وجهها لم يعرف مساحيق التجميل منذ سنين, تخفي شعرها تحت "شيلة " سوداء، أصبحت ووجهها صنوين لا يفترقان, وتربط طرف الشيلة (بشنكال ) رخيص, قميصها الأسود توارثته عن أمها التي بدأت حزنها عل زوجها وهي شابة, بل توارثت كل أحزانها بما في ذلك فقدان الزوج.
هذه أرض لا تزرع إلا الأحزان, ولا تحصد إلا الموت, تتلاشى الألوان بنفس الوقت الذي تولد فيه, حياة بلا لون, الأسود هو السائد في كل مكان, ليس له موسم محدد، ولا زمن مرسوم, غير أن أيام عاشورا، هي أكثر الأيام حزنا وأكفرها اتشاحا بالسواد، لأن النسوة اعتدن الجمع بين مصابهن ومصاب الزهراء وآل البيت, أو هي جزء من عملية التطهير التي كن يمارسنها للتنفيس عن حزنهن وضيقهن وقلقهن, خاصة وهن اللواتي توارثن هذا الحزن عن أمهاتهن اللواتي توارثنه عن جداتهن, سنوات الحزن طويلة وممتدة لم يحاول أحد أن يعرف عددها، قيل منذ مقتل الحسين في كربلاء أو قبله, أو ربما بعده بسنوات, المهم أن قدر الانسان هنا هو الموت بفاجعة, والأحزان سبيل الناس للتنفيسر، وهذا كان قدر العلوية, زوجة شرهان, فهي منذ أيام مصلوبة أمام أبواب السجن تمسك بيد ابنها الوحيد الذي قالت له:
– تعال نستقبل أبدك, سيخرج اليوم من السجن.
لم يكن سالم قد شاهد أبده, فحينما ولد كان الأب قد اعتقل في يوم ولادته, بل حتى قبل أن يرى ظلام الحياة وبؤسها بدقائق, وحيتما بدأ سالم بالنطق, سأل عن أبيه مثل كل أطفال الدنيا، وأخبرته العلوية أنه داخل السجن, ثم كان عليها أن تفهمه معنى السجن, مهمة صعبة ومعقدة خاصة خينما بدأ يلعب مع أترابه بالزقاق أمام البيت, وبدأ وا يسخرون منه لأن أبده في السجن, وانه مكان للقتلة واللصوص.
حارت العلوية كيف يمكنها أن تشرح له أن شرهان لم يكن لصا، ولا قاتلا، وأن سجنه جاء نتيجة لمواقفه الانسانية والوطنية, ولقضية يؤمن بعدالتها, وان الظلم قد عم وانتشر وحرق الأخضر واليابس.
بمرور الزمن, ومن خلال حديثها اليومي، ولكثرة ما حدثته عن مناقب أبيه ورجولته "نشميته " أدرك سالم كل القصة, وحيتما شاع خبر اطلاق سراح بعض السجناء ومن بينهم أبوه لذي سيخرج من السجن بعد كل هذه السنين..وكما أشيع بين المقربين والأهل والجيران.
تشبث بيد أمه وحاصرها بأسئلته عن شكه وطوله ولونه, بل كان كلما خرج سجين سألها إن كان هذا هو شرهان, لكنها انت تخيب ظنه, مثلما خاب ظنها.
نامت ليالي أمام البوابة, ضربتها أشعة الشمس, واحتمت بعباء تها ولفت ابنها بها، اكتفت بجرعة ماء وكسرة خبز، مؤملة نفسها بوليمة تدعو لها زوج صباها وحبيبها شرهان أبوسا لم, الذي غاب عنها منذ سنوات.
ترى هل سيعود ؟ كيف شكله الآن بعد هذه السنوات التي لم تستطع أن ترده أو يردها خلالها، تذكرت أقوال الناس عن هذا السجن ورهبته ووحشة لياليه.
– يقولون الداخل فيه مفقود، والخارج مولود..
– ترى هل سيولد شرهان من جديد؟ هل ستطالع وجهه, ابتساماته ؟ هل ستسمع حكاياته, نكاته, أحاديثه, هل سيضمها ال صدره, وتشم رائحته الرجولية وتتلمس وتعبث بشعرات صدره الكثة, ماذا سيقول عن سالم الذي لم ير طفولته, وبراء ته وسيفاجأ بطوله وشكلا, ولون عينيا؟
آلاف الأسئلة ومشات الهواجس كانت ترددها مع نفسها وهي ترابه أمام بوابة "مقر النيابة" وكلما كانت الشمس تغيب تفقد أملها في خروجه ويتجدد هذا الأمل عند شروقها في صباح اليوم التالي, وهكذا منذ أسبوع حتى خرج كل الذين أفرج عنهم, لم تمتلك الشجاعة في سؤال أحد من هؤلاء الذين ولدوا من جديد، خوفا من خبر فاجع, أو لعلهم لا يعرفونه, بل كانت تريد أن تطل تعايش حلمها الذي عاشت عليه كل ليالي العذاب التي مرت عليها منذ ساعة اعتقال شرهان واقتياده الى المعتقل وهي تصرخ من مخاضها في سالم وفجيعتها باعتقال شرهان, وحتى هذه اللحظة التي تمتليء أملا بعودته.
وهكذا ظلت العلوية تخاف من السؤال نفسه, ومن الصدمة التالية, لكن (سالم ) بعد أن عجز من الانتظار وانتهت كل أسئلته دون أن يحصل على جواب ما، وأغلقت بوابة السجن عند غروب شمس اليوم السابع من الانتظار, وانفض الناس عن البوابة وأقفر الشارع إلا من حراسه المدججين بالكلاشينكوف, فك يده من حصار كف أمه, وركض قاصدا الشرطي الذي كان يحرس البوابة, هزه بعنف ودون خوف:
– ما شفت أبوي شرهان.. شوكت يطلع ؟!
دفعه الشرطي بأخمص رشا شته وقال له ببلادة:
– ما ظل أحد ما طلع !
– وشرهان ؟؟!!
صرخت الأم بوجه الشرطي لا إراديا..
ابتسم الشرطي متعجرفا وبانتصار أجوف, ولم يجب, وظل يحرس بوابة السجن.
العلوية لم تغادر مكانها عند بوابة المعتقل.. ظلت مصلوبة في مكانها, تشرق الشمس وتغرب وهي لا تغادر المكان, أصبحت مزارا وملاذا لكل أم أو زوجة أو أخت لم يخرج حبيبها من هذه البوابة.
ذات صباح لم يجدوا العلوية عند بوابة المعتقل ووجدوا مكانها مزارا بقبة خضراء مكسوة بالكاشاني، وقبرا وبخورا يحترق, وشموعا تشتعل وبيارق ترفرف فوق المزار، وكتاب آتو مفتوح على آية (تبت يدا أبي لهب وتب……) صدق الله العظيم.
عبدالإله القادر(قاص من دولة الامارات العربية المتحدة)