خوليو كورتاثار ترجمة: خالد الريسوني*
وكانوا يخرجون في أوقاتٍ معينةٍ لمطاردة الأعداء.
كانوا يسمونها الحرب المزهرة.
في منتصًف الدهليز الطويل للفندق، فكَّرَ أنه كانَ يجِبُ أن يكون الوقتُ متأخرا وسارع بالخروج إلى الشارع وسحبِ دراجته النارية من الزاوية التي يسمح له البواب المجاور أن يحتفِظ بها. في متجر مجوهرات في الركن رأى أن الساعة كانت تشيرُ إلى التاسعة إلا عشر دقائق؛ كان سَيَصلُ في مُتَّسَع من الوقتِ إلى حيث كان ذاهباً. وكانت الشمس تتسللُ من بينِ المباني العالية لمركز المدينة، وكان هو -لأنه بالنسبة لذاته، ولكي يمضي في التفكير، ليسَ له اسم -ركب الآلة وهو يتلذذ بالنزهة. كانت الدراجة تصدر هديرها بين ساقيه، بينما كانت ريح باردة تجلد سرواله…
سمح بأن يتجاوز الوزارات (اللون الوردي والأبيض) وسلسلة المتاجر بواجهات العرض اللامعة في شارع سنطرال. كان يدخل الآن الجزء الأكثر إمتاعاً من الجولة، والنزهة الحقيقية: شارع طويل تصْطَفُّ على جانبيه الأشجار، مع حركة مرور قليلة وفيلات واسعة تسمح للحدائق أنْ تصِلَ حتى الأرصفة، بالكاد تُحَدُّ بسياجاتٍ خفيضةٍ. لربما كان إلى حد ما في سهوٍ، لكنَّهُ كانَ يمضي مسرعا على اليمين كما هو واجِبُ، ترك لنفسه أن تنساق مع اللمعان، عن طريق التوتر الضئيل لذلك اليوم الذي بدأ للتو. لربما منعه استرخاؤهُ اللامتعمد من توقع الحادثة. عندما رأى المرأة التي تقف عند الزاوية وهي تلقي بنفسها مسرعة في الطريق رغم الإشارات الضوئية الخضراء، كان الأوانُ قد فاته لإيجاد حلول سهلة. فرمل بقدمه ويده، منحرفاً إلى اليسار. سمع صرخة المرأة، ومباشرة مع الصدمة فقد الرؤيةَ. كان الأمرُ مثلَ النوم بشكلٍ مباغتٍ.
استعاد فجأة وعيه بعدَ الإغماء. وكان هنالك أربعة أو خمسة شبان يسحبونه من تحت الدراجة النارية. كانَ يُحسُّ طعمَ الملح والدم، وكانتْ تؤلمُهُ إحدى ركبتيه، ولمَّا رفعوهُ صرخَ، لأنه لم يكنْ يستطيع أن يتحمل الضغط على ذراعه اليمنى. الأصوات التي لم يكن يبدو أنها تنتمي إلى الوجوه المتدلية فوقه، كانت تُشجِّعُهُ بدعابَاتٍ وتأمينات. التخفيفُ الوحيد عن نفسهِ كان سماعه تأكيداتٍ بأنه كان من حقه عبور الزاوية. سأل عن المرأة، وهو يحاولُ التحكم في الغثيان الذي كان يغالبُ حلقه. وبينما كانوا يحملونهُ مستلقياً على ظهره حتَّى صيدلية قريبة، عَلِمَ أن المُتَسبِّبَةَ في الحادثة لم يصبها سوى بعضِ الخُدوش في ساقيها. “أنتَ بالكادِ لَمسْتَها، ولكنَّ الضَّرْبَة جعلتها تقفز على الآلة جانباً …”؛ آراء، ذكريات، على مهلٍ، أدخلُوهُ مستلقياً على قفاه، هكذا سيكونُ أفضل، وشخص ما ببدلةٍ واقيةٍ من الغبارِ وهوَ يُعطيه ليَشرب جرعةً أنعَشَتْهُ في ظليلِ صيدليةِ حَيٍّ صغيرةٍ.
وصلت سيارة إسعاف الشرطة بعد خمس دقائق، فحملوه على نقالة ناعمة حيث أمكنه أنْ يتمدَّدَ على هواه. وبكل تبصُّرٍ، لكن وهو يعرفُ أنه كان تحت تأثير صدمة فظيعة، أعطى أوراقَ هويَّتهِ للشُّرْطِيِّ الذي كانَ يُرافِقُه. الذراع لم يكنْ يؤلمُهُ تقريباً. ومِن جرحٍ في حاجبِهِ كانَ الدَّمُ يقطُرُ على كلِّ وجهه.
مرة أو مرتين لعقَ شفتيه لكي يشربه. كانَ يشعرُ بالارتياح، لقد كانتْ حادثَةً، حظّاً سيِّئاً، بضعةُ أسابيع من التوقف ولا شيء أكثر من ذلك. قال له الحارسُ أن الدراجة النارية لا تبدو جِدَّ مُدَمَّرَةٍ. قال هو “هذا طبيعيٌّ”. “ما دمتُ قدْ تحمَّلْتُها فوقي…”ضحك الاثنان ثمَّ صافحه الحارس عندما وصلا إلى المستشفى وتمنى له حظا سعيدا. ها قد بدأ الغثيان يعودُ شيئًا فشيئًا، بينما كانوا يأخذونه على نقالة متحرِّكةٍ حتَّى أحدِ أجنحة الواقعة في الخلف، وهم يمرون تحت الأشجار المليئة بالعصافير، أغلق عينيه وتمنى لو كان نائما أو مخدَّرا بالكلوروفورم. لكنهم أبقوه لفترة طويلة في غرفة تعبقُ برائحة المستشفى، وهم يملؤون بطاقةً، وينزعون ملابسه ثمَّ يلبسونه قميصا رماديّاً خشناً. كانوا يحركون ذراعه بحَذَرٍ، دون أن تؤلِمَهُ. كانت الممرضات يمزحن طوال الوقت، وإذا لم يكن الأمرُ بسبب تقلصات المعدة فقد كان سيحسُّ بأنَّهُ على أحسنِ ما يرام، بلْ ويكادُ يكون سعيدا للغاية.
أخذوه إلى قاعة الفحص بالأشعة، وبعد عشرين دقيقة نقلوه إلى قاعة العمليات، واللوحةُ بعدُ لا تزال مبللة على صدره مثل شاهد قبرٍ أسودَ. اقترب منه شخص يلبسُ الأبيض، طويل القامة نحيفا، وأخذ ينظر إلى الصور بالأشعة السينية. يدا امرأة كانتا تجعلان رأسه في وضعٍ مُناسبٍ، شعرَ أنهم كانوا يمرِّرُونَهُ منْ نقالةٍ إلى أخرى. اقترب منه الرجل اللابسُ الأبيضَ مرة أخرى، مبتسما، بِشيْءٍ يلتَمِعُ في يده اليمنى. ربتَ على خدهِ وقامَ بإشارةٍ تجاهَ شخصٍ يقِفُ في الخلف.
كان غريبا كحلم لأنه كان مليئا بالروائح، وهو لم يكن يحلم أبدا بالروائح. أولا رائحة المستنقع، مادام على يسار الطريق كانت تبدأ البرك، والأهوارُ التي لا يعود منها أحد. لكن الرائحة تلاشَت، وبدلاً من ذلك جاء عبيرٌ مُرَكَّبٌ ومُعْتِمٌ مثل الليل الذي كان يتحركُ فيه هارباً من الأزتيك. وكان كل شيء طبيعيًا جدًا، اضطر إلى الهروبِ من الأزتيك الذين كانوا يصطادون البشر، وكانت فرصته الوحيدة في الاختباء بالمنطقة الأكثر كثافة في الغابة، مع الحرص على عدم الابتعاد عن الطريق الضيق الذي لا يعرفهُ أحدٌ غيرهم، الغرباء.
أكثر ما كان يُعذِّبُهُ هو الرائحة، كما لو أنه بعد لا يزالُ في القبول المطلق للحلم شيْءٌ سينكشفُ ضدَّ ذاك الذي لم يكن معتادا، والذي حتى ذلك الحين لم يكن قد شارك في اللعبة. “تُشتَمُّ رائحةُ الحَرْبِ”، فكرَ، وهو يلمسُ غريزيًا الخنجرَ الحجريَّ الذي يجتازُ حزامَهُ منَ الصُّوفِ المَنْسُوج. صوت لا مُتوقَّعٌ جعله يجثم ويبقى بلا حراك وهو يرتجفُ. أن يُحِسَّ الخَوْفَ لم يكن غريباً، في أحلامه. كان الخوف وفيرا بغزارة. انتظر، وهو متخفٍ بأغصان شجيرة والليلة عديمة النجوم. وجدَّ بعيدٍ، ربما على الجانب الآخر من البحيرة الكبرى، كان يجب أن تكون مشتعلة نيرانُ احتراقِ المخيَّماتِ في العراء. وهجٌ ضارب إلى الحُمْرةِ كانَ يُخَضِّبُ ذلكَ الجُزْءَ من السماء. لمْ يتكرَّرِ الصوتُ. لقد كان مثل غصنٍ مكسورٍ. ربما كانَ حيوانا هاربا مثله مثل رائحة الحرب. اعتدلَ في مهلٍ، وهو يستنشقُ الهواء. لم يكنْ يُسْمَعُ أيُّ شيءٍ، لكن الخوف كان لا يزالُ هنالك مثل الرائحةِ، ذلك البخورُ العذبُ جدّاً للحرب المزهرة. كان يجِبُ المُواصلةُ حتى بلوغِ قلبِ الغابةِ وتجنب المستنقعات. كان يتلمس طريقه جاثماً في كل لحظة لكي يلمَسَ الأرض الأكثر قسوة من الطريق، مُتَقدِّماً بضعَ خطواتٍ. كانَ يتمنى لو يكونُ قادرا على أن يركض، لكن المستنقعات كانت تخفق بجانبه. على الطَّريقِ المُعتمِ بحثََ عن الوِجهةِ. حينئذ أحسَّ بنفخةٍ من الرائحة التي كانت أشدَّ ما كان يخافه، وقفز بشكلٍ يائسٍ إلى الأمام.
– “سوف تسقطُ من السرير”. قال المريض في السرير المجاور: لا تقفزْ كثيراً، أيُّها الصديق.
فتح عينيه وكان في الوقت متأخرا، مع شمس قد انحدرتْ في النوافذ الشاسعة للغرفة المديدة. وبينما كان يحاول أن يبتسم لجاره، ابتعدَ جسدياً تقريبا من للرؤية الأخيرة للكابوس. كانت ذراعهُ، في جبيرة من الجِصِّ، معلقة على جهاز بمثاقيل وبكراتٍ. شعر بِعَطَشٍ، كما لو كان يركضُ كيلومترات، لكنهم لم يكونوا راغبين في إعطائه كثيرا من الماء، بالكادِ لتبليلِ شفتيه وتمكينه من جُرعةٍ.
كانت الحمى تغالبه ببطء وكان بإمكانه أن ينام من جديد، لكنه كان يستمتع بلذة البقاء مستيقظا، مغمض العينين، وهو يستمِعُ إلى حوار المرضى الآخرين، مجيبا بين الفينة والأخرى على سؤالٍ ما. ورأى عربة صغيرة بيضاء تصل وقد تم وضعها بجوار سريره، وفركت ممرضة شقراء الجزء الأمامي من فخذه بالكحول، وغرزت إبرة سميكة موصولة بأنبوب يصعد حتَّى زجاجة مليئة بسائل متلألئ. وجاء طبيب شاب بجهاز من معدنٍ وجلدٍ ضبطه على ذراعه السليم للتحقق من شيء ما. كان الليل ينزلُ، وكانت الحمى تسحبه بهدوء إلى حالة كانت فيها الأشياء تتخذ أهمية مثلما عبر منظار المسرح، كانت حقيقية وحلوة وفي الآن نفسه كريهة شيئا ما. مثل أن تشاهد فيلما مُمِلاً وتُفَكِّرَ أنَّ الأمور في الشارع رغم ذلك هي أسوأ، وتواصلُ البقاء.
أُحْضِرَتْ سلطانية من مرق ذهبي رائع يعبق برائحة الكراث والكرفس والبقدونس. قطعة صغيرة من الخبز، أشهى من مأدبة بكاملها، مضَتْ تتفتت شيئا فشيئا. لم تعدِ الذراع تؤلمُهُ على الإطلاق فقط في الحاجب، حيث تمَّ غرْزُه، كانَتْ ترتجفُ أحيانا وخزةٌ حارَّة وسريعة. ولمَّا تحوَّلت النوافذ أمامه إلى بقع زرقاء داكنة، فكَّرَ أنه لن يكون صعباً عليهِ أن ينام. كان غير مستريح قليلا، على الظهر، لكنه عندما مرَّرَ لسانه على شفتيه الجافتين والساخنتين تذوق طعم المرق، وتنهدَ من السعادة، واستسلم.
في البداية كان الأمر ملتبسا، جذب نحو الذات لجميع الأحاسيس الواهنة أو المُشوَّشة خلال لحظة. كانَ يُدركُ أنَّهُ يركضُ في الظلام، رغم أن السماء التي في الأعلى تجتازُها رؤوس أشجار كانت أقل سواداً مما تبقى. فكَّرَ “الطريق”. “قد غادرت الطريق.” كانت قدماه تغرقان في حَشِيَّةٍ من الأوراق والطين، ولم يعد يستطع القيام بخطوة دون أن تجلدَ أغصانُ الشجيرات جذعه ورجليه. لاهثاً، إذ علِمَ أنه محاصَرٌ رغم الظلام والصمت، انحني للاستماع. لربما كانتِ الطريق قريبَةً، مع الأضواء الأولى للنهار كان سيمضي لرؤيتها مرة أخرى. لا شيء يمكن أن يساعده الآن على العثور عليها. اليد التي دون إدراك منه كانت تمسكُ بقبضة الخنجر، ارتقى مثل عقرب في المستنقعات حتَّى عنقه، حيث تتدلى التميمة الواقية. وإذ كان بالكاد يحرك شفتيه وهو يُهمهمُ بصلاة الذرة التي تجلبُ الأقمارَ السعيدة، وبالابتهال العالي جداً، لواهبة الخيرات الأجنبية. لكنه كان يشعر في الوقت ذاتِه أن كاحليه كانا يغرقان ببطء في الوحل، وكان الانتظار في عتمة غابة السنديان المجهولة يتحولُ غير قابلٍ للاحتمال. بدأت الحرب المزهرة بالقمر وقد انقضى منها الآن ثلاثة أيام وثلاث ليال. إذا تمكن من الالتجاء إلى أعماق الغاب، تاركاً الطريق فيما وراء منطقة المستنقعات، ربما لن يتعقبَ المحاربون أثره. فكر في عدد الأسرى الذين سوف يكونون قد وقعوا بين أيديهم. لكن العدد لا يهُمُّ بل الوقت المقدس. سوف يستمرُّ القنص حتى يعطيَ الكهنة إشارة العودة. كل شيء كانت له أرقامه ونهايته، وهو كان داخل الزمن المقدس، على الجهة الأخرى المقابلة للقناصة.
سمع الصرخات واستقام بقفزةٍ، والخنجر في يده. كما لو أنَّ السماء قد اشتعلت في الأفق، رأى مشاعلَ تتحركُ بين الأغصان، جدَّ قريبةٍ. كانت رائحة الحرب لا تُطاقُ، ولمَّا وثبَ العدوُّ الأولُ بتلابيبهِ، كادَ يشعرُ بالمتعة وهو يغرسُ النصل الحجري ملء صدره. كانت الأضواء والصيحات المبتهجة تحيط به. تمكن من قطع الهواء مرة أو مرتين، وحينها أمسكَ به حبلٌ من الخلف.
– إنها الحمى، قال المستلقي على السرير الذي بجواره. أنا نفسي كان يحدثُ معي الشيءُ ذاتُه عندما أجريت لي عملية جراحية على المعي الاثنا عشري. خذ ماء وسترى كيف أنك ستنام جيدا.
بجانب الليلة التي عاد منها، بدا لهُ الدِّفْءُ الدافئ للغرفة لذيذا. كان المصباح البنفسجي يَسهرُ في أعلى الجدار الخلفي مثل عينٍ تحرسُهُ. كان يُسمَعُ سعالٌ، وتنفُّسٌ قويٌّ، وأحيانا حوار بصوت منخفض. كل شيء كان لطيفاً وآمناً، دون مُضايَقةٍ، ودون … لكنه لم يكن يرغبُ في مواصلةِ التفكير في الكابوس. كان هناك الكثير من الأشياء التي يمكنُ أن ينشغلَ بها. شرعَ في النَّظَرِ إلى الجص على ذراعه، البكرات التي تسندُهُ بشكلٍ مُريحٍ في الهواء. كانوا قد وضعوا له قنينة مياه معدنية على طاولة السرير. شَرِبَ من عنق الزجاجة، بتلذذٍ. كان يميِّزُ الآن بين الأشكال في الغرفة، الأسِرَّةَ الثلاثين، والخزانات بواجهاتها الزُّجاجية.
لا يجب أن يكون محموماً بهذا الشكل، كان يُحِسُّ وجهه منتعشاً. وكان حاجبه بالكاد يؤلمُهُ، مثل ذكرى. ورأى نفسه مرة أخرى يغادر الفندق، ويُخرجُ الدراجة النارية. من كان يظن أن الأمر ستنتهي هكذا؟ كان يُحاول أن يثَبِّتَ لحظة الحادثة، وغضِبَ عندما لاحظ أنَّ هناك ما يشبِهُ الثُّقبَ، فراغٌ لم يكن يستطيع ملأه. ما بين الصدمة واللحظة التي رفعوه فيها عن الأرض، إغماءٌ أو أيّ عارضٍ آخر لم يكُن يسمح له برؤية أيِّ شيء. وفي نفس الآن كان لديه شعور بأن ذلك الثقب، ذلك اللاشيء، قد استدامَ أبدية. لا، ليس حتى زمناً، بل كما لو في ذلك الثقبِ قد مَرَّ عبر شيء ما أو قطعَ مسافات هائلة. الصدمة، الضربة القاسية ضد الرصيف. في كل الأحوال، لمَّا خرج من البئر السوداء، كان يكاد يشعر بارتياح بينما الرجال يرفعونه عن الأرض. بألم الذِّراع المكسورة، والدم في الحاجب المنفلق، والكدمة في الركبة. مع كل ذلك، ارتياح بالعودة إلى النهار والشعور الذاتي بأنك مساند وتتلقى المساعدة. وكان الأمر غريبًا. في وقت ما سوف يسأل الطبيب المداوم. الآن عاد النومُ يتمكن منه، يُلقيه على مهلٍ إلى الأسفل. كانت الوسادة ناعمة جداً، وفي حنجرته المحمومة برودة الماء المعدني. ربما يتمكنُ فعلا من أن يستريح، بعيدا عن الكوابيس اللعينة. وكان الضوء البنفسجي للمصباح في الأعلى يتلاشى تدريجيًا.
بِمَا أنَّهُ كان نائما على ظهره، لم يستغرب الوضع الذي وجد نفسه عليه مرة أخرى، ولكن بدل رائحة الرطوبة، كان حجرا يرشحُ نزازاتٍ، قد سدَّ حنجرته وأجبرَهُ على الاستيعاب. غير مُجْدٍ فتح العينينِ والنظر في كل الاتجاهات. كان يلفُّهُ الظلام المطلق. أراد أن يعتدل في وضعه وشعر بحبال معصميه وكاحليه. كان مشدوداً إلى الأرض بأوتاد، على أرضية من ألواحٍ حجرية مُثلَجَةٍ ورطبة. كان البرد يغلب ظهره العاري وساقيه. بفكهِ الأسفلِ حاول بشكلٍ أخرق أن يلمسَ تميمتَه، وعرف أنهم قد اقتلعوه منه. كان الآن تائها، ليس بإمكانِ أي ابتهالٍ أن ينقذه من النهاية. بعيدا، كما لو كان يتسبب بين أحجار الزنزانة، سمع طبول الاحتفال. كانوا قد أحضروه إلى معبد الهنود الحمر، وكان في الزنزانات السفلية المظلمة لسجن المعبد في انتظار دوره.
سمع صراخا، صرخة مبحوحة كانت ترتدُّ عبر الجدران. صرخةٌ أخرى، تنتهي بأنين. قد كان هو صارخا في الظلمات، صارخا لأنه كان ما يزال حيا، كلُّ جسده كان يدافع جسده عن نفسه بالصرخة مما كان سيأتي، من النهاية المحتمة. فكر في رفاقه الذين يملؤون الدهاليز الأخرى، وفي أولئك الذين كانوا يصعدون سُلَّمَ التَّضحية فعلا. صرخ من جديدٍ، في اختناق، كان غير قادر على فتح فمه تقريبا، وكان فكاه مُتشنِّجان، وفي الآن ذاته كما لو أنهما من المطاط، سينفتحان ببطء، وبجهد لا نهائيّ. صرير مرتاج هزَّه مثل سوط. تشنج، وهو يتلوى، قاتل لكي يتخلص من الحبال التي كانت تنغرسُ عميقا في جسده. ذراعه اليمنى، الأقوى، كان يسحبها إلى أن أصبح الألم لا يطاق وكان لزاما عليه أن يستسلم. رأى الباب المزدوج ينفتح، ووصلته رائحة المشاعل قبل الضوء. بالكاد يتزنرون بمآزر الحفل، اقترب منه مساعدو الكاهن وهم ينظرون إليه بازدراء. كانت الأضواء تنعكس في جذوعهم المتعرقة، في الشعر الأسود المليء بالريش. لانت الحبال، وبدلا منها أمسكت به أيادٍ ملتهبة، وقاسية مثل البرونز. أحسَّ نفسه مرفوعا، دائمًا مستلقيا على ظهره، مسحوبا من قبل السدنة الأربعة الذين كانوا يحملونه عبر الممر. حاملو المشاعل كانوا يسيرون إلى الأمام، وهم يضيئون بشكل غامض الممر ذي الجدران المبللة والسقف الخفيض جدا حدَّ أن السدنة كانوا يضطرون إلى حني رؤوسهم. الآن كانوا يأخذونه، كانوا يأخذونه، كانت النهاية. مستلقيا على ظهره، على مسافة متر من السقف الصخري الحي الذي كان يضاء بين لفينة والأخرى بانعكاس المشعل. حينما، بدل السقف ولدت النجوم وعلا أمامه السلم الخارجي المشتعلُ بالصرخات والرقصات، فستكون النهاية. لم يكن الممر ينتهي أبدا، لكنه سوف ينتهي، فجأة سيشمُّ رائحة الهواء الطلق المليء بالنجوم، لكن ليس بعد، كانوا يسيرون وهم يحملونه إلى ما لا نهاية في الظليل الأحمر، وهم يسحبونه بفظاظة، وهو لا يرغبُ في ذلك، لكن كيف يوقف ذلك إذا كانوا قد مزقوا التميمة التي كانت جوهر قلبه الحقيقي، ومركز الحياة بالنسبة له.
خرج بوثبة إلى ليلة المستشفى، إلى السماء المنبسطة العذبة والمرتفعة، إلى الظل الناعم الذي كان يحيط به. فكَّرَ أنه كان يجب عليه أن يصرخ، لكن مجاوريه كانوا ينامون في هدوء. على مائدة الليل، كانت زجاجة الماء تحتوي على شيء من فقاعة، من صورة شبه شفافة ضد الظل الأزرق للنوافذ. لهث بحثا عن التخفيف على الرئتين، نسيان تلك الصور التي كانت لا تزال تعلق بجفنيه. وكان في كل مرة يغلق عينيه يراها للتو تتشكل، وكان يعتدل مرعوبا لكنه يستمتع في الآن نفسه بالمعرفة بأنه كان مستيقظا الآن، وأن اليقظة كانت تحترسه، وأنه قريبا سيطلع الفجر، مع النوم العميق الجيد الذي لذلك الوقت، دونما صور، ودونما أي شيء … كان من الصعب عليه أن يُبقِيَ عينيه مفتوحتين، كان النعاس أقوى منه. بذل جهدًا أخيرًا، بيده السليمة رسم حركة تجاه زجاجة الماء. لكنه لم يتوصل إلى الإمساك بها، انغلقت أصابعه مرة أخرى على فراغ أسود، وكان الممرُّ لا نهائيّا، وصخرة بعد صخرة، بمشاعل ساطعة مباغتة، وهو مستلقٍ على ظهره يئن في انطفاء لأن السقف كان على وشك الانتهاء، كان يرتفع، وينفتح مثل فم الظلام، والسدنة يستوون ومن العلو سقط هلال على وجهه، حيث العينان لا يرغبان في رؤيته، ينغلقان وينفتحان في يأس وهما يرغبان في العبور إلى الجانب الآخر، إعادة اكتشاف السماء المنبسطة التي تحمي هذه الغرفة. وفي كل مرة تُفتح فيها العينان كان الليل والقمر بينما هم يصعدون بِهِ السُّلم، والآن يتدلى برأسه نحو الأسفل، وفي الأعلى كانت النيران، والأعمدة الحمراء من أحمر معطر، ودفعة واحدة رأى الحجر الأحمر، لامع من دم نازف، والذهاب والإياب لأقدام للمُضَحَّى بهِ الذي كانوا يسحبونه لإلقائه أسفلَ السَّلالم الشمالية. بأملٍ أخيرٍ ضيَّقَ جفنيه، وهو يئنُّ ليستيقظ. خلال ثانية واحدة اعتقد أنه سيحققُ ذلك، لأنه كانَ مرَّةً أخرى ثابتاً في السرير، بمأمن من التأرجُح ورأسه في الأسفل. لكنه كان يشُمُّ رائحة الموت ولمَّا فتح عينيه رأى الشَّكلَ الدَّمَويَّ للكاهن المكلَّف بتقديم القربان قادمًا نحوه بالسكين الحجري في يده. تمكن من إغلاق جفنيه مرة أخرى، رغم أنه كان الآن يعرف أنه لن يستيقظ، أنه كان مستيقظًا، وأن الحلم الرائع كان آخر، سخيفا مثل كل الأحلام. حلمٌ كان يسيرُ خلاله عبر طرق غريبة لمدينة مدهشة، بأضواء خضراء وحمراء تشتعلُ دون جذوة أو دخان، وبحشرة معدنية ضخمة تئزُّ تحت رجليه. في الكذبة اللانهائية لذلك الحلم، كانوا قد رفعوه أيضاً عن الأرض، واقترب منه أيضا أحدهم بسكين في يده، وهو يتَمدَّدُ مستلقياً على ظهره، على ظهره وهو بين الحرائق وعيناه مغلقتان.
** خوليو كورتاثار: كاتب أرجنتيني، ولد في بروكسيل سنة 1914، من أب أرجنتيني وأم فرنسية، عاش طفولته في بوينوس أيريس، ودرس في مدارسها ونال في جامعتها على شهادة الماجستير، جمع بين كتابة الشعر والسرد والسينما، أصدر ديوانه الشعري الأول تحت عنوان: “حضور”، وأتبعه بـ: “الملوك” لكن مجموعته القصصية المعنونة بـ: “مصارع الوحوش” هي التي فرضت الاعتراف العالمي به ككاتب متميز، في سنة 1951 استقر بشكل نهائي في باريس بينما كان يشتغل كمترجم في منظمة اليونيسكو، نشر في أواخر الخمسينيات وبداية الستينيات من القرن الماضي عدة أعمال سردية لقيت تجاوبا مع جمهور القراء ومع النقد، وعلى الأخص المجموعتان القصصيتان المعنونتان بـ: “نهاية اللعبة” و”الأسلحة السرية”، والروايتان: “الجوائز” و”الحجلة”هذا العمل الأخير يعتبر عمله الأشهر والأكثر تجريبية، لأن المؤلف يقترح طريقتان مختلفتان لقراءته، هذا عدا أعمال أخرى مثل: “رحلة حول اليوم في ثمانين عالما”، و”الجولة الأخيرة”…وغيرها. توفي كورتاثار في باريس سنة 1984.