شهادة براءة ذمة
كأن على السارد السوري، واجب الشهادة!؟ أقصد الإدلاء بالشهادة لا الاستشهاد، لا سمح الله. واجب أن يقول ما رأى وما سمع، واجب أن يكون صادقاً وحقيقياً، أو على الأقل، أن يقول ما يجعله يبدو صادقاً وحقيقياً!؟ كأن على السارد السوري أن يختلق شخوص روايته ويجري أحداثها بين جدران وتحت سقف وقائع الحياة العامة في سوريا، الأوضاع الاجتماعية والاقتصادية والثقافية وخاصة السياسية التي تسود سوريا منذ ما يقارب النصف قرن، فتجري الصراعات على أنواعها بين هذه المشخصات ببنياتها الإنسانية والفكرية المتنوعة من جهة وبينها جميعها ومحيطها العام من جهة ثانية، وتنتهي إلى ما تنتهي إليه من نصر، يندر حتى على الصعيد الفردي، أو هروب أو هزيمة غالباً، حتى كأن السرد السوري برمته ليس إلا سجلاً حافلاً للهزائم على أنواعها!؟ أو بالعكس يقوم السارد السوري باختلاق شخوص وأحداث تمثل هي نفسها الوقائع العامة مشخصة ومرموزة!؟ فيكون البطل(شليطا) في رواية(دلعون) لنبيل سليمان، أو(علي حسن) في رواية(الصلصال) على سبيل المثال، تشخيصاً روائياً، أو حلولاً، للسلطة السياسية القائمة. إلا أنه عادة ما يتوزع أبطال الرواية الواحدة على تمثيل كلا هاتين الحالتين، إضافة لشخوص ذات مواقف حيادية أو هامشية تستخدم لإملاء الفراغات، في شبكة من العلاقات، شبه المعطاة، التي تقدم على طبق من فضة، وجبة غنية من الطبخات الروائية.
المؤثرة في هذا، أو ربما الشبهة، بأن السارد السوري الذي بات يجد أنه ملزم بتقديم هذه الشهادة، شهادة البراءة أقصد، إن لم أقل شهادة التنصل من الواقع الذي يشهد عليه. مضيفاً إلى تنصله إعلان أنه ضده على نحو أو آخر، لا يجد أنه من الضرورة أن يرتبط موقفه المعلن أدبياً بموقفه الشخصي سياسياً، أو حتى حياتياً! وهذا مما لا يمكن أن يعيبه، أو يلومه أحد عليه، ذلك أنه ككاتب، ككاتب أردد مرة ثانية، قد أدى المطلوب منه في حقل عمله، في موقعه، بكونه يؤكد التزامه الأعلى بروح الثقافة، المستقل، والناقد، والممانع، المتفق عليه من قبل الجميع، دون التغاضي عن تغاضي السلطة، وما تظهره، من اللامبالاة، فيما يتعلق بالساحة الأدبية عموماً. إلا أن الأمر، بتفشيه، راح يبدو وكأنه تقيد بالمعايير القياسية للرواية السورية المنتجة والمعروضة في الأسواق. مما يدفع المرء إلى الاستنتاج بأن هذه الوقائع العامة، بالتوصيفات السالبة إياها، باتت مقرة ومتفق عليها للحد الذي لا يمكن لأي متقدم بطلب الدخول لمعترك الحياة الثقافية السورية إلا الاعتراف بها وتضمين بيانه الروائي أو الشعري عزمه على محاربتها. بغض النظر عن التزامه بتنفيذ هذه الوعود على المستوى الشخصي، أعود وأذكر دون كثير حاجة لذلك!.
هنا يجب التأكيد، أولاً، بأنه من الطبيعي ألاّ يكون كل أصحاب هذه الشهادات من شاهدي الزور، أو من أولئك الذين يدلون بها ترويجاً لأنفسهم ولبضاعتهم، التفريق الذي بدونه أقع في حالة تعميمية تعسفية بلقة. وثانياً، لا بد لي من مجارة فكرة، طالما سمعت أشخاصاً ذا اعتبار يتقولونها، بأنه في تاريخ الإبداع، بشتى مجالاته، يوجد الكثير من الأدلة على أن المستوى الفني لا يرتبط بشكل جذري ونهائي بمقدار المصداقية الأدبية أو الشخصية، والأسماء أكثر من أن تعد، ولكن لا أدري لماذا لا أجد بين المزيفين والمدلسين الذين أعرفهم معرفة شخصية أم فقط أعرف عنهم ذلك، من لا يحوزون على أي نصيب من الموهبة، سوى، اللهم، موهبتهم في أعمال التزييف والتدليس، وما تستوجبه من انتهازية ووصولية!؟
وقد وقع اختياري، من بين العديد من الروايات التي قرأتها مؤخراً، على عملين روائيين خاصين،(المشعوف) أسامة الفروي ، ورواية(هوى) هيفاء بيطار، ليس لأن كاتبيهما، كان وما زال خيارهما أن يحيا بين ظهرانينا، والجميع يعرف مقدار الصدق في عمليهما وشخصيهما، بل لأنهما يقدمان شهادتين من أقسى الشهادات التي أتكلم عنها، برأيي، دون أن أنسى شهادات مماثلة تقدمها روايات سورية أخرى كـ(مديح الكراهية) لخالد خليفة و(مشهد عابر) لفواز حداد و(درج الليل درج النهار) لنبيل سليمان على سبيل المثال لا الحصر، على حقيقة وجود هذه الظاهرة، أو على الأقل حقيقة الفرضية التي أقوم بها والتي قد لا يوافقني عليها البعض!. فأنا رغم متابعتي للرواية السورية عموماً، والجديدة منها خصوصاً، باعتبار أن أغلب كتابها من معارفي وأقراني، فلست أكثر من متطفل في هذا المجال، ولكن ما لفت انتباهي هو حدّة هذه الظاهرة وما يمكن أن يستخرج منها إلى خارج نطاق الأدب.
وكأن شهادة أسامة الفروي عن سوريا كمكان وكبشر، لم يكفها ثلاث مجموعات قصصية ذات عناوين غريبة:(الخراطين 2003 – المرسونون 2005- الفقفاق 2006)، فأراد أن يوسعها برواية يتحكم بها سرد خطي زكزاكي، يتنقل بين ألمانيا(كلوديا) وسوريا(الوطن)، مهتدياً بعلامات سوداء عن الواقع السوري، سأورد الآن بعضاً منها، مع عناوين لها من اختياري، كأدلة متنوعة وغنية تؤكد هذه الشهادة:
* قصة ضابط
مباشرة، في الفصل الأول، ص 12، يسرد(قدموس) الطبيب السوري الذي تخصص في ألمانيا، ويقيم ويعمل فيها، قصة رواها له سوري قدم لألمانيا للعلاج، عن والد زميله في ألمانيا(كمال السبع)، كيف تطوع بالجيش وطلق زوجته الأولى القروية، وتزوج من ابنة مدينة، والدة كمال، وكانت جميلة جداً، بحيث صارت تكثر مهمات أبي كمال ونوباته المسائية، فرفع إلى رتبة مساعد، وبعد ذلك إلى مرشح، ثم ضابط ذي مناصب عدة، حتى وصل إلى أن يكون قادراً على إقامة عرس لابنه كعرس هارون الرشيد، حضره ألف مدعو.
* تلك فتاة
يأتي المشهد الثاني في سياق مقارنة(قدموس) بين حبيبته(كلاوديا) حورية الجنة الألمانية، وفتاة سورية، طالبة في كلية الآداب سنة أخيرة، تعرف عليها في إحدى إجازاته الصيفية في بلده. شكلها أشبه بالفرنسيات، ربما كان أحد أبويها من مخلفات الاستعمار الفرنسي، ص 24، وافقت على لقائه في منزل عائلته البحري، حيث ضاجعته مرات عديدة وهي تطلق الآهات والألفاظ البذيئة متناسية ما كانت تدعيه من خجل وبراءة!. وبعد ذلك تتهمه، كاذبة، بفض بكارتها وتدمير مستقبلها!. وتقوم بسب والده ونعت أمه وأخته بأسقط الصفات!؟ فيتحداها(قدموس) بإجراء فحص عند طبيب نسائية، إذا أثبت إدعاءها، يتزوجها. فإذ بها تعلن باكية أنها خدعت مرةً من قبل زميل لها في الجامعة وضع لها منوماً في فنجان القهوة، واغتصبها.
* وطن العابرين
يكذِّب(قدموس) كل ما يشيع عن بلده من قبل من يصفهم بكتاب مغرضين ومخرجي أفلام مأجورين، وما يخبره البعض لـ(كلوديا) بأن الرشاشات والقنابل اليدوية تمطر الناس في الشوارع، وإن النساء السوريات كتل مغطاة بالقماش الأسود. مؤكداً لها أن سوريا من أكثر البلاد أماناً. وحين التقى لأول مرة بمناسبة إقامة معرض للفن التشكيلي السوري، بالفنان الكبير جواد أشقر، قام الفنان بحركة غير لائقة وهي أن قرّب من فم(قدموس) قرن فليفلة وقال:(هل تأخذ لحسة… تريد أن تقنعني أنك لم تلحس قبل خروجك من مطار بلدك؟) فراح(قدموس) يخاطب نفسه:(هل يجهل فنان حقيقي مثقف معنى الوطن، فيشتمه عندما يكون خارجه!؟ هل نستبيح الوطن من أجل أشخاص عابرين!؟) ص 35، الأمر الذي يستخلص منه أن(قدموس) يرى أن ما يقوم به هؤلاء الفنانون والمثقفون هو شتم واستباحة الوطن، وليس كما يدعون معارضة وإبداء رأي!؟ ثم أنهم يفعلون ذلك ليس حباً وحرصاً على الوطن، بل فقط لعدائهم لمن يعتبرهم(قدموس) لا أكثر من عابرين!؟
* أعدت لي حريتي
أمّا آخر صورة عن الوطن التي ينقلها لـ(قدموس) الشاب(معتز العلي) ابن صاحب نفوذ كبير، والموفد الجديد للدراسة في ألمانيا على حساب جامعة دمشق، حين استقبله في المطار بناء على طلب من أبيه، هو مديح واضح الالتباس: « الناس في بلادنا لا يقدرون النعم، لا يوجد شاغر في المطاعم. سيارتك لا تصلح للمرافقين. الحرية، حدث ولا حرج، الكبريهات والمواخير لا تعد ولا تحصى!؟»/ص 62/
* هواء الشام.. بحر اللاذقية
خلال زيارة يقوم بها(قدموس) إلى سوريا، ضمن وفد ألماني للقيام بمؤتمر طبي مشترك في دمشق، ويحطّ في(الشام) التي أضاف السحرة في قديم الزمان مادة مخدرة لهوائها فصارت تصيب مستنشقيها بالإدمان!، حتى تواجهه الوقائع التي يخشى أن تنتبه حبيبته(كلاوديا) لها، فأثناء مقابلة تلفزيونية تجرى معه يكتشف: «أن النقد هو المديح فقط»/ص89/. والمظاهر العسكرية بالقرب من مدخل الفندق. ومن خلال نشرة الأخبار المسائية باللغة الإنكليزية تكتشف(كلاوديا) أن سوريا بلد ليس بمقدوره معالجة أبنائه، فقد سمعت أن أحد المسؤولين السوريين الكبار قد نقل إلى بيروت للمعالجة من نوبة قلبية. أما بحر اللاذقية فهو يخلو من كل أشكال الحياة بسبب استخدام طرق الصيد المحظورة، السموم والمتفجرات. وقد عبث بتاريخ المواقع الأثرية وتم تغيير أسمائها، وبعضها تم طمسه. يسأل(قدموس) نفسه: «لماذا يحاول ستر عيوب واضحة كالشمس؟»/ص 122/.
* حالة طبية
يتم فحص بعض الحالات المرضية من قبل الأطباء الألمان، فيكون من حظ الدكتور(جرهارد) أن يقع على حالة محيرة، مواطن يزاول رياضة المشي مرفوع الرأس، فيقع في حفرة عميقة حفرها عمال شركة الهاتف، ولولا مرور أحد الأكارم بجوارها وسماعه ما يطلقه من صراخ ، لمات فيها. وفي المستشفى توضع رجله المكسورة في الجبس وتتحسن بسرعة، غير أن الألم كان يزداد في الرجل الأخرى. ليكتشف الدكتور(جرهارد) أن خطأ بسيطاً قد حصل، لا يتعدى وضع للرجل السليمة في الجبس.
* حللتم سهلاً ووطأتم أهلاً
يقرر(قدموس) رغم ما خبره في زيارته لسوريا خلال المؤتمر الطبي أن يعود ويعيش فيها، فيشتري عيادة وسيارة، ومنزلاً مطلاً على البحر، لكن الحاوية التي أرسل بها(قدموس) أثاث المنزل من ألمانيا، ورغم عمليات الرشوة والابتزاز الوقحة التي لا مثيل لها، تسرق بالكسر والخلع!؟ ولماذا العجب، وقد حدث مرة أن اختفت مدحلة، مدحلة تزن عشرات الأطنان، وقالوا وقتها أنها طارت من مرفأ اللاذقية وحطت في المنطقة الشرقية لسوريا!؟/ص131/، لكن ذلك لا يثني(قدموس) عن عزمه البقاء.
وعندما ذهب(قدموس) ليفتح حساباً جارياً في أحد البنوك، يجد أرضيته قذرة كالشوارع الشعبية، جدرانه توحي بالتعاسة والبؤس. دخان وضجة وأصوات من كل ركن!؟ موظف يأكل والناس تنتظره، الموظفون عابسون والمراجعون قرفون! وورقة/100/ ليرة سورية يدفعها كل من يتقدم أمام المحاسب!؟ وهذا لا شيء بالمقارنة لما حدث لـ(قدموس) عندما خرج ورأى سيارة تسد طريق خروج سيارته!؟ وعندما حاول الطلب من صاحبها إبعاد سيارته، خرج الأستاذ(جمال الزنبور) من الإدارة بعينيه الذئبيتين ونبرته الوقحة، وقال له: «سوف تنتظر مثل الكلب» فما يكون لـ(قدموس) إلاّ أن يترك السيارة في مكانها ليعود مساء لأخذها، فيجد أن عجلاتها مزقت بطلق ناري!؟ إلا أن القصة مع(جمال الزنبور) لا تنتهي هنا، فبينما هو مستلق على الرمال، بعد أن حاول إنقاذ سيدة كانت تصرخ في البحر، تصرخ فقط للإيقاع بالناس، أحس بحذاء قاس يضغط على رقبته، وصوت وحشي يبادره: «يا ابن الكلب» فإذ به(جمال الزنبور) ذاته! وهذه المرة يرد(قدموس) على اللكمة التي وجهت له، ويطرح(الزنبور) ومرافقه أرضاً وينسحب. ولكن مجموعة من الملتحين المدججين بأسلحة آلية، يطبقون عليه ويقيدونه بالسلاسل المعدنية ويسوقونه إلى الخارج، وهم ينهالون عليه بالصفعات والركلات من كل جهة وصوب.
يختفي(قدموس) لشهرين، يبذل أبوه خلالها ماله وماء وجاهه، هو ذو الاتصالات والمعارف، ولا يدله أحد لمكانه!؟ تغادر(كلوديا) سوريا هاربة بواسطة زورق سريع يعود لمهرب بحري يدعى(أبو طافش). ليظهر(قدموس) بعدها في زنزانة فردية، يعاني الأمرين من التعذيب الجسدي والروحي!؟ الصراصير صارت مؤنسه الوحيد بعد أن كان يقرف ويشمئز منها!. يحول(قدموس) للمحكمة ويحكم عليه القاضي بالسجن لمدة عام، بتهمة التحرش بالآنسة(مهى الغول) والاعتداء على خطيبها(جمال الزنبور). ولكن بعد أربعة أشهر يطلق سراحه بسبب صدور عفو عام!؟
* علامات الموت ترفرف
الطائرة تشق أجواء مطار دمشق متجهة إلى مطار فرانكفورت. ينظر(قدموس) من نافذة الطيارة، فلا ينقبض قلبه كالعادة، وما من حنين يرافقه هذه المرة، بل شعور: «أن علامات الموت ترفرف فوق سماء بلاده»/ص156/.
هي ربما الرواية العاشرة للقاصة والروائية المجتهدة السورية هيفاء بيطار، لا يهم التدقيق في الرقم كثيراً، بسبب التعداد الكبير لمجموعاتها القصصية ورواياتها. إلا أن المتابع لأعمال صاحبة(امرأة من طابقين)، لا ريب سيجد في(هوى) خلاصة لتجربة صاحبتها الأدبية والحياتية، سواء من حيث الأسلوب والبناء الروائي، أو من ناحية المضمون والعبرة. فهيفاء بيطار رغم ما تتصف أعمالها من جرأة في مواجهة المؤسسات القائمة بأنواعها، كالجنس والأسرة والثقافة والدين والسلطات القضائية والإدارية وحتى السياسية كما في رواية(أيقونة بلا وجه)/2000/، إلا أنها كاتبة أخلاقية بامتياز، فهي تقوم بنقد هذه المؤسسات انطلاقاً من المبادئ والأسس الأخلاقية التي قامت عليها هذه المؤسسات نفسها، وحجتها أنها تدعيها إدعاءً وفعلياً تمارس خلافها:»انعدام الأخلاق هو القاعدة» ولكن رغم أن المحور الروائي الأهم في(هوى) هو زواج(إيمان) الشابة من مفكر مشهور بعمر الرابعة والسبعين، ومصاب بسرطان الدم، وما سبب هذا الزواج من ذل وانتهاك لها، فإن الفساد هو الهواء الأسود الذي يخنق(إيمان) جسداً وروحاً. وبمنوال مشابه نسبياً، لتشابه آليات السرد في الروايتين، سنتتبع الملامح التي يتبدى فيها وجه المكان في(هوى)، مع ملاحظة الفارق الكبير بين شخصيتي(قدموس) و(إيمان)، من حيث الوضع الاجتماعي والاقتصادي والسلطوي، الذي يؤدي إلى تعارض حاد بين موقفيهما وبالتالي أفكارهما ومشاعرهما تجاه سوريا، فبقدر ما يحاول(قدموس) أن لا يرى سوى الجميل في بلده، بقدر ما لا ترى(إيمان) سوى الفساد والظلم وانعدام الرجاء.
* خيطان ومقصات
دون مقدمات، تبدأ الرواية بمشهد تسليم الممرضة(إيمان) أربعين خيطاً جراحياً سرقتها من المشفى الحكومي الذي تعمل به. لـ(قاسم) الرجل ذي الوجه الميت، والصوت البارد، صاحب المكتب الفاخر، حيث تتم فيه عمليات تبادل المسروقات مقابل رزم من المال! وبعد أن تُرفَّع وظيفياً(إيمان) الممرضة السارقة إلى رئيسة ممرضات!؟ يأتي الدور على أدوات الجراحة عصبية والعظمية، مقابل عمولة عشرين ألفاً… ثم خبطة العمر، إبدال جهاز تخدير غرفة العمليات بجهاز آخر معطوب، مقابل مئة ألف ليرة!؟ وعندما انفلت منها سؤال: «لكن أطباء التخدير سيعرفون أن هذا…» يقاطعها(قاسم) «…كوني على ثقة سيفرحون، لأن العمل قد توقف، عندها سيمكنهم تركيز جهودهم في المشافي الخاصة»/ص103/.
* مشفى المجرور
استجابة لتلك الرغبة المستطيرة التي تعتري السارد السوري ليبدو حقيقياً، تقوم(هيفاء بيطار) كما فعل سابقاً(أسامة الفروي) كونهما طبيبين ممارسين للمهنة، بتناول جانب ما من الواقع الصحي في سوريا، ففي توصيفها لحالة المشفى الحكومي الذي تعمل به(إيمان) تقول: « كدت أتقيأ أمعائي من رائحة المجرور الذي يرشح ماؤه القذر على أرض الممر، لكنه هذه المرة بالغ في فجوره، وتدفقت كتل البراز من فتحات مخفيّة… رغم قرفي شعرت بسعادة خبيثة كما لو أن نفق المجرور صورة لحياتنا»/ص23/. «المجرور الطافح بالخرا، إنه حياتنا»/ص27/.
* هذا البلد
– «يا حبيبي يجب أن تعهّر وتسقط في هذا البلد كي تشبع» /ص17/.
– «..ان شكل الحياة الكريمة مستحيل في هذا البلد فإما أن تكون سارقاً أو مسروقاً» /ص20/.
– «لماذا فكرت ياحبيبي وتبنيت هذه الأفكار التي لا تناسبهم، لماذا فكرت ياحمار.. لا داعي للتفكير في هذا البلد… لا داعي للرأس أصلاً»/ص32/.
– «..تتوصل لحقيقة هامة، بأن الحياة في هذا البلد مستحيلة بدون تخدير، لأن الجنون هو الشيء الوحيد المؤكد الذي ينتظرنا»/ص125/.
* ذلك القضاء
قد يبدو هنا أن(هوى) تجرؤ على تقديم شهادة تتصف بالفداحة، كونها تتعلق بسلك القضاء، إلا أنه من المعروف في سوريا، أنه بتاريخ 3/10/2005، أصدر رئيس الجمهورية السورية المرسوم رقم(95)، تم بموجبه تسريح(81) قاضياً من مختلف المحافظات السورية. كما أن فساد القضاء وخضوعه لأهواء ومصالح المتنفذين، ظاهرة معممة في كل الدول ذات الأنظمة التي تسود فيها صلاحيات السلطة التنفيذية على السلطتين التشريعية والقضائية، وخاصة في حال تطبيق قانون الطوارئ والأحكام العرفية. فمن أجل إصدار حكم إخلاء المستأجر الذي احتل البيت العائد لزوج الممرضة(هدى) لأكثر من خمسة عشر عاماً، ستدفع(هدى) 25 ألف ليرة للمحامي الذي سيعطيها للقاضي كرشوة: «يا إلهي أين العدل في هذا البلد، هل وجدت القوانين لتدفع الناس للجنون من القهر والظلم؟! أغاية القانون تحقير الناس وإذلالهم»/ص27/. وحين انكشفت سرقات المشفى- لم يُذكر كيف- وقبض على(إيمان) وصدر الحكم عليها بالسجن – لم يذكر كم من السنين- تمّ التحقيق مع(قاسم) وشركاه، ومدير المشفى، «ملك اللصوص»/ص120/، وبرِّئوا؟. ولكن من حسن حظها «أن الدعوى استقرت في يد قاضٍ يأكل»/ص وماذا كانت الوجبة التي أكلها القاضي مقابل تبرئتها؟.. البيت الذي استماتت(إيمان) للحصول عليه كي تؤمن استقراراً بالحد الأدنى لها ولابنها، وصارت قيمته بعد جنون الأسعار تعادل المليون ليرة.
* هنـــاك
تنتقل بالرواية من منتصفها إلى مكان آخر، عالم آخر، هو بيروت. فبعد حادثة منع أمن الحدود(إيمان) من مغادرة سوريا إلى الأردن لحضور حفلة زفاف صديقة غالية!، بحجة أنها غير حاصلة على موافقة مديرية الصحة في اللاذقية التي تعمل بها إلى مغادرة البلد، تلتقي بطريقة عجيبة أحد أبرز قادة الحزب الشيوعي!، مفكر معروف بجرأته وأفكاره الناقدة والبناءة للمجتمع العربي، أستاذ العلوم السياسية في واشنطن، الذي يزور دمشق لثلاثة أيام لإلقاء سلسلة من المحاضرات.. ورغم مشاعرها المتناقضة: «أهنئ نفسي على علاقتي مع الكهل المشهور، وألومها بأن ما أفعله هو أكبر ورطة سأورط بها نفسي»، تقبل الزواج منه، والعيش معه في بيروت. فبيروت التي لم تكن تعرفها سابقاً تسحرها في كل شيء، تتأمل بوله: «تمثال العذراء مريم فاتحة ذراعيها لاحتضان البشر جميعاً، لتشفيهم من أهوائهم وتصالحهم مع بعضهم… تدمع عيناي من دفقات الحب في قلبي» وكذلك: «مسحورة بخيم الغجر البائسة، وحبال الغسيل المثقلة بثيابهم الملونة والعتيقة» بل حتى: «لحاويات القمامة»/228/، لنكتشف أن عنوان الرواية(هوى) المقصود به هو هوى بيروت، ولا شيء آخر، فهي تقول: «كنت متكهربة بهوى عنيف نحو مدينة الحرية، المدينة التي أحيتني من رمادي، وكان العجوز مفتاح بيروت». «انتقلت بغمضة عين إلى الجنة، إلى بيروت»/ص234/ أما سوريا، وبالأخص مدينة بطلة الرواية(اللاذقية) فيصير عنوانها: «كيف كنت أعيش هناك»/ص242/ ويأتي ذكرها كومضات الذاكرة(فلاش باك):»مدينة التحنيط»/ص224/، «مدينة البلادة الأشبه بالمقبرة»/ص264/ وكمقارنات بين: «فندق دمشق الحقير حيث كنت أبول في المغسلة، وبين فندق ميريديان بيروت»/ص232/، وبين: «سوبر ماركت أبو خليل، حيث اشتري كماليات السعادة، وأقاوم غصة قهر وأنا أذكر السوق المركزي في مدينتي حيث تفوح منه روائح القمامة وأمعاء الحيوانات»/ص234/. أما دورها الجديد كشهرزاد، فهو يتركز على: «يطلب مني الحديث عن الهناك… كان يا ما كان مشفى مقرف قذر.. أطباء يخربشون توقيعهم ويهربون لعياداتهم، وأطباء لا يأتون أصلاً ويقوم زملاؤهم بالتوقيع عنهم..يقبضون عمولاتهم من الباعة، فبدل/25/دولاراً يدفع المريض/160/دولاراً ثمناً لعدسة العين مثلاً!؟… مراحيض طافحة بالبراز… ممرضات يحشين الكوسا والباذنجان…»/ص245/، «لا مسرح لا سينما..ناس يسرحون في الشوارع كقطيع يرعى العشب.. شعب البيجاما» ولكن فجأة: «عالمي هناك، عالمي الحقيقي الذي أنتمي إليه، والذي اكتشفت كم أحبه وكم هو متجذر بأعماقي»/ص246/. ويمكن تفسير هذه الردة الشعورية، بثقل وطأة المفكر العجوز الجلف عليها، بمعاناتها المأسوية: «يمتص دفئي ونضارتي وشبابي» مما أدى إلى نقلها كل فوهات مدافع كراهيتها وحقدها باتجاه الهدف الجديد الضاغط. إلاّ أن لقاء(إيمان) بطبيب شاب لاذقاني يعمل بشكل عير قانوني في مشفى ببيروت، يجمعها معه «الهروب» من هناك، يعيدها إلى استعادة كاملة، شبه بانوراميه، لحقيقة الهناك: «… مدينة التحنيط، شبكة الفاسدين التي تتباهى بأنها فوق القانون، تنهب وتسرق بفحش ووقاحة، والناس تراقب ما يجري بصمت وخوف، شعب بأكمله مذعور… يمضغ الخوف كل يوم… ويمضي العمر على أمل التغيير، ولا أحد يعلم كيف سيتم التغيير، هل سيهبط من السماء، أو سيطلع من قاع القلوب المتورمة بالقهر؟! مدينة التحنيط أفرزت قيماً جديدة، فانعدام الأخلاق هو القاعدة، السرقة شطارة، والعهر موهبة وقلة الذوق هو أساس التعامل… لا يمكن أن أصل إن لم أسحق عدة زملاء بطريقي..»/ص301/، فتلتمع في ذهنها تلك الصورة: «الشعب مثل النمل يكدح ويكدح، مذعوراً أن يجوع ذات يوم، ثم يأوي إلى جحور لا تدخلها شمس الحرية والكرامة»/ص312/.
* العودة الميمونة
ولكن: «أية فائدة سأحصل عليها من عيشي في بيروت إذا كان الثمن أن أخسر نفسي» فالعجوز ما عاد يحتمل: «كيف سمحت له أن ينتهكني لهذه الدرجة، لماذا نرضى العيش مع أناس يزلوننا» وهكذا تحصل المواجهة الأولى والأخيرة بين(إيمان) وزوجها المفكر السادي الخرف، الذي تتمنى له الموت، لكنه لا يفعل رغم كبر عمره وشدة مرضه! وتنتهي بأن تعاف(إيمان) النفاق والتمثيل والخداع: «سأنجو بنفسي، وأعود إلى ابني»/ص323/. تعود(إيمان) إلى مدينة التحنيط، تعود للانضمام إلى حلقة النساء الصابرات، في مستوصف وليس المشفى. ولكن لا فرق ف(إيمان) تدخل في مرحلة الشعور بسلام الهزيمة على حد تعبيرها، منفصلة عن الناس وحياتهم، لذا لم تشعر بعدوى الهياج لزيارة الوزير للمستوصف، لكن ذلك لم يمنع عنها الصدمة عندما يأتي لزيارة المستوصف وزير الصحة الجديد فترى أنه ليس سوى اللص والمرتشي والنصاب…(قاسم).
3- سنجفف دموعك بشفاهنا اليابسة
يحار المرء كيف يتفهم هذه الظاهرة، لماذا يصر السارد السوري على رسم ملامح وجه المكان، من أية زاوية راح ينظر إليه، بهذه الخطوط السوداء القاسية. فكلتا المرآتين الروائيتين قدمتا لنا وجهاً بلا أي أثر للشفقة، ولا لرحمة ولا لعذر. يبرئ السارد السوري نفسه، في كل الأحوال، ولو كان سلبياً، ولو كان مرتكباً، معبراً عن هذا غالباً بتبرئته لأبطاله دائماً، وكثيراً ما يجد الأعذار للناس، مسلوبي الإرادة، القطيع، لكنه لا يبرئ المكان ولا يبحث عن أي عذر له!؟ وكأنه أدمن القسوة التي تغلف حياته كقشرة سميكة ضاغطة فوق قشرته، فما كان منه إلا مبادلتها قسوة بقسوة، إجحافاً بإجحاف!؟ وكأن لا أحد ينتبه أن سوريا، كمكان، كبلد، وكنت أريد أن أقول كاسم، لا ذنب لها بما يحصل، فالأمكنة لا عمل لها سوى أن تتحمل الأذى، الذي لا قدرة لها على تجنبه ولا الرد عليه. الأمر الذي يذكرني بقصيدة عنوانها:(سورية) للشاعر السوري الراحل رياض الصالح الحسين(1954-1982)، في مجموعته الثالثة(بسيط كالماء واضح كطلقة مسدس) دار جرمق- دمشق- 1982: «… يا سورية التعيسة كعظمة بين أسنان كلب/نحن أبناؤك الطيبون/ الذين أكلنا خبزك وزيتونك وسياطك/ أبداً سنقودك إلى الينابيع/ أبداً سنجفف دمك بأصابعنا الخضراء/ ودموعك بشفاهنا اليابسة/ أبداً سنشق أمامك الدروب/ ولن نتركك تضيعين يا سورية». التي يبدو أنه لم ينتبه لها أحد حينها، فلا أحد قال له: «كيف تقول هذا!؟ أو حرام عليك يا رياض، سوريا ليست كذلك» ذلك أنه كما عرفته خليق أن يضمنها، كما ترون، ما أشرت إلى افتقاد(المشعوف) و(هوى) إليه لتوي.
الهوامش
1-(المشعوف): دار عشتروت-بيروت/2006/
2-(هوى) الدار العربية للعلوم ناشرون- بيروت/منشورات الاختلاف- الجزائر/2007/
منذر مصري
شاعر وكاتب من سورية