ريموند فوي – ترجمة: محمد مظلوم
المرّة الأولى التي صادفتُ فيها ذلك الوجه اللافت كانت صورته على غلاف ديوانه (عزلة مكتظة بالوحدة) (الصادر عن الاتجاهات الجديدة، 1965) حدث ذلك في مكتبة للكتب المستعملة في لويل بماساتشوستس، عام 1972. إن أردتَ التعرُّف على بوب كوفمان، فما عليك سوى النظر بتمعَّن إلى صورٍ عدَّة له، فهي تفصح عن كل شيء بشخصيته حقاً: قوَّة شخص، ضئيل البنية، يحدِّق بك بنظرة هي مزيج من هيبة وتحدٍ، وحنان وسخرية. وجهه خلاصة لخريطة: إفريقيا وجزر الهند الغربية ومنطقة الكاريبي، وحبيبته نيو أورلينز مهد موسيقى الجاز. وجهه وجه قديس حلَّ على الأرض بطلاً وشهيداً في صورة عاشق جاز فوضوي ومتسكِّع.
من خلال تلك الصورة، شعرتُ في الحال بما يسمى في التراث الهندوسي (الدارشان): أي ذلك الشعور بالتحوُّل الذي يغمر المريد في حضرة الشيخ، وهما يتواصلان بالبصيرة والبصر. على أية حال، حكمت على الكتاب من غلافه واقتنيته فوراً. وما إن قرأت القصيدة الأولى فيه، (لقد طويت أحزاني) حتى وقعتُ على الفور تحت تأثير سحر صورها الشفافة بل الإشراقية. لقد رسمتْ لغة بوب الرفيعة خطاً مستقيماً لمسارٍ فنيٍّ يمتد من عصر شكسبير إلى عصر النهضة الفنية في هارلم، أما إيقاعه الفخم، الذي عادة ما يكون متناغماً ومهيباً، فقد أخذني معه مثل وقع خطى فرقة جاز جنائزية تسير في موكب خلف نعشٍ عبر الحي الفرنسي.
بعدها ببضعة أشهر عثرتُ على ديوانه الثاني (سردين ذهبيّ) الصادر عن (أضواء المدينة-1967) ومرة أخرى، أمعنتُ النظر في صورة الغلاف وعليها ذات الوجه وهو يحدق بي. كانت كتبه صغيرة الحجم فحفظتها تقريباً. وقد فهمتُ بالحدس أن هذه القصائد شفاهية/سمعية: لم تصدر عن الكلمة المكتوبة بل انبعثت من قيثارة أورفيوس. وهكذا دأبتُ على حمل هذين الكتابين معي أثناء سفري، وعادة ما كنت أضعهما على الرفّ بحيث تكون صورة غلافيهما في الواجهة.
بحثاً عن المغامرة وأنا في سن التاسعة عشرة، وصلت إلى سان فرانسيسكو في 1 كانون الثاني-يناير 1977، وحجزتُ في فندق (بنورث بيتش) قريباً من مكتبة (أضواء المدينة).
يقع فندق (تيفير) في المثلث الضيق من المساحة التي يشكلها تقاطع شارعي (غرانت) و(كولومبس) بينما يحدُّه من الجهة الشمالية شارع (فاليجو) كانت غرفتي تقع فوق (مقهى تريستا) وتطل على (الصالون) وذات صباح وبينما أنا نازلٌ على الدرج الضيق المؤدِّي إلى الشارع، مرَّ بي وجه مألوف. فذهلتُ لوهلة، ثمَّ التفتُّ لأسأله، (هل أنت بوب كوفمان؟) فأجاب دون أن يتوقَّفَ، ودون أن يلتفتَ: (أحياناً).
في تلك الأيام، كان بوب أقرب لشبح منه إلى شخص حقيقي. فقد بدا من عالم آخر؛ لكنّه ليس شبحاً لا مرئياً في الحي البوهيميّ المعروف باسم (نورث بيتش). لم أعرف مطلقاً شخصاً سواه أعلن عن حضوره بالغياب. فآنذاك، كان قد انسحبَ بالفعل إلى الصمت والعزلة، وهكذا بقيتُ أراقبه من بعيد لأشهر عدَّة كأنني أطارد شبحاً في الشوارع والأزقة مثل (رجل الزحام) لإدغار آلان بو، دون أن يتحدث قطّ، ودون أن يتوقَّف قط، حتى حدث ذات مساء أن سار فجأة ودخل حانة (سبيكس) وبدأ يصدح بقراءة الشعر بأعلى صوته: (فلنذهبْ إذنْ، أنا وأنتَ، / حيثُ يمتدُّ المساء على السماء / كما يتمدَّدُ مريضٌ مخدَّر على طاولة.) قرأ قصيدة (أغنية لألفريد بروفرك) لتي إس إليوت بالكامل ثم اشترى له أحدهم بيرة. تبعها بقراءة المزيد من الشعر: (طيور الرفراف) لتشارلز أولسون، التي تبدأ بعبارة (ما لا يتغير / هو الإرادة للتغير) ولوالاس ستيفنز (بيتر كوينس في عزفه) بعبارة (الموسيقى شعورٌ، لذا، فهي ليست صوتاً) وسرعان ما فهمتُ أن بوب تنتابه فترة صمت حين لا يشرب وفترة صخب حين يشرب. وبين كل فترة صخب وأخرى ستة أو ثمانية أشهر. وكنا جميعاً ننتظر تلك الفترات الصاخبة، فباستثنائها يصبح الاقتراب منه متعذَّراً تماماً.
دأب بوب على التجوال والتسكُّع بإصرار كبير، مما جعلني دائم التساؤل ترى إلى أين يذهب؟ ذات يوم راقبته عبر نافذة (أضواء المدينة) وقررت أن أتبعه، تاركاً بيني وبينه مسافة كافية بحيث لا يراني. مشى عبر شارع (كولومبوس) نحو (كيرني) ثم عبر جنوب (شارع التسوق) مجتازاً عشرات المباني الأخرى حتى وصل إلى الحي الصيني. كانت أرصفة خليج سان فرانسيسكو القديم هذه، تمثل له نوعاً من الديار. وقف ملتصقاً بالسياج المحاط بالأسلاك لأكثر من ساعة، وهو يراقب السفن ترسو أو تبحر، أو تحمّل أو تفرّغ حمولتها، عندها رأيتُ بداخله البحار القديم -الفتى الذي أبحر وهو في سن المراهقة وأمضى سبع سنوات على متن السفن، سافر خلالها حول العالم وقضى إجازة الرسو في موانئ غريبة مثل كلكتا، حيث أمضى فيها خمسة أسابيع. وقد توصَّلت لمعرفة هذا الجزء من حياته من زميل له بحار ومحارب قديم في الحرب الأهلية الإسبانية، وهو شخصية شرسة وجامحة يُدعى (هنري توماس) عرف عنه شربه (للروم) من نوع 151. في حانة (سافوي تيفولي) بشارع (غرانت) واشتهر بغناء نشيد (الأممية) وسواه من الأناشيد الشيوعية حبن بسكر. أخبرني هنري هذا أن بوب عرف بتوليه أصعب المهمات، مثل تسلق السارية أثناء العاصفة لربط حبال الصواري.
خلال إقامته في (نورث بيش)، كان بوب يعتاش على حوالة زهيدة من المعونة الحكومية. ففي بداية الشهر غالباً ما أراه يتناول وجبة الإفطار، وجبته الوحيدة في اليوم، على الطاولة الأمامية القريبة من المطبخ وهي الأثيرة لديه في مطعم صغير يسمى (كورلي) يقع على تقاطع شارعي (كرين) وكولومبوس. وما إن يحل منتصف الشهر، حتى تنفد وجباته المعتادة ويضطر لتدبير عيشه لبقية الأيام على ما يمكن أن يستجديه من الأصدقاء. ذات يوم أقبلَ نحوي قائلاً: (مرحباً يا ريموند، هل يمكنني الحصول على دولار) لم يكن قد مضى على تعارفنا وقت طويل لذا فوجئتُ بأنه يعرف حتى اسمي. أتذكر أنني رحتُ أردِّد في داخلي بذهول وأنا أعطيه المال، (لقد تلفَّظَ بوب كوفمان باسمي للتو.) وبعد أسبوع، اقترب مني وقال، (مرحباً ريموند، هل يمكنني الحصول على خمسة دولارات؟) فأعطيته. وبعدها بأسبوع أقبلَ نحوي وطلب عشرة -وفي الأسبوع الذي تلاه، عشرين. في المرة التالية التي رأيته فيها اقترب بعفوية وسألني (مرحباً ريموند، هل يمكنني الحصول على مائة دولار؟) ضحكتُ، وضحك هو أيضاً، وانخفض بعدها المبلغ الذي يطلبه إلى خمسة.
في تلك الأيام، جعلت مهمَّتي تتركز في جمع أكبر عدد ممكن من قصائد بوب المتناثرة، استنسخها من مجلات قديمة مثل (بيتتيود) أو أحصل عليها من أصدقاء له احتفظوا بقصائد كتبها على المناديل والقصاصات الورقية. وكانت دليلي في هذا زوجته، (إيلين كوفمان) التي كانت سبباً في الحفاظ على القصائد التي ظهرت في (عزلة مكتظة بالوحدة) وكانا منفصلين آنذاك: فهي لم تستطع السيطرة على سلوكه وهو غير قابل للسيطرة أصلاً. احتفظتُ بهذه القصائد في ملفّ، على أمل أن أنشرها ذات يوم في كتاب يضاف إلى تراث (عزلة مكتظة بالوحدة) و(سردين الذهبي).
بعد فندق (تيفير) انتقلت للسكن في غرفة في 28 زقاق هاروود (الذي جرى تغيير اسمه لاحقاً إلى زقاق بوب كوفمان) في الغرفة ذاتها التي شغلها بوب لفترة وجيزة، وهي شقة تشاركتها مع الشاعر (نيلي تشيركوفسكي) كان هذا المطبخ مركزاً للحياة الاجتماعية لشعراء (نورث بيتش) حيث يضجُّ منذ الصباح وحتى المساء بأمثال (غريغوري كورسو) و(كيربي دويل) و(هوارد هارت) و(كاي ماكدونو) و(تيسا والدن) و(لورنس فرلنغيتي) وعشرات آخرين. وكان (فيليب لامانتيا) يسكنُ في شقة مقابل الزقاق وكانت نافذتانا تطلّان مباشرة على بعضهما بعضا. وحين يكون (فيليب) في مزاج رائق اجتماعياً، يفتح نافذة شقته ويحيينا، ويعقبها حوار، وفي النهاية (أحياناً بعد ساعة) يأتي لتناول القهوة ويمكث لبضع ساعات. كان بوب مواظباً على الحضور كذلك. وكنت قد علقتُ صوراً له على باب المطبخ إلى جانب نشرات وملصقات لقراءات سابقة. وحين رآها ذات يوم قال مبتسماً وهو ينظر إلى الصور: (هل أنا هذا البطل المحلي؟). وفي إحدى المرات التقط مقطعاً كبيراً من قصيدته (نيسان الثاني) وقرأ قراءةً مُرتجلة. قال لي ذات يوم: (أشعر في هذا الحي أنني في دياري). فحينَ أشعر بالضياع والوحدة، وأسمع بول روبسون يغني مردداً النشيد الوطني السوفيتي في رأسي، ولا أستطيع النوم، أخرج وأتمشى في هذه الشوارع، فأشعر أنني في دياري)
وفي إحدى المرات وبينما أنا في غرفتي أستمع إلى أسطوانة لـ(ديزي غليسبي) مرَّ عليَّ بوب. ودخل وهو يدندن منفرداً-كان يغني معها بتناغم نوتة بنوتة، وبمنتهى الدقة، كما لو انَّ في رأسه نسخة مسجلة عن الموسيقى (وهو كذلك فعلاً). حينها أدركت كم هو ضليع في موسيقى (البيبوب) ومدى رسوخ هذه الموسيقى في صميم عمله. ومذَّاك لم أعاود قراءة أعماله أبداً إلا وأنا أستمع لتلك الإيقاعات المركبة، بألحانها المنسابة وتغيراتها المتموجة: لقد سطا على جوهرها بأذنيه. لكن يمكن قول الشيء ذاته عن العديد من التأثيرات الأخرى التي استوعبها بمجملها ثمَّ صيَّرها ملكه-فيديريكو غارسيا لوركا، على سبيل المثال. وثمة الكثير من هذا القبيل لا يزال ينتظر استنباطه من شعره.
أحياناً، حين يكون بوب في مزاج رائقٍ، كنت أزوره في فندق (دانتي) كانت غرفته تقع فوق ملهى (الكوندور) مباشرةً. وكنا نتشارك لفافة ماريجوانا ونتصفَّح كتب الفن، التي يمتلك مجموعة رائعة منها مكدسة أكواماً على الأرض اعتاد أن يشتريها من مستودع الكتب المستعملة في الطابق السفلي في (برودواي) (وهذا هو التبذير الوحيد الذي عرفته يسرف فيه حقاً) لقد أحب (بيكاسو) (وميرو) و(كلي) و(فان غوخ) والانطباعيين. أتذكره وهو يحدق بصمت لفترة طويلة جداً في صورة للوحة (المقهى الليلي) لفان غوخ، ليعلق أخيراً وهو يشير إلى الفضاء: (فان غوخ هناك، إنه هناك حقاً. أعني، لن يتكرر) كان كتاب بوب المفضل هو (صورة الأسود في الفن الغربي) وهو مجلد تاريخي بعدَّة أجزاء نشرته مؤسسة (مينيل) للمرة الأولى منتصف السبعينيات (نقحه ووسعه لاحقاً ديفيد بيندمان وهنري لويس جيتس جونيور). وفي إحدى المناسبات، صادفَ صورة للوحة على صفحة كاملة لقناع خشبي منحوت من «بينين» بدا شديد الشبه به، وهو ما أكَّده بصمت مكتفياً برفع الكتاب بموازاة وجهه تماماً وهو يعاود النظر إلي. بعد فترة صمت لم أره خلالها لبضعة أشهر، صادفته وسألته عما إذا يرغب بأن نتسلى في غرفته. فأجابني: (رميت الماريجوانا من النافذة) وواصل طريقه مبتعداً.
لدى بوب الكثير من العادات الشخصية الغريبة بعضها يصبحُ مزعجاً للغاية. فإن فتح صنبور المياه، فلن يغلقه أبداً: كل ما يفعله يدير وجهه تاركاً المياه تتدفق. ذات مرة أوصلته بالسيارة إلى حفلة شواء في منزل شقيقه (جورج) في (أوكلاند) وفي المرتين اللتين نزل فيهما من السيارة لم يغلق الباب خلفه. وفي النهاية، عزوت هذه الأمور إلى (عيشه اللحظة).
أحد أكثر الجوانب الحافلة بالإثارة خزانة ملابسه. لم أعرف مطلقاً شخصاً يتمتع بذوق في الأناقة أفضل منه: في نوع الأقمشة وألوان الملابس والقبعات. وكثيراً ما تساءلتُ كيف تسنَّى له تدبُّر كل هذا بدخله المحدود. ذات يوم رأيته وهو يمشي باتجاهي ولفتت انتباهي أناقته الاستثنائية كان يرتدي سترة سهرة بيضاء ووشاحاً حريرياً مقلماً بالأخضر. وفجأة أدركت أنهما سترتي ووشاحي-فقد داهم لتوه خزانة ملابسي في (زقاق هاروود). فابتسم وحياني بترحاب كبير ثمَّ تابعَ طريقه.
رغم أن سيرة حياة كوفمان عادة ما تقرأ بمأساوية خالصة، فهي حافلة بتعرضه لاعتداء الشرطة والسجون والحجر القسري، إلا أنَّ صحبته تزخرُ بالكثير من المرح والمتعة. وكثيراً ما ذكرتني الطريقة التي يجسِّدُ بها الفكاهة في لغة جسده بممثلي الأفلام الصامتة: كباستر كيتون أو هارولد لويد، كان ضئيل القامة لكن بمنتهى القوة. ذا حس عالٍ بالكوميديا الجسدية وإحساس مرهف بتوقيتها، زاخراً بالاستجابة الجسدية المزدوجة والمفاجأة المتهكمة. ذات مرة دخل إلى (مكتبة أضواء المدينة) بينما كانت سيارة في الشارع تطلق الشرر والصوت من العادم، ودون أن يفوِّت أية لحظة، أمسك قلبه واندفع مترنحاً عند الباب وهو يصرخ، (لقد أطلقوا النار على بوب كوفمان!) كانت تعليقاته مقتضبة عادة ومشحونة غالباً بإحساس كثيفٍ باللامعقول. أتذكره جالساً مع غينسبرغ على طاولة مقهى مستغرقاً بالصمت لقرابة ساعة ثم نظر فجأة إلى الأعلى وأعلن باندهاشٍ: (المريخ كوكب أحمر!) حينَ تعرفتُ عليه لأول مرة، استجمعت الشجاعة لأسأله عما إذا كان لا يزال يكتب. فأجاب: (أحياناً أرغب بالغناء، لكني أعاني من التهاب حنجرة الروح)
عام 1979، قمنا أنا و(نيلي) بتحرير عدد خاص لمناسبة الذكرى العشرين لصدور مجلة (بيتتود) خصِّص عن كوفمان الذي شعر كلانا بأنه جرى إهماله تجنياً وعن سابق إصرار. كان بوب قد شارك في تأسيس المجلة عام 1959، لكنها توقفت بحلول عام 1979. أشار (بيير ديلاتر) الذي ساهم في نشر المجلة مع كوفمان، إلى هذه اللعبة على أنها (لعبة مقامرة سائبة) لأنها تعني أنَّ كلَّ من يريد إعادة طباعة مجلة فهو مباح له. كان نشر عدد الذكرى السنوية هذا بداية لإعادة الاهتمام ببوب، وهي المرحلة التي انتبه فيها الجيل التالي لأعماله فتجمَّع ثلة أو أكثر من الشعراء الشباب حوله. في الواقع، بعد فترة وجيزة من نشر العدد والترويج له مع قراءات مختلفة شارك فيها، صادفته في إحدى الحانات بعد ظهر أحد الأيام. فقادني من ذراعي وقدَّمني إلى صديق، وأعلن بفخر (وبشكل غير معهود تماماً): (هذا الشيء بدأناه في الخمسينيّات، هذا جيل البيت، وهو لم ينتهِ منتكساً في ذلك الزمن، إنه مستمر.) وهذا المعنى بالضبط هو ما اقتبسته من عزرا باوند لأستشهد به في مقالتي بالمجلة عن كوفمان: (أن نجمع من الهواء الطلق تراثاً حياً، أو من عين عجوز حادة، اللهب الذي لا يخمد).
في صباح باكر من أحد الأيام وبينما أنا في طريقي إلى (مقهى تريستا) صادفتُ بوب يجرُّ خطاه بتثاقل على الرصيف، ويتمتم بشيء عن نجاته من جحيم دانتي. فظننتها جزءاً من طريقته المعتادة في التحدث بالاستعارات. وبعد ساعة أخبرني أحدهم أن فندق دانتي، حيث يقيم، قد احترق بالفعل. ففكرت فوراً بغرفته الصغيرة، وفقدان كتب الفن، وسواها من أشياء، ثم تساءلت عن مصير قصائده. لم يكن لدي أدنى فكرة عما إن كان يكتب في تلك السنوات فهو لم يصرح بذلك مطلقاً، لكن الاحتمال ظلَّ قائماً. ثمة غريزة دفعتني للإقدام على بعض الخطوات. انتظرت مغادرة فريق الإطفاء بعد إخماد الحريق في المبنى، واجتزت الحواجز التي وضعتها الشرطة. كان الفندق واسعاً وذا غرف كثيرة، لكن لحسن الحظ كنت أعرف مكان غرفته بالضبط. ووجدتها أكثر أجزاء المبنى احتراقاً؛ في الواقع، ربما بدأ لحريق من غرفته بالفعل. أدراج خزانته أصبحت مجرد كومة صغيرة من الفحم. نقَّبت في الأشياء التي لم تحترق، المسكوكات والأيقونات الدينية. وفي الجزء السفلي من الكومة كان هناك مغلف جلدي سميك منقوع بمياه الإطفاء. تفحَّصتُ ما بداخله ولمحتُ صفحات تحمل خط يده المميز بالأحرف الكبيرة والصغيرة. أخذت المغلَّف وسرتُ عبر الشارع إلى مكتب (أضواء المدينة) حيث عملت محرراً مساعداً لبضعة أشهر. أفردت صفحات المخطوطة بعناية ونشرتها في أرجاء المكتب في الطابق العلوي. ما زلت أتذكر مظهر الذهول على ملامح فرلنغيتي حين وصل للعمل حوالي الساعة العاشرة صباحاً. بالنسبة للقلة منا كان كوفمان يمثل عبقرية شعرية حقيقية، فبدا الأمر كأنه باب انفتح إلى ضريح الملك توت عنخ أمون. أذن فهو يكتب طوال تلك السنوات، وكانت القصائد تحمل بصمات ذلك العقل والخيال الذي لا تخطئه العين:
أَنا كاميرا
(الشاعرُ مُسمَّرٌ على
العظامِ المتيبَّسة لهذا العالمِ،
وروحُهُ مكرّسَةٌ للصمْتِ
هو سمكةُ بعيونِ ضفدع،
دمُ الشاعر يجري في قصائدِه، عائداً
إلى أهرامِات العظامِ التي انبثقَ منها.
وموتُهُ نعمةٌ مُدَّخرة
خَلْقاً على أحسن حالٍ.)
وما إن جفَّت القصائد المبللة، حتى بدأت بطباعتها على الآلة الكاتبة. وسرعان ما أدركت أن ما بحوزتي من مواد يكفي لإخراج الكتاب الذي طالما سعيتُ له. وقد شكلت هذه القصائد الجديدة بعد إضافتها إلى ما سبق أن جمعته من قصائد، النصف الثاني مما سيصبح ديوان بوب الأخير، (المطر القديم) (الاتجاهات الجديدة، 1981). لكن الجزء الأصعب في المهمة يكمن في أنني أحتاج أولاً لإقناع بوب بضرورة نشرها. فطالما رفض وبإصرارٍ في كل مرة أتطرق فيها للموضوع. لذا استعنت بإيلين لمساعدتي في الأمر؛ تناولت معه الإفطار وسألته عن السبب. أجاب: (لأنني لا أعتقد أن ذلك سيحدث). ففهمت أنه كان يدرأ عن نفسه خيبة الأمل، لذلك أرسلت المخطوطة إلى (فريد مارتن) و(غريسلدا أوهانسيان) في (الاتجاهات الجديدة) فقبلوها على الفور. بعد ذلك بوقت قصير، حاصرت بوب في الشارع في صباح أحد الأيام لأطلعه على مسودات البروفات الطباعية والعقد، ومما أراحني أنه وقع العقد بسرعة. وكان بحوزتي أيضاً مخطوطاته التي طالها الحريق، فحاولت إعادتها إليه. فقال: (لا أريدها) ثم غادر فجأة. صدر الكتاب مع صورة رائعة لبوب على الغلاف بكاميرا (إيرا نوفينسكي) يظهر فيها مرتدياً عباءةً مكسيكية، وهو يقف باهتمام لافت في (كوفي غاليري).
وجود إصدار جديد، أتاح لبوب أن يكون مؤهلاً للحصول على منح شعرية، لذلك ملأت طلباً للحصول على المنحة الوطنية للعلوم الإنسانية، وأرفقت معه القصائد المطلوبة، واستطعت الحصول على توقيعه. وبعد حوالي ستة أشهر جاءني في الشارع. (ريموند، هذا الشيك ليس صالحاً) كان الشيك من وزارة الخزانة الأمريكية بقيمة 12500 دولار محرراً باسم بوب كوفمان. لكن البنك رفض صرفه لعدم وجود حساب مصرفي لديه. عدنا إلى البنك وشرحت للموظفين إن جزءاً من صلاحيتهم كمصرف صرف شيكات الخزانة الأمريكية، بغض النظر عن علاقة المستفيد بالبنك. فأجروا مكالمات هاتفية وبدأ صبر بوب ينفد أكثر فأكثر، وأصر على المغادرة فوراً-بدا واضحاً مدى كرهه لأي تفاعل مع السلطة ومؤسساتها-ووافقواً أخيراً على صرف الشيك. (كيف تريد المبلغ) سأله الصراف. كان بوب يعاني صمماً في إحدى أذنيه وصعوبة في السمع في الأخرى، مما جعله يصرخ إلى حد ما حينَ يتحدث. فصرخ (ماذا؟) (كيف تريد المبلغ؟) (لا أهتم!) قالها صارخاً مرة أخرى. عَدَّ الصرَّاف بسرعة رزمة أوراق نقدية فئة مائة دولار حشاها بوب في جيبه وغادر. خلال بضعة أسابيع تالية، كان كل شاعر في (نورث بيتش) يحظى بسخائه. خزانة ملابسه -التي لم تفتقر يوماً للأناقة – ازدادت أناقتها وامتلأت رفوفها. وفي غضون شهر، عاد للإفلاس، لكنه بدا سعيداً جداً.
في تلك الأيام، كان في كل مبنى بـ (نورث بيتش) حانة، وأحياناً اثنتان أو ثلاث، ولكل منها طابع مختلف وزبائن مختلفون. كان بوب مواظباً تقريباً على ارتيادها جميعاً: كان هناك حانة (الصالون) في شارع (غرانت) وهي حانة يرتادها راكبو الدراجات النارية الشرسون وفيها عزف حي لفرقة بلوز حيث يقضي ساعات عدَّة مع الشاعرة جانيس بلو، صديقته آنذاك. وهناك (كافيه غاليري)، وهي حانة بلوز أخرى كان عازف الجيتار (مايكل بلومفيلد) يحل عليه من حين لآخر؛ وكان هناك (جينو وكارلو) بطاولة البلياردو في صالتها وباعة المخدرات في غرفها الخلفية؛ وكان هناك مقهى (كولومبوس) و(سان ريمو) و(سبيكس) ومطعم أنريكو ذو الأسعار الغالية ويقع في الهواء الطلق في شارع (برودواي) وبجوار (أضواء المدينة) في شارع كولومبوس كان هناك (فيسوفيو) حيث غالباً ما يتناول بوب قهوة إيرلندية في الصباح. ولكن يبدو أن الحانات المفضلة لديه هي ذات الديكور الغريب: حانة (الطراز الهاواوي) عند زاوية شارعي (غرانت) و(غرين) والحانة السويسرية في برودواي، التي بنيت على غرار شاليه للراحة في جبال الألب؛ أو (لي بو) في الحي الصيني، وهي تحفة فنية من الفسيفساء الصينية الزاخرة بالحنين للماضي، سميت على اسم شاعر سلالة (تانغ) الذي يروى إنه غرق وهو سكران بينما كان يحاول معانقة انعكاس البدر في نهر اليانغتسي. كان وجود عدد كبير من الحانات في الحي يعود بالفائدة لشعراء مثل كوفمان أو كورسو، ممن يمكن أن يتحولوا إلى الشغب والصخب بعد بضع كؤوس، وكانوا يطردون أحياناً من مكانٍ أو آخر. في الواقع، في إحدى زياراتي إلى سان فرانسيسكو قادماً من نيويورك، وحين صادفت كوفمان في الشارع واقترحت أن نشرب بيرة، كان عليَّ أن أسمِّي ثلاث حانات مختلفات قبل أن أقع على واحدة مسموح له بدخولها آنذاك.
في السنوات اللاحقة، باشرَ بوب رفقة طيبة ولطيفة، مع (لين وايلد) واتخذت حياته سمة الحياة العائلية – حتى بدا أن أمراً كهذا ممكن.
قبل يوم من وفاته، قام كوفمان بتنظيف غرفته بعناية، وارتدى ملابس بيضاء بالكامل، ووضع بأناة كتابه المفضل عن (الزن) لـ (دي تي سوزوكي) على منضدة سريره، قبل أن ينسلّ بسلام من الوجود.
غالباً ما يعتمد كوفمان في كتابته على الاستعارات التي تبدو استيهامية أو مسرفة في الخيال، بيد أن خلف كل من هذه الصور تكمن تجارب لحياة واقعية، وغالباً ما تكون مريعة للغاية. وبفعل ما تعرَّض له كوفمان من اعتداء بالضرب خلال نشاطه النقابي في أقصى الجنوب، فَقَدَ كوفمان عدَّة أسنان، وفقدَ السمع كلياً في إحدى أذنيه، وعاني من طنين في الأخرى. هذه الحقائق تتخفى خلف رقة بلاغية في قصيدة بسيطة من سبعة أسطر:
مايكل آنجلو الأكبر:
(أعيشُ وَحيداً، كلُبٍّ في شَجَرة،
أسناني تَهْتزُّ كآلاتٍ موسيقيةٍ.
في إحدى أذنيَّ عنكبوتٌ ينسجُ شبَكتَهُ من العينين،
وفي الأخرى صرَّار الليلِ يصرصرُ طوالَ اللّيلِ،
إنها النهايةُ،
ذلك الفَن، الذي يُثبتُ مَجْدي الذي جاءَ بي.
ولسوفَ أَمُوتُ مِنْ أجْلِ الشِّعرِ.)
ستجد ضمن قصائد أخرى (في أعماله الكاملة) إشارات إلى محاولة انتحار (ويليام مارجوليس) الذي ألقى بنفسه من نافذة في بناية في زقاق هاروود، وكذلك ميتات أصدقاء وإلى حالات انتحار عدة عرفها. قصيدة (شارع ميرو) تجسد وصفه لشارع يحمل هذا الاسم نشأ فيه في (نيو أورلينز). بينما يتمحور كل مقطع في قصيدة (أحداث غير تاريخية) حول صديق معين أو ملاح عرفه على متن السفينة -روك غوت تشارلي، وسيندر بوتوم بلو، وريف راف رولف، وليدي تشوبي واين -بينما يصف المقطع الأخير مشهداً مروعاً من طفولته عندما طارده زمرةٌ من الغوغاء. وعلقوه من إبهامه في مستودع ثلج في (لويزيانا) وظل محبوساً فيه وحيداً يكابد العذاب حتى اكتشف في اليوم التالي. الواقع الكامن خلف الاستعارة هو الصمغ الذي يلصق الأجزاء ببعضها البعض. وفي تحويل هذا الواقع يكمن سحر القصيدة.
وأنا أستمتع باستذكار حيوية بوب وحميميّته، لا بد لي من العودة إلى عزلته. فعلى مدى معظم السنوات التي عرفته خلالها، بدا مصمماً على الإبقاء على مسافة تفصله عن المجتمع، والعالم المادي؛ هو فرد استشعر عزلته وإن كان أحدهم معه، كان ذلك واضحاً، وجميع ملاحظاته لي تقريباً وعلى مدى تلك السنين كانت حول هذا المكان: (أعيش في بئر من الوحدة). (لا أدري كيف تريد أن تتورط مع شخص لا يريد التورط في صحبة، لكني لا أرغب في أن أكون شريكاً في صحبة) كتب (والاس ستيفنز) قصيدة عن دوافع الاستعارة. (أريد اكتشاف دوافعي للاستعارة). بالنسبة لكوفمان، لم تكن العزلة مجرد استعارة، ولا حالة إكلينيكية. صمته شاهدٌ على حقيقة أبدية. عزلة قسرية فرضها على نفسه، حاجته إلى الكهف الأعمق حيث يمكن لإحساسه أن يصبح نفسه. إنها المكان الذي انتعشَ فيه شعره بلا أي غرور أو ارتباط دنيوي. ولحسن الحظ، كان يخرج أحياناً من ذلك الكهف ليتحدث إلينا من خلال قصائده.