير الرموش من مدافن
الخيوط
امنح الغياب لون الافق الكسيح
في صدري ثقوب مشروخة
ينهشني جدار اسفاري
اكور الزمان.. هكذ..”
"وحين تغرق النجوم..
لا اراك في سراديب الوجود "
مرة أخرى نحن في مواجهة تمرد الانثى في مجتمع يتمتع أفراده بصفة «جبين متحجر» يكرس كل قيم النفي لتاريخ الانثى في خطابه وقيمه وتقاليده حتى عل مستوى العلاقة الثنائية التي تبتدئها هي «اهجم كا لمخاض فوق الارتعاش» قبل ان تنتهي «ها قد تخثرت بضعفي صراخات.. الصعلكة». لتبقى هذه الحالة.. وكأنها سمة لا نهائية ينتهي اليها ناموس التحرر الانثوي
“هذا الوحل كان نبض قلب
وتلافيف الكلام
مرحومة بالصعلكة..
عند رصيف خاسر ".
ان هذا الصراع وما يخلقه بن توتر يمثل هاجسا اساسيا لدى الشاعرة.. تعبر عنه باشكال متباينة وتستخدم طاقة شعرية صفة ولغة موحية تتسع للتعبير عن لا مدى الاحباط الذي يحيط بكل توترات هذا الصراع العنيف.. وقوة المقاومة.. وقسوة الضربات التي تتكشف قسوتها كلما كان عشقها هي الانثى الشرقية كبيرا وكلما كانت احلامها شفافة..
”على شهيق العشق والغروب
انزوى فتنهال الفضاءات
واشجار المرايا.. قمر”
“في البحر تبكي موجة مقتولة
ليلهث السور واعناق الهواء.. والقادمون عبر
طوفان الرجاء..
والقطارات تكهرب الرفوف في حقيبة الضياع
فى عيون الفجر الملوثين بالتجول الاخير..
والزجاج يفرش البؤس الذي احاطني..
البحر ينحني..
يناديني لكي ادخل بين الفاصل الازرق
والمدى..
واطلق المخاض عندما يبدأ جوفي بالرجوع طائعا
للانكسار الازلي.. ” (3)
غير أننا لا نستطيع أن نصدق أن الإنكسار الأزلي هو ما تقبل به أنثى الشرق المتمردة التي تعبر عنها الشاعرة في حالات كثيرة فتتساءل من بين الحزن والاغتراب :
”يفتح الليمون شوارعه عائدة..
من سيف الحروف
تدحرج من فوق رأسي
يعانقني
فهل ترحل الرائحة..
لأنهض من بين سوس الليال
وأنشر وجهي وأعلنه..”
”الدهشة :
تطمس الغربة في قاع النهايات السعيدة ” (4)
هكذا تدهشنا الشاعرة لتستخلص تفاؤلا من بين ركامات الشجن والحزن والاحباط والجدارات والوحشة وتستبدلها بالنهايات السعيدة.. كتلك التي تختتم بها ديوانها :
”نرجسية :
اطوي عرش الطاعة..
فيصير الاثير بلادا والتخمين قراصنة..
تحرث الهمس والشبق الشاهق ”.
تبقى الاشارة الى ما جاء بالمقدمة التي قدم لها د. السعيد الورقي حين اشار الى سقوط النسق الشعري لدى الشاعرة خلال بعض المواقع في نثرية تحد من ديناميكية الدراما في الشعر ونتفق معه في ان بعض الجمل الوصفية قد تسببت احيانا في جمود القصيدة وسكونها بدلا من ان تموج بالحركة.. جمل من مثل : العار الصحراوي – التوق الأعظم – المهد السلحفائي – المد الجنسي غير اننا نخطف معه قطعا حول ظاهرة تكرار الصورة.. فهذا ما حاولت الشاعرة جاهدة تجنبه من خلال خلق صور مختلفة ربما للتعبير عن حالة مشابهة كما اسلفنا من خلال ديناميكية توالد الصور وتفجير اللغة خلال النسق الشعري لجل نصوص هذا الديوان.
وتبقى ايضا الاشارة تقديرا لمجهود ضخم ينبىء عن موهبة حقيقية لشاعرة تضع في ديوانها الاول بصمة تعد بالكثير في تجربة شعرية حداثية ونثرية قد تتخذ صفة السبق في «قطر» والجدية في الوطن العربي بشكل عام.
هوامش :
(1) من قصيدة ترهلات ص 29.
(2) من قصيدة العوسج. ص 46.
(3) من قصيدة خصوصيات. ص 25
(4) من قصيدة الدهشة ص 90
سعاد الكواري (شاعرة قطرية)