جواد علي.. عَلَمٌ من أعلام الدراسات التاريخية والأثرية، وأحدُ أهمِّ المؤرخين العرب في العصر الحديث، وأهمُّ مؤرخٍ لتاريخ العرب قبل الإسلام، وصاحبُ الآراء العلمية الموضوعية التي تبتعد عن السرد والسطحية.
وفي الكاظمية غربي بغداد وُلِدَ جواد علي عام 1907، ثم انتقل إلى الأعظمية حيث تعلَّم الدين والأدب والخلق الرفيع، وتربَّى على نبذ العنف والطائفية والتعصب المقيت، هذا النبذ الذي لازمَ جواد علي طوال حياته العلمية الموسومة بالموضوعية والحيادية. وفي جامعة هامبورج الألمانية نال المؤرخ جواد علي رتبة الدكتوراه عن أطروحته: «المهدي المنتظر وسفراؤه»، وعاد بعدها إلى بغداد ليعيَّن مدرسًا في دار المعلمين العالية، ثم عُيِّن سنة 1947م سكرتيرًا للجنة التأليف والترجمة والنشر في وزارة المعارف التي استجدَّت بديلها المجمع العلمي العراقي في السنة نفسها، ليتولَّى الدكتور جواد علي أمانةَ سر المجمع.
إن هذا العالِم الذي وقفَ حياتَه على البحث في ميدان التاريخ العربي، وركز مجهوده العلمي على تاريخ العرب قبل الإسلام؛ أنتج لنا أبحاثًا تعد مثالاً للدقة والأصالة والشمول. وهو بحَّاثة ثاقب النظر، ناقدٌ لكل الآراء التي تعرض له، يتناولها بالتحليل الدقيق مؤيدًا ما يذهب إليه بالأدلة العلمية، والنقوش الأثرية القديمة.
وقد كان رحمه الله واحدًا من مؤرخي الآثار القليلين في الوطن العربي، وقد كانت له وقفاتٌ تفصيلية ودراسات مَسْحِيَّة للنقوش والآثار التي خلَّفها العربُ القدماء في شبه الجزيرة العربية، وكان- يرحمه الله- كثير التأسُّف على التأريخ غير المعتمد على الأثر أو النقش، إذ كان كثير الاعتماد على الأدلة الأثرية فيما يذهب إليه من نتائج، فإذا ما عنَّ له خبرٌ من دون نقش أو أثر أو وثيقة دالة عليه، نراه يورد جميع الآراء المختلفة ويفنِّد ما كان منها واهيًا، ثم قد يرجِّح أحد الأقوال، أو يترك الأمر للقارئ ليرى أي الأقوال أقرب إليه. ولم يكن- رحمه الله- من هؤلاء المؤرخين الذين يقسون على أصحاب الآراء الضعيفة الواهية، بل كان يذكر جميع ما أورده السابقون على سبيل الأمانة والدقة العلمية في النقل سابقًا عن سابق.
ولقد بدأ مشروعه العظيم «تاريخ العرب قبل الإسلام»، فأنجزه في تسع سنوات (1951-1960)، وطبع بمطبعة المجمع العلمي العراقي. ثم جدد فيه، واستدرك، وزاد، وفصَّل، وظهر في عنوانه الجديد «المفصَّل في تاريخ العرب قبل الإسلام»، وقد توالت طبعاته المتعددة، وما زال يُعاد طبعه حتى الآن. ويعد الكتاب الأول- على مستوى العالم ، في تخصصه وشموله وسعة معلوماته ودقتها، لا يستغني عنه باحثٌ في التاريخ العربي.
لقد استطاع جواد علي أن يتملك ناصية البحث العلمي بكل جدارة واستحقاق، لاتِّباعه منهج المدرسة الألمانية في البحث العلمي أولاً، ولتمكنه من اللغات الحية ثانيًا، فكان ضليعًا باللغتين: الألمانية والإنجليزية، مما مكَّنه من استيعاب جميع الدراسات السابقة في هاتين اللغتين، ولا سيما فيها يتصل بتاريخ العرب قبل الإسلام.
وهكذا كان الدكتور جواد علي المؤرخ متميزًا متأثرًا بالمدرسة الألمانية تأثرا كبيرا، وكان يؤكد أن وظيفة المؤرخ الحق هو إعادة تشكيل الحدث التاريخي كما وقع بالضبط. ومن ثم كان الدكتور جواد علي يدرك أن تدخل العواطف وتحكم المذهبية العقائدية من أخطر الآفات التي تواجه المؤرخ، فكان يقرر دائمًا أن المؤرخ يتعين عليه أن يتناول التاريخ بنزاهة علمية يتجرد فيها عن المذهبية المتزمتة، والأفكار المسبقة.
ويؤكد الدكتور جواد علي، في تفسيره للتاريخ، عدم الرضوخ لمدرسةٍ من مدارس تفسير التاريخ بعينها؛ تجنبًا للميول العقائدية أو السياسية، وتحذيرًا من النظرة القسرية إلى تاريخنا، وهو ما يتنافى مع ضرورات المنهج العلمي. ولذا فهو يرى أن التاريخ يستمد وحيه من واقع الظروف التي صنع فيها، وهو أمرٌ لا يُتَحصَّل إلا عن طريق الإحاطة بالروايات والوثائق الواردة في أي حدث، تحليلها وعمل الفكر فيها، والاجتهاد في الوصول الى حقيقتها.
ويذهب الدكتور جواد علي إلى أن المؤرخ يتعين أن يكون وصَّافًا عالما عادلاً، ينظر بدقة وروية إلى منشأ الروايات واتجاه رواتها، والزمن الذي عاش فيه صاحب الرواية أو ناقلها، وميوله واتجاهاته: العقائدية والمذهبية والنفسية وأثرها في صياغة الرواية. ومن ثم فإنه يؤكد أن العرب يمتلكون تاريخًا ثريًّا، وهم في غنى عن الزيادة في تاريخهم وتحميله ما ليس منه، ويحذر من قيام الدول بتزوير التاريخ من أجل غايات سياسة أو عقائدية أو مذهبية، مما يؤدي إلى شكوك تنتاب الناس في صحة هذا التاريخ وقيمته العلمية، ومن ذلك: فكرة ما يسمى بإعادة كتابة التاريخ التي نادت بها بعض الدول والهيئات، إذ يقرر المؤرخ جواد علي أن مثل هذه الدعوات لم تنبع من فلسفة أصلية مدروسة، إنما من ميول ومحاكاة ومحاباة، وهى- في مجملها- تمثل انعكاسًا لتوجهات العصر وإخضاعًا لها، وهو أمرٌ يتنافى مع البحث العلمي الرصين والخبرة العميقة الشاملة.
وقد كان لمركز المخطوطات بمكتبة الإسكندرية اهتمامٌ بجمع ما تفرَّق من أبحاث الدكتور جواد علي في: تاريخ العرب قبل الإسلام، والدراسات اللغوية والأدبية، والدراسات العربية الجنوبية – على قدر الطاقة- لنشرها في مجلَّدين تحت عنوان (الآثار العربية: منتخبات من أبحاث الدكتور جواد علي). ولا شك أن هذه الأبحاث تمثل مرجعًا مهمًّا لكل المهتمين بأصول التراث العربي وروافده، وخاصةً الباحثين في تاريخ العرب قبل الإسلام.
وأما مقدمة الكتاب التي كتبها الأستاذ الدكتور المحقِّق بشار عوَّاد معروف فقد أضافت كثيرًا لقيمة الكتاب العلمية، وقد عرَّج بنا في أثنائها على تأبين العلاَّمة محمد بهجة الأثري للمؤرِّخ الكبير الدكتور جواد علي، وأيضًا الكلام على شخصية جواد علي، ونشأته، وسيرته العلمية، ومذهبه في التأريخ، وأهم مؤلفاته. وسوف أنقل للقراء الأعزاء بعضًا مما سطره الدكتور بشار معروف في مقدمته التي كتبها لكتاب (الآثار العربية):
“تمثل هذه الأبحاث أبرز ما نشره أستاذنا الدكتور جواد علي من دراساتٍ في المجلات العلمية، ولا سيما مجلة المجمع العلمي العراقي، ومجلة «سومر»، وهما اليوم- في أعدادهما القديمة الخاصة- لا يتيسر الوصول إليهما بسهولة، ولا يتوفران لكل أحد، وهي تتضمن خمسة محاور رئيسة هي:
1 – الدراسات العربية الجنوبية: وفيها أربعة أبحاث، أولها: «أصول الحكم عند العرب الجنوبيين»، وهو بحثٌ اعتمد فيه المصطلحات المتوفرة في دراسات جنوب الجزيرة العربية، وتوصل إلى أن الحكومة في العربية الجنوبية كانت حكومة حضرية متطورة نبعت من طبيعة الأرض التي ظهرت فيها.
وثانيها: «كتابة أبرهة»، وهو نصٌّ مهمٌّ في تطور اللغة العربية ولهجاتها، وأنموذج لا يشبه الأنموذجات التي تقدمها كتب الشعر أو الأدب، وهي لهجة قلَّما كان لعلماء المسلمين علمٌ واضحٌ بها.
وثالثها: «القصيدة النشوانية»، وهي القصيدة التي نظمها نشوان بن سعد الحميري سنة 575ه، والتي جمع فيها تاريخ اليمن من أيام قحطان إلى أيام الإسلام، سار فيها واعظاً مذكراً الناس بفساد دنياهم، ووعظهم بمن أصاب من ذكرهم من المال والملك والقوة والجبروت.
ورابعها: «نقد المعجم السبئي»، وهو آخر ما نشر من أبحاثه، وتعود فكرة نشر «المعجم السبئي» وإخراجه إلى أيام انعقاد الندوة العالمية للحضارة اليمنية في عدن عام 1975م، حيث قررت الندوة بعد بحثٍ ومداولات، تكليف مجموعة من الأساتذة وضع معجم سبئي بالإنجليزية والفرنسية والعربية، ليكون مرجعًا للباحثين، يساعدهم في دراسة نصوص المسند التي عثر عليها حتى الآن، وفي إدراك معانيها بصورةٍ صحيحةٍ تساهم في الكشف عمن تاريخ الحضارة العربية قبل الإسلام، وتُمكِّن الباحثين في علم اللغات من الوقوف على خصائص لهجات المسند، وعلى مدى اختلاف بعضها عن بعض.
2 – العرب قبل الإسلام: ويشتمل على خمسة أبحاث، أولها: «التاريخ عند العرب قبل الإسلام»، وبيَّن فيه الرموز التي أرخ فيها العرب قبل الإسلام تواريخهم، من الأشخاص والأيام والوقائع، أما من حيث استعمالهم التقاويم الثابتة فظهر في هذا البحث أنهم كان يستعملون التقويم السلوقي.
وثاني هذه الأبحاث هو «المدوَّنات العربية قبل الإسلام»، وتتبع فيه النصوص المدونة بحروف ولهجات عربية في أي موضع وجدت فيه، وبأية لهجة كانت، ولا سيما بعد العثور في السنوات الأخيرة على مواضع عديدة من جنوب الجزيرة العربية، لم يكن للعلماء علمٌ سابق بها.
أما البحث الثالث فهو «مقومات الدولة العربية قبل الإسلام»، وهو من أواخر أبحاثه التي كتبها، بين فيه كيف توفرت مقومات «الدولة» في اليمن قبل الإسلام، من أرض ذات حدود، وشعب يشترك في لغة واحدة، ويعتقد بدين واحد تقريبا، وتجمعه مصالح مشتركة، ووجود جيش يحمي البلاد، ورجال أمن يحفظون العباد.
وتناول البحث الرابع «أصنام العرب» بيَّن فيه أن أول من غير دين إسماعيل، فنصب الأوثان، وسيب السائبة، ووصل الوصيلة، وبحر البحيرة، وحمى الحامية، عمرو بن ربيعة، وهو لحي بن حارثة بن عمرو بن عامر الأزدي، أبو خزاعة. والصنم في تعريف اللغويين: هو ما اتخذ إلها من دون الله، وما كان له صورة كالتمثال «مثال»، وعمل من خشب أو ذهب أو فضة أو نحاس أو حديد، أو غيرها من جواهر الأرض، وقد فرق بعضهم بين الصنم والوثن، بأن جعل الصنم ما كان من حجر أو غيره، والوثن ما كان من غير صخرة كالنحاس ونحوه.
وعني البحث الخامس بــ”أصنام الكتابات» وقصد به: الاصنام التي عرف خبرها وأمرها من الكتابات الجاهلية، أي من الكتابات المدونة بلهجات عربية في الغالب، وقد كتبت ودونت قبل الإسلام، وذلك تمييزا لها عن الأصنام التي أخذنا علمنا بها من روايات أهل الأخبار في الغالب. وقد دونت في الإسلام، ولا سيما من روايات ابن الكلبي، الذي جمع أسماء عدد من أصنام قريش والقبائل في كتابه الشهير المعروف بكتاب «الأصنام» ومن روايات أبي الحسن علي بن الحسين فضيل بن مروان، والجاحظ.
3 – دراسات في اللغة والأدب: وقد احتوت على مقالتين مهمتين، أولهما: عن «لهجة القرآن الكريم»، إذ حاول الباحث فيه الوقوف على اللهجة التي نزل بها القرآن الكريم، وهل هي لهجة واحدة أم لهجات متعددة؟
وثانيتهما: تناول فيها «تدوين الشعر الجاهلي»، وحاول فيها أن يجيب عن مجموعة من التساؤلات العلمية من مثل: لماذا لم يدون شعراء الجاهلية أو المعنيون بأشعارهم هذا الشعر بقراطيس أو دواوين أو كتب مع أنه تراثهم الخالد؟
4 – الموارد والمصادر: وتضمن هذا القسم مبحثين في غاية من الأهمية، أولهما: «موارد تاريخ الطبري» الذي يصلح وحده أن يكون كتاباً مستقلاً، فقد نشر منجماً في أربعة أعداد من مجلة المجمع العلمي العراقي ابتداءً من سنة 1950م، ولم ينته منه إلا في سنة 1964م، تناول فيه موارد هذا التاريخ العظيم قبل الإسلام، ثم موارده في تاريخ الفرس والروم، وتلاه بموارد في تاريخ الغرب قبل الإسلام والسيرة النبوية، ثم الخلافة، وتوقف عند هذا الحد.
أما الثاني فهو على طراز الأول، لمؤرخ آخر هو المسعودي في كتابيه » مروج الذهب ومعادن الجوهر» و«التنبيه والإشراف». (هنا انتهى كلام الدكتور بشار معروف).
ولا ينتهي جمع هذه الأعمال البحثية للمؤرخ جواد علي، والتي تمثل صورة علمية رصينة، تُظهر ما لتراثنا العربي من جذورٍ معرفية عميقة؛ عند مجرد جمع هذه الأبحاث في مجلد أو مجلدين وحسب، بل تكمن فائدة الجمع فيما يضيفه الجامع من ضبطٍ للنصوص المجموعة، والتعليق عليها في بعض الأحيان، وما يصنعه من فهارس فنية وكشَّافات تضيف إلى عملية الجمع صفة البحثية.
ولا أجانب الصَّوابَ إذا قلتُ إن فهارس هذا الكتاب الاثني عشر تعد بحقٍّ إضافةً مهمة تؤكد كَوْنَ هذا الكتاب عملاً بحثيًّا رصينًا؛ إذ تضيء هذه الفهارس الطريق أمام القارئ ليفهم إشارات المؤلِّف التي أوجزها في متن الأبحاث، وليطَّلع على السياقات التاريخية والاجتماعية لموضوعات الأبحاث. ويعد هذا الكتاب الذي أصدرته مكتبة الإسكندرية عام 2014 عملاً مرجعيًّا، وشاهدًا على عناية مركز المخطوطات بالأبحاث التراثية الرصينة، وإضافةً حقيقية إلى مسيرة مكتبة الإسكندرية العلمية التي ترنو إلى تأسيس وعي حقيقي بالتراث العربي والإسلامي، من خلال الوقوف على آثار عَلَمٍ من أعلام الدراسات التاريخية والأثرية.. العلاَّمة المؤرخ جواد علي.
مدحت عيسى *