راسم المدهون
كاتب فلسطيني
“الرواية التاريخية” حرثٌ في تربة صعبة بل أكاد أقول إنها مغامرة فنية مركبة وبالغة الصعوبة وتحتاج جهدا مضاعفا لـ”انتشال التاريخ” من بطون الكتب، وغربلته من زؤان الأزمان والروايات المغلوطة وما أضافته الأهواء والرغبات على حكاياته وأحداثه الكبرى من إضافات، والعودة بعد ذلك لتحقيق تجربة استعادته روائيا. هنا تذهب لعبة الفن الروائي نحو استعادة الأبطال والشخصيات الهامة، الرئيسة والثانوية واستكناه تكوينها الشخصي والنفسي وما تميزت به من صفات كانت وراء ما قامت به في الواقع من مواقف على المستويين الشخصي والعام. هنا بالذات تفتح “الرواية التاريخية” بابا واسعا للاجتهاد الذي لا يخالف الحقيقة والأحداث، ولكن بالذات الاجتهاد الذي يقرأ ما بين السطور ويحدق في الوقائع ببصيرة تتجاوز العابر والسهل وتتجشم عناء البحث التاريخي ببراعة واقتدار يمنحان التجربة ما تستحقه من عناء يمكن أن يتحد مع إبداع الموهبة.
في سياق كهذا تماما تقع رواية الكاتب الروائي الفلسطيني والسوري (والباحث أيضا) تيسير خلف الجديدة “المسيح الأندلسي” (منشورات المتوسط– ميلانو– 2024) والتي تذهب إلى استقراء مرحلة عصيبة وبالغة الخطورة على الصعيد الإنساني وهي المرحلة التي تتعلق بزمن “محاكم التفتيش” في إسبانيا وما شهدته من مذابح فاقت حدود الخيال وقعت ضد المسلمين بعد سقوط الأندلس، وأيضا ما رافقها من حملات قهرية لـ”تنصير المسلمين” وإجبارهم على ترك دينهم بالقهر والتعذيب وتحت طائلة القتل والإعدام في محاكمة صورية ومعدة الأحكام سلفا. هي مرحلة مثلت ذروة استبداد التعصب الديني والتي دفع ملايين من البشر حياتهم وأمنهم واستقرارهم ثمنا لها وبسبب ما ترتب عليها من هجرات قسرية وترحيل جماعي.
تيسير خلف في “المسيح الأندلسي” يقدم بانوراما الصراعات المكشوفة والسرية التي دارت على أرض إسبانيا وامتدت وقائعها في بلدان أخرى عديدة تمتد من أوروبا إلى تركيا العثمانية وعاصمتها “إسطمبل” حيث دارت حروب ومؤامرات عنوانها الأبرز والأساس الصراع الديني الذي يخفي تحت شعاراته وعناوينه مصالح وأهواء دنيوية لا علاقة لها بمعتقدات البشر وعباداتهم من قريب أو بعيد. في الرواية يقدم تيسير خلف عددا كبيرا من الأبطال والشخصيات “المفترضة”، أعني التي لا يشترط أنها عاشت فعلا في الواقع وذكرتها صفحات التاريخ المكتوب عن تلك المرحلة العصيبة، حيوية “المسيح الأندلسي” تأتي أولا وقبل أي شيء آخر من حيوية البناء الفني والفكري لشخصياتها الرئيسة والثانوية. وفي هذا بالذات سعت الرواية ونجحت في استقراء وعي أبطالها في تلك المرحلة التي تنوس بين ظلامية العصور الوسطى، وبين الاقتراب فعليا من استشراف العصر الحديث بما في تلك المرحلة من سطوة التشبث بالحاضر والسعي لتأبيده وتكريس صورته باعتبارها صورة المستقبل، وبين القدرة على إمساك خيط الضوء الذي يمكن له أن ينتشل البشرية وبالذات شعوب المنطقة من “جهالة” الحروب الدينية وما تحمله من ظلاميات قاسية على أرواح البشر العاديين.
في “المسيح الأندلسي” أسماء بشر، ولغات، وأسماء مدن ومناطق وكذا أسماء كتب ومخطوطات تكتب التاريخ كما “راق” لأصحابها ولمن كتبت من أجل وجودهم وتكريس ذلك الوجود، وهي بمعنى ما عِدَّةُ الظلم وأدوات الطغاة في تزوير العالم وتشويه صورة الحياة كي تبدو كما تشاء رغباتهم ومصالحهم. في القلب من هذا كله التكالب على المصالح وإشعال الخلافات والحروب. هنا بالذات تقع سياسة استخدام الدين وتوظيفه لأهداف نفعية لكل طرف من الأطراف ونرى بوضوح أن كل طرف –إذ ينحاز لعقيدة محددة– ويضعها في تناقض ومواجهات حادة مع العقائد الأخرى وأصحابها بأنه يفعل ذلك لتبرير سلطته وتفرده بمغانم الدنيا وجعلها ذات بريق لامع وخادع في أعين البسطاء.
هو سياق حروب طاحنة بين المعتقدات التي يخفي أصحابها مصالحهم كدول وكأفراد، وفيها تتباين وتتناقض الرؤى والمفاهيم التي يحاول تجّار الحروب زرعها في العلاقة بين أهل الأديان المختلفة، في واحدة من أجمل الحلول الروائية التي نقرأها في الرواية “حيلة” المفتاح الواحد لبيتين والتي تقدم برمزيتها الواضحة والجميلة حقيقة أن الأديان كلها تتوحد في دعوتها للخير والسلام والمحبة بين الجميع وأعتقد أن هذه الرمزية يمكن العثور عليها في السياق الروائي ذاته، فالمسلمون الذين تلاحقهم محاكم التفتيش لإجبارهم على تغيير دينهم كانوا قبل ذلك مسيحيين وأهل البلاد ذاتها وباتوا بعد ذلك فئات مضطهدة وملاحقة بخطر الموت أو الترحيل القسري.
الرواية تقدم شخصيات من لحم ودم، كل الشخصيات الرئيسة والثانوية جرى رسمها باعتناء وانتباه بالغين فجاء حضورها معبرا عن أفكارها ومعتقداتها وقد قدمها الكاتب بنبضها ومحتواها الإنساني وفي صور وجدت طريقها للتفاعل الطبيعي مع السرد وروح الرواية ومتنها.
في بنية الرواية شخصية بطلها “عيسى بن محمد وأسفاره وانتقالاته بين البلدان من أجل الانتقام لأمه التي ماتت تحت التعذيب في سجون محاكم التفتيش، الرحلة التي استدعت بحثا مضنيا عن حقيقة شخصيات موَهت نفسها واتخذت أسماء مغايرة. تلك الرحلة الطويلة والشائكة قدمت لنا بانوراما ساطعة لتفاصيل القسوة في أحط تجلياتها وأشكالها وقد نجح الكاتب في رسم لوحات فنية رسمت تلك العوالم التي تتنافر وتختلف وتعكس ملامح غربية حينا وأخرى شرقية، تتلاقى وتختلف، تتنافر وتتوافق فيما ينهض الحب الذي يكون ساطع الحضور مرة ومتواريا مرات أخرى، لكننا نراه طيلة الوقت ضوء أمل يلوح في نهاية نفق يتبعه بطل الرواية في بحثه عن الخلاص والانتصار.
سنرى “عيسى بن محمد” في صراعه مع أشكال العنصرية والتمييز يقف وجها لوجه متسلحا بإنسانيته وبإيمانه بوحدة البشرية وتفاعلها من خلال التسامح وليس سياسات الزجر والتمييز. وهناك أيضا فوضى اللغات التي تتقاطع وتتجاور وتنتمي كلها لخارطة البلدان والشعوب ودلالات ذلك التمازج والاختلاف، وهي في الرواية إشارات كبرى -وإن غير مباشرة- إلى تآلف الشعوب في حياتها وتجارتها بل في علومها وفكرها. هو تجاور تداهمه ريح التعصب لتأخذه نحو صراعات دامية بصبغة وشعارات دينية أخطر ما فيها أنها تسعى لوضع دين في تضاد مع دين آخر.
هي رواية توشي التاريخ برؤى فكرية حملت الكثير من أناة البناء والسبك الفني، وهي مسألة عانت منها أغلب الروايات التاريخية التي عرفناها من قبل إذ نجح الكاتب في استحضار التاريخ في أحلك حلقاته وإخضاعه وتوظيفه في رواية تتدافع فصولها في انسيابية فنية عالية الدفق وموشاة بسلاسة العبارة. تيسير خلف حاور التاريخ من خلال استدعاء مناخه وبسطه على الورق بكل ما ازدحم به ذلك التاريخ من صراعات ومن أشكال قسوة دامية، جعلتنا نتابع قراءة فصول الرواية بإصغاء عميق لكل ما زخرت به من أحداث فاجعة ومن خيبات ولكن أيضا بما حملته من جماليات الفكرة التي ارتحلت روائيا وارتحلنا معها في محاكاة فنية لمشاهد فكرية ليست غريبة عن واقعنا الراهن الذي يشهد حضور الطغاة السابقين وبنفس دسيستهم الأولى في استخدام الدين طرفا في صراعات الأمم والشعوب، وتسخيره لتشويه الحقائق وتغييب الحقيقة، وكان أهم ما في هذا كله أن مسألة الرواية -أي محاكم التفتيش- لم تعرف عملا روائيا خالصا لوقائعها رغم غزارة ما كتب عن محاكم التفتيش من بحوث ودراسات فكرية باللغات المختلفة، والأهمية تتعاظم أنها رواية عربية تأتي من أوساطنا نحن، الذين وقع علينا عسف محاكم التفتيش وجرائمها.
شخصية بطل الرواية ستعيش طويلا في ذاكرة قرائها وتستحوذ على مخيلاتهم فهي من جانب شخصية البطل، لكنها في الوقت نفسه شخصية تتطور وتكتمل وعيا وإرادة على نار التجربة القاسية والاستثنائية، وتيسير خلف من خلال هذا “البطل” يطلق إنجازه الأهم في الرواية فيضع “اللقطة” الأهم والدور المحوري لرجل ينتمي للحياة أكثر من انتمائه لفئة عليا تملك عناصر القوة التقليدية المعروفة من مال وجاه، بل يملك قراره الفردي وانتماءه للمستقبل الذي تتحدد ملامحه وصورته في أتون الصراع. ولعل هذه في تقديري بؤرة بنائية “المسيح الأندلسي” ومنطلق نسيجها الدرامي الذي كان ينمو منذ البداية ويتعرف على وعيه ووعي الحياة من حوله في صورة منطقية.