في سديم لجة الصباح الباكر، عندما كانت الديكة تستيقظ، وتدفع بنداءاتها المتعالية بقايا خيوط الظلام، كان صوتُ عَمّي الأجش يخترق سمعي، وييقظني حتى أسبقه في الذهاب إلى الحقل، ثم يعقبني عندما تغدو الشمس في خاصرة السماء.
أحياناً يأتي راكباً حماره عندما يحتاج البيت إلى خضار وفاكهة، كي نملأ الخرج عند عودتنا، وأحياناً يأتي سيراً على قدَميه عندما لا يحتاج البيت شيئاً من الحقل، أو يحتاج شيئاً خفيفاً يمكننا حمله بأيدينا.
نمكث في مشقة عنايتنا بالحقل حتى ينال منا الأرق أقصى ما يمكنه أن ينال، ويمدّ الغروب خيوطه إلى معولينا، عند ذاك تستجرّنا خطواتنا المنهكة حتى نبلغ البيت دون أن نجسر على فعل شيء سوى أن تناول عشاءنا على عجل دون أن نهنأ به، ثم نسلّم بدنينا للفائف نوم عميق تحت سطوة الإنهاك.
أغمض عينَي، ولا أفتحهما إلاّ عندما يخترق صوته أذني في غسق تلك الفسحة المبكرة التي أكثر ما يطيب فيها الاستغراق في النوم عقب كل ذاك الجهد العضلي المضني الذي بذلته: جميل.. انهض ياولد.. نوم الصباح يجلب الفقر ولا يطعمنا خبزاً.
وعندما أتماطل في النهوض وأنا أمطط جسدي برغبة جامحة لاستكمال نومي، يسحب الغطاء عني بشدّة وهو يصرخ بصوت محتقن: هل طرشت يا جميل؟!.
ثم يمدّ قبضته إلى كتفي، ويسحبني من الفراش بقوة وصوته المحتقن يتصاعد: قم بسرعة واغسل عن وجهك بول الشيطان.
أتجه إلى إبريق الماء، أملأه من البئر، تحت وطأة النوم الذي أفسده علي عمّي في ذاك البيت الذي لم يسبق لي قط أن شبعتُ فيه نوماً منذ أن وعيتُ على الدنيا، وها أنذا في العشرين من عمري، ولكنني أعلم بأنني يتيم وقد مات أبواي عندما كنتُ في الثانية من عمري، فكفلني عمّي.
أشرع في غسل وجهي تحت شجرة اللوز المرّ المزروعة في الحوش منذ سنوات طويلة، وكلمات عمّي تتداعى إلي بأنني عندما أتكاسل في النهوض من الفراش مبكراً، يكون الشيطان في تلك الليلة قد بال على وجهي حتى أمكث في فراشي متكاسلاً بلا عمل، وكي لا أدعه يغلبني، عليّ أن أسارع في غسل وجهي دون أي لحظة ترد.
آنذاك تكون زوجة عمي قد أعدّت صحناً من لبن الجاموس إلى جانب صحن من الحلاوة مع رغيف من الخبز، أتناول طعامي مسرعاً، وما ألبث أن أبرح على عجل.
كان عمي دوماً يقول لي: لقد خُلقنا لنكدّ ونشقى، نرتدي الثياب الفضفاضة الخشنة، وتتدفق قطرات العرق من أبداننا، دوماً تكون ثيابنا مبللة، في الصيف بعرق أبداننا، وفي الشتاء بمياه الأمطار.
اعتادت أسماعنا على قصف الرعود والصواعق، اعتادت عيوننا على رؤية الغيوم الداكنة، وقدحات البروق، اعتدنا أن نغفو على عواء الذئاب، وفحيح الأفاعي، وزمجرة الضباع.
لا نملك سوى الكد والشقاء نطوي بهما صفحات الهموم من حياتنا.
لذلك قسّم الأرض إلى قطعتين، قطعة لزراعة الحنطة والعدس، وقطعة لزراعة الحمّص، والفول، والفاصولياء، والجبس، والبطيخ، تحفها أشجارالعرموط، والصنوبر، والكستناء، والبندق.
كان ذلك يجعل من عملنا مستمراً على مدار اثني عشر شهراً في السنة.
* * *
ذات ليلة ربيعية على غير طبيعتها، صرتُ أتقلّبُ في الفراش دون أن تدنو من جفني سنة سبات، وكما يومض برق في كبد سماء ملبدة بكثافة غيوم دكن، ومضت لمعة فكرة في رأسي، جعلتني أنتفض على إثرها كما لو أن صاعقة ارتمت من على بدني؛ لبثتُ أترنّح مشتت الذهن تحت سطوة تلك اللمعة الغافلة كما لو أنني كاهن الليل، حتى أدركني صوت عمي هادئاً لأول مرة وهو يراني أقعد في الفراش عندما باغتني بدخوله، وغدا يحادثني بسحنة بشوشة، ويثني علي لأنني اعتدتُ على النهوض من تلقاء نفسي في ميقات الذهاب إلى الحقل، وهذا طالع حسن.
كانت ثمرة الفكرة آنذاك قد بلغت اختمارها في مخيلتي، فلم أنبس بكلمة حتى خرجتُ من البيت، وعند وصولي إلى الحقل، تعلّقت أنظاري في الطريق الذي سيأتي فيه عمّي حتى لاح طيفه.
في تلك اللحظة سرتْ قشعريرةٌ في عروقي أحسستُ معها بأن ناقوساً قُرع في أعماقي.
لبثتُ على لظى الترقب أرمق ارتفاع كتلة الشمس إلى خاصرة السماء حتى بلغتني خطوات عمّي، عندئذ سعيتُ إلى مواراة أي علامة للإرباك الذي أدور في مداره.
طلب عمّي أن أتجه إلى قطعة الأرض المزروعة بالخضار والفاكهة، في حين مضى شطر القطعة الأخرى.
وقفتُ بجانب شجرة دون أن تعتريني أي رغبة في العمل رغم أنني حملتُ الرفش كي أجري بعض التسويات حول الأشجار.
بعد قليل من الوقوف، رأيتني أجلس بمحاذاة الشجرة أنظر إلى الشمس تبسط أشعتها على الأرض، وأشرد بفكرة تجعلني أخرج من الحقل؛ عند ذاك تناهي إلى سمعي دبيب شديد وقع على إثره نظري على ثعبان ضخم يتقدم بسرعة نحوي، لا أعرف كيف تأهبتُ واقفاُ وأنا أحمل الرفش، وفي لحظة خاطفة تمكنتُ من وضع مقدمة الرفش على رأسه وبتُّ أضغط بكلتا يدَي، لكن الثعبان أخذ يفحُّ فحيحاً قوياً، ويبدي مقاومة عنيفة حتى يسحب رأسه من تحت حديدة الرفش، وبعد لحظات رأيته يلف حبلا طوله على العصا حتى بلغ يدَي وأخذ يلفهما بطوله ويضغط بشدّة شعرتُ معها بأن قوتي بدأت تخور، ومن جهة أخرى امتلأتُ رعباً وأنا أنظر إلى حجمه الكبير، وسمعي يلتقط فحيحه.
لم يبق أمامي سوى أن أستمر بالضغط على رأسه، لأنه تمكّن مني مثلما تمكنتُ منه، ولم يعد بمقدوري الهرب، كما لم يعد بمقدوره ذلك، وكلما أضغط عليه، يزيد من ضغطه على يدَي القابضتين على الرفش بحزم.
في تلك اللحظات الرهيبة تخيلتُ بأنه على وشك أن يسحب رأسه، فيكون قد تمَكّن مني بشكل جيّد، حينها تسرّب إلى نفسي هاجس بأن هذا الثعبان سوف يسلبني حياتي في وقتُ تطلعتُ فيه إلى مرحلة مفصلية جديدة من هذه الحياة، ولو كان قد حدث ذلك قبل أن أشرف على هذه الانطلاقة الجديدة، لربما كان الأمر سياناً، لكن الآن عليّ أن أدافع بكل ما أوتيتُ من قوة حتى أمنع هذا الثعبان من أن يودي بي إلى هوة ذاك المصير القاتم.
عند ذاك، بدأتُ أدنو بِجَزمَتي البلاستيكية الضخمة التي أنتعلها حتى استويتُ بقدمي على صفحة مقدمة الرفش، وأخذتُ أضغط حتى خُيّل لي أن الثعبان فقد الحراك؛ حينها وكَمَن خرج للتو من قعر جب، تركتُ عصا الرفش، وصرتُ أنظر بأنفاس متدافعة إلى الثعبان يحرّك ذيله، وهو يلفظ أنفاسه الأخيرة.
عبد الباقي يوســـف