ثمة شعرية جديدة تقترحها علينا قصيدة النثر، فهي لا تكتفي بما فعلته النماذج الشعرية السابقة عليها، من محاولات لنقل الواقع أو تعريته، أو حتى محاولة تغييره ونقله من التكوين الوجودي إلى الوجود اللغوي، بل إنها صارت تسعى لإنتاج واقع خاص بها، وتصنع شعريتها من خلال نمط خاص من العلاقات التي تقيمها بين الدال والمدلول من جهة وبين المدلولات من جهة أخرى داخل القصائد.
وأتصور أن شعراء قصيدة النثر يدركون طبيعة التحول المعرفي الحاصل الآن، ويعون اللحظة التاريخية التي يعيشونها بكل متطلباتها واحتياجاتها الجمالية،لذلك يحاولون بشتى الطرق ابتداع تقنيات جديدة تصدرعن حساسية ووعي جمالي مفارق مدفوعة باتجاه استثمار كل ما يعوضها عن العناصر السماعية التي تتوفر عليها قصيدة الوزن.
ولعلي أجد استسهالا كبيرا لدى بعض النقاد حينما يصنفون الشعراء -والمبدعين بشكل عام-في إطار فكرة الأجيال،وهي طريقةمريحة للتنميط ورؤية كل ما هو عصي على تفسيره في تجارب جمالية مختلفة، تفكك كل ما هو متعارف عليه من رؤى وأفكار تخص مفهوم الشعر ذاته.
وأظن أنه قد يكون من الظلم البين أن يُصنف الشاعر المصري عزمي عبد الوهاب في خانة جيل بعينه، فكتابته تتأبي- في تقديري -على هذا التصنيف الضيق، فالدواوين اللافتة التي أصدرها مثل “النوافذ لا أثر لها”، “الأسماء لا تليق بالأماكن”، “بأكاذيب سوداء كثيرة”، “شخص جدير بالكراهية” وغيرها من الدواوين الأخرى، تؤكد تفرد هذا الشاعروتجاوزه لمفهوم المجايلة.
ولعلي أجد من الأهمية بمكان أن أتوقف هنا عند ديوانه الأخير “غلطة لاعب السيرك” الصادر مؤخرا عن الهيئة العامة لقصور الثقافة، باعتباره ديوانا فارقًا في مسيرته الشعرية، ومن يقرأه سوف يدرك أنه يكاد أن يكون مونتاجا لسيرة ذاتية للشاعر،كان قد نثر فصولا منها عبر دواوينه السابقة، ويتضح هذا في عناوين بعض القصائد والإشارات المتكررة إلى دواوينه، فالشاعر هنا هو “لاعب السيرك” بألف لام التعريف، قاصدًا الإشارة إلى ذات بعينها، وقد استخدم الشاعر هذه الاستعارة تحديدا ليشير إلى تشابه بين حياته وحياة لاعب السيرك الذي يمتلك مهارات أدائية خاصة تميزه عن غيره، ويثير الكثير من المتعة لدى المتفرجين، لكنه أيضا يعيش في حالة مغامرة وخطر دائم، وهو عرضة لأن يتسبب خطأ صغير في إنهاء حياته، وهو ما يشير إليه الشاعر:
“شاعر مات وحيدا في غرفة شاحبة
وترك قصائد مشوشة تشبهه،
أوهم الجميع بأنه انقطع عن العالم والكتابة
وعاش حياته بمهارة لاعب سيرك
لكنه هوى حين نظر إلى أسفل
كانت الخديعة شَرَكًا يبتلع جثته”.
(الديوان ص ص 57،56)
يؤرخ هنا الشاعر لسيرته الذاتية، ويكتب بعصب عار، وبحيرة مبدع تتقاذفه الأسئلة الوجودية، ويحاول فك التباسات وعيه بالعالم من خلال فعل الكتابة، وأزعم أن جماليات تلك الكتابة الشعرية ليست في كونها “اعترافية” كما يتوهم البعض، فالشاعر أو أي كاتب مبدع– في تصوري الشخصي- يكذب حتى وهو يقول الحقيقة، بل إن جمالياتها تكمن في بساطتها وقدرتها على جعل القارئ متواطئا في السر مع كاتبها، فالشاعر -في حقيقة الأمر- لا ينقل الواقع أو يحاكيه،هو بالأحرى يقوم بعملية تفكيك لهذا الواقع ثم يعيد تركيبه مرة أخرى وفق وجهة نظره.
ولعل الشاغل الأساسي لمن يكتبون سيرتهم الذاتية- سواءكانت شعرا أم نثرا- هو الحفر في الماضي أو نبشه- إن جاز التعبير-الأمر الذي يبرر مسألة التداعي في بعض المواضع في الديوان، خاصة أن صاحب السيرة يكتبها في لحظة أزمة وجودية،كثيرا ما تقترن بها أسئلة كثيرة عن معنى الحياة والموت، وهي أسئلة تشغل الشعراء كثيرا المهووسين أصلا بهاجس الزمن.
يتأمل الشاعر عبر قصائد الديوان- التي تبدو كما لو كانت شريطا سينمائيا- حياته المليئة بالندوب والهزائم وعلاقته المركبة بتلك المرأة التي يراها بمثابة خطأ لاعب السيرك، ولعل عملية التذكر هي ما قد يبرر أيضًا بنية التكرار لبعض الصور أو الأفكار التي يلح عليها اللاوعي عبر القصائد كلها، فإذا كانت المحافظة على الذات تقتضي تحريم النسيان، فيما يصرح “بول ريكور”مثلا فإن قصائد الديوان- في الوقت نفسه- تنشغل بحفر المناطق الغائرة في اللاوعي وبفضح المسكوت عنه.
هي كتابة-إذا شئنا التوصيف- تقف ما بين الوعي واللاوعي، أو لعلها أشبه بأحلام اليقظة، فثمة أشياء كثيرة بالفعل تتقاطع فيها الكتابة الإبداعية مع الحلم، فكلاهما يكشف بجرأة عن مكبوتات اللاوعي ويفصح عن مناطق مسكوت عنها طوال الوقت ولا تجد متنفسا لها إلا عبر الأحلام والكتابة، ففي إحدى القصائد يقول:
“أنا ميت يا عالم،وأخشى أن أطل عليكم من قبري،لأرى كيف تنتهكون حياتي السرية،ولا أملك أن أردكم عن جثتي.
أريد أن أكون صفحة بيضاء،لا يكتب الآخرون عليها أكاذيبهم،
فالسلام الذي بحثت عنه، لا أريد أن أضيعه هنا”.
(الديوان ص 56)
ولعل التذكر هنا أو محاولة الالتصاق بالذاكرة –إن جاز التعبير-أشبه بآلية دفاعية ضد الموت أو العدم -الذي يقف قاب قوسين أو أدنى- والذي يهرب منه الشاعر في لحظة هزيمة قاسية فاجأت الذات، وقد تعني الذاكرة هنا الوجه الآخر للهوية “هوية الشاعر” التي يتشبث بها كحتمية حياة، هذا إذا اعتمدنا التعريف الذي يقول بأن الهوية”هي القدرة التي يمتلكها كل فرد منّا على أن يظل واعيا لاستمرار حياته عبر التغييرات، عبر الأزمات والقطيعات”فالإنسان الذي بلا ماضٍ، هو بلاهوية حتما، غائص في لحظة متغيرة باستمرار، فارغ من المعنى، ولنا أن نعرف مثلا أن إبادة الذاكرة أوالهوية لدى المعتقلين،باعتبارها إحدى وسائل التعذيب،التي تسبق تصفيتهم الجسدية،ولعلها تبدأ بإزالة التسمية عنهم وتحويلهم إلى مجرد أرقام فحسب تنوب عن أسمائهم، كذلك تُحرم عليهم الاحتفاظ بأشياء قد تحمل ذكريات لهم “كصور لهم مع عائلاتهم” كشكل من أشكال التجريد من الهوية.
وأظن أن القارئ التقليدي للشعر سيفاجأ حين يقرأ قصائد هذا الديوان بأنها جاءت مخيبة لتوقعاته، ولعل أحد أسرار جماليات تلك الكتابة هي أنها تقوم على كسر أفق التوقعات أو ما أسماه ياكوبسون بـ”التوقع الخائب” ومن البديهي أن يرتبط النص الجيد بتخييب الانتظار، فليست غيبة الإيقاع الخارجي وحدها هي ما سيدهش القارئ بل إن هناك محاولة لإعادة اعتبار لدور المجاز بوصفه بصيرة لرؤية العالم وحقائق الوجود،وليس شكلا زخرفيا في القصيدة.
هذا إلى جانب التحول الحاصل أيضا في شكل المجاز ذاته الذي تحول عند عدد من الشعراء الجدد إلى مجاز كلي يتكون عبر مشهد كامل،وذلك لاعتماد النص على تقنية المونتاج السينمائي، أي أنه استخدم مونتاجًا من الكلمات لمونتاج من الصور؛أي أن الكتابة صارت مونتاجا، (وفكرة المونتاج هي من إبداع جاك دريدا، وهي تحل عنده محل المحاكاة عند أرسطو )، فعلينا -إذن- أن نحصر اهتمامنا في العلاقة بين الدال والمدلول(الصور داخل المونتاج”.فمثلا البنيويون يقررون أن الفيلم نظام سميوطيقي في أي لغة،باعتبار أن الصور واللقطات دوال، والدال مستقل عن مدلوله الوضعي، وأن أي دال في النص يتحدد من خلال علاقته بالدوال الأخرى الموجودة به. إلا أن التفكيكيين يقررون أن المعنى لا يمكن أن يتحدد أبدا،وأن أي دال في النص لابد أن يحمل أثرًا أو آثارا من دوال أخرى، ولهذا فإن معناه ليس ثابتا. وهو ما يحدث في المونتاج السينمائي تماما، فالمشاهد هو الذي يخلق بين الدوال أو اللقطات المتتابعة،و لو تأملنا معا قصيدة الحكاية ” تبدأ الحكاية بأكاذيب بيضاء”:
“مرحبًا
أيتها الكآبة
نخبك يا صديقتي
سوف ندخل شارعا
يستقبل أطفالا سفاحا
على دراجة المتعة الحمراء
وفي وحدة السرطان بقصر العيني
نمر كشعاع كاذب
بعيدا عن أيدي الأطباء
وندفن في معاطف الممرضات”.
(الديوان ص 5)
وإذا انتقلنا إلى مقطع آخر في القصيدة نراه يقول:
“نخب آخر يا صديقتي
فالباعة الجائلون
حبسوا المطر في أكفهم
وأعلنوا حدود دولتهم
فطارت الأشجار
إلى صحراء مأهولة بالطاعون
لنرى سلالم
تفضي إلى سلالم
تدوخ الصاعدين
إلى الهواء،
متاهة تذهب في كل اتجاه
ولا اتجاه”.
(الديوان ص6)
بالطبع في البداية، سوف نتساءل: ما العلاقة بين هذه الدوال المتتابعة التي تبدو وكأنها منفصلة؟! فليس ثمة معنى واحد يقوله النص، يمكننا تحديده بدقة وباطمئنان، فماعلاقة مثلا مشهد أو لقطة “الدخول إلى شارع به أطفال على دراجة نارية” ثم الدخول إلى وحدة السرطان بالقصر العيني في صورة “شعاع كاذب”باللقطة التي تليها وهي:”الباعة الجائلون حبسوا المطر، وأعلنوا حدود دولتهم،فطارت الأشجار إلى صحراء احتلها الطاعون”.
لعل القارئ- وحده – هو من يستطيع أن يُقيَم العلاقة أو يربط بين هذه الدوال المتتابعة، فينتبه إلى أن هذه الصور أو “اللقطات المجازية” المتتابعة تحوي معنىً ما،خفيا تلح على إبرازه بأكثر من طريقة، وقد تبدو القصيدة هنا أشبه بالكابوس الذي يتكون من نثار صور ومشاهد يختزنها اللاوعي دون وجود رابط منطقي بينها، لكننا حين نقرأ بقية القصيدة وتحديدا المقطع الأخير، سوف نكتشف أننا أمام مقطع كاشف جدا من القصيدة:
“مرحبا
أيتها الكآبة الوديعة
سوف ندخل الآن في عتمة
السيدة التي فقدت زوجا
في الحرب”.
(الديوان ص 8)
لعل هذا المقطع يدلنا على احتمالية ما يريد النص أن يقوله لنا، ويكشف الرابط الخفي بين كل هذه اللقطات أو الدوال المتتابعة أمامنا؛وهو تصوير تفاصيل عبث الحياة الدائم -والتي تخلو من أي معنى- بمصائر البشر،والخراب الداخلي والخارجي الذي لحق بهذه الذات المتكلمة في القصيدة، صنعته امرأة مشوهة عبر علاقة شديدة التعقيد، أفضت بالذات الشاعرة إلى هذا الموت المجازي، وصارت حياته مجرد كابوس أو حلم.
نجاة علي*