من نافلة القول، أن المجتمع المدني يعد مؤشرا هاما على نضج حس المواطنة لدى الأفراد وتفاعلهم مع الإحساس بمفهوم الدولة الذي ينتظم في عناصر عدة منها الحكومة والهياكل المجتمعية والأفراد. ولذا فإن المجتمع المدني يخدم من خلال مؤسساته أغراضا وطنية هامة، كونه وسيلة فاعلة لتفاعل المواطنة والمسؤولية وترسيخهما لدى المواطنين مؤسسات وأفرادا تجاه الوطن، مع الأخذ بعين الاعتبار الفروقات الفردية والمصالح الشخصية التي تشوب أي عمل إنساني حكومي أم أهلي.
ولعل من أبرز التطورات التي صاحبت نهضة عمان الحديثة التغيير الذي حصل على بعض أنماط مؤسسات المجتمع المدني التقليدية (كالوقف) ووسائله (ولجان سنن البحر) وظهور مؤسسات جديدة أو حديثة (كجمعيات المرأة، والجمعيات الرعائية والخيرية والمهنية) ، وفي هذا التغيير تعبير عن التطور الحادث والمستمر على المشهد الاجتماعي والسياسي بالسلطنة المزامن مع النهضة العمرانية، والفتوة الديموغرافية ، والتموجات الاقتصادية، إلا أنه للأسف لم يتح المجال لهذا التعبير أن يتناول مقاربات العصرنة الفكرية بشكل مباشر إلا في بعض المجالات ولبعض الوقت.
وما يجب ألا يفوت ذكره هو أن مفهوم المجتمع المدني وتطبيقاته، كما يستدل عليه من مقاصده، ليس بالجديد على المجتمع العماني وثقافته، وأحسب أن ذلك مرتبط بخاصيتين إنسانيتين متعامدتين هما النزعة الفردية (بمعنى الاستقلالية والخصوصية) ومحدودية القدرات الفردية (بمعنى الحاجة إلى التعاون والتكامل)؛ فالسبلة، والمجالس، والأوقاف (خاصة التعليمية منها والمدارس المرافقة لها) ، والأسواق المركزية في القصبات التاريخية لعمان (كنزوى والرستاق وبهلاء ومنح على سبيل المثال لا الحصر) بالإضافة إلى الأفلاج ونظم إدارتها الرفيعة ، وسنن البحر والحمى (أو الحامية)1؛ كل هذه شواهد على عمق وجود مفهوم المجتمع المدني ومبادئه في الذهنية العمانية، وإن اختلفت صيغ هذا المجتمع المدني وتعددت. وفي هذه النظم المعيشية والعملية مؤشرات لوجود أمرين: الأمر الأول هو صيغ محلية للمواطَنة استنبطها العمانيون من محدودية مواردهم ومن سياقاتهم السياسية والتاريخية المتشكلة من صراعاتهم المحلية، وتعاركهم مع محيطهم الأممي والفكري الإسلامي وغيره. والأمر الثاني هو سيادة القانون الذي يرتكز (بخلاف حكم القانون) على المبادئ الخلقية والقاعدة القيمية التي تؤسس لآليات التنظيم والتحكيم والاستدامة في المجالات التي تناولتها النظم المدنية، بما يهيئ بيئة تسمها المرونة والتكيف مع حاجات البشر.
ومع مكوث العمانيين في الخارج ردحا طويلا من الزمن، وتعاملهم مع أطر وصيغ حديثة للمجتمع المدني، توجه العمانيون سرعان ما أتيحت لهم الفرصة إلى أن يوجدوا هذه الأطر والصيغ في سياقهم العماني كنادي التبادل الثقافي في الأربعينيات، والجمعية التاريخية العمانية وجمعية المرأة العمانية في مسقط والنادي الوطني الثقافي في السبعينيات، على سبيل المثال لا الحصر. وخلال العقود الماضية توالت أشكال أخرى من مؤسسات المجتمع المدني كالجمعيات والمؤسسات الخيرية ، وجمعيات التوعية ومجموعات الدعم، والجمعيات الرعائية لفئات محددة من المجتمع، والجمعيات المهنية، وجمعيات الصداقة ، والجاليات الأجنبية ، وصنايق التضامن (التكافل) الأهلية ومؤخرا النقابات العمالية، والحملات الشبابية والفكرية على وسائط التواصل الاجتماعي.
هناك حوالي 150 مؤسسة مجتمع مدني مسجلة حاليا لدى وزارة التنمية الاجتماعية ، ويقدر أن هناك ما يصل إلى 100 غيرها من مؤسسات المجتمع المدني غير الرسمية أو غير المسجلة تحت مظلة قانون الجمعيات الأهلية، إلا أنه من الأهمية بمكان ملاحظة أنه مع هذا النمو الصاعد في عدد مؤسسات المجتمع المدني ما تزال معظمها تعمل في مجال الخدمات والرعاية والعمل الخيري، لاسيما الرسمية منها، أما عدد المؤسسات العاملة في المجال الفكري والبحثي والتخطيطي فلا يزيد عن 3 مؤسسات من بين المؤسسات الرسمية، أي ما نسبته 2% فقط من إجمالي هذه المؤسسات، أما في فئة المؤسسات غير الرسمية أو غير المسجلة فيصعب تحديد هذه النسب لعدم وجود إحصائيات معتمدة وكذلك لتغير مدى تكثيف جهودها بحسب الظروف القانونية والسياسية والفكرية المحيطة.
وبعد مرور عقود من تنظيم العمل المدني، أو بالأحرى تقييده، هناك تحديات أمام المجتمع المدني يمكن تصنيفها في مجموعتين: داخلية، بمعنى أنها متعلقة بماهية المجتمع المدني مفهوما وتطبيقا ومؤسسات؛ وخارجية، بمعنى أنها متعلقة بالبيئة المحيطة به والممكنة له.
فمن أبرز التحديات الداخلية ثلاثة، أولها ضبابية مفهوم المجتمع المدني ورسالته، فيما بين العاملين في مجال المجتمع المدني وكذلك الجمهور. وتعود هذه الضبابية إلى تعدد أشكال المجتمع المدني وصيغه في المجتمعات المختلفة داخل عمان وخارجها ، وإلى طبيعة المجتمع المدني المتجددة والمتغيرة باستمرار، وكذلك إلى الجدل الدائر في الأوساط العمانية حول علاقة المجتمع المدني بالممارسة الديمقراطية والمشاركة السياسية. وبالنسبة للنقطة الأخيرة فإن ما أظهرته التجارب والدراسات العالمية أن الديموقراطية أو توسيع المشاركة الشعبية هي التي توصل وتتطلب وجود مجتمع مدني كمرحلة من مراحل نضجها وليس العكس، أي أن المجتمع المدني لا يوصل بالضرورة إلى الديموقراطية.
وصاحب هذه الضبابية توافر خدمات رعائية من قبل الحكومة في العصر الحديث مما أوجد روحا اتكالية لم تكن موجودة بهذا الثقل في السابق. وترتبط هذه الضبابية بتحد خارجي ألا وهو الإرث التاريخي لمؤسسات المجتمع المدني (في عمان وخارجها). كل هذا ولَّد فهما محدودا للمجتمع المدني قصره على تقديم الخدمات الرعائية والمساعدات الخيرية، وبعض الأنشطة التوعوية في المجال الصحي، وبعض البرامج الموجهة لبناء القدرات المحلية. إلا أن الأخطر من ذلك هو حدوث خلط في الفهم، فيظن أن المجتمع المدني مناوئ للحكومة في حين أنه لا يعدو أن يكون جهدا موازيا لها منبعثا من المجتمع ذاته. وهو بذلك يتفق مع المبدأ الحاكم للتنمية المستدامة وهو أن الإنسان وسيلة التنمية وهدفها.
ثاني هذه التحديات الداخلية هو محدودية الموارد المالية والتمويل، المرتبطة إلى حد كبير بالتحدي الأول، وافتقاد كثير من مؤسسات المجتمع المدني في عمان لمهارات التخطيط الاستراتيجي التي تسهل صياغة رؤية ورسالة واضحة ومشاريع وأنشطة تترجم هذا الإطار وتمنح نوعا من الثقة للمانحين المحتملين، بالإضافة إلى غياب سياسات مالية واضحة لدى العديد من المانحين والممولين لهذه المؤسسات نتيجة لغياب إطار استراتيجي – كما أشير إليه أعلاه – أو لعدم خبرتها بالجوانب المالية أو لارتباط ذهني مغلوط بين التمويل المؤسسي والاستجداء الشخصي.
أما ثالث هذه التحديات فتمثل في هوة الأجيال، بمعنى انقطاع انتقال الريادة من جيل لآخر بشكل منظم وسلس، ويعود ذلك إلى أسباب، أبرزها وجود هوة ثقافية بين الأجيال المهيمنة على العمل المدني الحالي والأجيال الشابة، ومما ساعد في ذلك التوافق العمري والثقافي بين الأجيال المهيمنة آنفة الذكر والأجيال المهيمنة في الحكومة وأرباب العمل أو سلطة اتخاذ القرار في مجالات أخرى، مما أنتج احتكارا «جيليا».
أما التحديات الخارجية فيمكن إجمالها في تحديين رئيسين هما السياق السياسي العام ومحدودية الأطر التنظيمية والقانونية في الوفاء بمتطلبات العمل المدني. فما يتعلق بالسياق السياسي العام ما تزال نظرة الحكومة والجمهور إلى مؤسسات المجتمع المدني قاصرة على أنها مؤسسات خيرية ورعائية فقط. ولا ينظر إليها كعوامل مساعدة في صنع القرار أو توجيه الرأي العام. ومما ساعد في تشكيل هذه النظرة أيضا ذهنية الاعتماد على الحكومة فيما أطلق عليه (دولة الرفاه). بالإضافة إلى توجس عام من قبل الجهات الحكومية تجاه مؤسسات المجتمع المدني: ولو أنه آخذ في الانحسار نوعا ما وببطء، إلا أن هذا التوجس منبثق من ارتباط مؤسسات المجتمع المدني في أذهان العديدين من صناع القرار والمؤثرين في المشهد السياسي العماني من الرعيل الأول بحركات التحرير أو بالحركات السياسية، ويعضد هذا الربط التاريخ السياسي والاجتماعي العماني والعربي الحديث، وإشكالية الاصطلاح وارتباطه عالميا بالتغيير في سياسات الحكم ونظامه، لا سيما وأن هذا التغيير مصدره القاعدة المجتمعية وليس النخبة أو القمة التي اعتادت أن تقود دفة التغيير.
أما فيما يتعلق بمحدودية الأطر التنظيمية والقانونية؛ فما يزال هناك تفسير إجرائي ضيق للأطر القانونية والتنظيمية لتشكيل مؤسسات المجتمع المدني الذي يتفاوت من شخص إلى آخر وحالة إلى أخرى ، أو غياب أطر قانونية مناسبة وضرورية مشجعة. فعلى سبيل المثال عدم وجود إطار قانوني يسمح بإنشاء مؤسسات غير ربحية ذات طابع نفع عام خارج إطار قانون الجمعيات الأهلية الذي يضع هذا النوع من المؤسسات في نفس الفئة مع الجمعيات الخيرية ويخلطها أيضا مع الجمعيات المهنية وغيرها من أنواع الجمعيات ومؤسسات المجتمع المدني.
ختاما، إن العلاقة بين المجتمع المدني والمشاركة العامة وتطور الدولة علاقة وطيدة ومتبادلة ، وتشير بعض الدراسات إلى أن تأصيل المشاركة العامة ونضجها عبر الممارسات الديمقراطية يقوي المجتمع المدني، وليس العكس صحيحا بالضرورة ، إلا أنها أوضحت أيضا أن البعد التاريخي والتراكمي لبناء المجتمع المدني حيوي وأساسي في تقوية المجتمع المدني وتطويره، ومن هنا لا يمكن إيجاد المجتمع المدني بين يوم وليلة، بل يجب إيجاد البيئة السياسية المناسبة لنمو هذا القطاع الهام.
إن مفهوم المجتمع المدني ومؤسساته لا يجب أن يؤخذ على أنه تقليد مستورد ، ولا أن يقتصر على الأشكال المتعارف عليه في بعض الدول العربية أو الأجنبية، وإن كان في بعض هذه الأشكال فوائد ، بل إن مفهوم المجتمع المدني بما فيه من مؤسسات ومشاركة من قبل الجميع مفهوم متجذر في مجتمعاتنا وتجاربنا الإنسانية في السلطنة. إن الاعتقاد بمحورية وأصالة المجتمع المدني هذا من شأنه أن يمنح العمل المدني مصداقية أكبر وتقبلا أسرع لتناغمه مع مفاهيم عمانية وتقاليد عريقة أخرى تتكامل معه ، وفي ذات الوقت يمنحنا الفرصة لإيجاد مجتمع مدني عماني يمكِّن المواطن والمواطنة في كل مكان بعمان من المشاركة في البناء والتنمية ويجعل من الوطن صنيعة المواطنين.
الهامش
1 – نظام تقليدي يتم من خلاله تقنين استخدام الأراضي الزراعية أو الرعوية بحسب الظروف البيئية والمناخية لحمايتها من التدهور والحفاظ على استدامتها. ويدار هذا النظام عبر لجنة منتخبة من الهيئة العامة للمستفيدين (المجتمعات/ القرى/ القبائل) والتي تختص أيضا بفض النزاعات وإيقاع العقوبات.
الصفحة 5 من 5
———————————-
أحمد بن علي بن محمد المخيني