نجوى العتيبي
كاتبة سعودية
يشكِّل المنظورُ السردي أهمية كبرى في تقديم العمل الروائي، فهو يحمل على عاتقه تنظيم المعلومات باختيار وجهة نظر معينة من عدمها، واختيار الشكل المناسب لذلك أيضا؛ الأمر الذي يمكن ملاحظته بسهولة في رواية (المحلّقون)، لكنَّ النص لا يتأتَّى بالسهولة نفسها التي تهبها الملاحظة الأولى عليه.
لقد استفتح الكاتب إيتيان كيرن روايته بنصّ ميَّزَه الناشر بالخط المائل، ثم توالت هذه النصوص التي تبدو شعرية جدا حتى وهي منقولة من لغة أخرى، نصوص ذات شحنة وجدانية عاليّة قُدِّمت على نوعين تقريبا من المونولوغ؛ حيث المونولوغ المستقل، والمونولوغ التذكري، وكلاهما كان يؤدي وظيفته في النصّ.
بلغت تلك المونولوغات سبعة عشر نصا، تصدَّرَ أولها الرواية قبل الفصل الأول منها، ثم تداخلت في العمل للتنبيه على التحامها به رغم الإرباك الذي قد تسبّبه القراءة في البداية، إلا أنَّ تلك النصوص تتكشَّف مع الوقت لترتبط بالعمل نفسه فهي من صلبه، وكأنَّ الرواية تحاول إعادة كتابة مرحلة ما في تاريخ تجربة الطيران، بينما تتردَّد الشخصية صاحبة المونولوغات في الكتابة عن ذلك حتى النهاية، وأقرب الظنّ أنَّ الكاتب سعى عمدا إلى اصطناع مثل هذا الإرباك لوصف الشرخ الذي يمكن أن تتسبَّبَ فيه الصور الفوتوغرافية، ولاسيما حين يقترب أصحابها من توثيق الموت على عين المؤسسات والجماهير التي لا تتدخل في وضع حدٍّ للتجارب المتهوّرة، وكأنها تشهد على موت جزء من الإنسانية عمدًا.
تفاوتت تلك المونولوغات في عدد الصفحات؛ إذ بلغَ أقصرها ثلاثة أسطر، وأطولها أربع صفحات تقريبا، واختلف زمنها عن الزمن الفعلي للحكاية؛ فكان الزمن المعاصر من نصيبها.
إنَّ المونولوغ المستقل يسمح كما يشير معجم السرديات بالتمثيل المباشر لوعي شخصية ما، وبالتعبير عن أحداث تجري متزامنة مع تلفُّظها، أي أن الأحداث تقع داخل زمن المونولوغ إلى حدّ أنَّ التلفيظ لا يعبّر عن الأحداث في وعي الشخصية وحسب؛ بل يعبر أيضا عن الحدث نفسه. كما يتميز بسرعة تقلّب الأزمنة تبعا لتذكِّر المتكلم أو تعبيره عن أفكاره عامة، أو تصوره عن المستقبل أو النظر في وضعه الراهن1.
وقد كان توظيف هذا النوع من المونولوغ في الرواية يدعم حدَثَ (التأثُّر) الحالي بالصور الفوتوغرافية للتجربة، وبتوثيق مقطع الموت الذي كان النتيجة الحتمية للتجربة الفاشلة في محاولة الطيران. هذا التأثر بشخصية (فرانز) ذات المرجعية التاريخية التي تدور حولها الرواية كان يجري في اللحظة الراهنة ويُكتَب بعذوبة؛ وهذا ما سمح به استخدام المونولوغات بخلاف طريقة السرد المكرَّرة حول شخصية ما يُؤرَّخ لها أو تُعاد كتابتها عبر التخييل؛ إذ يلحظ القارئ من خلال المونولوغات المدى الذي بلغَتْهُ الشخصية من الصدمة والتأثر بمشاهدتها لصور فرانز، ويبرز تأملها المتدفِّق في تفاصيل تجربة التحليق على امتداد العمل؛ الأمر الذي دعا الشخصية صاحبة المونولوغات إلى التفكير بوضع كتاب عن (فرانز)، هنا يبلغ العمل ذروته في الانفصال بين المنظورين اللذين تناولاه؛ منظور من الداخل وآخر من الخارج، كأن الكاتب بذلك يحاول إشراك القارئ في عملية الكتابة وتحديد موقف مما حدث، ويقاسمه تأمُّل الأثر الذي تحدثه الصور ولو بعد حين، فما يجعل من تجربة فرانز أمرا مميزا توفُّر عامل (الصورة).
انتهت الرواية ولم يوضع الكتاب بعد، لكنّ حدَثَ التأثر امتدَّ حتى المونولوغ الأخير الذي تنتهي معه الرواية؛ إذ تقول الشخصية في الصفحة الأخيرة من العمل وهي تعيد مشاهدة المقطع المصوَّر لتجربة الطيران: «ها هنا أوقفت الفيلم. لا أريد مشاهدة الباقي- قوس برج إيفل، السماء البيضاء، النقطة السوداء التي تسقط. أريد أن أتركك في الأعلى. في اللحظة التي لم يُكتب فيها شيء بعد. يمكن للمظلة أن تُفتَح. يمكن أن تصل سالما. سيصفقون لك. من الغد ستتحدث الصحف عنك مثل بطل. يمكن للمعجزة أن تحدث».
إنه رعب اللحظة التي لم تستوعبها الشخصية المناجية نفسها لتكتب إلى فرانز وعنه، الرعب الذي يخلّد الحياة والموت من خلال صورة فوتوغرافية. عبرت عن هذا الأمر سوزان سونتاغ بقولها: «الصور في مجرى الفيلم تصدم- تحوِّلُ في برهة الحاضر إلى ماضٍ، الحياة إلى موت» مستشهدة بعد ذلك بفيلم كريس ماركر (المرفأ) الذي وصفته بالأكثر إرباكا؛ إذ دار حول رجل تنبأ بموته من خلال تصوير الفيلم بالصور الساكنة. لعل هذا ما كان يسكن تلك الشخصية المتخيلة التي تناجي نفسها لتكتب عن فرانز؛ رعبٌ من الصور المتعلقة بالأموات الذين لا يرحلون في الصورة، الأمر الذي دعا لكتابة الجمل الأخيرة من العمل تأثُّرا بذلك: «كل الذي سقطوا. كل الذين فقدناهم. إنك تلك البداهة التي تقولها كل الصور حيث ظلّ شيء ما من حضورهم وحيث وجوههم المألوفة والمحبوبة والمحلّقة: لقد كانوا هنا».
هذا ما يشير إليه النوع الأول من المونولوغ، أما النوع التذكري؛ فتهتم الشخصية المتكلمة فيه بتجربتها الماضية فقط، ولا تحاول فيه الشخصية سرد حكاية بقدر ما تسعى إلى وصف الأثر الذي تركته الحكاية عليها3. وهذا النوع من المونولوغ أتاح للكاتب وضع مبررات أخرى لتعاظُمِ أثرِ الصور في نفس الشخصية؛ فمن خلاله ظهرت حادثتا موت أثَّرتْا فيها: الأولى موت الجد، والثانية موت صديقة تُدعى ميم. كلا الشخصيتين ماتت سقوطا من الأعلى، وكانت صورهما تسبب أسئلة وتأملات شتى للشخصية. يمكن ملاحظة ذلك عبر قول الشخصية عن وفاة الصديقة مثلا: «نسختُ هذه الصورة أيضا بعد أيام قليلة من وفاتها. وضعتُها في عقب بقية الصور الأخرى في الدفتر الرمادي الكبير.
أضافت إلى الدفتر بعض الألوان.
أضافت إليه بعض الألم»4.
فضلا عن اشتراك المونولوغات في نسج شبهٍ كبير بشخصية فرانز؛ حيث يقوم على وجود تقاطعات غير زمنية، تقاطعات في اللغة والأمكنة والثقافة والمهنة، وتقاطع أكبر يمكن في التأثر الكبير بموت من حولهما: الشخصية صاحبة المونولوغ وفرانز.
لم يخفِ الكاتب ذلك في حديثه عن العمل؛ إذ ذكر أنَّ الشخصيات التي صوَّرَها تنتمي إلى خلفية متواضعة تعرف فيها على جذوره، حيث كانت جدته أرملة عامل زراعي وهو الرجل الذي سقط من الشرفة، وكانت تتحدث معه كثيرًا عن جدها الذي كان خياطا، ثم يذكر أن شخصية فرانز تدين بشيء لهذا الصفحة من ذاكرة العائلة5.
أما المنظور الثاني الذي قدَّم فيه الكاتب عمله؛ فكان على لسان الراوي العليم، منظور يجري زمنه بعيدا إذ يحرِّر نشأةَ فرانز كاملة، متخيِّلا بيئته ونفسيته والعوامل التي أثَّرت في اتخاذه قرار تجربة الطيران، يؤسس فيه الكاتب مجتمعا كاملا عاش فرانز في كنفه، سواء في ذلك محبوه أو الساخرون منه والمعارضون له، ولا ينفكّ أثر الصورة أيضا في هذا المنظور؛ إذ تتحرك مشاعر فرانز ليقتحم عالم الطيران من خلال الخياطة بسبب صورة.
ينسج الكاتب روايته دون استبعاد أثر الصور الفوتوغرافية في كلا المنظورين؛ فالصورة التي أثَّرت في فرانز كانت صورةً لصديقه الذي مات وهو يحاول الطيران، لكنّ الفرق بينه وبين الشخصية التي تناجي نفسها هو معرفة فرانز لصاحب الصورة بل وصداقته العظيمة معه، شخص حاول الطيران قبله، ثم أتى فرانز محاولا استكمال المهمة، بينما الشخصية صاحبة المونولوغ تحاول تكريم فرانز بطريقة مختلفة؛ إذ ستكتب عنه، فلم يعد بالإمكان استكمال المسيرة في مثل هذا الزمن الذي تحقَّقت فيه نتائج تلك التجارب.
يذكر الكاتب مستشهدا بدراسة لديفيد داريولات (بدلة نسائية في أيام الطائرات) أنَّ حياة فرانز لم تكن سيئة من الناحية المادية، ولم يكن المال سببا في اندفاعه تجاه حتفه، بل إنه يبدو ضحية لحلمه أو للسينما والكاميرا؛ إذ كان من الممكن تخلِّيهِ عن القفز لو لم تكن هناك كاميرات، الأمر الذي يقودني إلى التساؤل عما يتحدث عنه العمل في صميمه؛ أتناولَ إضاءةً شبه سيريّة لتجربة طيران أم كان عن أثر الصورة؟
في رواية إريكا يونغ (الخوف من الطيران) استتارٌ مشابه يأخذ شكل الضد تقريبا لهذه الفكرة؛ فالخوف الذي يسكن عالم النساء من الإفصاح عن أشد الأمور خصوصية تماشى مع الارتياب الشديد من الطيران وما يخصّه، فلم تكن الرواية عن الطيران بقدر ما كان فضحا لما يعتمل بداخل المرأة من أمور لا تقولها بسهولة ولا تكتبها بوضوح كما يفعل الجنس الآخر، هذا ما يقوله السياق التاريخي للعمل إذ كان قفزا –في وقته- على أعراف الكتابة فيما يتعلق بالمرأة، فما كانت تلك الجرأة في الطرح معهودة وقت صدور العمل عام ١٩٧٣م. ومن المفيد ذكره ها هنا تقديم العمل وفق منظور سردي وحيد تمَّ عبر الذات أي من الداخل.
أما الكتابة عن تجربة فرانز بهذه الحميمية والنفس الشاعري من بعد سخرية الجماهير مما لحق به؛ فهي كتابة عن الحلم والشهرة ولوازمهما في عالم الرجل، كتابة عن الآخر الذي ينازع الحكم عليه كاتبٌ متأثرٌ بصور موتِهِ ضد جماعة تاريخية عريضة تراه أحمق. إنها كتابة عن سهولة الوصول إلى لقب (مخترع) لمجرد حياكة بدلة طيران بزعْمٍ وادِّعاءٍ لذلك؛ فالتعلُّق بإبراز تجربة (الطيران) في العملين لعله تعلُّقٍ بكسر عُرف سائد، وخروج عن المألوف كما يليق بفعل الطيران، مع إبراز جمالياته في السرد والتناول بين المرأة والرجل.
وعودًا على الحادثة الأساسية المحرِّكة للعمل؛ فرغم قسوتها وسخرية الجماهير منها، ومع تصوير الكاتب باستمرار لهذه القسوة وطرحه للأسئلة المستمرة عن عدم إيقاف أحدهم لفرانز؛ إلا أنَّ هذا العمل يؤكد على الإنسانية أيضا عبر تأسيس خطاب مختلف يتناول تجارب الراحلين بشيء من المسؤولية حتى وإن كانوا حمقى ومتهورين، خطاب قائم على جدوى التفكير بهم بشرًا وكيف انساقوا إلى حتفهم بالاغترار بالفرص وإن لم يتوفَّروا على الإمكانات اللازمة للنجاح. خطاب يقوم كذلك على التعاطف والرحمة، ويؤسس نوعا آخر من النظر إلى الأمور عبر فحص الآثار التي تصلنا عن تجارب الآخرين وردود الفعل حولها. تقول سوزان سونتاغ: «وكما أنتج كورت شويترز، ومن بعده بروس كونر واد كينهولز أشياء رائعة ولوحات من النفاية، فنحن الآن نصنع تاريخا من حطامنا، ويتصل بهذه الممارسة شيء من الفضيلة، نوع من المدينة التي تلائم المجتمع الديمقراطي. الحداثة الحقيقية هي ليست زهدًا ، بل وفرة من نفاية منثورة، محاكاة مضحكة مقصودة لحلم ويتمان النبيل»6.
لعلَّنا في هذه المرحلة المعاصرة لتمجيد الصورة وأسباب الشهرة بها ومنها ننتبه إلى لعنتها أيضا، فنعيد فحْصَ ما فاتنا بسببها.
(المحلّقون) هي الرواية الأولى للكاتب، رواية عن نسج الأحلام بخيوط واقعية وأخرى متوهَّمة، وعن السقوط في فخّها بلا مبالاة، وما يمكن أن تتسبب به (الصورة) من دفْعٍ وتشجيع للحالمين بالشهرة. وقد فازت بجائزة الرواية الغونكور للرواية الأولى عام 2022م، وترجمتها دار صفحة سبعة ونشرتها في العام نفسه.
الهوامش
معجم السرديات، محمد القاضي وآخرون، دار محمد علي للنشر وآخرون، تونس، ط١، ٢٠١٠م، ص٤٣٨.
حول الفوتوغراف، ترجمة عباس المفرجي، دار المدى، ط١، 2013م، ص٨٦.
معجم السرديات، ص٤٣٤-٤٣٥.
الرواية، ص١٥١.
من مقال بعنوان: (خاسر رائع يطير إلى الهاوية في المحلقون) نُشرت في موقع meo بتاريخ 2023/1/25م.
حول الفوتوغراف، ص ٨٤.