كانت أخبار معجزات «طومس» الطبية قد ذاعت في كل حصن وبيت وخيمة في بلاد لما تزل حتى نهاية الخمسينيات لا تعرف غير الطب التقليدي، تناقل الناس أخبار عملياته الجراحية التي تخيط البطون وتجبر الكسور وتعيد النور إلى العيون، وكان إجراؤه عملية لعين الإمام محمد الخليلي في نزوى قدرا حاسما في إيمان الناس بمعجزاته الطبية الحديثة، وفي إحياء الأمل في نفوسهم باستعادة أبصارهم التي ذهب بها تفريط الجهل، وزلة الإهمال.
فتحت بنت عامر صرتها القماشية الصغيرة، فرَدَتْ طيات اللحاف ذي الدوائر البنية التي حال لونها، أخرجت منه حجل الفضة الذي ورثته من أمها، والحلق الذهبي الذي أهدتها إياه الثريا في سنة وَفرة، والمصحف الشريف الذي لا تستطيع قراءته، ولكنها أوصَتْ به سلمان لما سافر إلى الحج، وصورة الكعبة المشرفة في ورقة مصقولة، وصورة بُراق النبي: وجه امرأة حسناء وجسد فرس، ولوح كتابة من كتف الجمل يعود إلى أخيها لما كان طفلا في الكُتَّاب، كان قد نجا من حريق اشتعل في بيت أبيها، وأرسلته إحدى الجارات إليها، وهي الجارة نفسها التي أخبرتها لما كانت في العشرين أن أباها رفض رجلا تقدم لخطبتها. فكَّت عقدة صغيرة في طرف اللحاف وبسطت أمامها عشرة قروش من قروش ماريا تيريزا الفضية كانت قد كسبتها من تطريز الأكمام على ضوء قنديل الكيروسين بعد أن يكون منصور قد نام.
أطبقت يدها على خمسة قروش، صرَّتها في طرف لحافها وخرجت للقاء بخش، صاحب شاحنة البدفورد التي تخرج من جعلان إلى مسقط كل شهر، مُحمِّلةً في طريقها البشر والبضائع. رفض بخش أخذها، زعم أن سيارته قد امتلأت فعلا قبل أن تصل لبلدتها، ومازال أمامه طريق طويل وقرى كثيرة، لكن بنت عامر لم تتزحزح من أمام الشاحنة. ظلت واقفة حين كان بخش ومعاونه، ولد الكَز، الملقب بالمعيوْني، يكدِّسَان شوالات الأرز وتنكات الماء، وصناديق البضائع، في كل مساحة ممكنة على ظهر البدفورد. وحين أمسكا بصفائح البنزين أمسكت بنت عامر بصفيحة، صاح فيها بخش: «هذا بترول، لا تلمسيه، ما شيء أي محطات في الطريق»، وانتزع الصفيحة منها. وفي الظهيرة، حين ذهب المعيوني إلى الوالي، ليستخرج تصريحا لدخول السيارة إلى القرى المجاورة، ذهبت بنت عامر في أثره، كانت نعلاها قد اهترأتا ولكنها لم تشعر بلسع الحرارة، وقفت على باب الوالي حتى خرج المعيوني ومعه العسكري المكلف بمرافقته، ومراقبته. سار المعيوني والعسكري وسارت هي خلفهما، التفت لها ولد الكز أخيرا وقال لها: «ما شي فايدة، ما يأخذك بخش»، فأجابته بإصرار: «بتأخذني أنت»، فضحك حتى بدت أسنانه المنخورة: «أنا معاون بس، أشحن السيارة، وأحمِّل البضايع، وأسجل الأسماء، وأستخرج التصاريح، وأطبخ الغداء، وأصلح الأعطال، وأفحص الإطارات»، فأجابته دون أن تبتسم: «أنت اللي بتسجل اسمي». غاظه إنها – في حاجتها إليه- لا تكلف نفسها عناء اللطف، لا تُبدي حتى دهشة مفتعلة إزاء كل ما يستطيع عمله كمساعد سائق وطباخ وميكانيكي وإداري، أقسم لها بالطلاق إنه لا يستطيع إقناع بخش، وأن قائمة الأسماء والأسباب التي من أجلها سيدخل كل اسم مطرح قد اكتملت، وأن سيارة الحمَّالية خطيرة، إن غاصت في سبخة فسيظلون يوما بأكمله يحاولون إخراجها، وإن نفد البنزين سيعلقون في الطريق، وإن تمرد أحد الركاب سيلقون به على قارعة الطريق، وإن غضب الوالي لن يعطيهم تصريحا لدخول البلد. ولما وصلا إلى مناخ السيارة، أراها الرقم المعلق عليها، أشار لها إلى حرف «ب» بجانب الرقم، وأكمل صياحه: «تعرفي ايش هذا؟ تفكي الخط أنتِ؟ هذا حرف باء، يعني «برا»، يعني السيارة برا مسقط، ما مسموح لها تعدي حدود دروازة الحطب في مطرح، وما تعرفي طبعا أن السلطان سعيد بن تيمور يفرض تصاريح على كل سيارة، لو بغينا نبيع تصريح هذه السيارة في السوق السوداء كسبنا أكثر من ثمن السيارة نفسها، وأنت بكل بساطة تبغي تتدخلي في هذي الشؤون الكبيرة وتروحي مسقط»، كان يلهث بسبب الحر، وبسبب نظرتها الثابتة إليه، فتحت العقدة في طرف لحافها ومدَّت إليه القروش الخمسة: «وبأدفع مثل الأوادم».
قبيل المغرب انتهى بخش والمعيوني من فحص السيارة وتحميلها، ركب الركاب الذين جاؤوا فيها، وتقدم الركاب الجدد لتسجيل أسمائهم فوقفت بنت عامر في آخر الصف. زفر ولد الكز في وجهها لكنه لم يتجاسر على طردها، سألها: «سبب السفر؟ «، فقالت بنبرة واضحة: «التداوي مع طومس». واتخذت مكانها في السيارة بجانب قفص دجاج حي، سيُذبح للغداء في اليوم التالي.
بعد ثلاثة أيام وصلت البدفورد إلى مطرح، اجتازت بوابة العشور، حيث تفرض الضرائب على البضائع الواردة والصادرة إلى مطرح، التقت الشاحنة بمثيلاتها القادمات من الشارقة ودبي والفجيرة، الموسومات بحرف الباء، فلم تتعدَ حدود مطرح، أُرسلت قائمة الركاب والأسباب التي قدموا من أجلها للحصول على إباحة للسيارة، وبعد ذلك سُمح للناس بالانتشار، على أن يلتقوا بعد أسبوع في دروازة الحطب نفسها.
أسرع الفلاحون لبيع محاصيلهم من التمر المجفف والليمون اليابس إلى كبار التجار تمهيدا لتصديرها إلى الهند، وأسرع أصحاب الدكاكين إلى سوق مطرح لتزويد دكاكينهم في القرى البعيدة بالأرز والبن والبهارات وصناديق الأناناس المعلب، ومنكهات النعناع، والأقمشة الملونة، والخرز، وأسرع الفتيان في محاولاتهم المستميتة للسفر إلى البحرين للعمل، أو العراق للدراسة، ولكن كان لا بد من الحصول على الجوهرة النادرة أولا: جواز سفر، يسمَّى بالجواز السعيدي، لأن السلطان شخصيا لا بد أن يوافق على إصداره، وأسرع المرضى والمريضات إلى مستشفى الإرسالية في مطرح، الذي عُرف بعد أكثر من عشر سنوات بمستشفى الرحمة.
كان الدكتور ويلز توماس يعالج حوالي ثمانين مريضا كل يوم، وقفت جدتي بقامتها الفارعة، بسنينها التسع والثلاثين، بينهم، تنتظر أن يُنادى اسمها. قالوا لها بأنها سترى الخاتون أولا، فأدخلت على امرأة شقراء بزي أبيض، فسألتها جدتي: «أنت الخاتون؟»، فابتسمت المرأة الأمريكية وقالت بلطف: «اسمي بث توماس»، فشعرت جدتي باقتراب المعجزة، إنها زوجة طومس. ناولتها بث كراسة مطبوعة، أمسكتها جدتي بكلتا يديها كمن يتلقى الهبة الإلهية، لم تقل للسيدة الشقراء إنها لا تقرأ ولا تكتب، وإن هذا الكتاب، الذي ستعرف لاحقا إنه الإنجيل وستضعه في صرتها ذكرى لقائها بطومس، كان ثاني كتاب تمسكه في حياتها بعد القرآن.
التقت جدتي بطومس كما يلتقي المرء القديسين والأولياء ومحققي أحلام البشر، لكن لقاؤهما كان قصيرا، إذ أن طبيب الإرسالية الشهير، مجري العملية الناجحة لعين الإمام قبل بضع سنين فقط، لم يستغرق سوى دقيقتين في فحص عين جدتي العوراء ليبلغها بأن ضرر أعشاب الطفولة نافذ، وأن نورا لن ينبثق من عينها أبدا. أرادت الممرضة أن تقودها إلى الخارج ولكنها رفضت المغادرة، تعاطف معها الطبيب فأعطاها بطاقة كتب عليها اسمها والتشخيص والوصفة: محلول مطهر.
حين أصبحتُ على عتبة العشرين، على سفر، وعلى عجل، وعلى ثقة بالحياة، وعلى رغاب جمة، حين كانت جدتي تحتضر، وكنت ألملم ثيابها وحاجياتها البسيطة، لأخذها إلى المستشفى، عثرتُ على هذه البطاقة، وقرأت في ظهرها العبارة من الإنجيل: «مخافة الرب بداية الحكمة».
حاول أحد القضاة تأجيل رحلة عودة سيارة الحمَّالية، لعل أمله يحيا على الرغم من الرسالة المختومة التي يدسها بين ثيابه، لكن بخش وولد الكز تمسكا بالتوقيت المحدد، فجلس القاضي صاغرا بين أكياس البن وعلب الحلوى، مجاهدا ألا ينظر في وجوه الناس من خزيه، فعلى الرغم من القروش التي تملأ كيسه القماشي، التي جناها من عمله الطويل قاضيا للسلطان سعيد بن تيمور، ومن بيعه سلال البيض وأقفاص الدجاج التي يسوقها المحكوم عليهم إلى بيته ليلا لتخفيف أحكامهم، على الرغم من رنين قروشه، لم يتمكن من علاج عينه المريضة. لقد أخبره توماس صراحة إنه لا يستطيع علاجه في مسقط، ولكنه إن سافر إلى مومبي فسيجد الإمكانات العلاجية، ويمكن إجراء جراحة تنقذ عينه هناك، فأسقط في يد القاضي. كان مسترشيا عتيدا ويملك صرة مليئة بالقروش التي ستحمله إلى مومبي، إلا أنه يحتاج إلى جواز سفر وتصريح من السلطان للذهاب إلى الهند. كتب القاضي رسالة للسلطان، يفصِّل فيها ظروفه، مُلمِّحا أنه يملك المال اللازم، ولا يحتاج إلى غير الجواز والتصريح. وافاه الرد سريعا ممهورا بتوقيع السلطان سعيد بن تيمور الذي لم يخفَ عليه استرشاء الرجل: «لا إباحة للسفر، ونعتقد أن عينا واحدة تكفيك حتى مماتك».
في رحلة العودة انطلقت حنجرة المعيوْني بالغناء، أطعمهم العوال والتمر طوال الطريق، حثَّهم على الشرب من بئر «مقيحفة» حين نزلوا للاستراحة تحت سدرة ظليلة، وحين همست إحدى النساء للراكبات الأخريات أنها رأت في غفوتها طفلها الذي تركته رضيعا لابسًا عقد فل، دمعت عين بنت عامر السليمة، فقد عرفت من الحلم أن الرضيع مات ودُفن.
جوخة الحارثي