جاك كرواك ترجمة: عزيز الحاكم
ازداد جان لوي لوبري دو كرواك، وهو من أصل كنديّ فرنسيّ، في ماساشوسيتس سنة 1922، كان لاعب كرة قدم، وزاول كل المهن: عاملًا في محطة للبنزين، وقطّاف قطن، وبحّارًا، وناقل رحيل. عاشر جيل الغضب برفقة إلن غنزبرغ ووليام بروغس. عاش حياة التيه والترحال، وكان من أشدّ المدافعين عن المتشرّدين. تنصّل في أواخر حياته من كلّ الأصدقاء والمعارف، وأغرق في شرب الكحول وتناول المخدّرات، قبل أن توافيه المنيّة في فلوريدا وهو في السابعة والأربعين من عمره. من أهمّ مؤلفاته: في الطريق – الصعاليك الربانيون – الملائكة المتسكعون – ساتوري في باريس – الأنفاق – المتشرد المتوحد.
يصعب على المتشرّد الأمريكي، اليوم، أن يعيش حياة التيه مع تنامي الرقابة التي تمارسها الشرطة في الطرقات وفي محطات القطار والشواطئ وعلى طول الأنهار والتّلاع، وفي العديد من الحفر التي يختبئ فيها بالليل. في كاليفورنيا لم يعد هناك من أثر لذلك المتسكّع الذي يمضي على قدميه من مدينة إلى أخرى حاملًا فوق ظهره طعامه وكيس نومه، لقد انقرض “الأخ الذي لا مسكن له” في الوقت نفسه الذي انقرض فيه فأر الصحراء القديم الباحث عن الذهب، الذي كان يمشي وهو مشبع بالأمل عبر المدن الغربية، التي كانت تعيش بالتقتير، وصارت الآن مزدهرة، ولم تعد تتحمل أولئك الصعاليك القدامى.” لم تعد لديهم هنا، يا عزيزي، رغبة في المتشرّد، مع أنّه هو من شيّد كاليفورنيا” يقول شيخٌ عجوزٌ كان يختبئ، وفي يده علبة الفاصوليا، بالقرب من نار هنديّة على ضفة النهر في ضواحي “ريفرسايد ” بولاية كاليفورنيا سنة 1960. فقد تأتي سيّارات “البوليس” الضخمة في أيّة لحظة لكي تلقي القبض على المتشرّد الذي يمضي باحثًا عن الحرية/ مثله الأعلى في تلال الصمت المبجّل والخلوة المقدسة. ليس ثمّة ما هو أنبل من التعوّد على بعض الأمور المُزعجة، كالثعابين والغبار، للاستمتاع بالحرية المطلقة.
أنا أيضًا كنتُ متشرّدًا، لكن من نوعٍ خاص، لأنّي كنت أعلم أن جهودي الأدبيّة ستعود عليّ بالنّفع ذات يوم بفضل الحماية الاجتماعية. لم أكن متسكّعا حقيقيًّا لا أملَ له سوى النوم في عربات البضائع الفارغة التي تصعد وادي “ساليناس” في يوم قائظ ومشمس من شهر يناير باتجاه “سان خوسيه” حيث يحدق فيك المتشرّدون بأفواههم الشرسة ويناولونك الطعام والشراب، على طول السكة الحديديّة أو على ضفة النهر في “غوادالوب”.
في قصيدة قصيرة ممتعة، من ديوانه البوذي، يعبّر الشاعر”دوايث غودار” عن حلم المتسكع، بقوله:
من أجل هذا الحدث النادر المتفرّد
سأدفع، مسرورًا، عشرة آلاف قطعة من الذهب.
فوق رأسي قبعة وعلى ظهري كيس
عصاي في يدي والنسيم العليل والقمر يتوسط السماء.
لقد تشكّلت لدينا، في أمريكا (وهذا ما يلاحظ في قصيدة غودار هذه المتّسمة بالنبرة الوايتمانية) فكرة خاصة ومحددة عن الحرية التي يوفرها المشي على الأقدام منذ العصر الذي عاش فيه “جيم بريدجر” و”جوني إيبلسيد”، وما زالت حتى الآن مبجّلة لدى مجموعة مصغرة من الأشخاص الجريئين المتشبّثين بهذه العادة، الذين نراهم أحيانا ينتظرون على حافة طريق صحراوي قدوم حافلة تُقلّهم إلى المدينة المجاورة كي يتسولوا (أو يشتغلوا) ويأكلوا، أو يذهبوا إلى شرق البلاد، ليستقبلهم “جيش الخلاص”. يمضون من مدينة إلى مدينة، ومن ولاية إلى أخرى صوب وجهتهم الأخيرة، لينتهي بهم المطاف في الأحياء الفقيرة داخل المُدن الكبرى حين تخونهم أقدامهم. ومع ذلك؛ فقد رأيت قبل وقت قصير في كاليفورنيا (في قعر إحدى الشعاب، بالقرب من السكة الحديدية، غير بعيد عن سان خوسيه، خلف أوراق الأبوكاليبتوس والكروم) أكواخًا من الصفيح والألواح. أمامها كان يجلس شيخ يُدخّن غليونه المصنوع من سنبلة الذرة والمحشوّ بالتّبغ الرخيص. وجبال اليابان مليئة بمثل هذه الأكواخ التي يقطنها رجال مسنّون يثرثرون وهم يحتسون نقيع الجذور، وينتظرون أن ينزل عليهم الوحي السماويّ الذي لا يتحقق إلا بالارتماء من حين إلى آخر في أحضان العزلة التامة.
يعدّ التخييم في أمريكا بمثابة رياضة صحيّة بالنسبة للأطفال الكشّافة؛ لكنّه يعدّ جريمةً حين يُمارس من طرف الكبار الذين اتخذوه مهنة، ويعدّ الفقر بمثابة فضيلة لدى رهبان الأمم المتحضّرة. في أمريكا يقضي المرء ليلته في السجن إذا قبض عليه، وليس في حوزته مبلغ معيّن (كان محدًّدا بمبلغ خمسين سنتًا حين سمعت عنه آخر مرة، يا إلهي، كم يساوي الآن؟).
في عصر الرسام بروغل كان الأطفال يرقصون حول المتشرّد، وهو يرتدي أسمالًا بالية، وينظر إلى الأمام غير مُبالٍ بهم. وكانت الأُسر تدع الأطفال يلاعبونه، كان الأمر طبيعيًّا. واليوم أصبحت الأمهات يُمسكن بأطفالهنّ حين يمرّ المتشرّد بالمدينة، بسبب ما تداولته الصحف حول المتشرّد من أنه يغتصب الأطفال ويخنقهم ويأكلهم. “ابتعدوا عن الغرباء، سيمنحونكم بعض الحلوى السامّة”. ومع أنّ المتشرّد في لوحات بروغل شبيه بمتشرّد الوقت الحالي؛ إلا أنّ الأطفال تغيّروا. أين هو المتشرد التشابليني؟ لقد كان فرجيل أول المتشردين، والمتشرد جزءٌ من عالم الأطفال (مثلما هو الحال في لوحة بروغل الشهيرة التي تصوّر متشرّدًا ضخمًا يعبر القرية بأبّهة وهو في كامل أناقته ونظافته، والكلاب تنبح لدى مروره، فيما الأطفال يضحكون..). لكن عالمنا اليوم هو عالم الكبار، لم يعد عالم الأطفال. أصبح المتشرّد حاليًا مجبرًا على التخفّي، والجميع معجب بمهارة رجال الشرطة الأبطال على شاشة التلفزيون.
لقد عاش بنيامين فرنكلين حياة التشرّد، واجتاز فيلاديفيا متأبطًا ثلاثَ لفّات كبيرة، وقطعة من نصف بنس فوق قبّعته. وكان جون مويير متشرّدًا ذهب إلى الجبال، وجيبه مليءٌ بقطع من الخبز اليابس كان يغمسها في النهر.
هل كان وايتمان يخيف أطفال لويزيانا حين يمشي في الشارع الكبير؟ وماذا عن المتشرّد الأسود؟ المتوحّد في جبال الجنوب؟ سارق الدجاج؟ المتشرّد الأسود الجنوبي هو آخر من تبقى من صعاليك بروغل، الأطفال يحترمونه وينظرون إليه باحترام من دون أن يصدر عنهم أي تعليق. تراه يغادر الأرض البائرة حاملًا كيسًا باليًا يشقّ عن الوصف. هل يحمل جوزًا؟ هل يحمل أرنب “برير” ؟ لا أحد يعرف ماذا يوجد في كيسه.
لقد انقرض الإنسان المشرف على الخمسين، شبح السّهول، القدّيس الهائم على وجهه، المنقّب، وانقرضت أرواح التشرّد وأشباحه، الجميع انقرضوا. لكن المنقبين أرادوا ملء كيسهم بالذهب، تيدي روزفلت السياسيّ المتشرّد، فاشيل ليندساي المتشرّد التروبادور، المتشرّد الرثّ، كم من فطيرة محشوّة تساوي قصيدة واحدة من قصائده؟ المتشرّد يعيش في عالم ديزني الخياليّ حيث لا شيء سوى الأسود البشرية والمخلوقات البشريّة المصنوعة من التنك والكلاب القمريّة بأسنانها المطاطيّة، والدّروب البرتقالية والبنفسجية، والقصور الزمرديّة التي تلوح من بعيد، والساحرات المتفلسفات في هدوء.. ما ثبت أبدًا أن اعتدت ساحرة على أيّ متشرّد. للمتشرّد ساعتان، لا يمكن شراؤهما من أيّ محل: الشمس في معصم، والقمر في المعصم الآخر.
أنصتوا، أنصتوا، ها هي الكلاب تنبح
لقد وصل المتسوّلون إلى المدينة:
بعضهم يرتدون الأسمال
وآخرون الخرق البالية
والبعض الثالث ثيابًا مخمليّة..
عصر الطائرة النفاثة يصلب المتشرّد: كيف له أن يسافر خِلسةً في طائرة البريد؟ هل كانت لويلا بيرسونز تعطف على المتشرّدين؟ أنا أسائل نفسي فقط. أما هنري ميلر فقد كان يسمح لهم بالعوم في مسبحه. وماذا عن شيرلي تامبل (3) التي منحها المتشرّد طائرًا أزرق؟ هل كان الزوجان تامبل الشابان محرومين من طائر أزرق؟
اليوم، ينبغي على المتشرّد أن يختبئ، ومخابئه أضحت قليلة، الشرطة تبحث عنه، تحذير إلى كل السيّارات: المتشرّدون موجودون في ضواحي بورد إن هاند. كان جان فالجان يحمل كيس الشمعدانات وهو يصيح في وجه الصبي الصغير: “ها هو فلسك، فلسك “.. وكان بتهوفن متشرّدًا يجثو على ركبتيه وينصت إلى الضوء. كان متشرّدًا أصمّ لا يستطيع سماع شكاوى المتشرّدين الآخرين، وكان آينشتاين متشرّدًا يرتدي سترة صوفية بطوق ملوي، وبرنارد باروخ متشرّدًا متحرّرًا من الوهم يجلس على مقعد في حديقة عموميّة واضعًا على أذنيه جهازًا بلاستيكيًّا يتيح له سماع الأصوات: كان ينتظر جون هنري، كان ينتظر شخصًا فقد صوابه، وينتظر الملحمة الفارسية.
كان سيرج يسينين متشرّدًا مرموقًا انتهز الثورة الروسيّة كي يركض من جهة إلى أخرى وهو يشرب عصير البطاطس في القرى الروسيّة الخلفيّة (ومن أشهر قصائده: اعتراف صعلوك) هو الذي قال وقت الاستيلاء على قصر القيصر: “بي الآن رغبة عارمة في التبوّل من النافذة وأنا أنظر إلى القمر”. وكان “لي بو” متشرّدا غير مغرور وقد رزق ولدًا. كان متشرّدًا قويًّا. الغرورُ هو كبير المتشرّدين، سلامًا أيها المتشرّد المغرور. يا من سيتحوّل نصبه التّذكاري ذات يوم إلى علبة قهوة من قصدير. وكان المسيحُ متشرّدًا غريبَ الأطوار يمشي فوق الماء. بوذا أيضا كان متشرّدًا لا يُعير أدنى اهتمام للمتشرّدين الآخرين.
المتسكّع سليل الحريّة، لا ينتمي إلى أيّة جماعة، لا وجود لغيره ولباقي المتسكّعين، قد يكون برفقته كلب. في المساء يجلس المتشرّدون بالقرب من منحدر السكّة الحديديّة يسخنون مقالي القهوة. باعتزاز فائق كان المتسكّع يعبر المدينة، ويمرّ بجوار مداخل الإدارات وخلف المنازل، حيث توضع الفطائر المحشوّة على حافة النوافذ لتبرد: كان المتشرّد مصابًا بالبرص الذهنيّ. لم يكن في حاجة إلى التسوّل كي يأكل. النساء القويّات في الغرب الأمريكي يتعرّفن عليه من خلال حفيف لحيته وثيابه الفضفاضة الرثة، ” تعال لتتناول طعامك”، وبقدر ما هو معتدّ بنفسه فقد كانت تواجهه أحيانا مشاكل كثيرة حين تصيح السيدات: “تعالوا لتتناولوا طعامكم”، وحينها تظهر حشود من المُتشرّدين، عشرةٌ أو عشرون. أحيانًا لا يُقيم المتشرّدون أيّ اعتبارٍ لبعضهم، فيفقدون شهامتهم ويتحولون إلى صعاليك.
كانوا يُهاجرون إلى باوري في نيويورك، وسكولاي سكوير في بوسطن، وبرات ستريت في بالتيمور، وماديسون ستريت في شيكاغو، والشارع الثاني عشر في كانساس سيتي، ولايريمر ستريت في دانفر، وساوث ماين ستريت في لوس أنجلوس، وإلى المنطقة الوسطى من الثورد ستريت في سان فرنسيسكو، وسكيد رود في سياتل، وكلها أحياء ملعونة. وباوري هي ملجأ المتشرّدين الذين جاؤوا إلى المدينة الكبيرة للحصول على مبالغ ماليّة ضخمة بتكديس الصناديق في السيارات المدرعة.
الكثير من صعاليك باوري إسكندينافيون، والكثيرون منهم ينزفون بسهولة لأنهم يفرطون في الشراب. مع حلول فصل الشتاء يحتسي الصعاليك شرابًا يُدعى “سموك” وهو كحول معدّ من الخشب الجافّ مع جرعة من صباغة اليود وقشور الليمون، يبتلعون ذلك، فينغمسون في السبات طوال فصل الشتاء حتى لا يُصابوا بالبرد؛ لأنّهم لا يملكون بيوتًا، والبرد قارس جدًّا حين يعيش المرء في الخارج خلال الشتاء في المدينة الكبيرة. أحيانًا ينام المتشرّدون متوسّدين أذرعَ بعضهم بعضًا ليحافظوا على الدفء فوق الرصيف. يقول قدماء البعثات في باوري إن الصعاليك الذين يشربون الجعّة هم الأشد عدوانيّة من الجميع.
مؤسسة فريد بانز الكبرى هي ملاذ الصّعاليك، هذا المطعم يقع في باوري 277 بنيويورك. قائمة الوجبات مكتوبة بالصابون على الزجاج، حيث ترى الصعاليك يمدّون بضع سنتات كي يحصلوا على مخ الخنزير، ثم يخرجون وهم يجرجرون أقدامهم، مرتدين قمصانًا قطنيّة رقيقة في ليل نوفمبر البارد ليذهبوا إلى منطقة الباوري المُقمرة حاملين شظايا الزجاجات، وفي أحد الأزقة يتكئون على الحائط كما يفعل الشبان السوقيُّون، بعضُهم يعتمرون قبعات المغامرين المبللة بالمطر التي التقطوها بالقرب من خط السكة الحديدية في هوغو بالكولورادو، ويرتدون أحذية مثقوبة، رمى بها الهنود الحمر في أكوام القمامات، أو سترات أخذوها من معرض الفقمة والسمك. وفنادق الصعاليك بيضاء مبلطة تبدو وكأنها مراحيض عمومية. في السابق كان الصعاليك يقولون للسياح إنّهم كانوا فيما مضى أطباء ولم يعد لهم زبائن، والآن صاروا يقولون للسياح إنّهم كانوا فيما مضى مرشدين لممثلي السينما ولمديري التصوير في إفريقيا، ولمّا ظهر التلفزيون فقدوا حقوق السفر إلى الأدغال.
في هولندا يمنع التشرّد، والأمر نفسه في كوبنهاغن من دون شك؛ لكن في باريس بإمكان المرء أن يكون صعلوكًا، والصعاليك في باريس يعاملون بكل احترام، ونادرًا ما ترفض طلباتهم. هناك عدة فئات من الصعاليك في باريس: الفئة العليا، وتملك كلبا وعربة أطفال تضع فيها كل ممتلكاتها التي تتألف بشكل عام من بضعة أعداد قديمة من جريدة ” فرانس سوار” وبعض الخرق والمعلبات والقنينات الفارغة والدمى المهشمة. أحيانا تكون لهذا الصعلوك عشيقة تتبعه أينما حل وارتحل هو وكلبه وسيارته. وصعاليك الفئة السفلى لا يملكون شيئا: يكتفون بالجلوس على ضفتي نهر السين وهم ينظفون أنوفهم وعيونهم على برج إيفيل. والصعاليك الإنجليز يبدون غرباء في أمريكا بلهجتهم الإنجليزية، ولا يفهمون الصعاليك في ألمانيا. أمريكا هي وطن الصعاليك.
مرة سئل المتشرد الأمريكي الجوال “لو جنكيز” المزداد في إلنتاون في بنسيلفانيا، وكان في مطعم فريد بانز، كيف وصل إلى هنا، فقال:
– لماذا تريدون معرفة ذلك؟ ماذا تريدون أن تعرفوا؟
– إذا صح فهمي فقد جبت أمريكا بكاملها.
– لا يمنح الرجل قليلا من الحميض حتى يتسنى له شرب كأس من النبيذ قبل أن يتكلم.
– اذهب يا “إيل” واجلب النبيذ.
– أين سينشر هذا الحوار؟ في الدايلي نيوز؟
– لا، في كتاب.
– ماذا تفعلون أنتم هنا؟ أين الخمر؟
– لقد ذهب ” إيل ” ليجلبه. أتريد نوع الثاندر بورد؟
– بالطبع.
وفجأة بدا ” لو جنكيز” أكثر تطلّبا.
” بالمناسبة يمكنكم أن تمنحوني بعض المال من أجل مذوذي في هذا المساء”.
– حسنا، نريد فقط أن نطرح عليك بعض الأسئلة، مثلا، لماذا غادرت إلنتاون؟
– زوجتي، زوجتي، إياكم والزواج، فلن تبرأوا منه أبدا. هل قلتم إن هذا الحوار سينشر في كتاب؟
– هيا، حدثنا قليلا عن الصعاليك، قل شيئا.
– طيّب، ماذا تريدون أن تعرفوا عن الصعاليك؟ ثمة العديد منهم هنا في هذه المنطقة، وهم صعاب وليس لديهم مال. ماذا لو ذهبنا لتناول وليمة فاخرة؟
– نلتقي فيما بعد في ساغامور (كافتيريا محترمة يرتادها الصعاليك وتقع في الركن الواقع بين الثورد ستريت وكوبر يونيون).
” حسنا، يا رفاق، شكرًا جزيلًا “.
نزع كبسولة قنينة “الثاندر بورد” بحركة بارعة من إبهامه، وبينما كان القمر يبزغ في السماء، متألقا مثل وردة، ابتلع جرعات كبيرة بفمه الشره الكبير حتى كاد يختنق، فنزل النبيذ في جوفه واتسعت عيناه، ومرّر لسانه على شفتيه وقال: “هاه” ثم صاح : “لا تنسوا اسمي، أنا جنكيز ..ج ن ك ي ز”.
وفي حوار مع شخص آخر:
“هل قلت إن اسمك إفرام فريس من باولينغ في نيويورك؟
– كلا، أنا أدعى جيمس راسل هابارد.
– تبدو محترمًا جدًّا بالمقارنة مع الصعاليك.
– جدّي كان عقيدًا في كنتوكي.
– أوه.
– نعم.
– وما الذي جاء بك إذن إلى الجادة الثالثة؟
– لا أستطيع، حقًا، أنا أسخر من ذلك.. لا أحد يستطيع أن يزعجني.. لا أشعر بشيء.. أنا أسخر من كل شيء الآن.. آسف ولكن.. أحدهم سَرق مني شفرة الحلاقة ليلة الأمس.. ماذا لو منحتموني بعض المال لأشتري موس حلاقة كهربائيا؟
– وأين ستنشبه؟
– لدي الحاقن.
– أوه.
– وأنا دائما أحمل معي كتاب” قوانين القديس بونوى”، كتاب مشؤوم، لكن لدي كتاب آخر في كيسي، وهو كتاب مشؤوم أيضا، فيما أعتقد.
– ولماذا تقرؤه إذن؟
– لأني وجدته.. وجدته في بريستول السنة الماضية.
– ما الذي يهمك؟ هل ثمة شيء ما يهمك؟
– طيب.. هذا الكتاب الآخر الذي لدي هنا هو.. أووه. كتاب ضخم وغريب.. لست أنا من عليكم أن تستجوبوه.. تحدثوا مع ذلك الزنجي العجوز الذي يعزف على آلة الهارمونيكا هناك.. أنا لا أصلح لشيء، كلّ ما أريده هو أن أترك لشأني.
– أرى أنك تدخن الغليون.
– نعم.. هل تريد أن تدخن منه؟
– هلا أطلعتني على الكتاب؟
– لا، لا أحمله معي.. لا أحمل معي سوى هذا.
ثم أراني الغليون والتبغ.
” هلا قلت شيئا؟
– هبني نارا.
الكلوشار الأمريكي على وشك الانقراض ما دام عمداء البلدات يطاردونه “مرة بسبب جريمة، وتسع مرّات بدافع الضجر” كما قال لوي فردينان سيلين؛ لأنهم حين لا يجدون ما يفعلون في منتصف الليل، عندما يكون الناس نائمين، يلقون القبض على أول عابر، يستجوبون العشاق الجالسين فوق مقعد في حديقة. لا يعرفون بتاتًا ما عليهم أن يفعلوا وهم داخل سيارات الشرطة التي تساوي خمسة آلاف دولار المجهزة براديو “ديك تريسي” للإرسال والاستقبال، فيلقون القبض على كل من يتحرّك، بالليل والنهار، وكل من يتنقل دون أن يستعمل البنزين أو البخار أو الجيش أو الشرطة. أنا أيضا كنت متشرّدًا جوّالا؛ لكنّي كنتُ مرغمًا على التخلّي عن ذلك حوالي سنة 1956 بسب العدد المتزايد من القصص التي يبثها التلفزيون حول الآثام البغيضة التي يقترفها هؤلاء الغرباء الذين يمشون وحيدين محملين بأكياسهم ويعيشون في عزلة تامة. مرة حاصرتني ثلاث سيارات للشرطة في تاكسون بولاية أريزونا في الثانية صباحا، كنتُ أسيرُ حاملًا كيسي فوق ظهري لقضاء ليلة هادئة في النوم في الصحراء تحت ضياء القمر الأحمر.
– إلى أين أنت ذاهب؟
– للنوم.
– أين؟
– فوق الرمال.
– لماذا؟
– أنا أدرس الحياة في الطبيعة.
– من أنت؟ هات أوراقك.
– لقد أمضيت الصيف في دائرة الغابات.
– وهل أدوا لك أجرًا؟
– بالطبع.
– إذن، لم لا تذهب إلى الفندق؟
– أفضل الهواء الطلق، وهو بالمجان.
– لماذا؟
– لأني أنجز دراسة حول المتسكعين.
كانوا يريدون مني أن أشرح لهم لماذا أعيش حياة التشرّد، وكادوا أن يلقوا عليَّ القبض، غير أني قلت لهم إني صادق فيما أقول، فحكوا رؤوسهم وقالوا: “اذهب إن كنت راغبًا في ذلك”. ولم يقترحوا عليّ أن أركب معهم السيارة لقطع مسافة السبعة كيلومترات التي تفصلنا عن الصحراء.
وإذا كان عمدة بلدة كوشيزي قد سمح لي بالنوم فوق الصلصال البارد في ضواحي باوي بأريزونا؛ فلأنه فقط لا يعلم أني كنت هناك. غريب ما يحدث الآن، إذ لم يعد بإمكان المرء أن يكون وحيدًا في النواحي الموحشة والبدائية (المناطق البدائية كما يقال) ثمة دوما طائرة مروحية تأتي للتنقيب هنا، وعليك ساعتها أن تختبئ. وفضلا عن ذلك فأنت مطالب بمراقبة الطائرات الأجنبية للدفاع عن المنطقة كما لو أنك تعرف الفرق بين الطائرات الأجنبية الحقيقية وباقي الطائرات الأجنبية الأخرى. بالنسبة لي فإن ما ينبغي فعله هو أن يلزم المرء غرفته ليسكر ويتخلى عن فكرة التخييم والتشرّد؛ لأنه ليس هناك عمدة بلدة أو حارس غابة في مجموع ولايات الاتحاد يمكنه أن يسمح لك بأن تطبخ طعامك على نار الأغصان المشتعلة في دغل الوادي الخفيّ ولا في أيّ مكان آخر، لأنه لا شغل له سوى القبض على كل من يتنقل في الخارج دون بنزين ولا بخار وبدون عون من الجيش أو مفوضية الشرطة. أنا لا أعاند. وأكتفي بالذهاب إلى عالم آخر.
يقول راي ريدماشر، وهو من الذين يلزمون مقر البعثة الدينية في باوري: “بودي لو أن الأمور ظلت كما كانت عليه في السابق، حين كان والدي المعروف باسم جوني مشاء الجبال البيضاء. مرّة أعاد عظام صبي صغير تعرض لحادثة سير إلى موضعها، فدفعوا له ثمن الطعام وانصرف، كان الفرنسيون في تلك الناحية ينادونه ب “العابر”.
لقد احتفظ المتشرّدون الأمريكيون- الذين ما زالوا قادرين على السفر بطريقة سليمة- ببعض الحيويّة، فبإمكانهم أن يمضوا إلى المقابر كي يختبئوا، يحتسون النبيذ في غيضة المقابر، ويتبولون ثم ينامون فوق علب الكرتون ويكسرون القنينات فوق القبور دون أن يأبهوا بالموتى، ولا أن ينتابهم الخوف وهم مفعمون بالجد والدعابة في عز الليل الذي يحميهم من الشرطة؛ بل إنهم يتسلون بترك الأوراق الكثيفة التي يستعملونها في نزهاتهم بين لحود الموت المتخيّل، لاعنين كل ما يبدو لهم أيامًا حقيقيّة. لكن صعلوك الأحياء السفلى الجدير بالشفقة ينام هنا تحت السقيفة، ظهره إلى الحائط ورأسه فوق صدره، وراحة يده اليمنى باتجاه الأعلى كما لو أنه ينتظر صدقة من الليل، ويده الأخرى ممدودة بصلابة، وقد ألقت بها الظروف الحتميّة في أحضان المأساة. اليد الشبيهة بيد متسوّل ممدودة والأصابع تبدو وكأنها تطلب ما تستحق وما تريد أن تناله، تطاوع الصدقة، كما لو أنه على وشك أن يقول بطرف لسانه وهو نائم: ” لماذا تحرمونني من الصدقة؟ لم لا أستطيع أن أتنفس في سلام وهدوء فوق سريري؟ لم أنا هنا بأسمالي البالية المشؤومة فوق هذه العتبة المهينة؟ وأنا مضطر لأن أبقى جالسًا في انتظار أن تشرع عجلات المدينة في الحركة”. ثم يضيف: “لا أريد أن أظهر يدي إلا في النوم، أنا عاجز عن رفعها، إذن فلتنتهزوا هذه الفرصة كي تروا صلاتي، أنا وحيد، أنا مريض، أنا أحتضر.. انظروا إلى يدي مفتوحة، اطلعوا على سر القلب الإنساني، هبوني يدكم، احملوني إلى جبال الزمرّد، خارج المدينة، احملوني إلى مكان آمن، كونوا طيّبين، كونوا رحماء، ابتسموا. أنا مُتعب جدًّا الآن من كل ما تبقى، لقد سئمت كل شيء، سأنسحب، سأرحل، أريد أن أعود إلى بيتي، سأكون هناك في أمان، احبسوني، اذهبوا بي إلى هناك، حيث السلم والصداقة، إلى أسرتي وأمي وأبي وأختي وزوجتي، وإليك أنت أيضا يا أخي ويا صديقي. لكن لا أمل، لا أمل، لا أمل. ها إني أستفيق. أنا مستعد لدفع مليون دولار كي أكون فوق سريري. يا إلهي أنقذني”.
في الطرقات المؤذية، خلف خزانات النفط، هناك حيث تكشف الكلاب المتعطشة للدم عن أنيابها، خلف السياجات، تقفز سيارات الشرطة كسيارات الهاربين قادمة من جريمة سريّة، أشد نحسًا مما تقوى الكلمات عن قوله.
الغابة مكتظة بالسجانين …