نشير بداية إلى أن قراءة حياة الطائي الثقافية تحيل إلى أن أدبه كان ثريا , وقد تنوّع بين أكثر من لون أدبي , فأبدع الشعر والقصة القصيرة والرواية والمسرحية , ولم يقتصر على مجالات الإبداع الأدبي عبر فنون الشعر والنثر , بل دفعه طموحه العلمي والثقافي إلى اقتحام مجالات أخرى ؛ فكتب في التاريخ الأدبي والسياسي , ويعتبر كتابـه « تاريخ عمان السياسي « الأول من نوعه في تاريخ عمان الحديث, كما كتب الأحاديث الإذاعية , وكان يقدمّها من إذاعات الدول التي عاش فيها , كالبحرين والكويت والإمارات , …. وذلك بالإضافة إلى المقالات التي كان ينشرها في مجلات الخليج والوطن العربي , وصحفه . ولعل هذه الكثافة , وهذا التنوعّ في الإنتاج , يعطيان الدلالة الواضحة على أن أديبنا كان غني العطاء , وأنه أشبه بمدرسة فنية وثقافية رائدة مهّدت الطريق لفنون أدبية جديدة , واحتضنت براعم ناشئة , ورعت مواهب شابّة في بداية الطريق ؛ وقد لمسنا ذلك من خلال تلاميذه الأدباء والشعراء والمثقفين الذين لعبوا دورا في نهضة بلدانهم الخليجية على كافة المستويات .
وأمام هذا التنوع والثراء يمكن الوقوف على سمة بارزة ميّزت حياة الطائي وأدبه وهي : أن شخصيته وسائر أنماط أدبه تكون رؤية فكرية واحدة هي الحديث عن الوطن في ماضيه وحاضره , وعن قضايا الأمة وما تعانيه من مشاكل وما يختلجها من آمال وآلام , ومن ثم يبدو أدبه أشبه بسجل كامل للأحداث المختلفة التي مرّت بأمته ، وبالعالم العربي ؛ إذ عايشها هو وتفاعل معها تفاعلا مباشرا وغير مباشر .
لقد أثبتت دراستنا المستفيضة – لأدبه وفكره وحياته – ريادته لفنون أدبية على مستوى الأدب العماني , إذ كشفت عن أوليته في كتابة النصوص المسرحية في بلده عمـــان , وذلك عام 1942 , حيث تم لنا العثور على مسرحيتيه المخطوطتين « جـابر عـثرات الكـرام « و « بشرى لعبد المطلب « وهذه البدايات كانت مشابهة لمثيلاتها الرائدات في الخليج العربي , وبخاصة في البحرين والكويت .
ومن بين تلك الأنماط الأدبية التي كشفت عنها دراستنا له وتقدمها لأول مرة , فن السيرة الذاتية , فقد عثرنا عليها مخطوطة , وشبه معدة للنشر , وتحمل كثيرا من المعلومات عن حياته وعصره وأنماط أدبه , وأحسب أنه جارى بها زملاءه وأصدقاءه الأدباء الذين عاش معهم في غربته , وشاركهم في حياتهم وأنشطتهم الثقافية والأدبية , ونخص بالذكر الشاعر البحريني الكبير إبراهيم العريّض الذي تؤكد الدراسة أنه الدافع المشجع لأديبنا على ارتياد هذا الفن الجديد .
وتنهي دراستنا أحكامها فيما يخص هذه الفنون الأدبية المختلفة للطائي بإعطاء مجال الحركة ( الرحلات العديدة ) الدور الأوحد في تجلياتها , وأنه هو السبب وراء نشدانها وارتيادها , فمعيشته في بلدان كثيرة , وارتحاله أيضا إليها واطلاعه على ثقافتها , كان له دور في تنمية مواهبه التي أفرزت هذه الكتابة الأدبية المتنوعة .
أمّا فيما يختص بمقالاته التي كتبها , وتميز فيها ، فإننا يمكن أن نقول : إنها كشف عن تنوع وأهمية ولاسيما في المجال الفني , والموضوعي , وقبل أن نتناولهما ، يجدر بنا أن نشير إلى حجمها الكمي والنوعي على النحو الآتي : –
أ – الحجم الكمي لمقالات الطائي :
نالت المقالة من أديبنا عناية كبرى ؛ إذ يبلغ مجمل ما كتبه فيها (281) مقالة , تتنوع بين عدة أنماط أهمها : المقالة الأدبية , والمقالة التاريخية, والمقالة الاجتماعية, والمقالة الدينية, ويمكن بيان حجمها الكمي على النحو الآتي:
المقالة عددها النسبة المئوية
المقالة الأدبية 124 44.1 %
المقالة التاريخية 72 25.6 %
المقالة الاجتماعية 46 16.4 %
المقالة الدينية 22 7.8 %
المقالات الأخرى 17 6.1 %
وترجع بداية كتابة الطائي لفن المقالة إلى مرحلة التكوين ؛ إذ نجد مجموعة من المقالات المخطوطة كتبها حينما كان طالبا في بغداد . وأول مقالة من هذه المقالات عنوانها «في العيد» وقد خطـّها في 18 / 10 / 1940 م, وهناك مقالات أخرى وخواطر كتبها الطائي في هذه الفترة المبكرة من حياته من مثل «وقفة على البحر» وقد ألفها في 2 / 5 / 1942 م, وبعض الرسائل الأدبية المستمدة بعض ملامح المقالة الأدبية , وقد أرسلها إلى الأديب العربي الكبير زكي مبارك عام 1940م .
والطائي غزير الإنتاج في هذا المجال , ويعود ذلك إلى مهنته الصحفية والإذاعية التي ساعدت في إذكاء روح الكتابة المقالية , فلا غرو أن نجد إنتاجه موزّعا بين صحف وإذاعات الخليج والوطن العربي , ولقد تم تتبع هذا الإنتاج على نحو يشير إلى أن الطائي أذاع إنتاجه عبر أربع إذاعات ونشر في ما يقارب من أربع عشرة صحيفة من بينها صحف الخليج ومجلاته : «صوت البحرين» ، و «هنا البحرين» ، و«الكويت»، و«الاتحاد»، و«الرسالة»، وأيضا في صحف الوطن العربي من مثل : «الآداب البيروتية»، و«والأقلام العراقية» ، و«الثقافة السورية» وغيرها .
ولقد جمعت بعض هذه المقالات في كتب عديدة , قام أبناؤه بطباعتها من بعده , وما زال الأكثر منها منشورا في هذه الصحف , وأهم هذه الكتب : «الأدب المعاصر في الخليج العربي» وقد طبعه معهد البحوث والدراسات التابع للجامعة العربية عام 1974م, و أيضا « دراسات عن الخليج العربي « وقد طبع في مسقط في مطبعة الألوان الحديثة عام 1983م , وكذلك « شعراء معاصرون « ونشر عام 1987 م , وأخيرا « مواقف « وصدر في مسقط عام 1990م ، وقد جمعت هذه المؤلفات جميعها مؤخرا في كتاب واحد سمّي بالأعمال الكاملة لعبدالله الطائي .
ب – الحجم النوعي لمقالات الطائي :
يتصل النقد وتاريخ الأدب في مقالات الطائي اتصالا وثيقا , ذلك أنه كدارس للأدب استطاع عبر فترة زمنية قصيرة أن يمد صلته الأدبية بأصول الثقافة العربية , وأن يبذر مقالاته الأدبية في أرضية خصبة كأرضية الأدب العماني , فكان نتاجه منها ظاهرا تبيّنه الأنماط التالية :-
1 – المقالة الأدبية :
تصدرت المقالة الأدبية نتاج أديبنا , وكانت نتيجتها الأولى بين مثيلاتها بنسبة قدرها 44.1 ٪ , وقد دارت حول الموضوعات الأدبية ، وتناولت بعض الكتب والإصدارات الحديثة من دواوين الشعر والروايات والمجموعات القصصية ، واعتمدت على طابع العرض التحليلي المستوحي طابع المناسبة الإعلامية والتوثيق التاريخي .
وقد حظيت المقالة الأدبية بالنصيب الأوفر من الحجم الكمي (124 مقالة) ، وذلك راجع إلى توجهات الطائي الأدبية ، وميوله نحوها بشكل واضح وقد لمسنا مظاهر ذلك أثناء دراستنا لإنتاجه الشعري والقصصي . هذا بالإضافة إلى أن توجهات الصحافة في ذلك الوقت كانت معنية بالإطار الأدبي أكثر من غيره ؛ نظرا للقبول الذي يلاقيه ذلك الإنتاج الأدبي في المجتمع العربي في الخليج دوماً .
2 – المقالة التاريخية :
وقد جاءت في المرتبة الثانية بنسبة 25.6% ، وقد تناول فيها الطائي الموضوعات التاريخية المتصلة بوطنه عمان مثل : «دولة اليعاربة » ، و«الإمامة في عمان» ، و«عمان عبر التاريخ» ، وكذلك المتصلة بالدول الخليجية مثل «عرب الخليج في شرق أفريقيا» ، و«القرامطة في البحرين» ، و«الفينيقيون في الخليج» ، ولم يقتصر في تناوله الجانب التاريخي على فترة معينة ، بل شمل فترات التاريخ، قديمه ووسيطه وحديثه .
ولقد تركزت هذه المقالات التاريخية في كتابه «دراسات من الخليج العربي» ونشر جزءاً كبيراً منها في مجلة «الكويت» وأذاعها من هناك (أي من إذاعة الكويت) على نحو ما اطلعنا علبه بأنفسنا ورأيناه مثبتا في سجلات وأراشيف الإذاعة عام 1989 م .
3 – المقالة الاجتماعية :
نالت هذه المقالة عناية كاتبنا واهتمامه ، وذلك بحكم توجهاته الإعلامية ، التي كان يذكي جذوتها في بادئ الأمر دوره الإصلاحي في المجتمع ، وقد لمسنا مظاهر ذلك أثناء تناولنا للبعد الاجتماعي في قصصه ورواياته ، ويمثل اهتمامه بها المرتبة الثالثة من إنتاجه المقالي محققة ما نسبته 16.4 ٪ من مجموع مقالاته .
وقد تضّمنت مقالاته هذه عرضاً لقضايا المجتمع الخليجي خاصة والعربي عامة ، وما يعتريه من مشاكل تهز كيانه ، إضافة إلى تصوير حضارته وما يختزنه من قيم وأعراف ، وعادات وتقاليد ، ويمكن اكتشاف رؤاها – على سبيل التمثيل لا الحصر – من خلال العناوين التالية : « الجانب الاجتماعي في شعر الكويت « ، « التعليم الحديث في الخليج»، « نحو مجتمع عربي جديد» . وتجدر الإشارة إلى أن هذه المقالات تركزت في كتابيه « دراسات عن الخليج العربي» و «مواقف» .
4 – المقالة الدينية :
عُني الطائي بالمقالة الدينية في إطار توجهاته الإعلامية المستوحية لطابع المناسبة ، من هنا لم يجد مناسبة دينية إلا وحاول تسجيلها أدبياً مستحضراً ما فيها من عبّر ودروس ، ليقدمها عبر وسائل البث الثقافي (الصحافة والإذاعة) . محققاً بذلك طابع الإثارة والتشويق للقارئ والمستمع ، تلك الإثارة التي تلعب المناسبة دوراً مهماً في خلقها لهذا سمّى مقالاته التي جاءت في هذا النمط « مواقف إسلامية « . وقد جاءت هذه المقالة الإسلامية في المرتبة الرابعة ، محققة ما نسبته 7.8 ٪. وأهم العناوين التي تطالعنا فيها : «الحج عبادة والعبادة تهذيب وبناء» ، و « في ذكرى الهجرة» ، و « يوم الجمعة» ، و«كيف أسلم أهل الخليج» ، و «أدباؤنا والإسراء والمعراج».
5 – المقالات الأخرى :
وتشمل المقالات السياسية ، والرياضية ، وبعض الخواطر والحكايات الشعبية التي يوظفها لمعالجة بعض القضايا الاجتماعية ، وقد شكّلت ما نسبته 6 ٪ من مجمل المقالات . وتركـّزت أكثر في كتابه « دراسات عن الخليج العربي» .
هذه هي الخطوط العامة للحجم النوعي والكمي لمقالات الطائي ، وهي خطوط تتم عن مدى اتساع ثقافة الطائي ، وتوحي بمدى تواصله مع الحياة الثقافية والأدبية العامة في الخليج والوطن العربي عبر مساحة جعرافية تمتد من مسقط حتى باكستان مروراً بدول الخليج ، وأيضا عبر مساحة زمنية تبدأ من مرحلة بواكير أدبه الأولى في الأربعينيات من القرن العشرين – حيث مقاله الأول عندما كان طالباً في مدارس بغداد – وتنتهي بمرحلة عمره الأخيرة ، حيث آخر مقالاته منشورة في جريدة «الوطن» إبان عمله في سلك الوزارة عام 1972م . وبين هاتين المرحلتين نلتقي بتلك الكثافة من المقالات المختلفة ، ولاسيما إبان عمله في البحرين ، محرراً في مجلة «هنا البحرين» ومذيعاً في إذاعتها . وأيضاً عمله في الكويت رئيساً لتحرير مجلة الكويت ، ومذيعاً في إذاعتها .
ج – أهمية مقالات الطائي الأدبية ، ومكانتها في التجربة العمانية :-
لعل استقراءنا السابق لحياة عبدالله الطائي وتنقلاته الكثيرة ، يمهـّد لنا الطريق نحو معرفة أهمية مقالاته ومكانتها في الأدب العماني ، وهي مكانة تنبع أساساً من جهوده في خدمة الثقافة العمانية ، فهو في كل مكان قطنه استطاع أن يكسب منه معارف جمّة ، وأن يضيف إليه حصيلة تفكيره ، ووعيه بقضايا الأدب والثقافة العربية عامة.
ولقد خرج بأدب وطنه من إطار الانعزال الجغرافي إلى مناخات تشمل أسفارا قصية , و أبعادا زمانية ومكانية بعيدة عبر خلالها أقطاراً ، وتآلف مع ثقافات متنوعة ، وأسفرت محاولاته تلك – في كسر ذلك الحاجز المخيم على الأدب العماني خلال العهود السابقة – عن فرصة أولية لإيجاد مناخات متفاعلة بين هذا الأدب وسائر الآداب الأخرى ، ولعل الدراسات التي أتت من بعده كشفت معالم هذا الدور الريادي الذي قام به الطائي وحده ؛ ففي الوقت الذي منحت فيه الدراسات العربية ، ولاسيما كتب تاريخ الأدب مساحة أكبر من التعريف ، والتحليل ، والتاريخ لآداب الدول العربية الواقعة في الوسط الجغرافي من خريطة الوطن العربي (أعني بها دولاً من مثل مصر ، والشام ، والعراق) . أغفلت الدول العربية الواقعة في أطراف هذه الخريطة ، وتحمل أدباء هذه الدول ومفكـّروها وحدهم مشقة البحث والتنقيب في تراث بلدانهم الأدبي والفكري عامة على نحو ما يقول الدكتور أحمد درويش في كتابه « مدخل إلى دراسة الأدب في عمان « ، وكان عبدالله الطائي واحداً منهم ، إذ أن مكانة دراساته ، ومقالاته تنبع من كونها جاءت في وقت ندرت فيه الكتابات عن تلك البلاد ، نتيجة لبعض الظروف السياسية المتردية التي أحاطت بوطنه في فترة الخمسينات والستينات من القرن العشرين .
د – خصائص مقالات الطائي :
اكتسبت مقالات الطائي خصائص فنية وموضوعية إلى جانب أهميتها السابقة ؛ إذ أن حجمها المتسع ساعد على فهم أكثر للفكر الثقافي والأدبي ليس في عمان وحدها ، وإنما في منطقة الخليج كلها في الربع الثالث من القرن العشرين . ولم يكن ذلك الاتساع مثار مشكلة فنية تؤرّق مقالات الطائي أبدا ، فقد كان الأدب العربي يتمتع بهذا القدر من الاتساع التاريخي والجغرافي ، ويمكن معالجته بهذا الشكل المنهجي المعتمد على تحقيق معادلة انتقالية لا تخل بجودته الموضوعية والفنية .
والذي يتتبع ما كتبه الطائي – كما يقول الدكتور أحمد درويش عنه في كتابه السابق – يجد أن هناك ملامح وخيوطاً دقيقة ، تنظم كثيرا من جزئيات هذا الأدب الذي يبدوا مفرقا .ويمكننا معرفة هذه الخيوط من خلال خصائص المقالة الأدبية التي أوضحتها نصوصها المنشورة في كتبه الصادرة ( دراسات – شعراء معاصرون -مواقف – والتي يمكن أن نجملها موضوعيا في الطوابع الآتية ( 9 ) : الطابع الاعلامي , والطابع الشمولي , وطابع الوعي القومي المنفتح, وطابع الاهتمام بسمات المغايرة والتفرد في تجارب الشعراء، وطابع الاهتمام بسمات المغايرة والتفرد في تجارب الشعراء ، طابع التواجد والحضور، وطابع تتبع الأحداث الأدبية ، وطابع وحدة الأهداف والتطلعات الفكرية في الاختيارات الأدبية ، وأخيرا طابع الاهتمام بمظاهر اللقطة المثيرة المدهشة.
أمّا الخواص الفنية : فتقتضي دراسة مقالات الطائي الأدبية تصنيفها وفق طبيعتها التي وردت عليها , إذ تقاسمتها سمتان : المقال الصحفي , وهو الذي توجّه به الكاتب للقارئ العربي عن طريق الصحف والمجلات والدوريات والأحاديث الإذاعية , وهو الذي ينشط به الطائي حلقات في الإذاعة المسموعة في دول الخليج العربي , ولا تخفى الفوارق بين الصنفين , إذ الأول معدّ للقراءة , في حين أن الثاني موجّه للاستماع , ولكل خصائص تميزه , فالمقال الصحفي يصدر عن أناة وتؤدة, ويخضع لمقتضيات الكتابة منهجا ومضمونا , في حين أن «الحديث الإذاعي» قد يرتبط في كثير من الأحيان بالسرعة والإرتجال الذي تقتضيه اللحظة أو المناسبة على نحو ما يشير النقاد الصحفيون أمثال الدكتورعبداللطيف حمزة في كتابه « المدخل إلى فن التحرير الصحفي» .
من هذا المنطلق , تعلقت مقالات الطائي الإذاعية بالمواقف العامة , والمناسبات الدينية والوطنية والاجتماعية المحلية منها والعالمية , واتخذت في جانب كبير منها بعد الوعظ والإرشاد من خلال استخلاص العبر وبيان الحكم ، و توظيفها في تقديم ما يراه مذيعها من خلل أو خطأ في الحياة العامة للمستمع .
هذا التوجه , فرض على الطائي نهجا محددا فيها , فهو يبدأ عادة بتأطير المناسبة مبرزا أهميتها لتتحول بعد ذلك إلى وصفها وتجلية خصائصها , منتهيا إلى الأبعاد الحضارية , أو الأخلاقية التي تحيل عليها , وقد تكرر هذا المنهج أثناء تعاطي الطائي مع جملة من الأحداث , أو المواقف التاريخية شأن شهر رمضان , أو الحج , أو الحرب العالمية الثانية , أو غزوات الرسول ( ص ) ومناسبات العالم الإسلامي ومواسمه .
إن هذه المقالات الإذاعية إن صحّت تسميتها بذلك قد كشفت جانبا مهما في تكوين الطائي الثقافي , إذ يبدو من خلالها ملمّا بالمحطات الكبرى في التاريخ الإسلامي والعربي قديمه وحديثه , وهو إلى ذلك يتخذ من التاريخ سبيلا إلى قراءة الواقع المعاصر , وتهذيب بعض المناحي فيه , ثم إنها إلى جانب ذلك أكدت الوعي التاريخي للرجل , والذي يبدو واضحا في ربطه بين مختلف مراحل تكون هذه الأمة , وقراءته للتراكمات الحضارية وما آلت إليه من نهايات وسياقات جديدة .
أمّا المقالات الأدبية , فقد نحت منحى آخر , عمد فيه الطائي إلى إنعاش الذاكرة الأدبية الجمعية من خلال التركيز على نماذج لم تصل إلى دائرة الضوء في الدراسات الأدبية لأسباب مختلفة , فاكتسب عمله بذلك أبعادا جليلة , ليس أقلها بعد التوثيق التاريخي لجانب مهمل من الموروث الأدبي , ثم إخضاع تجارب أدبية أسقطتها الذاكرة للنقد والتحليل من زوايا معينة وإعادة الاعتبار إليها بعد أن طالها النسيان , في هذا السياق نستحضر مقالات عديدة للطائي اعتنى فيها بعدة شعراء وصحافيين أمثال : « عبدالله الخليلي» , و«أبو سلام الكندي», و«نصر الطائي» وغيرهم .
بيد أن الطائي في مقالاته تلك لم يتوقف عند الأدباء المغمورين في المدونة العربية والعمانية , بل تعامل مع أدباء هم في الاعتبار محطات مميزة في الموروث الأدبي شأن : المتنبي ، وابن الرومي ، وابن زيدون وأبي مسلم البهلاني وغيرهم من أعمدة الشعر العربي في العصور الجميلة .
إن مقالات الطائي الأدبية على اختلاف أصنافها إنما تحدّث عن ذات موسوعية اتخذت من منابر الإعلام على اختلافها واعتبرتها أداة فعالة للتوعية والتثقيف.ويمكن إجمال ما تتسم به من خصائص فنية في النقاط الآتية :
1 – تحقق المقال الأدبية خواص المقالة الصحافية , حيث الحجم المحدد ( 10 ) الذي يتساير مع الزمن وطبيعة الأحداث , ومستويات القراء .
2 – يضيف الطائي أبعادا جديدة إلى النص الذي يتناوله , فهو لا يكتفي بإيراد مادته الأدبية من مصادرها ككتب السابقين , أو أفواه الرواة , بل يتدخل في مناقشتها وتحليلها , وتأويلها , وعرضها من عدة رؤى مختلفة تتشابك .
3 – إن الطائي يسعى إلى التقليل من استخدام أحكام المفاضلة والتميز.
4 – يركز الطائي على الجوانب الإيجابية في تجارب الأدباء متغاضيا عنه الهنات والمثالب .
5 – يعتمد الطائي في بعض مقالاته الأدبية على الاستشهادات المتكررة , فهو يقتبس من القرآن الكريم , ويوظف الأشعار والأمثال والحكم , ولكنه لا يسرف فيها , ولا تخرج عن نطاق الموضوع الذي يعالجه , بل تزيده جمالا , وقوة , ورصانة, ودلالة , وتأكيدا ومتعة .
6 – يميل الطائي في مقالاته إلى الإيجاز , والاختصار , والتركيز , وتلك سمة تحتاج إلى مهارة وإبداع.
7 – يركز الطائي على استخدام ضمائر المخاطبة في حديثه عن أية شخصية , وذلك لإثارة انتباه القارئ والمستمع , ودفعه إلى المشاركة الوجدانية سيرا على نظرية التلقي .
هذه هي أهم خواص المنهج البنائي في مقالات الطائي موضوعا وفنا , وهي خواص تفقد الطابع الصارم إلى حد ما , وتنحو بالمقال الأدبي إلى الموقف الانطباعي التأثري المبني على الذوق وطغيان العاطفة .
المصادر والمراجع
والهوامش التوضيحية
*****
نشير بداية إلى أن هذا المبحث مستل بالتصرف من متن كتابنا « عبدالله الطائي حياة ووثائق , ط1 , إصدار رابطة الأدباء في الكويت , 2004 ص( 108 – 114 ) و ( 127 – 129 ), ومستفيدا من كتابنا « عبدالله الطائي وريادة الكتابة الأدبية الحديثة في عمان ,وقبلهما من أطروحتنا لنيل درجة الماجستير , بجامعة السلطان قابوس , 1994 , وبالتالي ما ورد فيه من معلومات يؤول توثيقه إلى مصادر ومراجع هذه الكتب جميعا وأهمها الكتاب المهم الذي كتبه الدكتور أحمد درويش وعنونه بـ « المدخل إلى دراسة الأدب في عمان « , ولسنا هنا بصدد تكرارها لاعتبارات منهجية .أمّا الهوامش التوضيحية فنورد أهمها على النحو الآتي :-
( 1 )- الإحصائيات المبينة في الجدول تشمل المقالات المنشورة في كتبه التي صدرت بعد وفاته ، والمنشورة في كتبه التي صدرت بعد وفاته ، والمنشورة في الصحف ، والمخطوطة التي لم تتضمنها الكتب السابقة
( 2 ) – نجد له في هذه المرحلة مقالات مخطوطة بلغت «ثماني مقالات» أغلبها أدبية وتاريخية .
( 3 ) – في هذه المرحلة تمثل المقالات المنشورة في كتبه المطبوعة ، مثالاً واضحاً على ذلك . انظر الذاكرة الإحصائية لمقالاته ، رقم الملحق (2) (ب) من أصل الأطروحة .
( 4 ) – انظر صحيفة الوطن ، العدد رقم (106) بتاريخ 2 أغسطس 1973 ، وكذلك الاتحاد العدد 13 الصادر بتاريخ 26 كانون الثاني 1970 ص 6.
( 5 ) – انظر الملحق رقم (3) (ب) من أصل الأطروحة.
( 6 ) – انظر الملحق رقم (3) (ج) من أصل الأطروحة.
( 7 ) – أهم تلك الثقافات : ثقافات الهند وباكستان اللتان اطلع عليهما (الطائي) إبان عمله في إذاعة صوت الهند أو تدريسه في كلية اللغة العربية بالباكستان.
( 8 ) – مدخل إلى دراسة الأدب في عمان ، د. أحمد درويش ، ط1 ، المرجع السابق ، ص 89
( 9 )- لقد تناولنا هذه الخصائص وبسطناها بسطا في كتابنا « عبدالله الطائي وريادة الكتابة الأدبية الحديثة مستفيدين فيها من مجمل المصادر والمراجع المثبتة فيها .
( 10 ) – من حيث الحجم تتراوح مقالات الطائي في طولها ما بين أربع إلى ثماني صفحات , وأغلبها يأتي في ست صفحات.
محسن بن حمود الكندي