أَلَنْ مانْسلو
ترجمة وتقديم: كُميل الحرز-كاتب ومترجم سعودي
لطالما كان التاريخ، ولا يزال مختبرًا لمنظري وعلماء السرد، هذا إضافة للإنتاج المتنامي للرواية التاريخية الذي شهده العالم مؤخرًا، ولا سيما العالم العربي. فمنذ النصف الآخر من القرن المنصرم، قدم منظّرو السرد مقاربات حول التاريخ والكتابة التاريخية، منطلقين -في المجمل- من أطر نظرية تضرب جذورها في حقل الدراسات السردية أو نظرية السرد، وذلك في محاولة منهم لفهم العلاقة القائمة بشكل عام بين السرد التخييلي والآخر التاريخي، وللوقوف أيضًا على خطوط التماس والتماهي والفروقات بينهما {جورج لوكاش (1962)، فليشْمان (1971) هَيدِنْ وايت (1978، دُورت كُون (1997)، مارغريت أتوود (1997)، سارة جونسون (2002)، مُونيكا فلُودِرْنيك (2009)، عبدالله إبراهيم (2011)}.
ولكن من ناحية أخرى، قلّما نجد أن المؤرخ أو الباحث في حقل التاريخ يولي عناية فائقة لدراسة عملية الكتابة التاريخية أو التأليف التاريخي، منطلقًا من الاتجاه المعاكس. بمعنى يشتكي المشهد الأكاديمي في حقل التاريخ من شح في الدراسات، التي تمتح من معين النظرية السردية، وتوظف مفاهيمها البنيوية الكلاسيكية أو ما بعد الكلاسيكية، وتتوسع في مقاربة بناء التاريخ؛ وذلك بغرض استقصاء الأساسات السردية للكتابة التاريخية، ومقاربة الأساليب والخيارات السردية التي ركن إليها المؤرخ في صوْغ سرديته التاريخية، واستيعاب مدى تأثير هذه الخيارات على عملية التأليف التاريخي، والنتائج التي توصل إليها. فلربما يكون مرد تباينات المؤرخين وتأويلاتهم المفارقة التي خلصوا إليها في مناقشتهم لقضية معينة هو عملية الكتابة التاريخية عينها، عملية السرد التي تتضمن صناعة التاريخ، عوضًا عن أن يكون منشؤها مثلًا المعطيات التاريخية، ودلالات أحداث الماضي (مانسلو 2007).
ولعل البروفيسور البريطاني الراحل أَلَنْ مانْسلو (1947-2019) من أبرز من انبرى للخوض في هذا المجال؛ بغية إرساء فهم مغاير لطبيعة التاريخ عبر التأكيد على الجانب التأليفي السردي فيه. فقد عمد إلى تسليط الضوء، كما في هذه الدراسة، على الآليات أو الطريقة التأليفية التي تشكل جوهر عمل المؤرخ، والتي ساهم في تهميش مقاربتها أو إقصائها تسيّد التصور الإبستمولوجي للتاريخ بين أكثرية المؤرخين الحداثيين على وجه الخصوص، على حساب نظيره الأنطولوجي وموازاة هذا الأخير للسرد التخييلي في ذلك. ويرتكز هذا التصور الإبستمولوجي على إيمانهم الصلب بالنزعة التجريبية، والتحليل/الاستدلال، والنزعة التمثيلية، الذي يأتي بمثابة سرديتهم الكبرى التي تؤسس لتصورهم عن المعرفة التاريخية. وعليه، يشدد مانسلو على إبداء بالغ الأهمية للاستفاضة في دراسة شكل التاريخ، بجانب تلك الأهمية التي يوليها عموم المؤرخين للمضمون.
كان مانسلو في بداياته البحثية مطمئنًا إلى أن ما ينتهجه في دراساته الأكاديمية حول التاريخ التي تنهض على المبادئ العلمية الوضعية والحداثية ضمن سياق العلوم الإنسانية يعد الخيار الأمثل والملائم في تصوره عن التعاطي مع الماضي، وإحكام البحث التاريخي. كان يصنّف نفسه على أنه (عالم) تاريخ. ولكن سرعان ما تبدد إيمانه الراسخ في هذا المنعطف الذي تتبناه هذه الدراسات، متكئًا على المكتسبات النظرية الما بعد حداثية، والتقويضية/التفكيكية. ويدين مانسلو أساسًا بالفضل في تحوله الجذري إلى ما طرحه هيدن وايت في كتابه الذائع الصيت «ما وراء التاريخ: التخييل التاريخي في أوروبا القرن التاسع عشر» (1973)، {وإلى فصله أيضًا المعنون بـ(النص التاريخي كعمل أدبي) (1974[1978])، والمنشور ضمن كتاب «مدارات الخطاب: مقالات في النقد الثقافي»}، الذي سعى فيه وايت لإبانة مفهوم التخييل التاريخي، ومقاربة بناء التاريخ وشكله بوصفه عملًا سرديًا/أدبيًا، حيث تماثل عمليةُ التدوين التاريخي صناعة السرد التخييلي. وتتجلى هذه العملية السردية -في جانب منها- في لجوء المؤرخ إلى تحبيك الأحداث التاريخية، واستعمال الأساليب الأدبية، حاله حال السارد والروائي. فعمل المؤرخ لا يكمن فحسب في اختيار الأحداث، والمعطيات التاريخية، وتوظيف الأطر النظرية، أملًا في تفسير هذه الأحداث، وفهم ما جرى في الماضي على أغلب الظن، بل يكمن أيضًا في تمثيل ما وقع في الماضي، وعرض مضمونه في صيغة حبكة سردية مألوفة للقارئ، معولًا في ذلك على أنماط الحبكة السردية {الكوميدية، والرومنسية، والتراجيدية، والساخرة، أو مزيج منها، كما أشار وايت (1978[1974])، وآخرون إلى ذلك لاحقاً} التي قعّد لها نُورثروب فراي (1957)، والتي تحمل في طياتها معانيَ معينة.
أحدثت إسهامات هيدن وايت شرخًا عظيمًا في تصور مانسلو عن مفهومي الماضي والتاريخ، كما كان لها الأثر البارز -كما يذكر في أغلب كتاباته وحواراته- في تحول مساراته البحثية واهتماماته التاريخية، بحيث قادته تلك إلى اتخاذ موقف متشكك حيال الوضع الأنطولوجي والإبستمولوجي للتاريخ. انتقد مانسلو الرؤية الأنطولوجية، التي تفيد بأن «الماضي والتاريخ مترادفان» (2016: 109)، الرؤية التي كرّسها تعليمه الجامعي، والتي تلقى كذلك رواجًا واسعًا بين أغلبية المؤرخين على حد وصفه. فالتاريخ من وجهة نظرهم هو مجرد وعاء سردي يقوم مقام الماضي. بينما يرى مؤلف هذه الدراسة بأن كلا منهما له كينونته الوجودية المختلفة عن الآخر. فالماضي يعني ذاك الزمن المنقضي الذي يمثل ما قبل اللحظة الآنية، والذي يتعذر بلوغه، بينما يجسد التاريخ ذاك العمل السردي الذي ينسجه المؤرخ عن الماضي الغائب (1997، 2007، 2012، 2016). أي إن النص التاريخي الذي يدونه المؤرخ لا يأتي بتاتًا كمرادف للماضي، أو يُفهم على أنه مجرد سردية بديلة عنه. ولكنه يعني -بالمفهوم الأنطولوجي- تلك «السردية التي أُلّفت عن الماضي». ففي ظل غياب الماضي، لا يبقى بين أيدينا، سوى تلك السردية التي ألّفها المؤرخ عمّا يستحيل الوصول إليه (الماضي) (2016: 112). لذلك، نجد أن مانسلو يبدي اهتمامًا موسعًا بالطبيعة السردية للمعرفة التاريخية، وكذلك بعملية التأليف والتقنيات التي يستعملها المؤرخ في سبيل صياغة الماضي وإحالته إلى تاريخ (الماضي كتاريخ)، إلى قصته/نسخته عن الماضي الغائب.
وعلى النقيض من المؤرخين الحداثيين، الذين ينظرون للتاريخ على أنه إعادة بناء الماضي بصورة موضوعية، يرى صاحب كتاب «تقويض التاريخ» (2007)، بأن التاريخ «بناء تخييلي»، وليس محض اكتشاف قُدّم في قالب سردي. ففي رأيه، يمثل هذا التصور طبيعة التاريخ، التي تتأتى بالدرجة الأولى من تورط المؤرخ تأليفيًّا بوصفه قاصًا أو ساردًا في تعاطيه والماضي، وعملية إحالته إلى تاريخ. وبهذا المعنى، لا يُعد التاريخ مجرد مرآة عاكسة لواقع الماضي، أو تمثيل أو إعادة تمثيل لما وقع في الماضي على الأرجح، وإنما يشكل التاريخ تلك الخيارات والتدخلات التخييلية، التي يمكن للمؤرخ من خلالها فحسب تناول الماضي والخوض فيه. لذا، يحاجج مانسلو بأن صناعة التاريخ أو عملية الكتابة التاريخية أوسع من أن تؤطر فيما أصّل له المؤرخون الحداثيون بصورة أساسية، ألا هو الموضوعية، والنزعة التجريبية، والنزعة التمثيلية، والاستدلال، والدلالات الأكثر ترجيحًا، ومفهوم مطابقة الحقيقة (مانسلو 2012: 8).
تنهض مقاربتي حول المؤرخ بوصفه مؤلفًا على الفرضية الأنطولوجية القائلة بأن التاريخ يحظى بالوضع ذاته الذي يحظى به السرد التخييلي. تحتم عليّ هذه الفرضية أن أتجاوز الفهم الإبستمولوجي، الذي تعتنقه الغالبية العظمى من المؤرخين، والمنوط بمدى فعالية إيمانهم بالنزعة التمثيلية. ولهذا، تبين وجهة نظري التشككية أن من الأحرى فهم إنتاج علاقة الماضي بالحاضر -في المقام الأول- من خلال فهم صناعة السرد. لا يلمح هذا أو يشير -بأي حالٍ من الأحوال- إلى رفض الوضع المؤول إبستمولوجيًّا المتمثل في العبارات المنفردة للاعتقاد المبرر، والاستدلالات الرصينة. ولكن، إذا ما اتبعنا منطق صناعة السرد، فهذا يعني بأن على المؤرخين الممارسين أن يعيروا مزيدًا من الاهتمام لعملية تأليف «الماضي كتاريخ».
ويفضي بي هذا إلى التمحيص في التداعيات التطبيقية التي تتأتى من التمييز الأنطولوجي بين «الماضي» و«التاريخ»1. إذ درجت العادة أن يقبل المؤرخون دونما تساؤل أن بإمكانهم إنتاج «مرويات تاريخية تمثيلية»، وأن ما ينتجونه دليل على (ما بعد الواقعة)، وهو دليل كافٍ وضروري على إمكانيتهم «معرفة الماضي»، وما يعنيه على أغلب الظن. غير أني أود أن أفترض أن مثل هذه المعرفة القائمة على المصادر أو (الأرشيف) تتكئ على التأويل في (جميع مفاصلها)، كما أود أن أقترح أن العمليات الشائكة التي تتضمن تأليف «الماضي كتاريخ» تحتل مكانة محورية في تلك العملية التأويلية.
ولئن آمنا بهذه الحجة، فهذا يدل على أن المؤرخين المحترفين بحاجة إلى (مباشرة) اشتغالاتهم على عملية تأليف التاريخيات عوضًا عن استهلالها بالمضمون الذي يدوّنونه. لا يشي هذا بفكرة جديدة على الإطلاق. يمكن أن نعثر على بحث مستفيض حولها في مؤلفات طيف واسع من المنظرين، إذ لا نعثر عليها فحسب في مؤلفات هيدن وايت، وميشيل دي سيرتو، وبول ريكور الذائعة الصيت، بل نجدها أيضًا في أعمال جاك دريدا، ورولان بارت، وميشيل فوكو، إضافة إلى مؤلفات وَين بووث وجِيرالد برنس، وفرانك أنكرسمت، وميكا بال، ومونيكا فلودرنك، وديفيد هرمان، وجيرار جينه، وسيمور تشتمان2. وكما توحي الأسماء الواردة في هذه القائمة، فإن إطار الحقل الأكاديمي الذي يتموضع فيه المؤرخون هو ما أتاح لهم التفكير والبحث ضمن ما يعد تقليديًا تخومًا معرفية ضيقة جدًا. لذا، سأقارب في هذه المقالة، فرضية (المؤرخ بوصفه مؤلفًا)، محيلًا إلى عدة مفاهيم دارجة في صناعة السرد التخييلي: (أ) القصة، (ب) الخطاب، (ج) السرد، (د) فضاء القصة، (هـ) الصوت، والتبئير، (و) التزمّن (المحاكاة، والترتيب الزمني، والمدة، والتواتر)، (ز) الخلق التخييلي لقصدية الفاعل (الشخصية)، والتشتخيص، والحدث3.
في نظر معظم المؤرخين، يذهب بهم التأمل في مفهوم التأليف عبثًا إلى ما وراء «اكتشاف الماضي أو كشفه أو استجلائه»، الأمر الذي تقره وتجيزه التقاليد المنهجية التي تمرسوا عليها في حقل التاريخ. وهذا ما سأطلق عليه «تاريخًا من نمط معين»4. مقترنًا بأساسياته، يستدعي ما افترضه بالضرورة إدراك البناء (التخييلي) للتاريخ الذي يضطلع به المؤلف المؤرخ. فأحد أهم أسباب رفض مؤرخي ذاك النمط لاستقراء هذا التصور، التحذير من أن اعتبارات كهذه لا تمت بصلة لهمومهم المعرفية الرئيسة، التي تُعنى بـ«تقصي المعطيات التاريخية»، ومن ثم «فهم القصة بجلاء». وإذا ما وضعت العلاقة بين «المعطيات التاريخية والقصة» موضع التساؤل، فستكون تداعياتها وخيمة على موضوعية المؤرخين، وسعيهم وراء الحقيقة، واعتقادهم بـ«عِبر التاريخ». ولكن حجتي تبين أنه في حال انتفت عملية التأليف في السرد، ينتفي التاريخ.
يحوم الجدل في النصف الآخر من القرن الفارط حول العلاقة بين «الماضي»، و«التاريخ»، فيُعرّف هذا الأخير على أنه سردية أُلّفت (عن) الماضي. ويتمحور هذا الجدل حول إشكالية أساسية، ألا وهي الوضع الأنطولوجي للتاريخ بوصفه سردية بديلة عن الماضي الغائب. وبهذا أعني أن ذلك «مدار الحديث» في التاريخ. ببساطة، لن يفي بالغرض البتة إقرار أقلية من المؤرخين الممارسين بوجود «عنصر شعري» في التاريخ بصفة دائمة. ويعد مثل هذا التسليم الذي يبديه هؤلاء (الذي عادة ما يكون على مضض) استجابة متواضعة تجاه ما يصنعه المؤرخ بوصفه مؤلفًا، بل هي استجابة غير منطقية؛ لأن ما يدلون به بصورة شبه ثابتة هو ألّا مجال للتغيير في سمة التاريخ الإبستمولوجية الجوهرية، وفي وظيفته أيضًا استنادًا لمثل هذا الإقرار والتسليم.
جلّ ما يطرحه مثل هذا الزعم تعضيد التصور القائل بتماثل «الماضي»، و«التاريخ» من الوجهة الأنطولوجية. لكن، عند افتراض أن التاريخ تأويل سرديّ، يتعين على المؤرخ أن يمتثل لرؤية هيدن وايت المركزية، التي تفيد بأن لابد أن يفكر المؤرخون في كيفية تخييل الماضي، مثلما يفكرون في النص السردي الذي نسجوه تخييليًا، على أن يقوموا فقط بـ«الكشف» عن الماضي في المصادر، ومن ثم تدوينه مستندين إلى الأدلة الإحاليّة الملائمة، ومتحزمين بالحماسة الاستدلالية. ويأتي رد المؤرخين المنحازين للإبستمولوجيا على هذه الحجة التشككية الجذرية من شقين. يصر أصحاب هذه النزعة على أن التورط المفرط في الانعكاسية الذاتية في السرد (أ) يعوقهم عن مزاولة الاستقصاء التاريخي «بصورة محكمة»، كما (ب) لابد أن يفضي ذلك أيضًا إلى حالة خطرة من النرجسية التأليفية، التي يصل بها الأمر أن تحجب «واقع» الماضي «الذي يتسنى لنا معرفته». وكما يجعل ذلك أيضًا تعدد «الحقيقة» و«الموضوعية» رهن الخطر.
مهما يسعى هؤلاء المؤرخون إلى تلافي الحقيقة وتبعاتها، فإن ما يدونونه يظفر بالوضع الإبستمولوجي والأنطولوجي للتعبير السردي. وفي ظني، يلزمنا منطق هذا الموقف ألّا ننظر للتاريخ إلا على أنه سرد مستوحى مجازيًا على كافة أصعدة الإحالات الإشارية. وبناء عليه، يجسد نص تاريخي يدور حول الهجرة الجماعية للشعب الإيرلندي نحو الولايات المتحدة بعد أن عصفت بهم مجاعة البطاطس (مجاعة أيرلندا الكبرى) في منتصف أربعينيات القرن التاسع عشر (التي تصف، في اعتقادي، سلسلة من الوقائع التي حدثت بالفعل في ضوء كل الأدلة التجريبية)، يجسد تلك الأحداث (التي أثبتت على نحو سليم)، وذلك من خلال الإحالة إلى عبارات الاعتقاد المبرر. أضف إلى ذلك، أن بإمكان المؤرخ أن يوظف بشكل مشروع استدلالاته كوسيلة لإبداء الحكم على ما قد تعنيه تلك الأحداث. غيّر أن هذه الآليّة لا يمكن لها أن توجد «خارج» خطاب مفبرك (زَدِرﭬارت 2004، 51-147).
لذلك، على المستوى الإبستمولوجي والأنطولوجي والدلالي، تدرب غالبية «المؤرخين المعتبرين» على تقبل أن التاريخ، الذي أنتجته الإبستمولوجيا، لا يصبو إلى أن يكون ذا «طابعٍ تأليفي» (ناهيك عن الوعي الذاتي المرتبط بالتأليف). وقد طُبع هذا الاعتقاد في أذهانهم منذ دراستهم الجامعية. ويدل الرافد الأساسي لهذا التصور على أن التأكيد على الوضع الأنطولوجي للتاريخ كسرد، سيتمخض عنه حتمًا عاقبة الانزلاق في هاوية التقوقع الذاتي النظري الما بعد بنيوي في أسوأ الأحوال، والبلادة والخمول الاستقصائيين في أحسنها. وإذا ما ستُفند هذه الحجة وهذا المعتقد، فلابد لنا من إبانة كيف تعمل السردية التاريخية بصورة مشروعة باعتبارها ممارسة تأليفية. كما أن المؤرخين بحاجة إلى الإحاطة بعملية تأليف مروياتهم التاريخية (عن) الماضي الغائب (غودمان 1978). وبناء على ذلك، أعود إلى الفرضية التي لا مناص منها، الفرضية التي طرحها هيدن وايت منذ أمد بعيد، ومؤداها أن على المؤرخين الشروع في دراسة مضمون شكل التاريخ. وفي رأيي، يعني هذا مقاربة طبيعة القصة والخطاب ووظيفتهما الإبستمولوجية في سبيل إنتاج «الماضي كتاريخ» (مانسلو [1992] 2009).
القصة والخطاب
أولًا، سأعرّف التاريخ المدون على أنه تاريخ يضم عنصرين متمايزين، إلّا أنهما متعالقان بجلاء، وهما (أ) «(ما) حدث» في القصة كما سُرد، و(ب) «(كيف) سُرد». يتقيد معظم المؤرخين (من النمط الإبستمولوجي) بمقاربة العنصر الأول (أ)، غير أنهم -بوجه عام- لا يلقون بالًا عمليًّا للعنصر الآخر (ب). وهذا أمر يبعث على الأسف الشديد؛ لأن «ما حدث، وكيف سُرد»5، أو «ثنائية القصة والخطاب»، تعد ركيزة أساسية لما يقتضيه فهم التاريخ باعتباره شكلًا سرديًا للمعرفة6. وإذ يكون التاريخ خطابًا يلتزم بإدراك الماضي وفهمه، فالفضل يعود لميشيل فوكو (1984)، لأنه أول من تنبّه إلى أن التاريخ نتاج عمليات الفبركة والانتقائية، حيث تمثل وظيفتها المُحكمة والأساسية فرض الهيمنة على الطبيعة الإبستمولوجية لتعاطينا والماضي. قد يكون من المغالاة أن نحاجج بأن الماضي سيظل ساميًا، وبعيد المنال، كما لا يمكن أن يكون ذا دلالة في نظرنا، ريثما يُصاغ هذا الماضي على أنه ذاك الخطاب الذي نسميه تاريخًا. لذا، تدلي حجتي بأن ما يغيب في الحديث/صناعة الخطاب عن الماضي إدراك المؤرخ بوصفه مؤلفًا، وحضوره في النص، الذي يروم إلى إنتاج (سردية) تميّز بين ما حدث (المضمون)، وكيف سُرد (الشكل). تعوّل هذه العملية على التمييز بين القصة والخطاب من جهة، والتمييز بينهما والسرد من جهة أخرى.
ورغم توفر أعمال ثرية لطيف من منظري السرد في الأربعين عامًا الماضية أو نحوها، إلا أني أود أن أقترح على المؤرخين قراءة مؤلفي جينيه الرئيسين «الخطاب السردي» ([1972] 1986)، و«إعادة النظر في الخطاب السردي» ([1983] 1990)، إذ يقدمان عرضًا هو الأشد سلاسة ووضوحًا لأساسيات نظرية السرد (تشتمان 1978)7. سيستفيد المؤرخون ممن لديهم الرغبة في النظر إلى أعمالهم من منظور التأليف، من الاطلاع المبدئي على تنظير جينيه قبل التعمق في هذا الصدد. يستهل جينيه رؤاه بالإشارة إلى طبيعة التمييز بين القصة والخطاب من جهة، والتمييز بينهما والسرد من جهة أخرى.
من البديهي عند المؤرخين الذين ينتهجون الإبستمولوجيا، أن تنطوي «القصة» الأرجح احتمالًا على المضمون (القصة التي يفترض هؤلاء المؤرخون إبستمولوجيًا أنها حتمًا وقعت «هناك» في الماضي). ومن البديهي في رأيهم أيضا أن وظيفتهم تكمن في فرز الغث والسمين فيما يتصل بتأويل دلالات هذه القصة على أغلب الظن. ويعني «مضمون التاريخ» هذا مادة الإثبات على الـ«هناك»، التي بدورها (تدل) على الأشياء، والمواقع المادية، والسياقات والوقائع التي حدثت نتيجة القرارات التي اتخذتها الفاعل (الشخصية). فتتكون لدينا عندئذ فكرة عن أن مدار الحديث في التاريخ ينحسر في «الأشياء التي حدثت للناس في أزمنة معينة، وأمكنة محددة»، سوى أنّ ما لا يفهمه غالبية المؤرخين الممارسين، أو ما لا يرتضونه، امتداد آثار «المضمون/القصة» الحتمي إلى مستوى (الحكي) أو الخطاب8. وهذا ما لا يقرون به. كما أن محصلته انتفاء الخوض في مساءلة الفرضيات الإبستمولوجية حول الطريقة السليمة لإجراء البحث التاريخي، والمسلمة بها تقريبًا في العالم.
لا يفتأ يتعين على المؤرخين مع ذلك أن يقرروا ما يأخذون به (وما يغفلون عنه)؛ بغية إنتاج قصة عن الماضي، أو إعادة إنتاجها. ولهذا، على المؤرخين أن يصدروا أحكامًا بشأن «الثغرات البحثية» الثاوية ربما في الأدلة (على الرغم من صعوبة عثورهم على الثغرات البحثية، ريثما يختارون المعطيات التاريخية). ينتقي بعض المؤلفين المؤرخين وقائع أرشيفية/معطيات «منصفة»، و«منطقية». بينما قد يتخذ البعض الآخر قرارات «مجحفة»، و«غير منطقية»، أو هكذا يبدو الأمر للبعض الآخر ممن يراجعون أبحاث زملائهم، فيختلفون معها. وبالمثل، يخلص بعض المؤرخين إلى استنتاجات «منصفة»، و«منطقية». في حين يرى البعض الآخر أن استنتاجات زملائهم خلاف ذلك. ويضفي بعض المؤرخين الأهمية على أحداث معينة، بينما يحاجج البعض الآخر بأن تلك الأحداث هامشية. وبمثل هذه المذاهب، يدافع هؤلاء عن علم التاريخ، باعتباره ممارسة تُعنى بتأويل معطيات الماضي، (تأويلًا يتسم بالموضوعية، والسعي وراء الحقيقة). لكن مفهوم التأويل (الحقيقة التأويلية) هذا قد جرى تطويعه عبر توظيف «أحكام القضية المتناهية الأهمية». وقد جرى أيضا فرض الهيمنة عليه جرّاء «إبداء تعميمات تاريخية عقلانية»، واتخاذ العديد من الخيارات «المتوازنة»، وسوق «حجج» تتراوح من تلك القائمة على «القياس» المجازي إلى الأخرى القائمة على «الاستدلال الإحصائي»9. هذا المنهج الاستقصائي هو ما يؤمن مؤرخون من نمط معين بضرورة اتباعه. لذا، هذا ما يقومون به بالفعل.
ورغم الجلبة التي أحدثها «تمرد ما وراء التاريخ» لهيدن وايت إبان النصف الآخر من القرن العشرين، إلّا أن غالبية المؤرخين الممارسين ما تبرح مطالَبة بتجاهل عملية صناعة الخطاب، عملية سردها للقصة، وذلك جرّاء ما دربت عليه. لذا، لا غرابة أن يكون ممكنًا تكريس التصورات المتناقضة من خلال تبني هذا المنطق فحسب، مثل «سرد الحقيقة عن التاريخ» (تناقض لفظي)10. وعلى سبيل المثال البسيط، يدعي مراجع ما بأن التاريخ، الذي دوّنه مؤرخ معين، تاريخ جدلي. وهذا الأمر بالكاد يحرز تقدمًا في التفكير بشأن مظاهر الإقحام الذاتي في التأليف. ومن الممكن أن تظل التأرخة (historying) الجدلية (كالماركسية، وتيار المحافظين الجدد، والنسوية، والجمهوريين، وغيرها) نتاج الخيار الإبستمولوجي الذي يتجاهل تمامًا قرارات عملية التأليف، التي تشد وثاق المضمون والقصة والخطاب معًا. وبناء على هذه الأسباب، أعتقد أن على المؤرخين الممارسين (من نمط معين) السعي إلى الدراية بما يقتضيه أن تكون مؤلفًا. فماذا نعني بالتأليف التاريخي؟
التأليف التاريخي
يتدخل المؤرخون عنوة في النص التاريخي؛ لأنهم دائمًا ما يعكسون ذواتهم في كتاباتهم التاريخية. ولا مفر لهم من ذلك، لاسيما إذا عرّفنا التاريخ كوسيلة للتفسير وإضفاء الدلالة، نتيجة للعلاقة الحتمية بين المضمون/القصة (الماضي)، والحكي/السرد (ما يصنعه المؤرخ بوصفه مؤلفًا)، وصيغة التعبير (التمثيل). وعوضًا عن فهم السرد التاريخي على أنه «تقرير تأويلي»، عليّنا أن نفهمه على أنه ذاك الفعل الخطابي/الجمالي المعقد الذي يحيل «ما قبل اللحظة الآنية» إلى «الماضي كتاريخ».
يعود الأمر لأولئك المؤرخين ممن يشاؤون فهم عملية تأليف «الماضي كتاريخ»، بغرض إعادة النظر في الوضع الأنطولوجي للتاريخ، متجاوزين بذلك الكتابة التأويلية المستقاة من الاكتشافات الأرشيفية التي يصبغ عليها الطابع العلمي والوضعي. ليست التأرخة فعلًا تجريبيًا تحليليًا وواقعيًا، يروم لاكتشاف الدلالة (أو استردادها)؛ ليفضي في نهاية المطاف إلى «العثور» على شيء ما، بل لابد للمؤرخين أن يقروا -بوجه عام- بأن التاريخ فعل سردي إبداعي على الصعيد الأنطولوجي. ونظرًا لتبني هذا القرار، تجيء بعدئذ طبيعة التاريخ الدقيقة أو شكله المحدد بوصفه تاريخًا تجريبيًا، أو سيناريو فيلم، أو إعادة تمثيلية، أو مسرحية، أو مدونة، أو أي شيء آخر، كنتيجة مشروعة لخيارات المؤرخين الدلالية التشككية، والأنطولوجية، والإبستمولوجية. جادل وايت جدالًا واسعًا (أو خلافه) بأن التاريخ متخيل بقدر ما هو مكتشَف. وأود أن أورد هنا أن التاريخ الذي يُفهم على أنه خطاب صنعه المؤرخ هو تخييل محض.
على الرغم من أن المؤرخين لم يتدربوا في علم السرد، وعلى الرغم أيضًا من تمرد ما بعد الحداثة وما بعد البنيوية، يظل الخيار الإبستمولوجي عقلنة فكرية نافذة لما يقوم به معظم المؤرخين. ولكن بمجرد أن يستغني المؤرخون عن التصورات الإبستمولوجية السهلة والمجردة من التعقيد حيال النزعة التمثيلية القائمة على فكرة أن التاريخ تمثيل موضوعي على الأرجح لمعنى الماضي، فإن تعزيز سطوة الشكل (التاريخ) على حساب المضمون (الماضي)، يصبح أمرًا حاسمًا في تغيير ممارسات الكتابة التاريخية. ولهذا السبب، لا يمكن أن يكون للتاريخ شكل أو بناء مستقر.
في نظر المؤرخين من نمط معين، تغدو هذه الحجة واهية. ويُعزى ذلك إلى اعتقادهم بأن ثمة (شيء ما) يطلق عليه المنطق (الوحيد) للتاريخ، الذي «ينهض على» عدة مبادئ إبستمولوجية أساسية. تمثل هذه المبادئ مرجعًا يُعرّف على أنه عبارات الاعتقاد المبرر، كما يُعرّف أيضًا على أنه دلالة حقيقية على ما قد تعنيه الأوصاف التاريخية على الأرجح، وذلك من خلال إعمال آلية الاستنتاج، وتوظيف النظرية الاستدلالية توظيفًا ملائمًا. هذه الأوصاف التي تُشرعَن كـ«نتائج/تأويلات»، والتي يمكن أن تعرّف على أنها «التاريخ»، يجب تدوينها/مظهرتها، في قالب لساني مثل الكتب الأكاديمية، أو المجلات العلمية المحكمة، أو الصفحات الإلكترونية، أو في قوالب مماثلة.
ولكن، إذا ما تبصّرنا فيما يقوم به المؤرخ بوصفه فعل صناعة السرد، فيصبح حينها «التاريخ» مسألة قرار يتخذه المؤلفون المؤرخون إزاء عملية ربط (أ) القصة (التي تحيل إلى انتقاء أفعال وأحداث معينة وقعت في الماضي)، (ب) بالحكي الذي يؤثرونه (التفسير/إضفاء الدلالة)، ومن ثم (ج) إنتاج سرديتهم (التاريخ)، وأخيرًا (د) اختيار صيغة التعبير المفضلة لديهم عن التاريخ (شكل أو أشكال التمثيل). فمن المنطقي حينئذ أن ننظر «للتاريخ» على أنه «تأرخة». وما يغدو مهمًا حين نحكم عليه كذلك، هو أن ننظر -من الآن فصاعدًا- إلى المفاهيم المؤولة إبستمولوجيّا من قبيل نظرية مطابقة الحقيقة، ونظرية اتساق الحقيقة، ونظرية الإجماع على الحقيقة، ونظرية ترابط الحقيقة، وكذلك مفاهيم التفسير، وإضفاء الدلالة، والأخلاقيات، وبالطبع الأيديولوجيا، على أنها تعمل ويؤصل لها (ضمن) ممارسات صناعة السرد التأليفي، وكنتيجة لها أيضًا. ومن الضروري لذلك أن يكون المؤرخون على يقظة (أي، أن يتمرسوا على ذلك منذ دراستهم الجامعية فصاعدًا) حيال كيف تشكل القصة والحكي، والنص السردي، وصيغة التعبير فضاءَ القصة، من أجل تعاطي المؤرخين وما يعد غائبًا، الماضي.
يكمن محل النزاع إذًا لدى المؤرخين من نمط معين في أن جميع ما ذُكر أعلاه يقتضي أن التعريف الوحيد للحقيقة الذي يتبنونه عن الماضي، بمنأى عن عبارة الاعتقاد المبرر، هو حقيقة لا يمكن اقتلاعها من خطوات عملية إنتاج السرد أو طمسها. وتبعًا لهذا الموقف، يتحتم على المؤرخين أن يتقبلوا أن الحقيقة، خلاف ما تقتضيه الإبستمولوجيا، ليست حكرًا على الدلالة الإحالية، أو الوضعية في العلوم الإنسانية، أو الاحتمال المفترض. يمكن أن يطرح المؤرخ ادعاءات تجريبية حول ما وقع في الماضي، مثل أُعلنت الحرب في تاريخ معين، ووافت المنية أحدًا ما في ظل ظروف معينة، ونَشر جاكوب بوركهارت مؤلفه «رؤى في التاريخ والمؤرخين» عام 1959م. غير أن حقيقة العبارة المنفردة في حال كون الاعتقاد مبررًا، تشكل ببساطة أساسًا غير كافٍ؛ للإدلاء بمزاعم واسعة النطاق، غرضها بناء السرد الذي يطلق عليه تاريخًا. ومغبّة ذلك أن التاريخ الذي يُفهم على أنه نتاج فلسفة الجمال والتأليف، لا يمكن أن يقدم ذاته بوصفه «إعادة بناء تاريخية» للماضي. فالتأريخ في أبهى صوره، بناء سردي، ذو إمكانية أبدية للتقويض، بقدر ما هو «إعادة نظر تاريخية» مستلهمة من الإبستمولوجيا.
لا يمكن لوجود هذه الإحالة إلى الماضي أن تتخطى القضية الأنطولوجية للاغتراب أو الانفصال الذي ينبغي التغلب عليه (لكن، ما الذي لا يمكن التغلب عليه؟) بين واقع الماضي الذي يتعذر بلوغه (مهما كان «في الواقع»)، وما نرويه عن ذاك الماضي (بوصفه) تاريخًا. ولعلّ السبب بات واضحًا الآن؛ فالطبيعة/البنية التفسيرية لتاريخ ما تنجم عن الوشائج التأليفية بين القصة، والحكي، والنص السردي، وصيغة التعبير التي ينسجها المؤرخ، إلّا أن هذه الوشائج قد تبلورت ضمن مفهوم فضاء قصة التاريخ، الذي يظل مفهومًا تجهله غالبية المؤرخين.
فضاء القصة
يشير هذا المفهوم إلى فهم المؤلف أو «النموذج» المعني بما وقع في الماضي، وكيف وقع، ومتى وقع، ولمَ وقع، ومن وقع له. يلج القارئ أو مستهلك النص فضاء القصة، حين يختبر «الماضي كتاريخ» (كما هو الحال في كتاب، أو فيلم، أو مسرحية، أو أي قالب آخر). يتكون فضاء القصة من الخيارات التأليفية التي تتراوح من الحجج المصطفاة، والمنعطفات الأيديولوجية إلى الفرضيات، واختيار المعطيات التاريخية. يتيح للمؤرخين تعريف التاريخ كفضاء القصة استيعاب كيف يسردون، وكيف بالتالي يصنعون الدلالات. وبفضل أنطولوجيا التاريخ باعتباره فضاء القصة، لا يسعنا النظر إلى السرد التاريخي كأداة تسجيلية للفهم، مستقاة تمامًا بطرق غير سردية.
حين نعد التاريخ بأنه فضاء القصة، يلزمنا فهم ثلاثة أمور. أولًا، لا يمكن للتاريخ أن يكون سابقًا على الـماضي (أو حتى وإنْ كان سابقًا، لا يمكننا أن نتبين ماهيته بالفعل). ثانيًا، على المؤرخ المؤلف أن يحيل في صيغة حبكة سردية الأحداث والكائنات إلى قصة (تاريخ). ثالثًا، نظرًا لإمكانية تعدد طرق التعبير عن التاريخ بقدر ما تجود به مخيلة المؤرخ، فنحن بحاجة إلى أن نكون جد واضحين من أن كل «تعبير تاريخي» ناجم عن الخيارات الأنطولوجية والإبستمولوجية التي يتخذها المؤرخ. أشعر أني مضطر هنا أن أؤكد بأننا لسنا في حلٍّ تمامًا من البحث الأرشيفي، والخلوص إلى استنتاجات متقدة في أي من هذه الخيارات المعينة. ولكن، لم يعد ممكنًا قبول التفرّد الإبستمولوجي الذي ينهض به معظم المؤرخين أو ترسيخه، التفرد الذي يصور أي اعتبارات أخرى عدا الفهم التجريبي التحليلي على أنها اعتبارات هامشية.
وعلى النقيض من ذلك، أفترض أن تعريف التاريخ كفضاء قصة جرى تأليفه لن يضمن فحسب اعتراف المؤرخين والقرّاء بالأهمية الإبستمولوجية للنزعة التأليفية (بحمولاتها المنطوية على وجهة النظر، والنزعات الذاتية، والالتزامات العاطفية والأخلاقية، وما إلى ذلك)، بل إن تعريفه كذلك سينم عن استحالة التفكير في أن فهم التاريخ على هذا النحو سيؤول في نهاية الأمر إلى مجرد تخييل آخر. ومع ذلك، وكتمرين تخييلي، (يُروى) لمن يلج زائرًا فضاء قصة التاريخ، عمّن فعل ذاك، وعمّا قيل، وعمّن تصرف حيَاله آنذاك؛ وفقًا لسلطة السرد، وتوظيف آلياته المحددة. فالمؤرخ المؤلف هو من (يفسر) لمستهلك التاريخ لمَ فعل الناس ما فعلوه في الماضي. أضف إلى ذلك، أن المؤلف المؤرخ يشير إلى الفواعل، والبُنى والأحداث التي تمخضت نتيجة تبني (نظريات وحجج) معينة. فيصنع بعض (الدلالات) المؤرخون، بينما لا يصنعون دلالات أخرى. ويؤثر بعض (الحجج) المؤرخون على حساب نظيرتها الأخرى. ما أرمي إلى قوله هنا، أن فضاء قصة التاريخ هو السبيل الوحيد الذي يمكن من خلاله أن نموقع ذواتنا في أي علاقة تُقام مع الماضي.
والسؤال التالي الذي يبرز بوضوح هنا: هل ثمة أشكال سائدة لفضاء قصة التاريخ؟ حسنًا، يعول فضاء قصة التاريخ المتكدس بالمعطيات و«احتمالية الدلالة»، و«التفسير الأرجح احتمالًا»، على الاعتقاد الإبستمولوجي القائل بأن قصة (الماضي) «تروي ذاتها»، فيبعث بالتالي التاريخ الحياة في (واقع) الماضي. غالبًا ما نصادف هذا الفضاء الواقعي للقصة في إنتاج التاريخ في كل من الدراسات الأكاديمية، وسائل الإعلام الرائجة، التي بدورها تبعث الحياة في (قصص) الماضي11. يضرب إعادة بناء فضاء القصة هذه مثالًا على مصطلح رولان بارت الشهير «الإيهام بالواقع». بينما ما يفضله المؤرخون في الوقت الراهن هو فضاء القصة (بالرغم من أنهم لا يحيلون إليه هكذا)، كما يعتبر فضاء القصة بمثابة إسقاط/بناء معقد لبرامجهم الملتزمة والأخلاقية، كما تدرسها نظرياتهم الاجتماعية «المؤولة منطقيًّا»، والمتخمة بعبارات «ما وقع بالفعل». يستبد بالمؤرخين المحترفين إحساس قوي بالمسؤولية الاجتماعية تجاه استرداد «القصص المفقودة» من الماضي، حتى يمكننا استقاء العِبر منها.
ما تنفك أن توّلد هذه الرغبة ما قد نطلق عليه فضاء القصة البنائي. يستجدي هذا المفهوم بيئة إحاليّة خصبة، حيث توظف فيها بالضرورة النظرية والمفاهيم المجردة؛ بغية استجلاب «ما يعنيه كل ذلك على أغلب الظن». وفي ظل عدم الإقرار بأن هكذا هو واقع الأمر، لا يفتأ صانع فضاء قصة التاريخ البنائي أن يصرّ على الهيمنة الإدراكية لواقع الماضي، فيغذّي حينها الالتزام غير المحتمل إبستمولوجيّا، ويعبّر عنه، ويؤكد عليه، ويعززه.
تفضي بي هذه الخلاصة بدورها إلى الإدلاء بزعم آخر. فمن المحتمل، في نظر «المؤرخ ذي التفكير السقيم»، وذي المفارقة والمناهض للإبستمولوجيا بالضرورة، والمملوء بالشك، أن يكون فضاء قصته محورًا لتعدد احتمالات القصة/المضمون، «والتجارب التاريخية»، وتنوع صيغ التعابير السردية، عوضًا عن كونها مجرد تمثيلات لواقع الماضي. يبدي هؤلاء المؤرخون اهتمامًا بالغًا بعملية التأرخة، قدر اهتمامهم ربما بفهم ما قد يعنيه الماضي (بالفعل)، الذي يستحيل بلوغه في اللحظة الآنية. لذا، سيتناول هؤلاء المؤرخون احتمالات «الفهم»، و«التفسير»، و«الحقيقة»، و«الدلالة» المتوفرة (في الماضي)، وذلك من خلال (بناء فضاء القصة). وعلى هذا المنوال، قد تستغني التأرخة مستقبلًا عن التصور المعني بإمكانية التماثل الأنطولوجي بين الماضي والتاريخ. سيتملك المؤرخين وقتئذ شعورٌ بالمفارقة إزاء الغاية والمغزى من بناء فضاء قصتهم (تاريخهم)، العملية الفكرية التي من شأنها أن تَعْبر بهم إلى ما وراء التخوم الإبستمولوجية والأنطولوجية المفروضة ذاتيًا؛ لإعادة بناء الماضي، أو بنائه بطريقة تمثيلية واقعية، وبصورة هي الأكثر مردودًا ثقافيًا «للماضي كتاريخ».
ولكن، لا يزال ثمة المزيد ممّا نعتد به. فبالرغم من أنه لا يمكن أن يتعامى أي فهم ملم تمامًا بمفهوم الخطاب، والحكي، والسرد، عن مقاربات منظّر السرد جيرار جينيه ([1983] 1990)، إلا أن هناك إسهامات أخرى قدمها رولان بارت (1995، 125-30)، جديرة بأن نعتد بها في هذا الصدد (فوكو 1979، 60-141). فبينما يخوض جينيه في وظيفة الحكي في السرود التخييلية، يتعاطى بارت قضية من يتكلم/المؤلف. ويأتي إعلان بارت لـ«موت المؤلف» كمحصلة لإخفاق المؤلف المتواصل في الوصول إلى معنى «ثابت ومستقر» حيال ما يؤلفه (دوچ 2006، 345-68). لذا، يتبدى السؤال الآتي: كيف يعمل الصوت التاريخي التأليفي؟ وللإجابة على هذا السؤال، ينبغي علينا أن نتناول مفهوم التبئير.
التبئير
ينصب تركيزي في هذه الجزئية على (الخطاب) التاريخي، على «كيفية» تدوين التاريخ، على النقيض تمامًا من مضمون، (قصة) ما حدث. وكما لاحظنا فيما سبق، نصغي لصوت المؤرخ أو وجهة نظره عند بناء سرديته (تونكن 1992). دونك سؤال الحكي، إلى ماذا يحيل؟ اعتبر أنه يحيل إلى إقحام صوت المؤلف والعتبات النصية في التاريخ. فعندما حاجج المؤرخ الأمريكي المهتم بالتجربة الحدودية، فريدريك جاكسون تَرنر في محاضرته الشهيرة التي ألقاها عام 1893م أمام الجمعية التاريخية الأمريكية، قائلًا: «إنّ وجود أرض حرة، واتسامها بالركود المستمر، وتقدم الاستيطان الأمريكي غربًا، يفسر نماء الولايات المتحدة وتطورها» (ترنر 1996، 1-38)، لم يكن الماضي ما نصغي إليه عبر ترنر. وإنما كان ذلك حكمه التأليفي الذي تسنى لجمهوره إدراكه، بدلًا من بلوغهم واقع الماضي للحدود الأمريكية.
لذا، بالرغم من أن مراد المؤرخين ربما الإحالة إلى واقع الماضي تمثيليًّا، إلّا أنه مستوى الحكي ما يفعل فعله هنا. ليست الكتابة التاريخية ممارسة تُعنى ببعث الماضي وإحيائه. أخال أن المؤرخ الأشد وعيًا لقضية التأليف هو وحده مَن يدرك أنه هو من يروي (قصة) عن الماضي. ويمثل التاريخ -كما يفهمه أولئك المؤرخون وحدهم- بوضوح «مادة سردية»، كما حاجج فرانك أنكرسميت. وعلى هذا الأساس، فالأسلوب (الأساليب) في التاريخ مجرد صوت تأليفي. وفي رأيي، يشكل مثال ترنر ضربًا على التعبير عن وجهة نظره حول الماضي الأمريكي كتاريخ للتجربة الحدودية. ويشير هذا المثال أيضًا إلى أن الوعي بكيفية تحول الماضي وتمثيله وتشكيله يقتضي مناقشة مبدأ آليّة التبئير.
يعد التبئير تلك الآلية التأليفية الأساسية التي يتعين توظيفها؛ بغية بسط السيطرة على كمية تدفق المعطيات الإحاليّة ضمن إطار فضاء القصة. يمارس هذه السيطرة المؤرخُ، الذي يتحتم عليه أن «يتخيل» المواقف والأحداث من «وجهة نظر» تاريخية محددة يتولاها الفاعل. وبالتالي، تكمن القضية الأساسية المعنية بإنتاج فضاء قصة التاريخ في عملية التأليف التي تعيّن «من يتكلم؟» (السارد)، وقراراته التبئيرية. وبذلك أعني، أن المسألة تستقر في الخيار، الذي يتخذه «المؤرخ بوصفه مؤلفًا»، فيما يتعلق بـ«من يرى؟» في النص التاريخي.
وكما هو شائع جدًا، لدى المؤرخين عدة خيارات على مستوى السرد. يمكنهم أن يتيحوا «للشخصية التاريخية» أن تسرد قصتهم بضمير المتكلم، موظفين بذلك التبئير الداخلي (على غرار السيرة الذاتية)، أو يمكنهم أن يخلقوا شخصيات كشهود عيان؛ لتسرد فيما يبدو تاريخ المؤرخين (قصتهم) بضمير المتكلم. أو يمكن للمؤرخ أن يخبر القارئ عمّا حدث دون معاينة ما يفكر به الفاعل التاريخي، ودون إدراج «تعليقه التاريخي» أيضًا. أو يمكن للمؤرخ أن يسجل ما حدث، محاولًا «الولوج» إلى وعي الشخصية التاريخية. وعن طريق سوق الأمثلة، يعرض المؤرخ تأويلاته للدلالات «الأكثر ترجيحًا»، لما اعتمل في خلد الفاعل وقتذاك. وهذا هو الخيار المألوف الذي يتخذه المؤرخون. ولا ضير من تكرار أن هذه القرارات هي خيارات تأليفية، لا تمليها طبيعة الماضي. كما تفضي آلية التأليف البسيطة مباشرة إلى التساؤل عن كيفية فهم المؤرخين بوصفهم مؤلفين للزمن في تاريخياتهم، وتأليفه، والتلاعب به.
التزمُّن: المحاكاة، والترتيب
الزمني، والمدة، والتواتر
من المنطقي القول إن معظم المؤرخين ينظرون للزمن إمّا بوصفه (أ) زمنًا متصلًا، كما يُنظر إليه في استمرارية التغيير المطرد («التغيير بمرور الزمن» ذو الطبيعة الارتقائية والأثر المحدود)، أو (ب) بوصفه أشكال متنوعة من التغيير المنقطع والخاطف (كالقلاقل والفوضى والاضطرابات). يستعمل المؤرخون أيضًا تعابير تتضمن إحالات زمنية مثل مصطلح «العصور». ولطالما تُسرد هذه المصطلحات على أنها «النظريات المرحليّة للتاريخ». ورغم هذا التعقيد البيّن، تميل أكثرية «المؤرخين المعتبرين» بشدة إلى النظر إلى الزمن على أنه تسلسلي، حتى ولو تمت إدارته من خلال «الثيمة»، أو «الإشكالية» المطروحة، أو ما إلى ذلك. فالمعضلة التي نواجهها مع الزمن في تاريخ ما هي أن المؤرخين عمومًا يتجاهلون ما يجدر بهم الإقرار به على أنه موقف لا فكاك منه، بحيث يتعين عليهم تنضيد الزمن والتحكم فيه باعتباره مسألة تمس فرض الهيمنة على النص.
ومع أن بول ريكور ينافح عن الإبستمولوجيا، إلّا أنه مرغم على الاعتراف بأن البنية الأنطولوجية (و) الإبستمولوجية التي من خلالها يحقق التاريخ (و) التخييل أهدافهما، تعيد تشكيل الزمن بذات النسق. يرى ريكور أن التاريخ يتمحور حول (أ) تخييل الماضي كما كان على الأرجح، ولكن (ب) هذا مع ذلك يستدعي من المؤرخين «التحكم فيه»؛ (ج) وذلك بإفراغ ذكريات الماضي في قالب سردي، (د) وإعادة تكوين «الزمن الحقيقي» ضمن هذه العملية بالضرورة. وينطوي كل ذلك على «أثر التخييل» الذي يجعل التاريخ يبدو أكثر واقعية، كما يحاجج ريكور. وتعد هذه العملية -مرة أخرى- عملية المحاكاة الفاعلة.
لذا، حتى لو فكر المؤرخون في الزمن كمعطى، فَهُم مرغمون على أن «يزمّنوا الماضي كتاريخ»، جرّاء إعمال منطق صناعة مروياتهم. ومن أجل إبداء حكم حول كيفية توليف المؤرخين لمفاهيم التزمن التي تتطلبها صناعة السرد، سواء أدركوا ذلك، أم لم يدركوه، يأخذ المؤرخون بعين الاعتبار المفاهيم السردية: الترتيب الزمني، والمدة والتواتر. يقر منظر السرد سيمور تشتمان مثلما يقر ريكور بأن التزمن في أنقى حالاته يتجسد في التقنيات البسيطة للخط الزمني التسلسلي: البداية والوسط والنهاية12. بيّد أن هكذا تقنيات أدبية لا تنظّم الماضي تنظيمًا مقنعًا. ويرجع السبب في ذلك إلى عجز «الواقع» عن «معرفة» أين كان، أو أين هو الآن، أو أنه قد انقضى. كما ثمة عواقب ثقافية ذات أهمية بالغة مترتبة على ذلك.
تشكل قضية تنظيم الزمن هذه أمرًا مفصليًا وشديد الأهمية فيما يتصل بالتاريخ. فمن الناحية الفلسفيّة، لا معنى أن نؤمن بأننا يمكن أن نَعْتبر من التاريخ أو الماضي. وكي نعتبر من الماضي، علينا أن نفترض (أ) أننا بلغنا الماضي دون وسيط، وأن نفترض أيضًا (ب) أن الماضي قد ولّى. لكن، لا نهاية للماضي، إذ توجد مسرحية أو كتاب أو إعادة تمثيلية (تدور حوله). ورغم هذا الموقف، لا تزال تؤمن غالبية المؤرخين بأن تأويلاتهم تتكئ على فهم واقعي للزمن. يُرتكب هذا الخطأ، بالرغم من هذا الموقف الذي يعد فيه الزمن ضمن فعل التأرخة اختراعًا قائمًا على مفهوم الاستمرارية والتمّاس، المتصف بالمحاكاة/بالمجاز المرسل الجزئي. عند إغفال المؤرخين لهذه المعضلة فحسب، يمكنهم أن يستمروا في بحث لا منطقية «عِبر التاريخ»، بل إن الأشد غرابة من ذلك، أن يخلص المؤرخون إلى «استنتاجات» في كتبهم حيث يرتبون فيها دلالة «ما حدث» على أغلب الظن ويفسرونه (يقع ذلك في أضعف الأحوال، ريثما تتم مراجعة ما ذهبوا إليه لاحقًا). ومن المحتمل أن يكون هذا الموقف السبب في أن يؤثر المؤرخون التستر وراء ورقة توت المراجعات والتنقيح، على أن يعزفوا عن الإبستمولوجيا.
وعليه، يصبح الزمن الحقيقي «التخييلي» للماضي «معلومًا»، كما نُضّد في الخطاب والقصة، لا كما كان ذات مرة. ومما لا يثير الدهشة أن يستفيض كِلا منظرَيّ السرد ريكور وجنيه في العلاقة القائمة بين زمن (السرد)، ومثيله المسرود (في النص السردي). فوفقًا لجنيه، يتمتع الزمن الفعلي للنص السردي بثلاث سمات أشرتُ إليها آنفًا، “الترتيب الزمني” كما يتبدى في سؤال «متى؟» (التسلسل الزمني)، و”المدة”، كما تتمثل في سؤال «حتّام؟» و”التواتر” كما يتراءى في سؤال «كم مرة؟». وبالنظر إلى كون التاريخ نظيرًا سرديًا (الماضي كتاريخ)، يجب أن يشوه التاريخ -بلا ريب- واقع الزمن، كما اُختبر في الماضي. يتمظهر «زمن الخطاب في التاريخ» في الألفاظ أو الجمل أو الفقرات أو الفصول، أو في المدة التي تستغرقها القراءة. تنتج هذه الحالة حدًا فاصلًا بين التسلسل الزمني لوقائع الماضي (القصة/المضمون) وبين ترتيبها زمنيًا (الخطاب).
قد يُحاكى التسلسل الزمني للوقائع في الخطاب، لكن الترتيب الزمني يستدعي المفارقات الزمنية السردية؛ بغرض تيسير عملية إنتاج «الدلالة التاريخية». يضرب الاسترجاع أو الارتداد الزمني مثالًا جليًّا على ذلك. وفي رأي المؤرخين، يبدو من الواضح أنه لابد أن يُدون التاريخ استرجاعيّا. كيف يمكن لهذه التقنية أن تتمتع بذات الوضع الذي تتمتع به التقنيات الأدبية؟! لكن، لا يجب أن يُدون التاريخ هكذا (مانسلو و ورنستون 2004، ورنستون 2007، 11-18)؛ إذ ثمة تقنية أخرى يوظفها المؤرخون، ألا وهي “الاستباق”، حيث تُسرد وقائع حدثت لاحقًا، وهذا ما يُطلق عليه أيضًا الاستشراف الزمني. وهذه تقنية مجازية أيضًا. ولا توظف كلا التقنيتين فحسب لأغراض بلاغية، بل يعد استعمالهما المسلك الوحيد لإضفاء (دلالة) على التاريخ.
لكن، خذ على سبيل المثال مفهوم “المدة”. لا يمكن التعاطي والزمن إلا حين يعمل المؤرخون مع تشويه الزمن في سردهم للأحداث. يتراءى هذا التشويه -على وجه الخصوص- عندما يعجّل/يعطل المؤرخ من وتيرة الزمن في رصفه للأحداث. ويجري التحكم في هذا التشويه من (خلال) السرد، لا من مجرد نقله (في) السرد. لا يتحلى الزمن بالمرونة، ولا يتغير سوى في التاريخيات. يقترح جينيه خمس حركات سردية للمدة في سبيل التحكم في الزمن: الحذف، والوقفة، والإجمال، والمشهد، والاستغراق، علاوة على تناوله مفهوم التواتر.
يعني “الحذف” إغفال الإحالات؛ بغية تسريع السرد. وغالبًا ما يُنظر إليه على أنه تشذيب «للوقائع غير ذات الصلة». قد يُعرّف هذا التشذيب على أنه إنتاج الدلالة وتفسيرها، اللذين يمتازان بالمشروعية، غيّر أنهما يمثلان وظيفتي صناعة السرد. في حين تشير “الوقفات” إلى لحظات التأمل، وصفوة القول، وهضم الأفكار. بينما يدل “الإجمال” على القرار التأليفي حول تسريع «الحدث (الأحداث) الحقيقي» أو اختزاله. يحيل “المشهد” بالمقابل إلى استعمال المؤرخ للاقتباس. بينما يعني “الاستغراق” امتداد «الزمن الحقيقي»، كما هو الحال حين يمعن المؤرخون في الأحداث (يُعْرف ذلك بـ«التأويل»)، التي قد لا تستغرق إلا ثوان معدودات في «الزمن الحقيقي». وأخيرًا، يحيل التواتر إلى قضية التكرار، إلى العلاقة التي يقيمها المؤرخ بين عدد مرات وقوع الحدث، وعدد المرات التي يُسرد فيها الحدث في النص (جينيه [1972] 1986، 60-113؛ ريكور 1981)13. ويأخذ التواتر عدة أنماط: التفردي، والتكراري، والترددي، وغير المنتظم. ويعني التواتر التفردي أن يُسرد مرة واحدة ما وقع مرة واحدة أو اثنتين، وأن يُروى ذلك مرة واحدة أو اثنتين، إلخ، إلخ. بينما يشير التواتر التكراري إلى إعادة سرد الحدث ذاته مرارًا، وغالبًا ما يُعاد سرد الحدث عينه من وجهات نظر الشخصيات التاريخية المختلفة. وعلى النقيض من ذلك، يحيل التواتر الترددي إلى سرد الحدث مرة واحدة، غير أنه في الواقع وقع عدة مرات. في حين، يدل التواتر غير المنتظم على سرد ما وقع عدة مرات، بيد أنه يُروى في عدد متباين من المرات.
فترتيب الوقائع السردية عوضًا عن وجودها في الزمان والمكان هو ما يحتل مكانة محورية في فعل التأرخة. ويجب أن يجعل الإقرار بالتاريخ باعتباره زمكانيًا (كرونوتوب)، -حيث يُؤلّفُ الزمانُ والمكانُ- المؤرخين أن يدركوا طبيعة التاريخ «الكأنّية» (باختين 1981، 84-85)؛ لأن التحكم في الزمن وفضاء القصة قضية جوهرية في خطاب التاريخ، بحيث ينبغي علينا أن ندرك أن الزمن النحوي/التزمن ركن أساسي في بنائنا لواقع الماضي المفترض. غير أنّ ما نفرط في نسيانه أحيانًا هو أنه رغم إقرار المؤرخين جميعًا بأن التاريخيات تعبر عن وجهات نظر أخلاقية وأيدلوجية متفردة، إلا أنه من المرجح أن تتباين الدلالة التاريخية تباينًا شديدًا؛ بسبب القرارات السردية التي اتخذوها، وعَبرها (دِينث 1997). وأخيرًا، لابد لي أن أناقش العلاقة بين الفواعل التاريخية وفهم سلطة الفعل، أيّ قصدية الفاعل.
قصدية الفاعل: التشخيص والحدث
في المرويات التاريخية، غالبًا ما يشكل المؤرخ المؤلف مستهلَك التاريخ «كشاهد عيان على الماضي». ومن المفترض أن يحدث ذلك؛ لأن قارئ التاريخ يفقه الماضي بناء على قاعدة العلة والمعلول كما جاءت في وصف قصدية الفاعل العقلانية (اللاعقلانية)، وكما طرحت في تفسيرها. لكننا هنا -مرة أخرى- بصدد تأثير سردي. وكما سبق وأن حاججت، حين يسرد المؤرخ المؤلف الماضي كتاريخ، فهو يتخذ خيارات تتعلق بالصوت، والتبئير والتزمن (التي قد تكون واضحة لمستهلك التاريخ، أو قد لا تكون كذلك). وعندما يؤلف المؤرخ السردية التاريخية، فهو يفصح لنا أيضًا عن فهمه حول ما يؤلف قصدية الفاعل، ويعد هذا القرار التأليفي الدعامة الأساسية للطريقة التي يرى بها المؤرخ التشخيص.
أقبلُ تمامًا بحجم التأثير المباشر الذي تخلفه النزعة التجريبية والتحليل في الطريقة التي يشكل بها المؤرخون شخصية تاريخية، والتي (يستدلون) بها على «الأهمية التاريخية» لهذه الشخصية، غير أنه لا يمكن لمفهوم «الأهمية التاريخية» أن (يكون) إلا بإضفاء المؤرخين القيمة على المفاهيم مثل مفهوم الفاعلية، الذي بدوره يُفهم ضمن المفاهيم المغلقة، من قبيل المفهوم الاجتماعي، أو السياسي، أو الاقتصادي، أو العرق أو الجندر، أو فهم المؤرخ لقصدية الفاعل، وإيمانه بما رُوّج عنها.
وبجانب القرارات التي يتخذها المؤرخ حول الصوت، والتبئير، والتكوين السردي المسبق للزمن، يُبرِز التشخيص مفارقة أساسية في التأرخة، مفادها أن المؤرخ هو مَن يختار الفواعل التاريخية أو الأعراق أو الطبقات، أو السلالات أو أيًا كان، ومن ثم يعمل على تشخيصهم، حتى ولو «أتيح» لهم (فيما يبدو) التعبير عن آرائهم. تتضح المفارقة هنا من خلال النموذجين الرئيسين لتشخيص المؤلف المؤرخ: النموذج المحاكاتي، والآخر اللامحاكاتي. في النموذج المحاكاتي، يُخوَّل للشخصيات التاريخية أن تعبر عن آرائها، ويُفترض قيامها بذلك. تدعي المحاكاة بألّا وجود لتوجيه يمليه المؤرخ على الشخصيات التاريخية. ومع ذلك، لا يتبين لنا استحالة عدم وجود توجيه من جانب المؤرخ إلا من خلال الوقوف بإيجاز شديد على نمطي التشخيص المحاكاتي الأساسيين: الدلالي، والإدراكي.
يُبنى التشخيص الدلالي على الواقعية بالمفهوم الذي يحيل إلى أن الفواعل/الشخصيات التاريخية يجري تحديدها -في المقام الأول- في الزمان والمكان بالاسم. وعادة ما يُعد هذا النمط وصفًا مرجعيًّا بسيطًا. بيّد أنه أساسي من حيث إيماننا بالطبيعة البشرية. تفيد الفرضية الإبستمولوجية بأنه نظرًا لتشابهنا والناس في الماضي، يمكننا فهمهم بذات المصطلحات التي نستعملها اليوم لفهم بعضنا البعض. لذا، تمثل بعض الفواعل التاريخية سمات بشرية. ومن الواضح أن هذا القرار يمكننا من أن ندعي الحقيقة، إثر اعتقادنا بوجود نوع من التجانس (المطابقة) في الطبيعة البشرية عبر مرور الزمن.
ورغم شيوع هذا الزعم ليس عند المؤرخين فحسب، إلّا أنه يظل حكمًا ساذجًا؛ بسبب أن ما يفترضه هذا الزعم بالأساس هو استقرار مفاهيم الفهم والعاطفة والأخلاق. فمنذ أفلاطون إلى الوقت الراهن، احتدم الجدل حول ما إذا كانت هناك طبيعة بشرية أساسية، أو ما إذا كانت هذه الطبيعة قد كوّنتها إمّا الظروف المحيطة أو الخيارات التي يتخذها البشر (ويلسون 1978، ماكنتِر 1981). أظن أن المؤرخ التجريبي والواعي لعملية التأليف يفضل ربما التصور القائل بأن الطبيعة البشرية يشكلها الفردُ أولًا، ثم يعيد تخييلها المراقبُ، ثم يعيد المؤرخ الإمعان فيها وسردها.
يصاحب التشخيص الدلالي الإبستمولوجي ادّعاءٌ إدراكي يَفترض أن الفاعل يعي ذاته وموقفه، الذي يكون إمّا «قويًا أو ضعيفًا»، أو «معقولًا أو غير كافٍ». ومن الجلي أن ثمة هوة واسعة في الغالب بين المؤرخين حول هذه القضايا. وبناء عليه، ماذا كانت نوايا أبراهام لنْكِن إزاء الرق، وكيف يمكن للمؤرخ أن يشخص إرث لنْكِن؟ على الرغم فيما يبدو من تشخيص الفاعل التاريخي لذاته، كما يظهر ذلك في أفعاله وأقواله، وفيما يخبره الآخرون عنه أيضًا، غير أنه يبقى للمؤرخ توظيف نمطي التشخيص المحاكاتي، إضافة إلى الآخر اللامحاكاتي.
أمّا التشخيص اللامحاكاتي، فهو تشخيص أخرق وفقًا للمؤرخين. لكني أقترح أنه نظرًا لما تدلي به حجتي حتى الآن، فمن الواضح أن «الشخصية التاريخية» هي أيضًا المنتج السردي للمؤرخ (قد يُعرّف الفاعل التاريخي بالمعنى اللامحاكاتي على أنه (استعارة تجسيدية) لسمة أو فكرة كالجهل أو الوهن أو الشجاعة، أو حتى رؤية متميزة يعتنقها الفاعل عن المجتمع. وقد يُعرّف أيضًا على أنه يمثل التقزز أو التوجس أو الافتتان). يمكن أن يكون الفاعل التاريخي عنصرًا أساسيًا في التحبيك؛ بغرض تمثيل الفشل، أو إحداث التغير، أو قد يُصاغ على أنه نموذج أوليّ. فالسؤال لا يتعلق دومًا بما فعله الفاعل في الماضي، ولكنه يتعلق بما يريد المؤرخ منه أن يفعله في تاريخه. ولهذا، لم تكن الإحالة إلى واقع الماضي بتاتًا مكونًا حاسمًا في التشخيص، رغم التحقق من صحتها على الصعيد التجريبي. يصطلح معظم المؤرخين على ذلك بالتأويل التاريخي. غير أني أصطلح عليه صناعة التفسير السردي. أحسبُ أن الحجاج بخلاف ذلك يعني التسليم بأن الماضي يخبرنا عمّا يعنيه. ولكني أحاجج بأن الدلالات التي نستقيها من الماضي هي ذاتها التي نصنعها ونبتغيها.
الخاتمة
في هذه الدراسة، قد قاربت صناعة المؤرخ للسرد التاريخي، وذلك من خلال مجموعة متنوعة من القرارات التأليفية التي في متناوله. أرى أن المسؤولية الأساسية التي تقع على عاتق المؤرخ بوصفه مؤلفًا هي فهم الخيارات التي يتخذها حين يسرد «الماضي كتاريخ». وعلى الرغم من أن النزعة التجريبية والاستدلال والمعطيات المثبتة والموثقة والقائمة على المصادر الأرشيفية تظل ذات أهمية في صنع الدلالة التاريخية والتفسير، إلا أنه ينبغي على المؤرخين بإزاء ذلك فهم كيف يؤلفون فضاء القصة، والمضمون/القصة، وكيف يولون عناية لأساسيات السرد.
لذا، تفصح وجهة نظري عن أن المشكلة التي يعاني منها معظم المؤرخين تكمن في تعنتهم المستمر وتشبثهم بالخيار الفلسفي الإبستمولوجي (التجريبي التحليلي) في مقابل إقصائهم أي فهم يطرق كيفية صناعتهم للمرويات التاريخية. سينتفع المؤرخون -كما أقترح- من إعادة النظر في أولوية مقاربة المضمون على حساب الشكل، وفي الشروع أيضًا في التفكير في عملية تأليفهم «الماضي كتاريخ». وهذا لا يعني أن تدريس التاريخ التحليلي التجريبي أو الاضطلاع فيه لم يعد مجديًا، ومن الواجب التخلي عنه على اعتبار ألّا علاقة له تذكر من الناحية الإبستمولوجية. بيّد أنني أقترح أنه من الضرورة بمكان أن نعاين الآثار المترتبة على التفكير التاريخي والممارسة التاريخية لفرضية المؤرخ بوصفه مؤلفًا، والذي يُفهم على أنه صانع المرويات التاريخية عن الماضي.
الهوامش
راجع ألن مانسلو «مستقبل التاريخ» 3-4 في مواضع متفرقة.
انظر أيضاً هيدن وايت «ما وراء التاريخ: التخييل التاريخي في أوروبا القرن التاسع عشر»؛ ميشيل دي سيرتو «كتابة التاريخ»؛ بول ريكور «الزمن والسرد»؛ جاك دريدا «الكتابة والاختلاف»، «علم الكتابة»؛ رولان بارت (موت المؤلف)؛ ميشيل فوكو (ما المؤلف؟)؛ وين بووث «بلاغة السرد التخييلي»؛ جيرالد برنس «علم السرد: الشكل والوظيفة في السرد»؛ فرانك أنكرسمت «منطق السرد: تحليل دلالي للغة المؤرخ والتاريخ والمجاز: صعود الاستعارة والتمثيل التاريخي وانحدارهما» (2001)، ومؤخرًا كتابه «التجربة التاريخية السامية»؛ ميكا بال (السرد والتبئير: نظرية الفاعل في السرد)، «علم السرد: مدخل إلى نظرية السرد»، (نبيذ جديد في زجاجات عتيقة؟ الصوت، والتبئير والكتابة الجديدة)؛ مونيكا فلودرنك «نحو علم السرد الطبيعي»، الذي يقارب البنى السردية من السرد الشفهي، إلى الرواية الواقعية؛ وعلى وجه الخصوص ديفيد هرمان «منطق القصة: مشكلات السرد وممكناته». يكمن الاختراق الذي أحرزه هرمان في حجاجه السلس الذي يفيد بأن السرد أسلوب إدراكي، وجنس خطابي، ومورد للكتابة. لكني، أعتقد أن المؤرخين سيبلون بلاء حسنًا -كما سأحاجج أدناه- مبدئيًا حين يمتحون من إسهامات جيرار جنيه (السرد التخييلي: والسرد الحقيقي)، «الخطاب السردي»، و«إعادة النظر في الخطاب السردي»، ومن كتاب سيمور تشتمان أيضًا «القصة والخطاب: البناء السردي في الرواية والفيلم».
انظر أيضًا ألن مانسلو (2007) «السرد والتاريخ».
انظر أيضًا ألن مانسلو، «مستقبل التاريخ».
انظر جيرار جنيه. وأنظر أيضا (السرد التخييلي: والسرد الحقيقي)، «الخطاب السردي»، و«إعادة النظر في الخطاب السردي». وانظر أيضا سيمور تشتمان «القصة والخطاب: البناء السردي في الرواية والفيلم».
لمزيد من التحليل المستفيض حول السردية التاريخية، الذي يُفهم على أنه ممارسة خطابية، انظر مانسلو «السرد والتاريخ»، 16-63. وانظر أيضا ميشيل دي سيرتو «كتابة التاريخ»، 6.
لا يعني هذا على الإطلاق رفض مساهمات منظري السرد الآخرين، وبالخصوص مساهمة مونيكا فلودرنك (1996) في كتابها «نحو علم السرد الطبيعي»، ومساهمة ديفيد هرمان (2002) في مؤلفه «منطق القصة: مشكلات السرد وممكناته».
كل ما بجعبة المؤرخين هي جمل (وأعمال فنية) عن مكان ما، أو شخص ما، أو حدث ما في الماضي. لا يمكننا أن نستقي المكان أو الشخص أو الحدث (من) الماضي. انظر فريدريك جَيمسون «ما بعد الحداثة، أو المنطق الثقافي للرأسمالية المتأخرة» 105.
للاطلاع على أشد الدفوع وضوحا فيما يتصل بالتأرخة التقليدية، انظر سي، بِيّان مَكَالا «تبرير الوصف التاريخي».
انظر على سبيل المثال، الدفاع عن «التاريخ المعتبر» الذي قدمه چيه أَبلبِي، و أل هانت، و إم جاكوب في كتابهم «قول الحقيقة عن التاريخ»، 1.
انظر على سبيل المثال الموقع الإلكتروني لجامعة إيست أنجليا، حيث يناشد الباحثون في التاريخ للحصول على قصص جنود من مقاطعة لانكشير، ساعدوا في بناء دفاعات حربية على الساحل البريطاني. انظر
http://www.uea.ac.uk/mac/comm/media/press/2010/may/walberswicklancashire (accessed 13.48, July 15, 2010).
ربما ما يثير الدهشة أن تنجح مقاربة حديثة حول تاريخ الزمن في اشتغالات المؤرخين في أن تتجاهل تماما وظيفة السرد في تزمن التاريخ. انظر دان سمَيل (في قبضة التاريخ المقدس).
انظر – بالإضافة إلى ذلك – مجلدات بول ريكور الأساسية الثلاثة «الزمن والسرد».