عبد الرحمن طنكول*
يشغلُ محمد برادة مكانة خاصة داخل الحقل الثقافي المغربي، وذلك بالنظر لمساره المؤثر الموسوم بمحطات عدّة، إن على مستوى الممارسة الثقافية الرائدة، أو على مستوى البحث النقدي التحديثي أو على مستوى الأداء الإبداعي والترجمي الرفيع. هي محطات، في الحقيقة، جدّ متداخلة ولا يمكن الفصل بينها. فالمتتبع لمسار برادة يعلم مدى قدرته على الاشتغال، في آن واحد، على عدّة قضايا متنوعة وبراديغمات مختلفة، متجاوزاً إكراهات الحدود المعرفية والإبستيمية، ما مكنه من التألق وطنيا ودوليا. وعلى هذا الاعتبار، فإننا نعتقد أنه من الصعوبة بمكان الإحاطة بتجربته الطويلة في هذه المقالة أو حتى على مستوى هذا الملف. لذا سنكتفي هنا بتسليط بصيص من الضوء على الدور الذي لعبه من أجل إرساء موقع قدم للثقافة المغربية على الصعيد الدولي، وما قدمه من مبادرات هادفة إلى إبراز المهام المنوطة بالمثقف كي يرتقي بمسؤوليته إلى آفاق الكونية. وفي ضوء هذه المقاربة، سيكونُ علينا أن نتساءل: ما مدى قيمة إنجاز محمد برادة؟
منذ السنوات الأولى لبداية مساره الثقافي، مع أوائل الستينيات، اختار محمد برادة المراهنة على بناء مشروع ثقافي مغربي يرتكز على قيم الالتزام والحداثة، متحديا في ذات الوقت المتحصنين وراء أسوار الكلاسيكية (التقليدانية) ومن كان ينعتهم إبّان تلك الفترة بول نيزان بـ «كلاب الحراسة». فلا غرابة أن نجده ينفرد بعلاقات صداقة حميمية مع كتاب منبوذين إلى حدّ ما أو إن شئنا مهمّشين من أمثال محمد شكري ومحمد زفزاف وادريس الخوري. لقد كان يُنظَرُ إلى هؤلاء بوصفهم حاملي مشعل الحداثة القادمة داخل المشهد الثقافي المغربي، إن لم يكن العربي. لذا ينبغي التوضيح أن العلاقة مع هؤلاء المبدعين لم تكن مبنية على نوع من الوشائج العاطفية العابرة، بل كانت تندرج في إطار تصور لعمل ثقافي يؤسّس لممارسات إبداعية تضربُ عرض الحائط كل أشكال بروتوكولات الأخلاق الزّائفة، وضوابط الكتابة الأدبية المرهونة بالمعايير السائدة التي تكرّست في الخمسينات، واستمرّت إلى حدود السبعينات متستّرة وراء الدفاع عن شعارات الهوية، ومبادئ الخصوصية الدينية والحضارية. لقد كان محمد برادة يعي أنه بدون قطيعة مع هذه الممارسات الزائفة لا يمكن للأدب المغربي أن يحقق التطور الذي ينشده، ولا أن يتمكن المثقف المغربي من بلورة الآليات الكفيلة بجعل المجتمع ينسلخ من جلده الميت ليرتاد آفاق العالمية. ولكي يدفع بهذا التصور إلى حدود الفعل، كرّس جهوده للتعريف بهذا الأدب الناشئ، الحامل لطموحات القطيعة المنشودة، وذلك من خلال إعداد ملفات عن اتجاهاته الأولى في مجلات عربية ودولية. كما لو أنه كان يريد أن يعطي لهذا الأدب موقع قدم خارج الحدود حتى يحقق له الاعتراف الذي يزيد من أزمة المشدودين إلى التقليد.
وبفضل هذا الموقف، وما أدّى إليه من إنجازات، عربيا ودوليا، لم تتأخر النتائج في الظهور. بحيث برز اهتمام ملحوظ مع نهاية السبعينيات وبداية الثمانينيات بالأدب المغربي، تكرّس ضمن ما تم تنظيمه من منتديات وملتقيات وأعداد هامة لمجلات عدّة دعّمت ما كان يقوم به من خلال اتحاد كتاب المغرب الذي كان يشرف عليه، ومجلة آفاق التي كان يديرها. وأخذا بعين الاعتبار المسافة الزمنية التي تفصلنا عن تلك الفترة، فبالإمكان القول إنها أجمل فترات نهضة الأدب المغربي الحديث، ومع ذلك فإن ما ينبغي التشديد عليه هو أن محمد برادة لم يرتكن إلى السكون أو التموضع في مواقع الظلّ والتأمل السّلبي. ولعلّ ما يؤكد ذلك، أنه ما أن استقرّ رأيه خلال النصف الثاني من الثمانينيات على أن هناك مظاهر تراجع وتفكك داخل المشهد الثقافي المغربي، حتى بادر إلى الدعوة إلى انتفاضة ثقافية جديدة تعطي نفسا آخر للثقافة المغربية يخرجها من هيمنة الأدلجة، وينزع عنها ثقل الطابوهات: السياسة والدين والدوكسا (بارت).
تكمن قوة هذه الدعوة في كونها جاءت لتزعزع بعض قناعات ما كان يسمّى بثقافتي اليسار واليمين في المغرب. ذلك أنه كان شديد الاعتقاد أن الدغمائية ليست حكرا على أحد دون الآخر. ولقد استطاع بذلك أن يكسر كثيرا من التصورات النمطية التي كانت تعيق دينامية الثقافة المغربية، وتقلّصُ دورها في مواكبة المجتمع في مسيرته نحو التطور. ومن هذا المنظور يمكن الإقرار بأن المثقف الحقيقي لم يكن في نظره هو الذي لا يكتفي بالانتماء إلى تيار تقدمي للاعتقاد بأنه قادر على المساهمة في معركة التغيير. فالالتزام الإيديولوجي أو السياسي هو، مما لا شك فيه، أمر أساس، لكن ما هو أهم هو أن يمارس المثقف في إطاره حريته التامة، التي تسمح بفضح الزيف أنى وجد، حتى ولو داخل بيت نفس القبيلة. كما أن الواجب الأسمى للمثقف هو الارتقاء بالأشكال الجمالية إلى آفاق انتظار غير متوقعة. وهنا بطبيعة الحال يكمن أسمى عنوان الالتزام ورمزيته. لذا لن نبالغ إذا اعتبرنا أن هذا الموقف جعل محمد برادة ينفرد بشكل متميز عن كثير من المثقفين، عربيا ودوليا، الذين تبنوا مفهوم الالتزام ودافعوا عنه. وذلك لأن أغلبهم حصروا قراءتهم للالتزام في المفهوم السارتري الضيق أو في مفهوم الأتباع الأوائل للماركسية. فعلى عكس هؤلاء، بادر محمد برادة إلى توسيع المفهوم استنادا إلى ما جاءت به طروحات ألتوسير وفوكو وباختين وأمبرطو إيكو حول خصوصية العمل الأدبي وعلاقاته بالتاريخ والمجتمع والثقافة. وهذا ما يجعلنا نعتقد، من غير مبالغة، أنه كان مفككا بطريقته الخاصة، وهدّاما بمنظوره الخاص. وما أضفى على منجزه سمات الفرادة والتميز، هو أنه حرص دائما على ربط عملية التفكيك والهدم بعملية البناء. وسيرا على هذا المنوال، لم يكن يخشى أبدا الذين حاولوا عرقلة عمله، ومحاربة أدائه. فهو لم يحد قط عن مسار الفكر الذي رسمه، بل إنه اختار طريقا أصعب في التعبير عنه جماليا. وقد تسنّى له ذلك من خلال توجهه نحو كتابة الرواية بعد أن كان قد هيأ لها منذ سنوات مضت عبر ولوج عالم القصّة القصيرة. ففي الرواية نجد، فعلا، لديه تجسيد صريح أو نجده مضمرا للكثير من مواقفه الفكرية حول مكر السياسة، وتلوينات السلطة، ومدارات الذاكرة، ولعبة الهروب والتكرار. كما أن ممارسة النقد الأدبي قد مثلت بالنسبة له مجالا خصبا لإبراز خصوصية الثقافة المغربية التي يتغيا بناءها في إطار مشروع القطيعة الإبستيمية التي كان سبّاقا لتعبيد الطريق نحوها. والدليل على ذلك علامات التجديد التي يمكن أن نقف عندها في مختلف مقارباته للأدب المغربي. فعلى سبيل المثال نجد من أبرزها تبنّيه للاتجاه السوسيولوجي الغولدماني، في وقت كان النقد المغربي والعربي على العموم، حبيس مفهوم الكاتب وبيئته أو الكاتب وحياته. بينما كان الواقع العربي يمرّ بهزّات متعددة تقتضي من المثقف أن يوظف أجهزة تحليلية مغايرة للنفاذ إلى أعماق مسبباتها حتى يستشف مدى قدرة الأدب على التفاعل معها. وقد شكلت بعض المفاهيم الإجرائية التي وظفها برادة مفتاحا مهما لتقريب القارئ من دينامية العمل الأدبي بعيدا عن كل الإسقاطات التي ارتهنت لها القراءات السابقة التي كانت تعتمد أساسا مصطلحات «المرآة» و»الانعكاس» و»بوح الذات». مصطلحات ما فتئت أن فقدت مشروعيتها بمجرد مقابلتها مع التصور الذي دافع عنه برادة. وهكذا بدأت قلاع النظريات التقليديانية تتساقط رغم ما أبداه البعض من مناصريها من استماتة وردود فعل سلبية.
إن اكتشاف برادة للوسيان غولدمان لم يدفع به إلى نوع من الافتتان أو الاكتفاء بتوجهاته المنهجية، بل أبدى رغبة قوية في إغنائها وتطويرها، ما دفعه إلى الانفتاح على بيير بورديو من جهة، وباختين من جهة أخرى. ذلك أنه، من منظوره، تبقى مقاربة العمل الأدبي ناقصة إذا ما حصرناها فقط في رصد علائقه بالمجتمع والتيارات الإيديولوجية المتحكمة فيه. إذ كلما حاولنا الانتقال من بنية لأخرى من أجل فهم أو تفسير ارتباط العمل بها، فإننا، في حقيقة الأمر، نبتعد عن كنهه وخصوصيته كبناء فني. وتفاديا لهذا القصور، ارتأى برادة أن هذه الخصوصية يمكن إدراكها بصورة أقرب إذا ما حاولنا أن نوظف مفهوم اللاوعي الثقافي، في تناغم مع مفاهيم أخرى شديدة الاتصال بدينامية النص كفضاء للتعدد اللغوي والتهجين وتعدد الأصوات وتداخل أبعاد سيميائية لها صلة بالتراث الشعبي وأشكال الفرجة والكرنفال. لقد شكل هذا التوجه في المسار النقدي لمحمد برادة منعطفا لافتا داخل الحقل النقدي العربي، لأنه دفع إلى التعامل مع الأدب لا كبنية فوقية معزولة عن البنية الاجتماعية التحتية، وإنما كمنجز تتفاعل فيه عدّة تيارات ورؤيات للعالم شديدة الصلة بالمجتمع وفئاته. فما الكتابة من هذا المنظور، إلا ترجمة لما ينتجه الوعي الجمعي في شكل أساليب ولغات اجتماعية يسمها كلّ كاتب ببصمته الخاصّة. وعلى هذا الأساس يمكن القول إن محمد برادة كان من بين أوائل النقاد الذين ساهموا في تحقيق الانتقال من تصور مثالي للأدب إلى تصور مادّي ينظر إليه كمجال تتداخل وتتصارع في ثناياه تصورات وأحلام وطموحات يمكن من خلالها إدراك التوترات الباطنية والمغمورة لشرائج المجتمع في علاقتها بالسلط ومؤسسات المجتمع.
إن تعامل محمد برادة مع الأدب من منظور النقد المتجدد جعل منه قارئا متفطنا للمنعطفات التي يمكن أن يعرفها تطوره. وفي هذا الصدد، لا يمكن إلا أن نذكر أنه كان من الجامعيين الأوائل الذين اهتموا بكتابات نجيب محفوظ. فقد شجع على قراءة أدبه وتحليل خصوصية تعامله مع الواقع المعيش في الأحياء الشعبية. ومن باب التذكير، وللتاريخ، أن تدريسه في السنوات الأولى بجامعة سيدي محمد بن عبد الله بفاس تميّز بإعطاء عناية خاصّة لهذا الأديب المصري، مما كان يشكلُ مفارقة غريبة لدى البعض الذين كانوا ينظرون إلى نجيب محفوظ ككاتب إثنوغرافي. لكن ما إن مرّت سنوات حتى جاء التتويج لهذا الكاتب من أعلى مؤسسة ألا وهي جائزة نوبل. كما أن اهتمام برادة المبكر بكتابة محمد شكري لم يكن أبدا في غير مكانه، ولم يكن نابعا فقط من العلاقة التي كانت تربطه به. فقد كان لحصول شكري على عدّة جوائز، من بينها جائزة غونكور الفرنسية، دليلا آخر على نظرة برادة الثاقبة لما ينبغي أن يتسم به الأدب الجيد من قدرة على السؤال والاستقصاء لسراديب المجتمع وما تحفل به تمثلاته من أشكال الكبت والإحباط. إن هذا النوع من الكتابة هو ما حرص محمد برادة على التعريف به في المحافل والمنابر الدولية، وفي أعماله النقدية التي حاور فيها جانبا مهما من الإنتاج الروائي العربي. هكذا يكون، في اعتقادنا، قد انفرد إلى حدّ كبير بالدفاع عن كتابة الهامش وما تتميز به من جمالية تجعل القارئ يدرك مدى قدرتها ليس فقط على نقل الواقع وعكسه كما لو تعلّق الأمر بمرآة متجولة، بل، كذلك، على حثه على الاقتراب من المناطق الداجية، والأغوار السحيقة في النص الأدبي، في الوقت الذي قد نعتقد فيه أن الكاتب مشدود إلى اليومي وتمظهراته.
إن المتتبع لمسار محمد برادة لا يمكن إلا أن يفضي به الأمر إلى إدراك مدى حضوره النوعي ككاتب وناقد ومثقف ارتقى بأدائه إلى اختراق الحدود المعرفية والإبداعية والجغرافية، عاكفا على توسيع مساحة التجديد، مستمدا زاده من شجرة الأنساب التي تشبث بالانتماء إليها. إنها تلك الشجرة التي غذت الفكر الماركسي الرافض للدوغمائية، كما غذت الفكر التفكيكي الثائر على المركزيات ومسلمات الأخلاق والهويات والمعتقدات، والفكر الجدلي النزّاع إلى الكشف والمقاومة. وهذه الخصائص اللافتة في مسار برادة تدعونا إلى الاعتقاد بأنه، إلى جانب القليل من مثقفي العالم العربي، استطاع أن يوطّن مكانة له داخل المشهد الكوني. وهو، بالتالي، جدير بهذا الاعتراف الذي ما أحوجنا إليه اليوم في سياق تاريخي يغلب عليه خطاب الدوغما، وتكريس الانحطاط.