حسن الوزاني
يواصل المترجم الإيراني موسى بيدج رحلته العاشقة بين الثقافتين العربية والفارسية، تسبقه في ذلك أعماله المهمّة على مستوى الترجمة في الاتجاهين والتي قاربت الخمسين عملا . من أعماله على مستوى ترجمة الأدب العربي إلى الفارسية: “بلقيس وقصائد أخرى” لنزار قباني، و”الحب ليس مهنتي” لمحمد الماغوط، و”العصافير تموت في الجليل” لمحمود درويش، و”ليس لدينا وقت للموت” لسميح القاسم، و”عيسى ابن الإنسان” لجبران خليل جبران، و”السمفونية الخامسة للجنوب: مختارات من الشعر العربي الحديث”، و”هنا على جذع شجرة: مختارات شعريّة لشعراء عرب من شمال إفريقيا”. كما ترجم موسى بيدج، في الإطار نفسه عددًا من الأعمال الأدبيّة الإيرانية إلى العربية، منها “مختارات شعريّة” للشاعرة طاهرة صفار زادة و”مختارات شعرية” للشاعر قيصر أمين بور.
ما الأسباب التي كانت وراء اختيارك العربيّة لغةً للترجمة ؟
لا أستطيع أن أحدّد سبباً واحداً لاختياري اللغة العربية؛ فهناك أسبابٌ ومؤثرات متعددة لاشك أنها كانت دخيلة في هذا الاختيار. إحدى هذه المؤثرات هي نصيحة بعض أساتذتي في المدرسة الابتدائية، آنذاك كانت قد ظهرتْ عندي بوادر الميل للقراءة والكتابة، فنصحني بعض أساتذتي بهذه العبارة: “إذا كنتَ تريد أن تكتب فعليك أن تقرأ ما كتبه السابقون أولاً. وبما أن السابقين كتبوا نتاجاتهم باللغتين العربيّة والفارسيّة فعليك أن تتزود بشيء من لغة العرب”؛ فما عدا الأعمال التي كتبها باللغة العربية الأدباءُ والعلماء الإيرانيّون أمثال السهروردي وابن سينا والفارابي والخوارزمي وابن المقفع وسيبويه وبديع الزمان الهمداني والكثير غيرهم، فهناك شعراء إيران الكبار، من أمثال سعدي وحافظ الشيرازيين وجلال الدين المولوي الرومي والجامي ومسعود سعد سلمان، الذين أبدعوا نوعًا خاصًّا من الشعر يُعرف بالشعر الملمع، الذي تتآخى فيه اللغتان العربيّة والفارسيّة داخل القصيدة. كما تُحدثنا كتبُ تاريخ الأدب أن هناك ما يربو على مئتي شاعر إيراني كتبوا قصائدهم بالعربية مباشرة. هذا ما عدا من كانوا من أرومة فارسيّة مثل بشار بن برد وأبو نواس ومهيار الديلمي والطغرائي الأصفهاني وآخرين.
وقد دفعني هذا الأمر كي أغوص في محيط اللغة العربية وأبحر بشراع صغير فيها، وحينما اكتملتْ أدواتي أو ظننتُ أنها اكتملت وأصبحتُ متمكناً من الترجمة بدأتُ مشواري في نقل بعض ما تيسَّر، حسب قدراتي وإمكانيّاتي الفردية ليصبح رصيدي لحد الآن، في الترجمة إلى الفارسية، يهمُّ أكثرَ من مئتي شاعر وأديب، وفي المقابل، ترجمتُ أيضاً لأكثر من هذا العدد إلى اللغة العربية؛ وحسب ما ترى، فإن ترجماتي، وإن كان يُوجد فيها الأدب القصصي والدراسات والبحوث، لكنها في الأساس تتركز على نقل الشعر من اللغتين وإليهما.
ولِم الشعر قبل غيره؟
هناك سببان رئيسان. أولاً، فأنا وإن كتبتُ القصةَ والمقالة والدراسات النقديّة الأدبية، يبقى أنّني أنتمي إلى عالم الشعر قبل أي من الأنواع الأدبية الأخرى؛ طبعا من دون أن أقللَ من شأن تلك الأجناس، فهي ليست أقل جمالا ومكانة. السبب الثاني هو أنني أرى أن الكثير من المترجمين يتغاضون عن ترجمة القصيدة لأسباب متعدّدة، ومنها أن ترجمة القصيدة تحتاج إلى التحكم في اللغة والإلمام بالثقافة والأدب عموماً.
كيف تعيش تجربة هذا الاختيار على مستوى الحياة؟
بالنسبة لي، وبعد مرور كل هذه السنين، لا تُعدّ الترجمة تجربةً؛ وإنما هي الحياة بعينها. الترجمة أكسبتني معارفَ جمة، وأهدتني صداقات ثمينة، إذ تعرفتُ من خلالها إلى عشرات الأشخاص الذين أصبح بعضهم أصدقاء لا غنى عنهم وعن نتاجاتهم في الحياة. حاليا، أنا أمارس طقوسي في الترجمة من دون أن أفكر أنني أترجم، إذ إنني أعيش حياتي باللغتين العربية والفارسية، إلى جانب لغتي الأم وهي الكوردية الجنوبية (بلهجتها الفيلية).
ما الذي يقودك في اختيار ما تترجمه؟
الحكمةُ ضالّة المؤمن والكلمة الجميلة ضالتي. أنا أبحث عن كل ما يُضفي جمالاً على حياتي وعلى حياة الآخرين. كلنا نعرف أنه لولا الإبداع والفن لكانت الحياة لا تُطاق بثقلها؛ فهبة الكائنات، إلى جانب الكتب السماويّة، هي تعليم فصول من الإبداع إلى البشر. أنا أبحث في الأدب عمّا يُمَكن الروحَ من الاغتسال في مياه آباره الشفيفة، وقد يكون ذلك عبر كلمة حلوة، أو عبارة مضيئة، أو نصيحة جماليّة. أبحث عن موقد لنتدفأ به في شتاءاتنا الباردة، وعن مواطن الجمال ومنابت غنى الروح في عصر الأسلاك الشائكة.
في بحثي هذا، إذا عثرتُ على قصيدة أو أي جنس أدبيّ آخر وتلمستُ فيه الجمالَ الذي يمكن أن يُمَتع روحي، أحاول أن أتقاسم هذا الجمال مع الآخرين، من خلال نقله إلى اللغة الأخرى، عربيّة أو فارسيّة.
وعلى هذا الأساس، فاختياري للنص لا يعول على اسم الأديب المبدِع أولاً، وإن كان ذا أهمية، ولكن النصّ هو الحاكم الأول في اختياري للترجمة.
كيف ترى اهتمام المثقفين والقرّاء الإيرانيين بترجمة الأعمال الأدبيّة العربيّة؟
هذا السؤال يأخذنا إلى سؤال أعمق عن دور الثقافة في مرحلتنا الراهنة، في منطقتنا، أو لنقُل في العالم الثالث برمّته. فهناك تراجعٌ كبير في التوجه العام نحو الثقافة والقراءة، والكِتاب شبه يتيمٍ في بلداننا. وقد أثَّر هذا الأمر بشكل سلبي في طباعة ونشر الكِتاب المؤلَّف أو المترجَم. مع هذا، يُمكنني أن أؤكد أن الساحة الثقافيّة قد شهدت، خلال العقدين الأخيرين، تطوراً ملحوظاً في التوجه نحو الأدب العربي الحديث، ودخل إلى هذه الساحة مترجمون شبان عملوا على نقل القصيدة والقصة والرواية الحديثة من العربية إلى الفارسية. وبدورها، بدأت دورُ النشر تهتم، بشكل أكبر، بما يُنتج من أدب في البلدان العربية.
لا أريد أن أزعم أن كل من جاء ليُدلي بدلوه في بئر الترجمة قد نضحت تجربتُه، فهناك من جاء بالخطأ وهناك من يُسيء إلى النصوص المنقولة سهواً لشحّ أدواته. وبشكل عام، هناك إقبال جيّد على الرواية العربية، ثم على نصوص بعض الأدباء العرب، الذين اشتهروا في الساحة الثقافية في بلدنا. ومثالًا على ذلك، تقف مختاراتي الشعرية من قصائد نزار قباني على عتبة الطبعة العاشرة، ووصلت ترجماتي لجبران خليل جبران إلى طبعتها الخامسة، وهو ما يهم أيضًا ترجماتي الأخرى. وهذا دليل على أنّ الأدب العربي بدأ يشكل مساحة له بين الترجمات العالمية في إيران.
في مقابل هذه المؤشرات، كيف ترى وضعيّة الترجمة من الفارسية إلى العربية؟
كما قلتُ سابقا، شهدتْ لحظةُ العقدين الماضيين تطورًا على مستوى نسبة الترجمة من الأدب العربي إلى الفارسية بنحو ملحوظ، ولكن في المقابل، يتسمُ تقدمُ نقل الأدب الإيراني إلى العربية بوتيرة أقل نسبياً؛ فمترجمو الأدب الإيراني الحديث إلى العربية يُعَدُّون بأصابع اليد. فعندما نُسمّي أحداً ما “مترجماً “فيجب عليه أن يتميز بالاحترافية لغوياً وفنيًّا وإبداعيًّا، بمعنى أن يمتلك اللغةَ وأن تكون أدواته الفنيّة الخاصة بالترجمة مكتملة، وأن يكون إبداعه مصونا من ناحية الذوق الأدبي والرصانة في اختيار الموضوع ونقله. ولكننا راضون بالحدّ الأدنى، وهذا أضعف الإيمان، خصوصًا إذا قارنّاه بالترجمة من اللغات الأخرى؛ إذ إننا لو شبَّهنا الترجمةَ من الإنكليزية والفرنسية في إيران والبلدان العربية بنهر فسيكون هادراً، وفي المقابل، نجد أنّ التّرجمة بين العربيّة والفارسية، لا تتجاوز، في رحلة صيفها وشتائها، أن تكون ساقية نحيفة!
تَرأسُ تحرير مجلة شيراز المختصّة في ترجمة وتقديم الأدب الإيراني إلى العربية. إلى أيّ حدّ ساهمت هذه المجلة في تقريب الأدب الإيراني مــن القارئ العربي؟
مجلة شيراز في الواقع هي مجلّة فصلية، وتحولت إلى مجلة حوليّة بسبب تأزّم الأوضاع الماليّة للمؤسّسة الداعمة لها. مع هذا، حاولتْ هذه المجلة، وفقاً لظروفها وعلى قدر إمكانيّاتها، أن تعمل على رأب الصّدع الموجود بين الأدبين العربي والإيراني؛ ففي الأعداد العشرين التي صدرت منها، قدَّمت للقارئ العربيّ أكثر من مئتي أديب إيراني، سواء من خلال السير المختصرة أو القصائد أو القصص القصيرة. كما عملتْ على التعريف بقامات أدبيّة وأكاديميّة كبيرة قامت بجهودها لدعم الأدبين العربيّ والإيراني خلال القرن العشرين، من أمثال عبد الوهاب عزام الذي أخرجَ ترجمة شاهنامه الفردوسي، التي كانتْ مطمورة تحت غبار النسيان منذ ستة قرون، وإبراهيم الشواربي الذي أهدى ديوان أغاني شيراز لحافظ الشيرازي إلى المكتبة العربيّة، ويحيى الخشاب الذي عَرَّف القارئ العربي بالشاعر والرحالة ناصر خسرو، ومحمد الفراتي الذي نقل آثار سعدي الشيرازي إلى العربية؛ وما أكثر الذين نقلوا رباعيّات الخيام من لغتها الفارسيّة إلى العربيّة وعلى رأسهم أحمد رامي والصافي النجفي وإبراهيم العريض، وخمسين آخرين. وهناك أجيال أخرى تتابعت وظهرت فيها أسماءٌ كبيرة شاركت ودعمت عمليّة انتقال الأدب الإيراني إلى العالم العربي من خلال الترجمة والدراسات والرسائل الجامعية؛ والأسماء كثيرة وتحتاج لدراسة أوسع. وعودة إلى سؤالك عن إسهام مجلة شيراز، لا أعتقد أنني قادر على الإجابة، لأنني معنيّ بهذه المجلّة ولا يحقّ لي الاسترسال في تبيان دورها وإسهامها، وأستحضر هنا بيتًا لجلال الدين الرومي بما معناه “كم جميل أن يأتي وصف الحبيب في حديث الآخرين”. يبقى أن أضيف بأنني كتبتُ على ناصية المجلة بعد العنوان “نافذة على الأدب الإيراني”، ونحن نحتاج إلى نوافذ كثيرة مُشرعة بين الأدبين العربي والإيراني.
عدتَ مؤخرًا بديوانك الجديد. هل ما زلت تشعر بأن وضعك بوصفك مترجمًا كان أحياناً على حساب صورتك باعتبارك شاعرًا؟
هذا الكلام صحيح، والإحساس موجود منذ أن ثقلتْ كفةُ ميزاني لصالح الترجمة على حساب التّأليف. فأنا قد أصدرتُ خمس مجموعات شعرية وأربع مجموعات قصصيّة، وإذا وضعتها في كفّة أمام كفّة الترجمة التي اجتاز عددُها خمسة وأربعين كتاباً، من الطبيعي أن تصبح صفتي الأولى: المترجِمُ فلان!
أكيد أن الترجمة استنزفتْ الكثير من ساعاتي وسنواتي، التي كان من الممكن أن أعمل فيها لصالح قصائدي وقصصي، بالإضافة إلى روايتي التي كتبتها منذ زمن ومخطوطها على طاولتي، يعاتبني شخوصها: “لِم لا تَقرؤنا وتُنقحنا وتُرسلنا إلى النشر؟! “؛ مع كل هذا، لا تنسَ أن الشعراء والكتاب كثيرون والمترجمون عددهم قليل. إذن، أنا لست نادماً ولا أشعر بخسارة ما، والذي يسعدني هو أنني أشعلتُ بعضَ الشموع في طريق الترجمة بين الضفتين. وبالنسبة إلى مجموعتي الشعرية “رجلٌ لا يصلح للحب”، التي نُشرت حديثاً في القاهرة فأكيد ستعثر على قرائها.
ما الذي یمكن أن تلعبه الثقافة في زمن كورونا؟
هذا سؤال أظنّه حديث الولادة! والإجابة عليه صعبة نوعاً ما. ولكن إذا نظرنا إلى الموضوع من زاوية أخرى واعتبرنا أن أدوات الثقافة هي وسائط الإعلام، وتُمثلها الإذاعة والتلفاز والصحف بأنواعها ومواقع التواصل الاجتماعي برمّتها، فآنذاك سنقول إن الثقافة تلعب دورًا بارزًا في توعية المواطن كي يراعي الإرشادات الصحيّة قصد المحافظة على ذاته وعائلته وجيرانه وأصحابه وإخوانه، وتقنعه بأنه لا يستطيع أن ينجو بنفسه من دون الآخرين، وأن عليه أن يكون كائناً اجتماعيّا وليس فرداً يعيش في غابة نائية.
من ناحية أخرى، لا شك أن هذه الجائحة التي أرهبتْ العالم ستدخُل في كتابات المبدعين بأنواعها، وستنبّه القراء بما يمكن أن تضمر الطبيعة لهم من مأساة إن استمروا في غفلتهم، كما فعل ألبير كامو في كتاب “الطاعون ” مثلاً، أو كما كتب جاك لندن في روايته “الموت الأحمر”، أو كما كتبت نازك الملائكة في قصيدة “الوباء”. ما عدا هذا، فالكورونا قلبتْ الكثيرَ من القيم والطقوس؛ ولعلّ الوباء يفصل العالم تاریخیًّا إلى ما قبل كورونا والعالم بعد كورونا.
كيف عشت الحجر الصحي؟
في الحقيقة، أنا ومنذ الإعلان عن تفشّي هذه الجائحة منذ خمسة شهور لم أخرج من البيت إلا لضرورة قصوى. في البداية، كنت أظن أنه سيكون لدي الكثير من الوقت لإتمام أعمال غير منتهية، لكن لا أعرف لماذا لم تتم بالشكل المطلوب. لا شك أن الكتابة تحتاج لـ “خلق” والتباعد الاجتماعي يسلبه، ولكنّني مع بطل فلم “الفراشة” في المشهد الأخير، حيث يصرخ من فوق الصخرة: “أنا مازلت حياً وطلیقاً”، لأقول: “أنا مازلت أكتب وأترجم!”.