*ان يتصف عمل فني بـ "البكارة " ، أو هكذا يصفه الناقد – إنما يعني أحد احتمالين .
– الأول ، أن هناك «موهبة » أكبر من "الصنعة " في هذا العمل ،. أو فلنقل "إن هناك (صنعة ) لما تكتسبها الموهبة بعد!». لكن "الموهبة » في نفس الوقت – إنما تقوى على "الشفاعة " لطراوة الحرفة …، تعتذر عنها أو عن عدم اكتمالها، بالرغم من كونها – وفي نفس الوقت أيضا – تعد بهذه السعة ،.. تبشر، وتلمح إلى أنها – أي الدرية – قادمة ، وأن المهارة مرهص بها ، وانها في الطريق / في عمل القادم ، سوف تتأكد بفعل الخبرة ومع الزمن .
هكذا تعلن الموهبة عن نفسها . كجمال بكر تلقائي Naive فارضة بوجودها البرىء أو الغفل حالة من التعاطف .. من الحنو ومن التأييد كافية لان ينقشع عن وجه الناقد قناعه التقليدي العابس المضحك في جديته وغالبا . إلى حد القسوة والصرامة التي طال الاعتقاد أن النقد بدونهما لا يستقيم !!.
ـ والاحتمال الثاني،. أن ما نسميه بـ"الصنعة والمهارة والدرية". مشيرين إلى كل ما ولدته الخبرة والممارسات الطويلة من ، ألفة مع المادة أو الخامة ، ومن مهارة في احتواء مفرداتها، وكذلك من معرفة – شخصية أو اصطلاحية – بتقنيات الأداء وأصوله ،.. انما تختبىء وتغوص متوارية ، كامنة خلف حالة من الطزاجة " المذهلة ، خلف حالة من "البكارة المثيرة للدهشة – تصدم بها وتفاجىء ـ لأنها قرينة البساطة الصعبة والسهولة المستعصية !..
ـ يدير ت . س . اليوت رؤوسنا – على سبيل المثال بمطلع (الأرض الخراب ).. مقتحما حدود التعبير التقليدي، والمجاز المعتاد والوصف المتوقع حينما يصرح بأن : (ابريل أقسى الشهور!!) وليس هو: (الربيع الطلق يختال ضاحكا) كما أنه شيء آخر ( يا ربيعي مال أزهارك تذوى ) أو (آدى الربيع جاى في ميعاده والبدر حلت أنواره )أيضا ولم لا ؟ انه – مع اليوت – شيء آخر "معري" و" صادم " بالرغم من «جماله » أيضا _ (يعترف القارىء بذلك .. وآه كيف لم أكتشفه من قبل ؟!)..
نفس الشىء عندما يطلق "بودلير" صرخته الشهيرة :
(الجرح ينادي السكين ) .. أو (يا قارئي المنافق .. يا صديقي وأخي)..
وبالمثل عندما نتذكر قول الامام على بن أبي طالب كرم الله وجهه – : (لولا أن الكلام يعاد لنفد).. وأيضا – وعلى سبيل المثال – عبارة هاملت : (ايتها القدرة على التغير،.. لو أطلقوا عليك اسما لسموك امرأة ).. أو: (في الغد، وفي الغد،.. وفي الغد)!.
* امثلة لا حصر لها من اللغة / الشعر، تكمن فيها مهارة الصنعة خلف بساطة وتلقائية التعبير ومثال أخير من المسرح تذهلنا به ثرثرة تشيكوف المسرحية "!.. ونتعب محاولين اكتشاف الصنعة الخارقة الصعبة خلف العفوية المحكمة والمحيرة لهذا البناء الذي يبدو سهلا وساذجا.. ويبدو وكأنه «مجرد ثرثرة »!. نفهم بذلك أيضا لم وصف "ت . س . اليوت" الشاعر الانجليزي الكبير "إزراباوندو" ـ حين أهدأه الأرض الخراب بأنه ، الصانع الأمهر!.
*كل ذلك أثارته مسرحية «الحلم » للكاتبة الجديدة آمنة بنت ربيع سالمين ".. حين أحيت قضية قديمة في "عقل النقد" أو أمام ، عمل الناقد في محاولته أن يمارس «عمله الصعب »، "أن يعين المساحة الفاصلة بين الموهبة والصنعة … أيهما يزيح الآخر محتلا مكانه في مقدمة الاطار؟!.. ـ وفي نفس الوقت ـ فإن عليه أن يستشرف تصالحهما معا، أن يتنبأ بعمل مسرحية فيها يضمر كل منهما الآخر ويحتويه ؟
في «الحلم » فتاة وأربعة أصوات .. نستشف أو نشعر أنها لابد وأن تكون أصوات رجال حتى تكتمل جدلية الطبيعة في معادلة الذكر ـ الأنثى"!.. وكل صوت ينبعث من مرآة ضمن : (أربع مرأيا على أربع جهات فوق الخشبة ـ والمرأيا مغطاة بقماش أبيض .. ).. حالة تعطيل للحياة .. ربما وربما أيضا، حالة حجب لرؤية الذات ، تنكشف تلقائيا بإزاحة هذا القماش أو سقوطه فتمارس المرأيا فعلها في الكشف والمواجهة .. من هنا تصبح التسمية بـ «المرايا» أكثر تعبيرا وصدقا من تسميتها بـ "الحلم ".
وفي وسط هذه المرأيا ـ تكملة للمنظر المسرحي – كرسي هزاز – والفتاة شبه نائمة .. تحلم ، فيما يشبه الكوابيس .. اي إنها تستدعى ماضيا اوصلها لهذه الحالة في تلك اللحظة ،.. ماضيا سوف تجسده "أصوات" وتطل عليها وجوهه من خلال المرأيا، وهو ليس ماضيا حديثا.. بمعنى أنه مجرد مجموعة من الأحداث أوصلتها إلى ما هي فيه وعليه الآن .. وإنما هو تتابع من الادانات والاتهامات فيما يمثل مواجهة مع النفس ، والآخرين ، مواجهة يدينها أنها "مباشرة " ويشفع لها أنها «بكر» خطها مداد العمل الذي ربما كان الأول ؟..
مسرحيتها الأولى .. ربما؟ يشي بذلك هذا القدر الواضح ـ والذي لا تحاول الكاتبة أن تخفيه ـ من "التجريد"! ولنعد الان إلى المواجهات :
– المواجهة الأولى .. (حين تتجه الفتاة نحو المرآة رقم ( 1) وتزيل عنها الغطاء، ينبعث ضوء قوي في العتمة مما يفزع الفتاة التي ترجع إلى الخلف صارخة بقوة ..» هكذا في ارشاداتها المسرحية ،.. وكانت قد توقعت وصول صاحب الصوت بجملتها الافتتاحية :
_ سيأتي الآن . هذا موعده .
افتتاح يذكر بمسرحية "صلاح عبدالصبور "- "الأميرة تنتظر "..وتشي أيضا بأن الفتاة لها طقوس من مواجدها الليلية ,مثل أميرة عبدالصبور … تستدعيها وتفتح بها جروحا قديمة ، فيما يشبه جرحا ينادي السكين والفاعل الذي أحدثه أيضا!. وبالفعل فان «الصوت الأول » هو:
ـ صوت حبيبي الذي أعرفه . (. المسرحية ) أما هو فيسخر منها.. يعذبها بأن حبيبها "سافر"! بما هو مرادف للتحرر، للانعتاق .. للفرار من سجن لا تزال هي أسيرته ، وأنها – علاوة على ذلك – أسيرة وهم خادع .. حلم زائف بالخلاص : – إن بداخلك رغبة وعناء في الهروب ، يصاحبها خوف مجهول من القدر، إنني أعرفك أكثر مما تعرفين نفسك …. أنت الآن تنامين ببط ء والزمن يسوطك بسياطة خشية النزق الأليم هل تسمعين ؟.. أنت الآن تحلين بزمن قد يجىء فيه المطر يعبث بالأرض ، أنت الآن تتوجعين .. تتوجعين ».
(ـ المسرحية )
ولا يتركها "الصوت" إلا منهكة تماما وقد انطفأ املها – أمل اللقاء الذي بدأت به – ويتأكد لدينا احساس خفي بانها مداومة على طقس الحزن هذا، وأنها تحياه متكررا وبانتظام وفي لذة مؤلمة بالرغم من ترديدها:
ـ «إن عواطفي تتحطم ، وانفعالاتي اللذيذة تختفي ومشاعري تنفلق .. انني اتوجع .. لقد بدأت افقد الاحساس بالحب والامن آه أكاد اتقيأ»
(_ المسر حية )
طعم الأمومة والحليب آه يا بطني.. آه يا رأس .. أريد أن استفرغ .. أين الزبالة »..
.. تخرج مسرعة وتصدر أصوات استفراغ – إظلام ».
(_ المسرحية )
وبالاظلام تنتهي، الشعيرة الأولى ، من طقس الألم اليومي هذا، من ترديد مماثل ، للموجدة الأولى من مواجد الأميرة ، – أميرة صلاح عبدالصبور الليلية .
إن الأميرة تنتظر تلوح مقابلة للـ "حلم " باعتبارها العمل الملهم للكاتبة آمنة بنت ربيع سالمين ، وهي بذلك لا تقلدها وإنما قد أثيرت بها، فتفتح خيالها المبدع عن عمل كان لابد وأن يحمل ملمحا أو يمر على وجهه ظل ، أو يحمل قسمة من قسمات العمل الكبير / الأم / عمل صلاح عبدالصبور!… ولا غضاضة على الاطلاق من هذا الاستلهام مادام قد تمخض عن بنية مخالفة صيفت بمهارة ، ففي الأميرة تنتظر تستدعى الهموم في طقس المواجد الليلية بواسطة أداء متبادل بين الأميرة والوصيفات ، وتنثر «القصة القديمة » ـ قصة خيانة الحبيب الكاذب / تر ندل ـ نثرا خفيفا على ألستنهن .
إن «الحكاية » في مسرحية عبدالصبور، تحكي على لسان الاميرة والوصيفات ، الى أن يتم تجسيدها كاملة في مشهد ايمائي من خلف الاقنعة ، إلى أن يعود "الرجل الغادر" فتكتمل بعودته الحكاية ، وتوضع لها النهاية كذلك .
أما في "الحلم " فالقصة تستشف من السياق هكذا: كانت هناك قصة حب ، وكان هناك حبيب ثم ذهب .. ومن يومها ولم يعد، ولكن هناك مازال الانتظار.
فأمام المرآة الثالثة تتحدث الفتاة بصوت حالم :
ـ هل أنت حقا حبيبي الذي طال انتظاري من أجله تعال إذن أيها الحبيب لتمتد بي أكثر امتدادا انني اشتهيك قبلة وسيفا ووطنا.. الخ ..
(ـ المسرحية )
لكننا نشعر بأن القصة تنتهي نهاية مفجعة بالمثل ، فالصوت الثاني الذي اتضح أنه صوت الحبيب الغائب – في المواجهة الثانية ، ـ ينطفىء أو يتلاشى، لتدخل الفتاة في ملابس أشبه ما تكون بالحداد ـ (ثوب أسود بخطوط بيضاء) ـ أو هكذا يشي به الأبيض القليل في سواد هو الغالب ».. لتجلس أمام المرآة الثالثة تحلم بأنه سوف يأتي …سيعود:
– يريد أن يراني حبيبي كما تركني حينما ذهب إلى المحطة ،حينما ودعته بعناق شديد هناك .فقد قبلني قبلة واحدة وقال لي قبل أن يركب القطار: أريد أن أراك حينما أعود أجمل نساء الكون ، وأريد لبيتنا الصغير أن يمتلىء حبا ووردا وأطفالا.. . الخ ..
(ـ المسرحية )
* وفي «المواجهة الثالثة » مع الصوت الثالث تكتمل القصة بالفعل لن يعود الحبيب ، لقد مات : وليس موتا عاديا، وإنما «قتل »: وقتل يشي لنا بالحرب . إنها الحرب إذن :
الصوت 03 كل البشر ملعونون إلا الطبيعة .. لقد شوه وجهي فأصبحت لا أميز الأشياء على حقيقتها.. فقط أميز البشر..
الطبيعة طيبة ولم تعجن مثل البشر، أولئك الذين لا يحبون إلا الدمار والحرب والهلاك .. إنني اكرهكم كلكم ، وأكره كل من يرتدى بزة عسكرية ».
(ـ المسرحية )
هكذا تتجمع خيوط «القصة » المضمرة في نص ذي بنية غير قصصية ، وبشكل جيد. لقد افلتت المسرحية
ـ أو فلنقل الكاتبة بقصتها ـ من إطار العرض التقليدي للحكاية .أفلتت لكي تقدم عرضا غير مستهلك لقصة مفرداتها مألوفة : (الحبيب الذي اغتالته الحرب ، والحبيبة التي تنتظر مدينة كل من تسبب فيها)!
هذا العرض الذي لا تنقصه صفة المسرحية لئيمة مطروقة إنما يميز معالجتها في "الحلم". أن الابتعاد عن عرض القصة عرضا مباشرا كان من شأنه ان يزيد من حدة «التشوق » وتواتر ايقاعه لنعرف ابعاد الحكاية الخبيثة ، أو التي خبئت بمهارة في ثنايا النص غير أن "مباشرة " أخرى ظلت تهدد الدراما وهى "مباشرة " عرض «الفكرة » أو الافكار ، تجرف المسرحية إلى "التجريد" أو تظللها بسحاباته ، محاولة انتزاعها – أو انتزاعنا – من دائرة الالم الانساني الحي "لاحزان أمرأة اغتالت الحرب حبيبها" الى "الشكل الهندسي للفكرة المجردة" بكل سلبياته : من خطابة ووعظ وتفلسف مكشوف يجعل من الشخصيات أبواقا ناطقة بعقل الكاتب ولسانه .
وفي المواجهة الاخيرة مع الصوت الرابع تتضح هذه الخطابية اكثر في تجريد وتعميم يشمل موقف «الانثى عامة – والمرأة الشرقية بصفة خاصة أو يتبناه حيث يتبدى صوت الكاتبة ـ الكاتبة زاعقا يلقى بخطبة ما قبل النهاية .
الفتاة ـ نعم أنثى ، ولكن بعقل وفكر، وأنت لا تواني إلا أنثى بويضات وإخصاب . أنت مأفون » إنني اشم رائحتك المتعفنة .. (تخرج لسانها للمرآة وتخرج ).
(ـ المسرحية )
* وهكذا ظل الاغراء الشديد للخطابة ومباشرة طرح الأفكار – "أفكار المرأة" ـ يمثل تهديدا «للدرامية » ، محاولا أن يجرد الشخصية الأساسية نفسها من «اللحم والدم ». كي يحولها إلى «فكرة » مثلما هدد الأصوات الأربعة بالفعل . وبالرغم من كل ذلك يتبقى للمسرحية «اضاءة الوعد» وشرف المحاولة الصعبة في اقتحام الأبواب المغلقة ـ الآن وفى عالمنا العربي بالذات – للمسرح الجاد، بطرحها «حالة مسرحية حقيقية » تؤكد أن صاحبتها تفكر بشكل مسرحي – وأنها ترى مسرحا وهي تكتب ، وأنها تستطيع أن « تستلهم ولا تنقل » كما أن "بشائر لغة خاصة " آخذة في الظهور وأن كل ذلك سوف يتبلور في "دراماه حية نابضة حين يتأتي لها بالخبرة والممارسة أن تقنع ـ "الاختباء الذكي" خلف شخصياتها تاركة لها أن «تفعل » اكثر مما تسمح لنفسها ـ "وعلى لسان تلك الشخصيات أن " تقول »!!
أسامة أبوطالب(ناقد أدبي ومسرحي وأستاذ بجامعة السلطان قابوس )