يقاوم الطريق اشتعالا محموما من الأفكار المستثناة من التطبيق.. عندما تتشكل خلسة في تلك الرؤوس الراقضة لمعظم ثوابت الواقع.. فترتعد غضبا وتشتد رعونة عند تساقطها من التقوب اللامرئية في سقف الذات ! يتمرد الواقع فلا يحتويها يطيش من عفونة الأضداد، جمهرة من أناس ضـبابيين يرمون بالحجارة من لا يفند جديتهم أو هزلهم، أفلت من قبضة الطرق الوعرة الممتدة.. والف جسدي بتراتيل كان جدي يتلوها كلما توجس خطرا ما! أحاول تقليده وأرددها بطريقته وقاية لعقلي كيلا يشتعل بتلك الأفكار المسمومة والمشحونة بالخبث.. أقبض على أحلامي ولساني لا يفتر، أرفعها وأضعها على حافة السمو!.. فإذا ما لمحت بعضا من الانفراج الواقعي، أهوى بها على سطحه.. أعشق التلون بانعطافات مشرقة، بعيدا عن هوس التناقضات.. حين تتعدد قتامة الألوان فتصعب على الرؤية تمييزها! تعودت وصـديق طفولتي بالتجول. والتسكع في سديمية الوجود. نصطاد الأفكار نتفـاعل معها حينا.. ونسخر منها أحايين أخر! فيتقمص هو شخصيات أصحابها.. نضحك ونضحك بشراهة الفراغ فيناء نحبط عقولنا وعقول الاخرين بتصرفات مجنونة تثير الغثيان.. بعض المارة يقذفوننا بسيل من الشتائم.. التذمر والوجوم يرقصان من الغيظ على سحنتهم! عندما يلمحوننا وتدن ننثر حصيلة صيدنا في الهواء..
يتسربل اليوم بمجريات كثيرة ,الرطوبة تغرق المدينة حتى الموت والنهار يفر من قبضة الشمس الى ظل الليل، رغم الحرارة المستعرة يخرج الناس.. يبحثون عن انتعاشة وقتية.. تطوق أعناقهم بلمسة حريرية.. يلتفون.. يتحاورون.. وكثيرا ما ينسجون من عقر أخيلتهم.. حلولا وهمية.. كل شيء يتصاعد.. وهذا الفضاء الودود يحتضن كل الأشياء دوت تفضيل !! دوائر الدخات تلهو فيها دوائر أخرى هامشية.. تخرج من الأنفاس البشرية.. من المصانع والأبنية ومن بعض المقاهي المتناثرة في الأحياء.. أو تلك التي تقع على كورنيش المدينة.. يجتمع فيها ثلة من المصدومين بغربة أنفسهم تعودوا أن ينفثوا دخان كل الأشياء.. احباطاتهم ورغباتهم.. مخزون هائل من الهموم الضجرة الرابضة في أعماق الكبت اليومي الذي لا يجتازه إلا المشاكسون لرتابة المعتقدات وبعض الموروثات البليدة بشدة! والتي أحكمت اغلاق بعض من عواطف تناقضت عند انعطاف الطرق.. يتوهج عبث التطفل في أنف صديقي فيدسه بين أولئك المتهالكين بعداوة ترهلية وراثية! على مقاعد متفرقة وأحيانا مرصوصة بقصد.
أجفل من تطفله الجريء.. أحاول عبثا أن أثنيه عن سخرية نواياه.. يمضي بإصرار نحو تخطيطاته.. أفك حصار صداقتنا بعض الوقت.. وأخرج عن خط سيره.
أراقبه وهو يحاول بفضولية تدرب عليها واتقنها، تستفز سكينتهم المزعومة بتلقائية وببراعة.. يستدرج أحدهم بفقاعات من اللغو المحتدم بين اليمين واليسار في بوتقة المعتقدات.. وعلى تلك الحواجز التي تفصل بين الممتلكات المشروعة من الأمنيات البريئة.. في بلورة الذات عندما تستوجب شروطا تعسفية لا يرقى اليها إلا الماكرون.. والمراوغون في طمس الحقائق !.
المذياع المصلوب في أعلى الرف يهذي بالأخبار المتفرقة من أقصى العالم الى أدناه.. يتمتم البعض بكلمات متذمرة تنم عن استياء مبطن.. ليس هناك هدفا محدد يستدعي هؤلاء الناس من الالتفات للهرج المعاد بين الفينة والأخرى، فتح أحدهم أحدى عينيه بصعوبة بعد أن كان يغط في ظلمة همومه.. محاولا تجنب الضوء، رغم أن الأضواء كانت خافتة وقال بصوت هزلي – كم أمقت تكرار هذه الكوارث التي تنذر بالشؤم دائما.. وقال آخر – آه لو أتولى اعداد النشرات !
جاءه صوت صديقي يثيره حتى يفضي بمزيد من الأقوال – تتولى اعداد النشرات ! كيف؟.. قال بلهجة تشي بالتحدي – لن أكرر الهراء. العالم مليء بالجديد! قال أحدهم بسخرية – تتولى اعداد النثسرات هذا شيء ولكن ليس كل ما يعد يذاع على الهواء! وهذا شيء آخر لن تستطيع أن تقولاه !.. رد بصوت منخفض – العلاقات الانسانية أثير آخر تتخطى كل الحواجز وعبرها سأذيع جديدي!
– واضحا بدليل أنك اخفضت صوتك.. قال آخر، – الهمس أحيانا يؤدي الغرض ويصل سريعا..
– أسرع من نشرات الأخبار !.. – أسرع وأسرع..
فجأة حملق أحدهم في وجه صديقي مرتابا من تدخله الغريب، أمعن النظر في تلك الوجوه التي يعرفها ثم نبههم باستفسار فزع – من أنت؟ ولم تسحبنا من ألستننا؟ لم يشعر بعناء في البحث عن صيغة يبرر فيها تطفله الواضح، وبلؤم شديد قال لهم..
– أنا.. أنا قرينكم… أنا همومكم المتضخمة في أعماقكم، قال أحدهم بعد أن داهمه شك مضطرب.. – هل أنت مجنون؟ وقال آخر – مجنون ! مجنون وما خصنا نحن في جنونه. دعوه يقول ما يشاء قد نتبين قصده، قال أول المرتابين في أمره..
إنه.. إنه!
اتحدوا في نظراتهم.. ثم في قهقهة امتزجت بقدر من السخرية والريبة ! وقبل أن يهم آخر بالتعليق.. صرخ واحد منهم يستدعي حذرهم وعدم التوغل في الاطمئنان.. خرج صوت مؤيد – أني أرى الجدار مزدحما بأذان ترصد هلوستنا.. قال آخر وهو يمعن في سحنة صديقي – بل هو أنف غريب ! لكز الآخرون بعضهم البعض.. وساد الصمت.. نظر أحدهم في
ساعته عندما حاول صديقي أن يغريهم بحديث ما.. وأطلق ضحكات متتالية.. تعالت وتعالت ثم تكورت كدوائر الدخان وبدأت تتصاعد هي الأخرى، رفع رأسه يتأكد من اختفائها.. رجع يحملق في ساعته ثم ألصق فاهه في أذن القريب منه قائلا، إن الزمن يفر مسرعا.. أكمل حديثه الهامس وهو يهز رأسه مؤكدا – أظنه قد عقد صفقة محترمة مع بعض الأنوف !
ضج الهواء وازدحم بعلامات استفهام مرتجفة.. قال – كيف للزمن أن يكون خائنا لمبادئنا!
أحسست بلهيب غضبهم.. رفعت يدي مشيرا لرجوعه.. قام من بينهم ممتعضا غير مقتنع بفكرتي.
أحكم قبضته على جعبته خوفا من تسرب أفكارهم.. وعيناه تطالعانني بحنق.. تسللنا خلسة وبدأ أنفه يضمحل، من بعيد وفي غمرة انسحابنا.. تردد صدى صوت كأنه يحاول جذب صديقي، الفقراء أبناء…؟ وهم منعوتون منذ الأزل بالعته !! في اليوم التالي نهض من نومه فزعا.. تظاهرت بالنوم.. رأيته يرتعد مذعورا والعرق يتصبب منه.. فتح جعبته.. تسمرت عيناه عندما صدمه منظر الثقوب.. لا شيء الا الثقوب ! رفع يده ومسح أنفه بحركة عصبية.. ضحكت في نفسي من تصرفي.. ها أنا أتلصص على متطفل واحد من زمرة متطفلين آخرين يتلصصون في كل الأماكن..
فاطمة الكواري(قاصة من قطر)