يحتكم النص السرديّ إلى وسائط مرجعيّة متعددة ومتفاوتة في أهميتها، ويمتلك كل نص تقنياته الخاصّة التي تنهض به، ومن تلك التقنيات اختيار السارد المناسب الذي يشكّل «الواسطة بين العالم الممثَّل والقارئ، وبين القارئ والمؤلف الواقعي، فهو العون السرديّ الذي يعهدُ إليه المؤلف الواقعيّ بسرد الحكاية». ولئن كان تصوّر رولان بارت يرى في السارد والشخصيات «كائنات من ورق»(1)؛ فإنّه يحتّم علينا الفصل بين المؤلف الحقيقي بوصفه كائنًا تاريخيًّا حيًّا ذا كيانٍ نفسيّ، وبين السارد المتخيّل في النص ممثلا «الصوت الذي يختبئُ خلفه المؤلف»(2). يبدو هذا التمييز مقلقًا للقارئ في بعض النصوص السرديّة، خصوصًا تلك التي يستخدم فيها المؤلف ساردًا يسرد بضمير المتكلم(3) أداةً سرديّةً لنسج عالمه التخييلي، ففي الوقت الذي يحاول فيه المؤلف إخلاء مسؤوليّته وتسليمها لهذا الكائن الورقيّ، والتنكّر لذاته عبر خلق ذاتٍ أخرى، يشي السارد به بين الحين والآخر في لحظة انفعال أو لحظة انفلات، فهل وشت زهرة (البطلة الساردة) ببدرية الشحي (المؤلفة) في رواية «الطواف حيثُ الجمر»؟ وكيف خلق النص بمستوياته قلق المسافة بينهما؟
* عن الرواية:
تقع رواية «الطواف حيث الجمر» للروائيّة العُمانيّة بدرية الشحيّ في ثلاثمائة صفحة متضمّنةً سبعة عشر فصلا مرقّمًا بلا عناوين، يشكّل الفصلان الأول والثاني حياة البطلة في الجبل الأخضر (مكان نشأتها)، ويتضمّن الفصل الثالث حبكة العمل وهو تخطيط البطلة للهرب وتحققه فعلا، وتشكّل الفصول 4-8 طريق الذهاب إلى زنجبار، فيما تصوّر الأجزاء المتبقيّة حياة زهرة بدءًا من وصولها إلى شاطئ ماليندي وحتى نهاية أحداث الرواية في بمبا.
تقدّم لنا الرواية نصًا سرديًّا يقف على أعتاب التحولات في الوعي والذات والتاريخ. تسرد الرواية حكاية فتاة ثلاثينيّة اسمها زهرة، تنتمي إلى طبقة استقراطيّة «ابنة شيوخ»، تسكن في ريفٍ عُمانيّ، يتركها خطيبها سالم هاربًا إلى إفريقيا، يتزوج من امرأة أفريقيّة، ثم يموتُ غرقًا في البحر. وعلى إثر العار الذي يخلّفه هروبه وزواجه من فتاة لا تنتمي إلى طبقته، تعزم العائلة تزويج زهرة من ابن عمّها الذي هو في نصف عمرها تقريبًا.
تقرر زهرة ـ الفتاة الوديعة المسالمة – في لحظة وعي الهروب من هذا الزواج غير المتكافئ في رحلةٍ ظاهرها البحث عن زوجة سالم وفي عمقها البحث عن الذات والتحرر من القيود المجتمعيّة، تستعين بالنوخذة سلطان؛ ليأخذها إلى زنجبار مقابل صرّة ذهب كانت ستكون صوغتها لزواجها المقرر، تتوالى الأحداث متسارعة لتجد زهرة نفسها على الساحل الشرقي لأفريقيا، وهناك تتزوج من صالح أحد بحارة المركب الذي جاءت عليه؛ لكنه سرعان ما يُقتل غدرًا بفعلة شخصٍ مجهول، لتصبح زهرة مضطرّة إلى قبول عرض النوخذة سلطان بمنحها بيتًا ومزرعة وخدم مقابل زواجه بها، وهو زواجٌ تنسّلت منه زهرة بعد أن أصبح بيدها ما تريد. لكنّ الحظّ يبدو أنّه على خصامٍ أبدي مع البطلة التي تجد نفسها بين أصوات المدافع والبنادق معلنةً أفول حلمها بقيام الثورة في مدينة بمبا وما حولها، غير أن زهرة ترفض ترك بيتها والعودة إلى عُمان، أو بالأحرى ترفض ترك ذاتها الجديدة، وسلطتها المتحققة.
* توجيه البدايات:
تبدأ الرواية بعتبة النص المقتبس، الذي يتضمن مقولاتٍ لأدباء من الشرق والغرب، وهذه العتبة حاضرة في فصول الرواية السبعة عشر، وهي ـ في نظرنا – مؤثرة وموجّهة على نحوٍ ما في ثلاثة جوانب:
1- وظيفتها التوجيهيّة التي بها تقود القارئ نحو استشراف القادم من الأحداث، من خلال فهم دلالة النص المقتبس.
2- وظيفتها في إضافة الصبغة الواقعيّة والإنسانيّة والكونيّة لأحداث الرواية أو لرؤية الساردة، فما ترويه الأنا الساردة لا يمثل وجهة نظر شخصيات محددة في زمانٍ ومكانٍ محددين فقط، بل هي رؤية عالميّة يشترك فيها أدباءُ الشرق والغرب، وتجمع في قيمها ومفاهيمها نساء العالم مهما بالغت الرواية في الخصوصيّة الجغرافيّة والاجتماعيّة.
3- محاولتها تجاوز «صعوبة البداية المحتومة»(4) قبل منح الصوت للأنا الساردة، فـ»تكاثر البدايات» يشكلّ تمهيدًا جيّدًا للولوج إلى النص السرديّ كما يرى جونات.
* السارد البطل:
اعتمدت الرواية على السارد العلنيّ أو الصريح، وهو ساردٌ مشاركٌ في الحكاية يسرد بضمير المتكلم(5)، له «رؤية مصاحبة»(6) تجعل معرفته موازية لمعرفة الشخصيات الأخرى، لكنّ خاصيّة الساردة في هذه الرواية هي أنّه أيضًا ساردٌ ممثل، بل هي البطل الرئيس فيها -إذا سلمنا القول إنّ البطولة يمكن أن تكون للأحداث والأماكن- وهذا يمنحها ميزة القيام بوظائف «السرد، والتصوير، والمراقبة، والفعل، والتأويل»(7) استنادًا إلى علاماتٍ خارجيّة.
وإذا كانت الساردة هي البطلة في هذه الرواية، فإنّ ثمّة مسافة زمنيّة بين الساردة (زمنٌ حاضر)8 والشخصية (زمنٌ ماضٍ). وهذا ما نقف عليها في السرد. إنّها لعبة التحولات؛ إذ تغدو الشخصية من الأمس لتتحدث عنها الساردة اليوم التي هي ذاتها الشخصية، ولا يفصل بينهما إلا زمن السرد، «وستحكي الشخصيّة عن نفسها في زمن غياب الساردة(9)ا». نجحت الإستراتجيّة السرديّة التي سلكتها الرواية لإيهام القارئ بواقعيّة السرد وحمِله على الاقتناع والقبول.
لا تملك الساردة والشخصية كلتاهما أكثر من المراقبة والتصوير والتأويل؛ لكن ماذا لو تدخّلت الساردة أو الشخصية في الحوار الداخليّ لأصوات السرد؟ تقول الساردة: «وقف سلطان في فترة بدت محترقةً بالترقب، كان يفكّر وقتها بمئات الحلول» يحضر السارد العليم هنا ليكشف عمّا تفكّر فيه شخصيّة سلطان، «ولا شيء يبرر حضوره سوى أنّه الكاتب»، هي المؤلفة في لحظة ممارسته سلطة المعرفة بالشخصيات، ومرّة أخرى تهتز تلك المسافة بين الساردة والمؤلفة.
بين السرد والحوار:
تقوم الرواية على المراوحة بين السرد والحوار، ومع وجود شخصية ساردة واحدة في الرواية فإنّ الحوار يضمنُ عدم تغييب باقي الشخصياتِ في النص السردي(10)؛ إذ يبتعد السارد مفسحًا المجال أمام الشخصيات لتتحاور، كما يمنح القارئ الفرصة ليكونَ شاهدًا مباشرًا على هذا الحوار. وحديث الساردة عن الشخصيات أو نقله الحوار عنها أو منحه الصوت لحوارها المباشر يتطلّب المحافظة على «المعجم الخاصّ بكل شخصيّة، الذي يتشكّل من طبيعتها، وبيئتها، وثقافتها، وطبقتها الاجتماعيّة»، وهذه الرواية غنيّة على المستوى الجغرافيّ. فهناك مشاهد عن القرية في الجبل الأخضر، ومدن مثل نزوى، وصور، ومالندي، وبمبا، كما أنّها غنيّة أيضًا على المستوى العرقيّ، فأبناء الجبل ليسوا كالبحارة، كما أن العمانيّين في عمان ليسوا كالعمانيّين الذين سكنوا إفريقيا، وهؤلاء ليسوا كالأفارقة المحليّين. وقد كان عون الكتابة (المؤلفة) موفّقًا في اختيار المعجم الخاصّ بكل شخصية، وأكثر توفيقًا في تغيير معجمها مع تغيّر أحوالها، فشخصية صالح المتمرّد، مفتعل المشاكل، محبّ الشتائم تتغير جذريًّا بعد زواجه من البطلة، ليصبح حواره مختزنًا حقولا معجميّةً أكثر هدوءًا.
وعلى هذا الجانب من هذا التغيير فإنّ حوار البطلة مع الشخصيات من لحظة الهروب من نزوى إلى لحظة إدارتها لبيتٍ ومزرعة في بمبا يسيرُ سيرًا متحوّلًا متسارعًا. إنّ زهرة بدت في حوارها أول الأمر أكثر اقتصادًا في اللغة وأكبر حيطةً في استخدام الألفاظ، أمّا لغة زهرة الحواريّة بعد الهروب أصبح لها مواصفات خاصّة تتناسب مع مواصفات الحالة الجديدة، فسمات الجدال والتقريع والفوقيّة بارزةً في حوارها، كما أصبحت مرجعيتها الثقافيّة بوصفها ابنة قرية جبليّة تعرف الأصول، تتزاحم معها مرجعيّة ثقافيّة جديدة اكتسبتها بفعل الطواف المستمر حيث الجمر واللهب، وها نحن نجدها لا تتردد في تقديم طلبٍ مباشرٍ إلى مدير مزرعتها للزواج بها. فهل هي المؤلّفة مرةً أخرى تظهر عرّابةً تمنح الساردة البطلة قوّةً لغويّة تمكّنها من مجابهة عقبات التحوّل الجديد؟ تجاوز المسافة بينهما مرّةً أخرى.
* سلطة الأنا الساردة على حركة الزمن:
ينطلق الخط الزمني للسرد تصاعديًّا، ويمكننا رؤية الأنا الساردة تعيش مرحلتين زمنيّتين مختلفتين: المرحلة الأولى تبدو فيها زهرة شخصية مطيعة، مسالمة، ترضخ للقيم المجتمعية السائدة، تقوم بأعمالها الروتينيّة دون تذمّر، وتسلّم بهامشيتها في العائلة. والمرحلة الثانية التي تبدأ من اللحظة التي خرجت فيها زهرة لمقابلة النوخذة سلطان ليأخذها إلى زنجبار. تقول: «تسارعت أنفاسي وأنا أطلق العنان لساقيّ المتخاذلتين خارج النزل، هي المرة الأولى التي يتسرب فيها الجنون إلى حياتي الرتيبة» هنا تنطلق شرارة السرد لتنسلخ شخصية البطلة (الساردة) من كينونتها الرمزية (الأنوثة) إلى ذاتٍ متوجّسة، ثائرة، تحب السلطة، مترددة، تعبة، ترفض سلطة الرجل، تتشفّى لنفسها منه وتحاول إثبات كينونة جديدة في زمان ومكان جديدين.
لا يطرد تنظيم حركة الأحداث دائمًا وفق الزمن؛ إذ تستدعي الأنا الساردة الماضي لتعلل المستقبل، وتستشرف الحاضر عبر ربطه بالأحداث الماضية، وهذا ما يسميه جيرار جونات بـ»المفارِقات الزمنيّة(11)» التي لا يمكن تحديدها إلا بتحديد لحظة الحاضر أو ما يسميه «درجة الصفر» التي تمكننا من تحديد الماضي أوالمستقبل.
يظهر الإيقاع الزمنيّ بين الأحداث والمقاطع السرديّة في صورتين، الأولى تُسرّع الأحداث عبر اختزالها، والثانية تُعطّل الزمن الحكائي وتُبطئه. وقد استطاعت الساردة المراوحة بحرفيّة بين هاتين الصورتين، فمشهد صالح (زوج البطلة) المقتول غدرًا لم يتجاوز فقرةً مكوّنةً من أربعةِ أسطر، وهذا طبيعيّ؛ فصالح شريكٌ لم يكن على مقاس حلم زهرة، وإنّما قبِلت به لتحمي نفسها، نقرأ قولها: «لماذا أخدعه وأخدعُ نفسي، ما كان صالح هو حلمي».
إنّ حركة الزمن -كما أشرنا- منسجمة مع حركة الأحداث؛ لكنها في الوقت ذاته لا تبدو في انسجامٍ تامٍّ مع تطوّر شخصية البطلة، فالأنا الساردة –وهي البطلة- تبدأ بالانسلاخ سريعًا من السيرورة الجماعيّة مقدّمةً ذاتها المتفرّدة، والساخطة، والمواجهة للمبادئ الاجتماعيّة المتواضع عليها، ويمنحها هذا الإنسلاخ قوّةً وسلطة غير عاديين بدءًا من الفصل الثالث من الرواية، مرورًا بالفصل الرابع الذي تحاول فيه التخلص من «البرقع» على وجهها، وتتهجم –وهي ابنة الشيوخ- بلغة لاذعة بذيئة على أمّ سلطان، وهو انسلاخٌ –في نظرنا- مبكّرٌ بالنظر إلى ثلاثين عامًا من عُمر الانقياد والرضوخ والوداعة التي اتسمت بهما (زهرة)، مرةً أخرى إذن تهتزّ المسافةُ بين الساردة والمؤلّفة معلنةً تدخلا مبكّرًا من قبل هذه الأخيرة في تقديم شخصية السارد/البطل الجديدة، ومنحها مستوياتٍ متقدّمة من القدرة على إدراك الذات -هي في نظرنا- سابقة لأوانها السرديّ.
* ختامًا:
وصفوة القول إنّ رواية الطواف حيث الجمر سلكت تقنيات فنية مقنعة على مستوى البناء السرديّ، اختارت المؤلفة الاختفاء خلف ساردة منحتها سلطة الكلام عن ذاتها، وعن غيرها من الشخصيات، وقد بدت هذه السلطة كليّة إلا في مواضع أشرنا إليها، شكّلت قلقًا في حدود المسافة بين المؤلّفة والساردة، وهو تجاوزٌ –في نظرنا- لم يلغِ الحريّة التي ينبغي على المؤلف منحها للشخصيات داخل عمله، لكنّه تدخّلٌ لتشكيل العمل بنائيًّا بما ينهض به وفق زمنه السرديّ.
نادية اللمكيّ