عيسى مخلوف
هل يمكن الحديث عن الألم من دون الالتفات إلى وجهه الآخر: اللذة؟ هذه التّوأمَة العجيبة المتكاملة كثنائيّات الوجود كلّها، من الفرح والحزن، واللقاء والفَقد، واليأس والأمل، والحياة والموت، إلى ما لا نهاية!
هناك دائمًا التوأم الضدّ: العتمة الهائلة وراء شموس تولد وتموت. تلك العتمة شرط وجود الضوء. ذلك الألم شرط وجود اللذة. التوأمان يولدان معًا، وتفكيكُ الوحدة العضويّة في الثنائيّات يمكن أن يكون تدميرًا لها! بل قد يدمّرها يومًا انكسارُ التوازن بين هذين الضدّين النقيضَين.
يدفع هذا المدخل إلى التساؤل الآتي: ألا يشعر المرء بجسده إلّا حين يتألّم؟ سؤال تستتبعه أسئلة أخرى: هل علينا أن نمرض لنكتشف أهمّيّة الصحّة والعافية؟ وأن نعيش تجربة الفَقد لنعيد اكتشاف الحبّ؟ هل ينبغي أن نتعرّف على الألم لنعرف معنى غياب الألم؟ وهل تتلاشى سُحُب اللذة إذا انتفى وجود الوجع؟ كأنَّ هويّة الجسد لا تستقيم، ولا يكتمل زمنُها، من دون هذه المُزاوَجة، كبَندول ساعة الحائط الذي يتأرجح أبدًا بن طرَفَين اثنين.
لقد استحوذ الألم الجسديّ والنفسيّ على السؤال الفلسفيّ منذ الفلاسفة الإغريق، أي منذ القرن السادس قبل الميلاد حتى اليوم. وطالعنا في الفلسفة الوجوديّة وأطروحاتها، من كيركيغارد وجان بول سارتر إلى ألبير كامو. كان مسعى هؤلاء مسعًى إلى الحرّيّة، بما هي مرادف للضّوء، من خلال معرفة مَقلبها الآخر القائم على القلق والفراغ. وثمّة فلاسفة ربطوا بين الألم والمصير الإنسانيّ ككلّ، كأنّ الألم هو الثمن المطلوب لبلوغ تلك الحرّيّة، وهو الحدود الأخيرة، تمامًا كالموت الذي يحمله الإنسان في ذاته كلّ لحظة، وهو خاصِّيَّته الأساسيّة.
غير أنّ علاقة الإنسان بالألم مفتوحة على تناقضات كثيرة ولا يمكن حصرها في مقاربة فلسفيّة واحدة، لذلك تعدّدت مقاربات الفلاسفة القدامى والمحدثين لهذه الظاهرة وتعريفها، وربطها بالإنسان وبالإنسانيّة جمعاء. وإذا كان البعض يدعو إلى تجنُّب العذاب والمعاناة، فثمّة فلاسفة ينظرون إلى الألم من زوايا أخرى مختلفة، ويعتبرون اكتشافه طريقًا يؤدّي إلى الجوهر، وفي مقدّمة هؤلاء نيتشه الذي دافع عن ضرورة المعاناة، بل عن وجهها الإيجابيّ ودوره الحاسم في حياتنا. أليس هو مَن أطلق العبارة الشهيرة: “ما لا يقتلني يجعلني أقوى”؟ وهنا تقتضي الإشارة إلى أنّ ثمّة معاناة تَقتُل، أي أنّ هناك حدودًا للألم، إذا تجاوزناها أصبحت المعاناة حصّة الكائن الوحيدة، ومعها ينتهي كلّ شيء.
المعاناة، بالنسبة إلى نيتشه، ضرورية وحتميّة، بل هي، أكثر من ذلك، تغذّي المعرفة وتفتح أبوابًا ومنافذَ لا تُفتَح من دونها. المعاناة تأخذنا إلى المناطق الخبيئة في الإنسان، وتكشف لنا الغطاء عن أسرارٍ ما كانت لتظهر لولا بلوغ تلك المناطق التي تدفعنا إلى طرح السؤال حول الذات ومحاولة إماطة اللثام عمّا خُفيَ عنّا. في كتاب “جينيالوجيا الأخلاق”، يلاحظ نيتشه أنّ الإنسان لا يرفض المعاناة في نفسه، بل يريدها ويسعى إليها، بشرط أن يظهر له المعنى والسبب. إنّ غياب المعنى -وليس المعاناة في حدّ ذاتها- هو اللعنة التي حلّت بالبشرية، وما زالت حاضرة. نتبيَّن هذا الموقف أيضًا في نتاج دوستويفسكي الذي يؤكّد أنّ “المعاناة هي الحياة”، وأنه من الأفضل تجريب المشاعر السلبيّة من عدم الشعور بأيّ شيء. نسمعه يقول في “الجريمة والعقاب”: “المعاناة والبكاء، يعني الحياة أيضًا. يعني أنّنا لا نزال على قيد الحياة”. كأنّ المعاناة، هنا، شرط لولادة الوعي، وعي الإنسان لنفسه ولطبيعة وجوده، وهذا ما يُطلق طاقات دفينة تساعد على مواجهة الصعوبات والتحدّيات.
مصدر الألم، عند نيتشه، لا يأتي من الخارج فحسب، بل من داخل الجسد نفسه أيضًا، من الأمراض أو من اختلال توازن الجهاز العصبيّ في حالات الحساسية المفرطة للغرائز التي تصبح ردود أفعالها غير قابلة للسيطرة. يرى نيتشه أن المعاناة، خصوصًا المعاناة الأكثر شخصيّة، هي دائمًا فريدة من نوعها بالنسبة إلى الذات، وتظل “غير مفهومة ويتعذّر الوصول إليها من غالبيّة الآخرين تقريبًا”. ويخلص إلى القول: “نحن مختبئون عن جيراننا”. وبالتالي، فإن المعاناة ليست حتميّة، لكنّها غير قابلة للترجمة: هذه هي مأساة الوجود. هذه المأساة يفصح عنها الشاعر أنسي الحاج في ديوانه “ماضي الأيّام الآتية” حين يتحدّث عن الأوجاع الشخصيّة: “الأوجاع الشخصيَّة لا أحد يعرف كيف”!
المقاربات الفلسفيّة المختلفة تعطينا إذًا إجابات متنوّعة عن أسئلة الألم. فالألم، لدى البعض، هويّة قائمة بذاتها والاسم الآخر للتاريخ نفسه. هناك من يحاول الهرب من الألم والتخلّص منه، وهناك من يسعى إليه بحجّة أنّه مفتاح الوعي وشرط الوجود، كما سبق أن ذكرنا، وهناك من يستعذبه ويعتبره طريقًا إلى اللذة والغبطة، كما في ممارسات جنسيّة ساديّة مازوخيّة، أو في سياق طقوس دينيّة بعضها لا يزال ساريًا حتّى يومنا هذا. (في القرن الثالث عشر الميلادي، لجأت مجموعة من الرومان الكاثوليك، إلى جلد الذات بقَسوة فائقة، وسمّيت المجموعة بالجلّادين، وكذلك جلد الذات عند البعض -في ذكرى يوم عاشوراء- بواسطة السلاسل “الزناجيل”، إضافة إلى التطبير، شجّ الرؤوس بالسيوف أو السكاكين وغيرها من الآلات الحادّة، وكذلك اللطم، بضَرب الأيدي على الصدور).
ثمّة ممارسات افتراضيّة لهذا النوع من العنف الذاتي أيضًا، تُطالعنا في كتابات كثيرة من أبرزها ما ورد في السيرة الذاتيّة لتيريزا الآبليّة (1515-1582)، في الفصل التاسع والعشرين (الفقرة 17). في هذا الفصل، وَصْفٌ لرؤية شاهدت فيها القدّيسةُ ملاكًا شابًّا وجميلًّا يقف بجانبها: “رأيتُ في يده رمحًا ذهبيًّا طويلًا، كان من الممكن أن يظنّ المرء أنَّ في طرفه حريقًا صغيرًا. بدا لي أنّه كان يدخل في قلبي من وقت لآخر، وأنّه يخترقني وصولًا إلى أسفل أحشائي، وعندما يُخرِجه منها كأنّما يُخرجها معه أيضًا (…) كان الألم عظيمًا لدرجة جعلني أَئِنّ وأتأوَّه. مع ذلك، فإنّ حلاوة هذا الألم المُفرط بلغت درجة كان من المستحيل معها أن أرغب في التخلُّص منه”… ولقد جسَّدَ هذه الرؤية النحّات الإيطالي برنيني في منحوتته الشهيرة، “نشوة القدّيسة تيريزا”، الموجودة منذ القرن السابع عشر في كنيسة “سانتا ماريا ديلّا فيتوريا” في مدينة روما.
لا يوجد الألم في الصحو أو كرؤية فحسب، بل في الرُّقاد أيضًا. ينام الوعي فينا، واللاوعي لا ينام. الألم جزء من اللاوعي، يطالعنا في الأحلام والكوابيس. مرّات، يأتي عنيفًا فيرعبنا ويصحّينا، ونشعر عندئذ أنّه أشدّ وطأة في الكوابيس ممّا هو في الواقع. مرّات أخرى، نتلمّس الدمع في حَدَقات العيون، وندرك أنّنا بكينا، على غفلة منّا، ونحن نيام.
هناك مَن يعاني ويرفض المعاناة، وهناك مَن يقبلها ويمضي معها حتّى الموت، باسم فكرة يؤمن بها. مثالًا على ذلك، سقراط الذاهب إلى حتفه ثمنًا للحظة يشعر فيها بأنه حرّ، أو الفدائيّ الذي يضحي بنفسه من أجل قضيّة. وهناك مَن يتقاسم الألم كتَقاسُم الحبّ والخبز. يرى بعض الفلاسفة أنّ رابطة الألم الذي نتقاسمه أقوى من رابطة الحبّ. ولا يمكن التمييز في بعض أنواع الألم بين ألم نفسي (صامت ويخفي آثاره) وألم جسدي (ظاهِر للعيان). من أسباب هذه الآلام الظلم واللامساواة، واستغلال الإنسان للإنسان عبر العصور، وكذلك العنف المتجذِّر في النفس.
ولئن خمدت الحروب، قليلًا أو كثيرِا، بين الأفراد، أو بين الدول حيث تهدأ في مكان وتندلع في مكان آخر، فهناك حروب لا تنتهي، وتنتقل من عصر إلى آخر، ومنها حرب التمييز ضدّ المرأة. يقول ابن عربي إنّ “المرأة محلُّ الانفعال”. لكن، مَن أكثر من هذا الكائن انفعالًا؟ الغزالة تجد نفسها في الأدغال، والعيون متربّصة بها. بجسدها تحديدًا. الجسدُ الطعين، فريسةَ العيون، قبل أن تصطاده السِّهام من كلّ صوب. جسد القدّيس سيباستيانوس جسدها، وأوجاعها قديمة قِدَم الأرض. ثمّة من يستطيع أن يزيح الصخرة عن كتفه، أن يلتفت نحو السماء وينادي. ثمّة مَن ينجو قليلًا من الغرَق. من الأغلال التي طوَّقَت وتطوِّق العقل والجسد. أمّا محاصرة المرأة فهي شيءٌ مختلف لم يعرف التاريخ مثيلًا له. ما مِن مُفاضَلة في الأوجاع، لكنّ المرأة المتّهمة في جسدها، المُذَلَّة في جسدها، المتألّمة في جسدها، الحائرة في أمر وجودها، مُلاحَقَة بالتمييز حتّى في النصوص المؤسِّسة الأولى، وقد جاء في أحدها حرفيًّا: “بالآلام تَلِدين”، وضمن سياق لا يخلو من التشَفّي والانتقام.
هذا العنف المتعدّد الأشكال، يجد جذوره العميقة في الماضي البعيد. وقد يكون الإنسان بنى السجون قبل أن يبني حظائر الحيوانات، بحسب بعض علماء الاجتماع. أمّا التعذيب الذي يمارَس داخل السجون فهو رمز للتعذيب المؤسَّسي الذي يحطّم الشبكة الاجتماعية التي تُشَكِّلنا كبشر. يرى الفيلسوف الفرنسي موريس ميرلو بونتي، في كتابه “الإنسانية والرُّعب”، أن ثمّة ما يجمع بين الطبّ والتعذيب، فهما يستقرّان في الفضاء الحميم للجسد الحسَّاس للإنسان، ويستعمرانه: أحدهما لإنقاذه والآخر لتدميره، وهذا ما يحيل على خوف يأتي من أزمنة سحيقة، وهو أشدّ سوءًا من الخوف من الموت، ألا وهو الرعب من الألم اللامتناهي، في شكل افتراضيّ ومُحتَمَل. بالنسبة إلى ميرلو بونتي، إنّ الألم الذي يولّده الاستبداد في نفوس الناجين من جحيمه قد يستمرّ في الروح الجماعيّة أجيالًا متلاحقة.
الألم الناتج عن ممارسة التعذيب هو لونٌ آخر من الألم. التعذيب يكسر الإنسان نفسًا وجسدًا. يُقَرِّب المعذَّب من الجنون، ويجعله يشعر بأنه سيكون شخصًا آخر، وأنه لن يعود في استطاعته التعرُّف إلى نفسه، ولا يعود بإمكان الآخرين أن يتعرّفوا إليه. إنّه الشعور بِتَحَوُّل ذاتيّة الفرد وتدميره، كما عبَّرَ بطل رواية جورج أورويل، “1984”، في خضوعه للأخ الأكبر، التجسيد المثالي للإرهاب السياسي. فالتعذيب استراتيجية قائمة بذاتها، كما وصفها ميشال فوكو في كتابه “المراقبة والمعاقبة”، ورأيناها كيف تُمارَس في سجون كثيرة، من سجن أبو غريب إلى سجون الأنظمة الشمولية التي حوّلت بلدانًا بأكملها إلى معتقلات.
الذي يتعرّض للتعذيب يُجرَّد من جسده، ويخسر حقّه في الدفاع عن نفسه، ويصاب باليأس الذي لا عودة منه. ينطفئ الجزء الأوّل من حياة الأسير بدءًا من الضربة الأولى التي يضربها الجلّاد في اللحم الحيّ. في الجسد الذي لا يعود مُلك نفسه، بل مُلك الذي يعذّبه ويراه يتألّم وهو، في حالات كثيرة، يكون في طريقه إلى الموت.
لماذا هذه القسوة كلّها؟ لماذا هذا “الهوَس المرَضي بالدم والتعذيب”، وفق تعبير عالِم الأنثروبولوجيا الفرنسي كلود ليفي ستروس؟ وما معنى أن يموت شخص تحت التعذيب؟ كيف يمكننا أن نسمع أو نقرأ عن شخص “مات تحت التعذيب” ولا تتغيّر نظرتنا كلّيًّا إلى أنفسنا وإلى العالم، ولا يتصدَّع حولنا الهواء؟
لقد درست حنّة آرنت الفكر الاستبدادي و”فنّ إرهاب الشعوب”، وتضمّنَ كتابها المُعَنوَن “إنسانيّة ورُعب” قراءة للتجربتين النازيّة والبولشفيّة لفهم معنى التسلُّط، وركّزت على كيفيّة تَعامُل هاتين التجربتين مع المعتقلين داخل السجون بحيث يُعزَل السجين تمامًا عن العالم الخارجي ويُنظَر إليه بصفته شخصًا ميتًا، وحين يموت بالفعل، لا يُعلَن عن موته. تقول سياسة الموت هذه إنّ السجين ميت بالضرورة، وإنّه لم يولد ولم يوجد أصلًا، ولا جدوى من أيّ محاولة لمعرفة شيء عن مصيره.
داخل السجن، لا يعود الفرد شخصًا محدّدًا، قائمًا بذاته، بعد أن يُنزع عنه اسمه وهويّته وكلّ ما يتميّز به ككائن حيّ. يعمل النظام الاستبدادي، لكي يتمكّن من بلوغ أهدافه، داخل السجن كما في المجتمع ككلّ، على تجريد الإنسان من مقوّمات وجوده، فيفرض رقابة كاملة ليس على الحرّيّات الفرديّة والعامّة فقط، بل كذلك على النوازع والانفعالات والأحاسيس، وحتّى على الأحلام، وذلك ليصبح سائر أفراد المجتمع كأنّهم شخص واحد مُكرَّر ومُستَنسَخ. يتعلّق نجاح نظام الاستبداد، إذًا، بمدى قدرته على تطويع الكائنات البشريّة وتدجينها والتعاطي معها كحيوانات مُعدَّلة. أمّا المُخلصون لهذا النظام فهم الذين ينصاعون كلّيًا لإرادة العنف. لا رأي لهم ولا موقف. يؤدّون وظيفتهم، مهما كان نوعها، بصورة عمياء. ويتماهون مع دورهم الذي يختزل حياتهم، وهم بذلك جزء من أدوات القهر.
إشاعة الرُّعب هي جوهر الاستبداد نفسه، والهدف السياسي الأعلى منها جَعلُ أفراد مجتمع ما في حالة دائمة من الخوف والامتثال للسلطة الواحدة المُطلَقة. وثمّة وسائل عدّة لإلغاء الآخر: المقصلة، الفأس، السيف، الرصاصة، الشنق، غُرَف الغاز… لكن، هناك من يرغب في أكثر من ذلك: التعذيب قبل القتل. هناك من يرغب في سَحل الذين وقع الاختيار عليهم لأنّهم رفضوا الانصياع للقطيع المأخوذ إلى الذبح. لقتل هؤلاء، لا بدّ من اللجوء إلى الوسائل القصوى: التعذيب بما هو موت أوّل قبل الموت، وتَشْيِيء الإنسان وسَلخ جلده، ومَعسه كحَشَرَة، بوحشيّة تكشف عن الوجه الأكثر ظلمًا وظلامًا في النفس البشريّة.
لقد خرجَ تَمَثُّل تجربة السجن من الواقع إلى الأعمال الأدبيّة والفنّيّة، ومنها، على المستوى الأدبي، كتاب “شرق المتوسّط” لعبد الرحمن منيف، و”يوميّات قلعة المنفى/ رسائل السجن 1972-1980″، لعبد اللطيف اللّعبي، وكتاب “القوقعة، يوميّات متلصّص” لمصطفى خليفة (اللعبي وخليفة عاشا هذه التجربة)، أمّا على المستوى الفنّي فطالعتنا في أعمال فنّانين كُثُر منهم غويا وميوزيتش وبيكاسو، وكذلك الفنّان التشكيلي فرانسيس بيكون الذي رسمَ الوجوه التي شوَّهها الألم، والأفواه المفتوحة على الصرخة الأخيرة. وفي الآونة الأخيرة، رأينا رسوم الفنان السوري نجاح البقاعي التي عُرضَت في العاصمة الفرنسيّة، وقد وثَّق من خلالها عمليّات التعذيب كما عاشها وعاينها داخل السجن الذي وجد نفسه فيه. كشفت رسوم البقاعي ومحفوراته أهوالَ التعذيب والموت التي تضاهي، بل تتجاوز، في أحيان كثيرة، ما ورد ذكره في وصف جحيم الأديان التوحيديّة، أو جحيم الكاتب الإيطالي دانتي في “الكوميديا الإلهيّة”.
الحياة مسرح للألم، وفقَ الفيلسوفين الألمانيين شوبنهاور وبيتر سلوتردايك. بالنسبة إليهما، لا يوجد تاريخ للفلسفة إلّا بشرط واحد: سرد جراح الإنسان، طالما أنّ حياة هذا الكائن ليست سوى صراع من أجل الوجود. هناك دائمًا ضحيّة وجلّاد، لكن، وبحسب شوبنهاور، “تزداد معاناة الفرد بقدر ما يزداد تأديبه”… مع بداية العصر الصناعي في الغرب وسيطرة الإنسان على الموارد الطبيعيّة، ظنّ عدد من المفكرين، ومنهم كارل ماركس، أنّ في إمكان العالم أن يتغيّر، وأنّ التطوُّر العلمي والتكنولوجي لا بدّ أن يواكبه تطوُّر إنساني، يقلِّل من آلام البشر ومعاناتهم، لكنّ الوعد لم يتحقّق والتطوّر التكنولوجي الذي يتغيّر معه العالم لم يكن مصدر سعادة للإنسان. ولم تتمكّن المجتمعات البشريّة من تأسيس عقد اجتماعي جديد قائم على أسس الحرية والعدالة. أكّدت على ذلك، في القرن العشرين، الحربان العالميّتان والحروب المستمرّة، من زمن إلى آخر، بلا هوادة. ولقد تناول مفكّرون وفلاسفة من القرن الماضي ظاهرة الألم، ودرسوها ضمن أُطُر جديدة، وأنماط عيش مستحدثة، رافقَت “مَكنَنَة” الحياة اليوميّة، وعلاقة الإنسان بالآلة، ومن هؤلاء المفكّرين والفلاسفة ميشال فوكو وجيل دولوز وحنّة آرنت وجاك ديريدا (الذي يتحدّث عن “ألم بلا نهاية ولا قَعر”).
من جانب آخر، يقول المفكّر الفرنسي ميشال فوكو إنّ “الألم ليس حقيقة في حدّ ذاته. إنّه مثل المصباح الذي يشتعل بالاشتقاق من تيّار تأتي منه الطاقة… وهو ليس أبدًا سوى التفسير الدماغي لِما يُثيرُه ويتأثَّر به، ويزداد الألم بقدر ما تتكرّر هذه الإثارة نفسها”. فما الذي تغيَّر، على هذا الصعيد، منذ قديم الأزمنة حتّى اليوم، سوى تصاعُد الألم المشفوع بالخَوف، هذا الخوف الذي بلغ حدودًا مروّعة مع ابتكار الأسلحة المتطوّرة، وفي مقدّمتها السلاح النوويّ.
حيال هذا الواقع، التفت بعض الفلاسفة المعاصرين إلى أطروحات الفلسفة الإبيقوريّة التي يختصرها البعض بصفتها مذهب اللذة، لكنّها، في الواقع، أكثر تعقيدًا من اختزالها بكلمتَين. إنّها مذهب اللذة في غياب الألم الجسدي وفي التحرُّر من الخوف، خصوصًا الخوف من الموت. وهي فلسفة التخلُّص من الألم وتَعَلُّم كيفيّة عدم الشعور به من خلال طُرُق معيّنة منها التعمُّق في معرفة العالم والحدّ من الرغبات، وكذلك البحث عن السعادة رغم الألم. ولقد دعا إبيقور إلى استخدام العقل والمخيّلة، بدلًا من الخرافات، لمواجهة هذا “الوحش” الذي ينقضّ على الجسد والنفس معًا، كما دعا إلى الركون إلى الحكمة، وهي إحدى السُّبُل الأساسيّة إلى الحرّيّة لأنها تحرّرنا من “رقّ الانفعالات”… في زمن العلوم والتقدّم التقني والتكنولوجي، هل من إفادة لعالمنا الراهن من نصيحة فلسفيّة آتية إلينا من أزمنة بعيدة، ومن تأمّلات وومضات كتلك التي تلفّظت بها فيرجينيا وولف: “جمال العالم، البالغ الهشاشة، له حَدّان، أحدهما الضّحك، والآخر هو الألم الذي يمزّق القلب”؟
في القرن التاسع عشر، اعتبر الكاتب الفرنسي غوستاف فلوبير، أنّ الحبّ هو الذي دفعه، في روايته التاريخيّة “سالامبو” “نحو ديانات وشعوب لم يعد لها وجود”. وقال في استشرافه المستقبل: “يومًا ما، سيتذابح ملايين البشر في جَلسة واحدة”. سالامبو” ليست فقط رواية قرطاجة، بل رواية الحروب التي تُلطّخ تاريخ البشر بالدِّماء والآلام، جيلًا بعد جيل وزمنًا بعد آخر. لكنّ هذه الرواية تكشف أيضًا ازدواجيّة الإنسان: الابتكار والخَلق من جهة، ومن جهة ثانية، التدمير والقتل… بين غريزة الحياة وغريزة الموت (بين “إِيرُوسْ” و”تاناتُوسْ”)، تتجلّى قوّة الروح عند البعض في قدرتهم على الحبّ وسط هذا الكمّ الهائل من الحقد! هؤلاء، وإن كانوا يمثّلون القلّة الأكثر تعرُّضًا للألم، هم الذين يلتفتون إلى الجهة التي يأتي منها الضوء، يحلمون ويزدادون إيمانًا بنجمة ميلاد جديدة.
الهوامش
: من المراجع التي أعتمد عليها لكتابة هذا النص
Arthur Schopenhauer, Douleurs du monde. Pensées et fragments, traduit par Jean Bourdeau, Éd. Rivages, Paris, 1991.
Nietzsche, Le gai savoir, traduit par Pierre Klossowski, Éd. Gallimard, Folio, Paris 1989.
Dostoïevski, Souvenirs de la maison des morts, Traduit par Henri Mongault et Louise Desormonts, Éd. Gallimard, Folio, Paris, 1977.
Maurice Merleau-Ponty, Humanisme et terreur, Éd. Gallimard, Paris, 1947,
Jacques Derrida, Jürgen Habermas, Le « concept » du 11 septembre/ Dialogues à New York (octobre-décembre 2001), Éditions Galilée, Paris, 2004.
Peter Sloterdijk, Critique de la raison cynique, Paris, Éd. Christian Bourgois, Paris, 2000.
Sigmund Freud, L’avenir d›une illusion, traduit par Anne Balseinte, Jean-Gilbert Delarbre, Daniel Hartmann, Presses universitaires de France, Quadrige, Paris, 1998.
Fritz Zorn, Mars, traduit par Olivier Le Lay, Éd. Gallimard, Paris, 2023.
Kenzaburô Ôé, Notes de Hiroshima, traduit par Dominique Palmé, Gallimard, Folio, Paris, 1996.
Michel Foucault, Numérisation d›un manuscrit original consultable à la BnF, département des Manuscrits, cote NAF 28730.
Abdellatif Laâbi, Chroniques de la citadelle d’exil, Éditions de la Différence, Paris, 2005.
Marguerite Duras, La douleur, Éd. P.O.L., Paris, 1985.
– عبد الرحمن منيف، «شرق المتوسّط»، المؤسّسة العربيّة للدراسات والنشر، بيروت، طبعة العام 2004.
– مصطفى خليفة، «القوقعة، يوميّات متلصّص»، دار الآداب، بيروت، 2008.
– سعدالله ونّوس، «عن الذاكرة والموت»، (لا ذِكر لاسم الدار ولتاريخ الصدور).
– أنسي الحاج، «ماضي الأيّام الآتية»، دار الجديد، الطبعة الثانية، بيروت، 1994.