سمير عبد الفتاح *
هل هناك حدود للمجلة الأدبية يجب عليها ألا تجتازها؟! ماذا عن الحدود بين ما يمكن أن يكتب، وما يمكن أن يعاش، وما يمكن أن ينشر؟! أين تقف المجلة بالتحديد، هل هي بين القارئ والكاتب؟! أم بين الفرد والمجتمع، أم بين السياسي والمثقف؟! إلى أي جهة تنحاز للجديد أم للقديم، لحاضر سيكون نواة لمستقبل غير موثوق، أم تنحاز لماض موثوق مصفد بذاكرة التاريخ؟! ما الإطار الذي ستجعل الآخرين يدورون في فلكه، وما المعرفة التي تقوم بنشرها؟ تنحاز لليمين أو اليسار للأعلى أو الأسفل، للمتن أو للهامش؟ هل تكون أداة تنوير، أم تثوير، أم تدوير؟! ما هي الهوية التي ترغب في الانغماس داخلها ودعوة الآخرين لها؟ ما الرسالة التي يمكن التوافق عليها بين الكاتب والمجلة والقارئ ليغدو هذا الالتقاء جزءاً من إثراء للفكرة الإنسانية، وإضافة في تاريخنا الحياتي؟ هل يكون الهدف الانتصار لثقافة رصينة جافة، أم لثقافة متهكمة فاضحة؟ للبناء على ما هو قائم بفرض سلامة الأساس ومتانته؟ أم لهدم ما هو قائم لبناء شيء أكثر متانة وقوة؟ أم ابقاء الأمر على ما هو عليه ويكفي إطلالة صغيرة علينا وعلى الآخرين من حولنا؟
ثم تأتي التفاصيل الأقل ضرراً، هل تنحاز المجلة الأدبية للشعر أم للسرد؛ للنقد أم للتشكيل؛ للمسرح أم للسينما؛ للأسماء المعروفة أم للتجارب الجديدة؛ للنص البكر أم المعتق. للضحكات الندية أم للشهقات المتحشرجة؛ للمراكز الثقافية أم للأطراف، للمحلية أم للعالمية؟؟
وفي الهامش كيف ستستمر المجلة لسنة أولى وثانية وتالية؟! ماذا عن تقاطعها مع السائد والمألوف في الحياة اليومية والثقافية وعلاقتها بالخيارات الأخرى من وسائل إعلامية مشابهة، وأخرى مغايرة أكثر وصولاً للناس؟!
وهكذا تكون رحلة المجلات الثقافية، خيارات متنوعة وكلها مغوية باتجاه الامساك بالقارئ والكاتب، والثابت الوحيد فيما بينها هو عدم وجود (ثابت) يمكن الاستناد عليه طوال الوقت، فالجمود يقتل أكثر مما تفعل الوسائل الأخرى.ودائما هناك خيارات مطلوب من محرري تلك المجلات المفاضلة بينها واختيار المناسب للنشر على صفحات المجلة على ضوء الظروف المحيطة الآنية، وما قد يترتب على تلك الخيارات من أحداث مستقبلية، وكل عدد للمجلة بمثابة اختبار جديد على ما يمكنها تقديمه، وما يمكن أن يحتويه العدد؛ ما سيظهر وما سيؤجل، والإطار العام الذي سيحتضن عشرات وجهات النظر التي تتقاطع أحياناً إلى درجة العِداء؛ الاطار الذي يجعل المجلة تظهر وفق نسق متسق يجمع الأطياف ويقدم وجهة نظرها، ويساهم في تقريب وجهات النظر، ونقل المعرفة والوعي، وتقلص مساحة الشتات… وعلى المتلقين اختيار ما يتوافق معهم، والأهم قيام المجلة بتقديم خيارات لا يستطيع المتلقون عادة الحصول عليها، سواءً عبر تقديم التجارب الجديدة، أو تقديم رؤى مغايرة لما هو سائد.
ووضع رؤية لما ستحتويه أعداد المجلة من مواد خلال فترة زمنية معينة وفق مشروع أو إطار معين هو إشكالية أزلية تضغط باستمرار على هيئة تحرير المجلة، فمع كل يوم تصل مواد جديدة للمجلة يرغب كتابها في نشرها؛ شعر، قصة، نقد، تشكيل، لقاءات، مسرح، سينما، دراسات متنوعة… وأحداث ومناسبات احتفائية واحتفالية… والكل يرغب في ظهور نصه في العدد القادم… وصداع الشكوى الدائم: « متى سينشر عملي في المجلة؟» صداع لا يقتصر على الرسائل النصية، لكن يمتد لتوصيات ووساطات وأحيانا إرشادات وتوجيهات… وفي هذا الخضم يكون السير بإعداد المجلة كالسير في حقل ألغام… وكلما صدر عدد، يصبح العدد التالي أكثر مشقة وتعقيداً.
والمجلة الثقافية الفصلية لا تقتات على الأحداث الآنية، حتى الأحداث الثقافية الكبرى والاحتفائيات يتم الترتيب لها بعيداً عن الآنية، لكنها تضغط عندما تأتي في أوقات حرجة. لذا العمل يتضاعف حينها للمزج بين الآنية وطبيعة موعد صدور المجلة الفصلي. وأحياناً يجب أن تكون لمحرري المجلة قدرة على الاستبصار وقراءة المستقبل، مع التمتع بذاكرة ماضية وحاضرة للمشهد الثقافي لتتدفق المجلة وفق سياق المشهد الأدبي، وتكون مسايرة له ومتوافقة معه أيضاً، وأحياناً موجهة له.
ثم هذا المزيج الثقافي المبهم.. تجارب إبداعية اقرب إلى رحلة تيه لدى المشتغلين بالأدب من العرب.. تيه معاصر تولد من رحم استعمار متعدد اللغات إضافة إلى أصولية ترفض الجديد مهما كان، إلى اجتزاء غير واع تماماً من تجارب عالمية، فمشاريع الترجمة -هنا أو هناك- في واقعنا العربي قائم على جهود فردية تنشد -بفعل رؤية جمالية خاصة بها- إلى ترجمة كتاب ما من الثقافة العالمية، ولا توجد مشاريع كبرى للترجمة من الثقافة الأجنبية قائمة على وعي كامل بما يجب ترجمته ولماذا سيتم ترجمته. يضاف لما سبق انشغال الأدباء اليومي بلقمة الخبز ففكرة احتراف الأدب -لدى الكثيرين- نوع من الجنون، وأيضاً الأدب والثقافة الجادة في نهاية قائمة الخيارات سواءً على المستوى الرسمي أو الشعبي.
وفي هذا السديم.. مطلوب أن تظهر المجلة الثقافية بشكل مبهر، عليها أن تنضم هذا الخليط وتجعله لوحة فسيفساء جميلة. فالمجلة ليست وحيدة، وهناك أبواب أخرى مفتوحة للثقافة، وأيضاً هناك أبواب تُغلق كل فترة… فالمجلات الثقافية تسير بالقصور الذاتي ولا تتغذى على الإعلانات التي تمدها بطاقة الاستمرارية. وهي دوماً على رأس ما يتم التضحية به عند الأزمات. لذا كل عدد بمثابة شهادة وفاة أو شهادة ميلاد.
والحمل يزداد على المجلات الثقافية التي لا تزال تصدر، فالثقافة العالمية تتسع وأصداؤها تصل بفعل التقدم التكنولوجي في مجال الإعلام والانترنت والترجمة الفورية. وأصبح جزءا من المجال الحيوي الذي كانت تقدمه المجلات خارج قدرتها على المنافسة والوصول السريع. وأصبح عليها التغلب على البطء بتقديم المادة بطريقة أكثر حيوية وربطها بالثقافة المحلية لتستطيع جذب القارئ.
لكنها الآن السنة الخامسة والعشرون لمجلة (نزوى)، والعدد المائة، وهذا يعني مائة ليلة – مضروبة في ثلاثة أشهر- من الأرق في انتظار خروج البروفة الأخيرة للعدد الجديد.. مائة ليلة من القلق بانتظار ردة الفعل الأولى لصدور العدد واستقبال شكاوى الغائبين وتهاني الظاهرين. مائة ليلة والتفكير اللاشعوري في العدد القادم، وهل سيرى النور أم سيكون العدد الحالي هو نقطة النهاية؟ والأهم هل سنستطيع مفاجأة أنفسنا بعدد أفضل في المرة القادمة؟! ويضاف لهذا مساحة ارتباط المجلة الواسعة الذي يضغط بشكل قوي، ويجعل الحفاظ على الاستمرارية مهمة ليست يسيرة.
مع كل عدد من مجلة (نزوى) تأتي كل الإجابات متماهية مع الثقافة… الحلم للجميع، والصفحات للجميع شعر وقصة ورواية ومسرح وموسيقى وتشكيل وفلسفة، مع ما يتقاطع من نقد ودراسات تبدأ في التاريخ وتستمر في الجغرافيا لتصل إلى حيث يجب أن يكون الأدب والإبداع… مزيج من الثقافة يتجاور فيه الكتاب مع تجاربهم، وفي البداية يكون الفكر وفي النهاية يكون الأدب هو الغاية، والكتابة ليست واحدة، والأقلام كألوان الطيف… بعضها حاد وآخر عميق، منها الشفاف ومنها الصلد الذي تتكسر العيون عليه. وكل عدد عليه أن يحمل فسيفساء عربية تبداً من -النبع- الجزيرة العربية، لتصل إلى المراكز الثقافية وتنتهي هناك على حدود الأطلسي وتنادي من هناك بقية الأصقاع.
والقارئ يستعد تلقائياً بمجرد حمله عدد المجلة، وقراءة محتويات الفهرس، ولديه ثلاثة أشهر كاملة ليقلب أوراق المجلة التي يتجاوز عدد صفحاتها الثلاثمائة صفحة من القطع الكبير، وأسماء أدبية تتجاوز الخمسين اسماً في كل عدد من كافة اقطار الوطن العربي إضافة لمستشرقين وأدب مترجم.
الجميع مدعو للمشاركة من المراكز الثقافية ومن الأطراف القصية… والمعيار الأهم هو الإبداع والتجربة التي تستحق أن توضع أمام القراء والنقاد والمهتمين. وتستعين المجلة بحجم كبير وإخراج ملون لتستطيع تقديم اسماء كثيرة ومتنوعة في الثقافة العربية مع مساحة مناسبة للفن التشكيلي والتصوير الفوتوغرافي والنحت، وهكذا أصبحت (نزوى) أشبه ما تكون بسفينة كبيرة تبحر في فضاء الثقافة العربية. كذلك استمراريتها – في عالم اصبح المتغير هو الأساس- جعل منها آخر الحصون التي يتم اللجوء إليها.
اسماء كثيرة قدمتها (نزوى) للقراء والنقاد العرب… نصوص وترجمات وحوارات ودراسات ومتابعات، ورهانها كان على الإبداع والثقافة، مما جعلها عنواناً أساسياً للكثيرين من المشتغلين بالأدب والثقافة العربية. وأرشيف المجلة يحفل بآلاف الأسماء والموضوعات التي نشرت خلال الخمسة والعشرين عاماً الماضية.
وعن تجربتي في النشر في مجلة (نزوى) هي لم تكن نصا واحدا أو نصين، فمع كل نص جديد أقوم بكتابته أرغب بالتحليق به في فضاء (نزوى). وهناك نصوص كان من الصعب أن تجد مساحة للنشر إلا في مكان يشبه مجلة (نزوى).. وهناك أيضاً نصوص جديدة غير معتادة لكتّاب مغمورين ومغامرين داخل النص وجدتْ في (نزوى) فرصة العرض على القراء والمهتمين، وكان نشرها في المجلة حافزاً للاستمرارية في عالم الكتابة.
وفي تواز مستقبلي لو يتم دراسة توسيع مشروع مجلة (نزوى) فيصدر عدد المجلة بطبعات بلغات أخرى، وتوزع في مناطق العالم المختلفة، لتقديم الثقافة العربية للأخرين.
وبعد.. تظل قيمة مجلة (نزوى) من القيم التي روجت لها خلال أعدادها المائة، وستأتي الذكرى المئوية الثانية وأجيال جديدة تقيّم وتقدم رؤيتها حول شكل الثقافة ودور المجلة فيها.