كاتبة عربية تقيم في لندن كاتب وأكاديمي من الكويت
يقول الشاعرُ والروائي الفلسطيني «محمد الأسعد» في حوار ٍ مشترك مع المؤرخ الإسرائيلي «يوسف الغازي» أدارته الصحفية ُ الفرنسية «فرانسواز جيرمين – روبن»: «بالنسبة لي هناك شعب فلسطيني واحد، ولم أفكر أبدا ً انه من أجل إعطاء جزء منه حقه علينا استبداله بحق جزء آخر. يجب أن تأخذ أجزاء الشعب الفلسطيني الثلاثة في اعتبارها مصالح الفلسطينيين ؛ من يعيشون في إسرائيل، ومن يعيشون في الضفة الغربية وغزة، ومن يعيشون في البلدان العربية»(1).
تاريخيا، تمتلك فكرة «العناصر» الثلاثة للشعب الفلسطيني جذورها في الواقع الذي نشأ في العام 1948، أو ما أصبح يعرف ياسم النكبة في الذاكرة الفلسطينية : إنشاء دولة إسرائيل على ما يقارب ثلثي أرض فلسطين الذي خلق هذه العناصر الثلاثة(2). والسبب هو الطرد القسري لغالبية سكان فلسطين، وبقاء أقلية صغيرة ضمن مناطق الدولة التي قامت حديثا ً. وبعد ما يقارب ثلاثين عاما ً، ستجد البقية الباقية من الشعب والأرض نفسها تحت الاحتلال العسكري الإسرائيلي في الأجزاء الشرقية والجنوبية من فلسطين، وهي ما أصبح يشار إليها اليوم باسم الضفة الغربية وقطاع غزة(3).
من هنا، فإن ما تحمله فكرة «الأسعد» ضمنيا ً عن مكونات الشعب الفلسطيني الثلاثة هو الطبيعة التكاملية للتجربة الفلسطينية التي ولدها بهذه الطريقة أو تلك إنشاء دولة إسرائيل، وخسارة الفلسطينيين لوطنهم تبعا ً لذلك، رغم أن هذه الولادة حدثت بطرق ثلاث مختلفة إختلافا تاما ً.
إن أهمية هذه الفكرة السياسية ـــ الإجتماعية عن مكونات الشعب الفلسطيني الثلاثة تكمن في دورها الذي يساوي أهميتها السياسية ــ الاجتماعية في تقييم الأدب الفلسطيني. ويرجع السبب إلى أنه «مادامت كل كتابة تحتوي على رموز تستحضر دلالات معينة في عالم الواقع الموضوعي، فعلى أية دراسة للاعمال الأدبية بذل جهد خاص للإمساك بعالم الرموز التي تخلقها هذه الأعمال من أجل فهم المعنى الذي توحي به، المعنى الذي يتجاوز الدلالة الموضوعية المباشرة لكل رمز من هذه الرموز ويمضي إلى ما ورائها(4).
وباستخدام الدلالة الموضوعية لخسارة الوطن، بوصفها العنصر المشترك الذي تلتقي حوله الأعمال الأدبية الفلسطينية للمكونات الثلاثة عبر ثيمات رمزية مشتركة، يمكن الدفع بأن المعاني التي توحي بها الرموز التي تستحضرها الثيمات المشتركة، وتتجاوز الدلالات المباشرة موضع البحث، هي موضع تكاملية التجربة الفلسطينية ذاتها. وهكذا لا يمكن فهم التجربة الفلسطينية، وبتوسع أكثر، المأزق الفلسطيني، كما تعبر عنها الأعمال الأدبية المختلفة، إلا حين يُنظر إلى التجربة الفلسطينية نظرة ً تاريخية تسمح من جانبها بتحليل الأعمال الأدبية الفلسطينية للمكونات الثلاثة تحليلا مقارنا.
انطلاقا ً من هذا، ستبدأ هذه الورقة بموجز ٍ عن حياة كاتبين فلسطينيين من مكونين مختلفين، الأول «إميل حبيبي» الذي ظل في وطنه ليصبح مواطنا ً فلسطينيا ً في إسرائيل، والثاني هو «محمد الأسعد» الذي أصبح لاجئا ً فلسطينيا ً نتيجة طرده قسرا ً إثر قيام دولة إسرائيل. ثم تقدم الورقة بعد ذلك موجزا ً لروايتي الكاتبين: «الحياة السرية لسعيد إبي النحس المتشائل و«أطفال الندى» اللتين تتناولان تجربتين مختلفتين ومتكاملتين في الوقت نفسه. وسيتيح لنا هذا المقارنة بين خمس ثيمات رمزية مشتركة تدور حول الدلالة الموضوعية لخسارة الوطن في الروايتين : النكبة كبداية/ بداية الميلاد مجدّدا، والغزو الصهيوني لفلسطين كواحد ٍ من سلسلة غزوات تاريخية، وإضفاء نسيج الذاكرة التوراتية على الأرض لتبرير الغزو الصهيوني واستثنائيته المزعومة كما يعتنقها الغزاة، والغزو الصهيوني في العام 1967 لما تبقى من فلسطين كاستمرار لغزو العام 1948، وأخيرا ً الشعب الفلسطيني بوصفه تكوينا ً من ثلاثة عناصر مختلفة متكاملة رغم الحدود الجغرافية ــ السياسية التي أقامتها الدولة الإسرائيلية.
الجدير بالملاحظة أن هذه الثيمات الرمزية المشتركة التي ذكرنا ليست هي الوحيدة التي تدور حول الدلالة الموضوعية لفقدان الوطن التي يمكن أن نجدها في الروايتين، ولكن لأن الهدف هو التركيز على جوهر فكرة التكامل، لن نناقش هنا سوى هذه الثيمات الرمزية المشتركة الخمس.
وفي النتيجة، سنقدم تحليلا يتم فيه تقييم العلاقة بين هذه الثيمات والمعنى الذي تقترحه، ذلك المعنى الذي يتجاوز الدلالة الموضوعية المباشرة لفقدان الوطن، إلى تكاملية التجربة الفلسطينية ذاتها.
حبيبي مقابل الأسعد :
الحياة السرية لسعيد أبي النحس المتشائل مقابل أطفال الندى
انتمى «إميل حبيبي» المولود في «حيفا» في العام 1919 إلى الحزب الشيوعي الفلسطيني في العام 1940، وتولى بعد ذلك مسؤولية رئاسة تحرير صحيفة الحزب الأسبوعية «الإتحاد» وبعد قيام دولة إسرائيل انضم «حبيبي» إلى الحزب الشيوعي الإسرائيلي، وسيكون ممثله في مابعد في الكنيست طيلة التسعة عشر عاما اللاحقة. وكان «حبيبي» أيضا ً، بالإضافة إلى نشاطه السياسي، روائيا ً وكاتب قصة قصيرة وكاتبا ً مسرحيا ً وصحفيا ً. وظل يمارس نشاطه السياسي والأدبي حتى وفاته في «حيفا» في العام 1996.
رواية «الحياة السرية لسعيد أبي النحس المتشائل»المنشورة بالعربية لأول مرة في العام 1974 (وسيشار إليها في ورقتنا باسم «المتشائل») هي قصة حياة بطلها «سعيد» الذي ظل في وطنه، وأصبح مواطنا ً فلسطينيا ً في إسرائيل بفضل تعاونه مع الدولة الإسرائيلية.
جاءت هذه الرواية توليفا ً من «هجاء ٍ ساخر، وقصة رمزية شفافة شبه خيالية، وتوريات ٍ لاتحصى، وتلاعب بمعني الكلمات، والمفارقات «(6) إتخذ شكل سلسلة من الرسائل الساخرة من الفضاء الخارجي، يقص فيها البطل المأساوي ـــ الساخر بالتفصيل (وليس مصادفة ً أن يعني اسمه «الإنسان السعيد») حياته خلال الثلاثين عاما ً الأولى من عمر الدولة على صديق غير مسمى، هو الراوية ذاته. وتنقسم الرواية إلى ثلاثة كتب يحمل كل واحد منها اسم امرأة في حياة البطل خلال الفترة التي تتناولها الرواية.
فإذا كان «حبيبي «قد أصبح مواطنا ً إسرائيليا ً في إسرائيل نتيجة للفقدان التاريخي للوطن، وإذا كان بالإمكان رؤية «المتشائل»ممثلا للفلسطينيين (رجالا ونساء)(7) الذين ظلوا، لالشيء سوى أن يصبحوا غرباء لا ــ مواطنين في وطنهم، يمكن القول بالقدر نفسه أن «الأسعد «أصبح لاجئا ً محروما ً من أرضه نتيجة للفقدان التاريخي نفسه للوطن، وأن «أطفال الندى» يمكن النظر إليهم كممثلين للفلسطينيين (رجالا ونساء) الذين طردوا قسرا ً خلال وبعد قيام الدولة وأصبحوا لاجئين بلا أرض.
أصبحت أسرة «الأسعد»، المولود في قرية «أم الزينات «على أطراف «حيفا» في العام 1944، أسرة ً لاجئة بعد قيام الدولة وما تبعه من طرد قسري للقرويين وتدمير «أم الزينات»، واستقرت في نهاية المطاف في مدينة «البصرة» العراقية، وهناك قضى «الأسعد» سنوات تكوينه الأولى كلاجئ فلسطيني، ثم انتقل إلى «الكويت» في العام 1968 حيث مارس مهنة الصحافة. وهو بالإضافة إلى مهنة الصحافة، روائي وشاعر وناقد أدبي وثقافي(8).
رواية «أطفال الندى»، المنشورة بالعربية لأول مرة في العام 1990، توليف ٌ من ذاكرة الكاتب الذي شهد النكبة في سن الرابعة من عمره، والأخيولة الجامحة، وقصص الفلاحين المقتلعين من أرضهم «سكان الجوز الذين بنوا بيوتهم ومصائرهم بين جدران حبات الجوز، فاجتاحهم الطوفان وقوض مساكنهم، وما عرفوا حتى هذه اللحظة ما حدث ولا كيف حدث(9). وبهذا التوليف تعيد رواية شظايا حياة كانت ذات يوم بعد أربعين عاما ً تقريبا: «أنا أسير ُ الآن في أسطورة ٍ ولا أتوازى معها، وأحاول الاندماج فيها بحثا ً عن خلود ٍ من نوع خاص، أو عن نوع من الحياة كان خالدا ً… وأسير في طرق الأحداث التي كانت قبل ميلادي أو بعده»(10).
ويستخدم «الأسعد» في سرد روايته، المكتوبة بلغة ٍ شعرية مؤثرة، أسلوب َ تيار الوعي مع قفزات زمنية ومكانية. ولهذا فإن «أطفال الندى»«لاتعيد إنشاء التاريخ… لأن التاريخ لايعيد الناس إلى الحياة بل يستخدمهم في الوقت الذي يتجاهلهم فيه»(11)، ولكن يمكن القول ميتافيزيقيا ً أن الرواية بدلا من ذلك «تقيم حوارا ً مع التاريخ بمساعدة الذاكرة»(12).
المقارنة بين الروايتين يمكن أن تثير إشكالية بسبب اختلاف أسلوب الروايتين واختلاف المحتوى أيضا ً، ولكن حين تفهم «المتشائل» و«أطفال الندى» بوصفهما تمثلان تجربتين فلسطينيتين مختلفتين ومتكاملتين في الوقت نفسه، الأولى نتاج أن يصبح الإنسان ُ غريبا ً لاــ مواطنا ً في دولة إسرائيل، والثانية نتاج أن يصبح الإنسان ُ لاجئا ً محروما ً من وطنه بسبب قيام دولة إسرائيل، تتجلّى أهمية المقارنة بين هاتين الروايتين رغم اختلافاتهما العديدة لأغراض التحليل كما قلنا في المقدمة.
نقاط الإلتقاء :
الثيمات الرمزية المشتركة التي تدور حول الدلالة الموضوعية لفقدان الوطن
يمكن أن نقع على الثيمة الأولى بالاستحضار الرمزي للنكبة كنقطة بداية /بداية إعادة الولادة في كلتا الروايتين.
باسلوب «حبيبي» المأساوي ــ الساخر، يخبر «سعيد» القارئ أولا أن سبب بقائه على قيد الحياة بعد حرب العام 1948 كان كرما ً من «حمار «تلقى من دون أن يدري الرصاصة التي كانت تستهدف «سعيد». وهكذا يعلن: «حياتي اللاحقة في إسرائيل إذن كانت بالفعل هبة ً من ذلك الحيوان السيء الحظ»(13). وتبرز المفارقة الصارخة في نقطة بداية حياة البطل حين يتساءل «سعيد» لاحقا ً: «أية قيمة يجب أن تكون لحياة مثل حياتي إذن ياسيدي المحترم؟»(14).
ويختار «الأسعد»، وهو يستحضر استحضارا ً رمزيا ً ثيمة النكبة كنقطة بداية / بداية إعادة الولادة «ذلك الفجر الذي وجدتني أسيرُ فيه في غمامة ٍ يحيط بي أناس ٌ يتنادون بين الصخور وهم يسيرون ضائعين في الضباب… وتلك القطعة من الليل فوقنا تخترقها جمرات ٌ حمراء… ليل خروجنا من أم الزينات بعد أن احتلها اليهود»(15). وهكذا، كما في تجربة «سعيد»، فإن النكبة وقيام دولة إسرائيل هما اللذان يستخدمان استخداما رمزيا كعلامة على نقطة البداية / بداية إعادة الولادة، رغم أنهما يستخدمان ولا شك بطريقتين مختلفتين إختلافا ً تاما في الإشارة إلى أولئك الذين أجبروا على المغادرة مقابل أولئك الذين ظلوا. ويكتب «الأسعد «في الرواية لاحقا ً وهو يتناول نقطة البداية العائدة: «لقد ولدت ُ ماشيا ً على قدميّ إلى جانب إنسانة مجهولة… أو ولدت لأول مرة تحت ليل ٍ ما، والرصاص جمر ٌ يتتابع في السماء»(16).
هناك ثيمة رمزية أخرى يمكن العثور عليها في كلتا الروايتين تدور حول الدلالة الموضوعية لفقدان الوطن، إنها استحضار الكاتبين لغزوات سابقة لفلسطين، بالإضافة إلى العلاقة المتبادلة الواضحة التي يرسمان بين هذه الغزوات وبين الغزو الصهيوني.
يعلم «سعيد» خلال حديثه مع أستاذه في «عكا»«أن الصهاينة ليسوا أسوأ من آخرين من أمثالهم في التاريخ… إنهم أكثر رحمة ً من الغزاة الذين عرفهم أجدادنا قبل سنوات»(17). وفي مناقشة فظائع غزاة تنوعوا بين صليبيين ومغول ومماليك وعثمانيين وأتراك وفرنسيين وانجليز، يعلمه أستاذه أن الفرق الوحيد بين الغزاة المذكورين آنفا ً والغزاة الجدد هو أن السابقين ذبحوا وسرقوا وغادروا، بينما الصهاينة ذبحوا وسرقوا وأقاموا. ومن هنا تقال لنا هذه المفارقة، وهي أن اسم الأرض المقدسة، كضد لكونها تحمل قيمة مقدسة، مشتق في الحقيقة من أنها أرض خضبها الدم الإنساني على مدى آلاف الأعوام : «كل بقعة من أرضنا جعلها دم المذبوحين مقدسة، وسيتواصل تقديسها بهذه الطريقة»(18).
وعلى نحو مماثل يشير «الأسعد»في «أطفال الندى» إلى الغزاة أنفسهم، وإلى الفظائع نفسها أيضا، مثل مذبحة أهل «عكا» على أيدي الصليبيين، ومذبحة رجال «يافا» أيضا على سواحلها على يد جيش نابليون. ويقيم «الأسعد»، وهو يقارن بوضوح هذه الغزوات الدموية السابقة بالغزو الصهيوني لفلسطين، تجاورا ً بين قصص الفظائع السابقة وبين قصة مصير فلاحي قرية «الدوايمة» القريبة من مدينة «الخليل»، بأسلوب ٍ ذي طابع شخصي رفيع، ومن هنا نزعته الإنسانية، وهو ما يجعل الغزو الصهيوني مجرد غزو في سلسلة غزوات تاريخية: «أولئك الفلاحون من قرية «الدوايمة» الذين استيقظوا تحت سمائهم على أصوات رصاص وقنابل اليهود القادمين من غيتوات أوروبا الكالحة، فلجأوا إلى المغارة بأطفالهم ونسائهم، فأغلق البولونيون والتشيك والروس والبلغار والألمان عليهم باب المغارة وأضرموا النار في مدخلها ليختنق الجميع بالدخان»(19).
في كلتا الروايتين، «المتشائل» و«أطفال الندى»، يجيء وضع الغزو الصهيوني موضع غزو في سلسلة غزوات تاريخية جنبا إلى جنب مع تفنيد جليّ لأسطورة إختلاف هذا الغزو عن غيره، أي كونه إعادة غزو من قبل شعب عائد كما يزعم الغزاة أنفسهم :
«فرس… يونان… رومان… صليبيون… وأخيرا ً أبناء الشيطان هؤلاء الذين خلعوا أسماءهم البولونية والألمانية واستعاروا أسماءنا وارتدوا ثيابنا وتغلغلوا في لحم أرضنا، مدعين نسبا ً عجيبا ً وذاكرة أكثر عجبا»(20).
إذن يمكن القول أن الثيمة الرمزية المشتركة الثالثة التي تنبع هي ذاتها من الثيمة الرمزية المشتركة، ثيمة علاقة الغزو الصهيوني بالغزوات السابقة لفلسطين كما نوقشت آنفا ً، تقع في مرجعية ما أشار إليه «سعيد» بوصفه «الذاكرة الاستثنائية لأناس ٍ يعودون إلى بلدهم بعد غياب ألفي عام»(21)، وفي النسج اللاحق للذاكرة التوراتية على أرض فلسطين لتبرير استثنائية الغزو الصهيوني.
ويصور «حبيبي» تصويرا ساخرا ً هذه النقطة الأخيرة حين يتحدث عن بيت امرأة فلسطينية في «اللد» ادعت ملكيته وريثتها «الشرعية» (عائدة بالإدعاء إلى زمن نوح)(22).
وعلى نحو مشابه، يصور «الأسعد» النقطة الأخيرة وهو يتأمل المدى الذي «كم نحن فيه أيتام… بدون هذه الرحلة عبر آلاف المصائد وخاصة مصيدة التوراة التي نسجت رواياتها على أطراف بلادنا… في صحراء بعيدة عن مكان لايعرف إلا الشيطان وحده في أية بلاد كان، ولكنه ليس فلسطيننا بالتأكيد… فليتبن َ الشيطان هذه الأسماء العجيبة : هرتزوغ وفاجن وبرودفسكي ولوين، فحتى التوراة لاتعرف هذه الأسماء، ولم يمر أصحابها في ذاكرة صخرة أو طريق من طرق بلادنا»(23).
الثيمة الرابعة التي تدور حول الدلالة الموضوعية لفقدان الوطن يمكن العثور عليها في علاقة التماس التي يرسمها الكاتبان بين غزو فلسطين في العام 1948 وغزو العام 1967 لما تبقى من فلسطين. في إحدى رسائله من الفضاء الخارجي إلى صديقه، وعنوانها «سعيد يلجأ إلى حاشية»، سيتذكر سعيد كيف أنه بعد حرب حزيران 1967، حين احتلت إسرائيل ما تبقى من الأراضي الفلسطينية مع سيناء المصرية ومرتفعات الجولان السورية(24)، شاهد أهالي القدس والخليل ورام الله ونابلس يبيعون آنية أعراسهم بجنيه واحد لقاء كل قطعة.
وقاد هذا المشهد سعيد إلى الإستنتاج بأنه «حين يعيد التاريخ نفسه ياسيدي المحترم، يجلب معه تقدما ً، لأننا انتقلنا من المنح بالمجان إلى البيع بجنيه واحد. حقا ً إن الأشياء تتقدم!»(25).
وهكذا فالتاريخ لا يعيد نفسه فقط، ولكنه بأسلوب «حبيبي» الساخر، يعيد نفسه مع تقدم مرئي، فسكان الأراضي الفلسطينية المحتلة التي تعرضت للتطهير العرقي إثر قيام دولة إسرائيل، لم تكن لديهم الفرصة ليبيعوا مقتنياتهم، تلك التي نعرف أنه استولى عليها «حراس الأملاك المسروقة»، وهو اللقب الساخر الذي أطلقه الشيوعيون على ما يسمى في إسرائيل «حراس الأملاك المهجورة».
وسيكتشف القارئ، باللهجة الساخرة نفسها، أنه خلال حرب حزيران 1967، حين أمرت الإذاعة الإسرائيلية كل الفلسطينيين في الأراضي المحتلة حديثا ً أن يرفعوا أعلاما ً بيضاء فوق سطوح منازلهم، يرفع سعيد الأحمق من دون قصد علمه الأبيض على سطح منزله في حيفا بناء ً على الأوامر التي صدرت للعرب المهزومين(26)، راسما ً بذلك علاقة ً متبادلة بين غزو فلسطين في العام 1948 وغزو ما تبقى منها في العام 1967،وليعاقب بعد ذلك على يد رئيسه الإسرائيلي.
ويصف «الأسعد» بطريقته ما يشبه هذا الأمر : قصر نظر الفلسطينيين في ما سيعرف في النهاية باسم «الضفة الغربية» الذين لم يروا العلامات المنذرة التي حملها معهم اللاجئون من الساحل : «العالم الذي يطل من بيوت أصحاب الأرض الذين لم تبتلعهم الهوة التي أخذت معها قرانا وحواكيرنا… ولن يدرك هؤلاء الذين أطلوا خلال وجوهنا على اتساع الهوة المظلمة أنها من النوع الذي يتمدد ويتسع وتتآكل وتنهار الحوافي التي تشبثوا بها»(27).
الثيمة الرمزية المشتركة الخامسة والأخيرة التي تدور حول الدلالة الموضوعية لفقدان الوطن، والتي يمكن أن نجدها في كلتا الروايتين تتصل بالإشارات إلى الفلسطينيين الذين ينتمون إلى المكونات الأخرى، ومن هنا إلى المقاومة المتحدية لتجزئة العرب الفلسطينيين بحدود مصطنعة خلقتها الدولة الإسرائيلية.
يضاف إلى هذا أن هذه المقاومة تتسع لتشمل أولئك الفلسطينيين الذين طردوا قسرا ً وراء الحدود، وهو ما تسلط عليه الضوء الواضح فكرة العودة كما عبرت عنها الرغبة والإرادة على حد سواء. ولهذا ليس مصادفة ً أن تحمل النسوة الثلاث في حياة «سعيد» اسم «يعاد» (ذلك الذي يعاد)، و«باقية» (تلك التي تبقى)،و«يعاد» الثانية إبنة «يعاد» الأولى، وكلهن يحملن أسماء ً مبتكرة.
وحين يجد الجنود الإسرائيليون «يعاد» الأولى مختبئة في بيت «سعيد» تقاوم بعنف قبل أن ترمى خارجا ً صارخة ً «هذا بلدي… لاتقلق سعيد… سأعود إليك»(28).
وفي تكرار ٍ للحادثة نفسها بعد عشرين سنة تقريبا ً، يُكتشف أيضا ً مكان ابنة «يعاد»، «يعاد» الثانية التي كان سعيد مقتنعا أنها «يعاد» الأولى وليست ابنتها، في بيت سعيد. وبعد أن تخبره بأن «الماء لايستطيع مغادرة البحر أبدا ً مغادرة حقيقية يا عمي، إنه يتبخر ثم يعود في الشتاء في الينابيع والأنهار، انه سيعود دائما»(29)، تقاوم الجنود.
وأخيرا،ً وفي تعارض صارخ مع معاملة أمها قبل عشرين سنة تقريبا، تفرض «وضعية غريبة ً تنشأ… يتصفح ضابط الشرطة أوراق «يعاد» باحترام… ثم يعتذر عن الأوامر التي يحملها بإلغاء تأشيرة دخولها»(30).
وتصرخ «يعاد» بطريقة تشبه طريقة أمها في التحدي وهم يذهبون بها : «سعيد… لاتقلق… سأعود»(31).
بالإضافة إلى هذه الإشارات الجلية والعلاقات المرتسمة بين الفلسطينيين الذين ظلوا والفلسطينيين الذين غادروا في صفحات «المتشائل»، يشير» حبيبي «إلى فلسطينيين في الأراضي التي تم احتلالها في العام 1967، وينتقد نقدا لاذعا ً» نخبة البلد التي يبلغ عدم اهتمامها بمن يحكمها سياسيا ً مبلغا ينطبق عليه المثل العربي الشائع : من يتزوج أمي فهو عمي»(32).
وعلى المنوال نفسه، يشير «الأسعد» في «أطفال الندى» إلى التقديس الفولكلوري الكنعاني والإسلامي أيضا ً للرقم سبعة، في إشارة ٍ إلى العودة في المطاف النهائي :
«ستعودون بعد سبعة (أيام) أو سبعة (أشهر) أو سبع (سنوات)»(33).
ويربط «الأسعد» ربطا ً واضحا ً حق اللاجئين في العودة بالنضال الحتمي لأولئك الذين ظلوا: «سيكون على بقية الشعب إذن أن ترفد عتمتنا بالألوان في مابعد»(34).
خاتمة
بدأت هذه الورقة بتقديم الفكرة الاجتماعية ـــ السياسية عن مكونات الشعب الفلسطيني الثلاثة، وهي فكرة ناجمة عن الفقدان التاريخي للوطن الفلسطيني، والانقسام اللاحق لسكانه إلى أولئك الذين ظلوا على أرضه وأولئك الذين طردوا قسرا ً منه وأولئك الذين أصبحوا تحت الإحتلال العسكري بعد ما يقارب ثلاثين عاما.
بالبناء على هذه الفكرة، دفعنا، بقدر ما يتعلق الأمر بالتحليل الأدبي وعنايته بفهم المعنى الذي يتجاوز الدلالة الموضوعية المباشرة للرمزية الأدبية موضع الدرس، بأنه يمكن إستخدام الفكرة الإجتماعية ــ السياسية عن مكونات الشعب الفلسطيني الثلاثة للوصول إلى تحليل مقارن للأعمال الأدبية الفلسطينية.
والسبب، هو أنه في دراسة الأدب الفلسطيني الممثل لثلاث تجارب مختلفة ومتكاملة في الوقت نفسه، لايمكن أن تُفهم الثيمات الرمزية المشتركة التي تدور حول الدلالة الموضوعية لفقدان الوطن الفلسطيني، ومن ثم تجاوزها إلى تكاملية التجربة الفلسطينية والمأزق الفلسطيني ذاته، إلا خلال مقاربة الأدب موضع النقاش مقاربة تحليلية باستخدام فكرة تكاملية التجربة الفلسطينية الإجتماعية ــ السياسية.
ومن أجل بسط هذه الفكرة اختارت هذه الورقة، بهدف التحليل المقارن، عملين لكاتبين فلسطينيين يمثلان تجربتين مختلفتين ومتكاملتين في الوقت نفسه أنتجهما فقدان الوطن، الأول هو «المتشائل» والثاني هو «أطفال الندى» اللذين يمثلان تجربتين فلسطينيتين متكاملتين يتحول فيهما الفلسطينيون إلى غرباء لاــ مواطنين وإلى لاجئين أقل من مواطنين على التوالي كنتاج لتجربة فقدان الوطن المشتركة. وبعد ذلك تم التركيز على خمس ثيمات رمزية مشتركة تدور حول فقدان الوطن، والتي تتجاوز هذه الدلالة الموضوعية المباشرة نحو تكاملية التجربة الفلسطينية ذاتها، حين يتم تقييمها تقييما ً مقارنا ً. وتظهر الثيمة الرمزية المختارة الطبيعة الكلية للتجربة الفلسطينية، وتوسعا ً، للأدب الفلسطيني. والسبب، هو أنه على رغم تمثيل الروايتين لتجربتين فلسطينيتين مختلفتين، فإن الثيمات المشتركة، حين تقيّم تقييما ً مقارنا ً، تتجاوز رمزيتها الدلالة الموضوعية المباشرة لفقدان الوطن نحو تكاملية التجربة الفلسطينية والمأزق الفلسطيني ذاته.
إن فكرة مكونات الشعب الفلسطيني الثلاثة ، كما تعبر عنها مختلف الأعمال الأدبية، تتخطى كونها أداة بالغة الأهمية في تحليل الأدب الفلسطيني، إلى تبديد الأساطير التي يتواصل استخدامها لإخفاء الوقائع التي تكشفت في العام 1948، والعام 1967، ويتواصل تأثيرها على الشعب الفلسطيني وعلى استمرارية المأزق الفلسطيني ذاته.
من هنا، فإن قراءة الأدب الفلسطيني في إطار متكامل تمتلك أهمية بالغة، ليس للنضال الفلسطيني ذاته فحسب، بل «وللقضايا ذات العلاقة التي تهزّنا، لا لأنها تتصل باللحظة و«بحدث» تاريخي معين فقط، بل لأنها تتجاوزهما لتسبر مشاكل الظلم والعدوان والإكراه حين تفرض نفسها على ضمير إنساني معاصر يعي متضمناتها وعيا ً تاماً»(35).
إشارات :
(1) محمد الأسعد ويوسف الغازي، أبعد من الجدران، لاجئ فلسطيني وإسرائيلي يعودان إلى زيارة ماضيهما، تحرير فرانسواز جيرمين ــ روبن (كتاب صادر بالفرنسية عن دار آكت سود وسندباد، باريس، 2005، ص 157).
(2) النكبة في الذاكرة : فلسطين وإسرائيل ولاجئو الداخل (مقالات في ذكرى إدوارد سعيد)، المقدمة، نور مصالحة (كتاب صادر بالإنجليزية عن دار زد، لندن، 2005، ص 1).
(3) تاريخ لفلسطين المعاصرة : أرض واحدة لشعبين، إيلان بابه (كتاب صادر بالإنجليزية عن مطبعة جامعة كيمبرج، 2004، ص 188).
(4) الرمز والواقع في كتابات إميل حبيبي، عيسى بلاّطة (مقال صادر بالإنجليزية عن دار الثقافة الإسلامية، 1988، ص 9).
(5) مختارات من الأدب الفلسطيني المعاصر، إعداد سلمى الخضراء الجيوسي (كتاب صادر بالإنجليزية عن مطبعة جامعة كولومبيا، 1992، ص 454).
(6) الفلسطيني السيء الحظ، تريفور لا جاسك (بالإنجليزية في مجلة الشرق الأوسط، 1980، ص 216).
(7) الأدب العالمي وزمنه : أدب الشرق الأوسط وزمنه، المجلد السادس، جويس موس (كتاب بالإنجليزية صادر عن دار تومسن جيل، ديترويت، 2004، ص 455).
(8) مختارات من الأدب الفلسطيني المعاصر، ص 119.
(9) أطفال الندى، محمد الأسعد، (رواية بالعربية عن دار رياض الريس، لندن، 1990، ص 40).
(10) المصدر السابق، ص 16
(11) ضائعة هذه الذكريات، زفي بارإيل (بالإنجليزية، صحيفة ها آرتس، 27 مايو 2005).
(12) المصدر السابق.
(13) الحياة السرية لسعيد أبي النحس المتشائل، إميل حبيبي (ترجمة إلى الإنجليزية، سلمى الجيوسي وترفور لا جاسك، دار آرس، لندن، 2003، ص 6).
(14) المصدر السابق
(15) أطفال الندى، ص 7
(16) المصدر السابق، ص 27
(17) الحياة السرية، ص 23
(18) المصدر السابق، 24
(19) أطفال الندى، ص 101
(20) المصدر السابق، ص 102
(21) الحياة السرية، ص 24
(22) المصدر السابق، ص 94
(23) أطفال الندى، ص 55
(24) تاريخ لفلسطين المعاصرة، ص 188
(25) الحياة السرية، 45
(26) المصدر السابق، 120
(27) أطفال الندى، ً 110
(28) الحياة السرية، 62
(29) المصدر السابق، ص 154
(30) المصدر السابق، 155
(31) المصدر السابق
(32) المصدر السابق، 49
(33) أطفال الندى، ص 41
(34) المصدر السابق، ص 33
(35) الحياة السرية، المقدمة، سلمى الجيوسي وتريفور لاجاسك، ص22 .
أناهيد الحردان ترجمة : خالد الجنفاوي