ما كان بالامكان – وأنا أقرأ هذا العمل- (المقامات العمانية) إلا أن أستحضر الجهد المضني الذي انفقته وأنا أحقق- بصحبة زملاء أجلاء- الصحيفة القحطانية، ومن بعدها كتاب كشف الغمة، فعاودني كل ذلك الاحساس اللذيذ المجهد الذي يكتنف عملية التحقيق، وتلك المسؤوليات الجسام التي تتجاذب المحقق لتبقيه على مسافات متساوية بين نفسه، وبين النصوص التي يشتغل عليها، والمؤلف الأول، فالاشتغال على إخراج نصوص الآخرين يحتاج من المرء أضعاف ما يحتاجه عندما يشتغل على نص من انتاجه هو، تلك هي المسؤولية التي يلقيها على عاتقه من لم يعودوا بيننا، فيُخرجوا نتاجهم كيف يشاءون. وأذكر اني في مكان ما، كتبت عن أهمية تحقيق الأدب العُماني، وإخراج مكنونه من براثن التغييب والاهمال، إذ المخطوط منه ما زال يُقدر بالآلاف، والأهمية التي يمثلها ما زالت سخية تنتظر من يكشف النقاب عنها، فتجلي الكثير من الحقائق، وتعبد دروب المسيرة العلمية في البلاد. فوجدتها سانحة باذخة في كرمها أن يتيح لي الصديقان الأستاذان الجليلان أ.د ضياء خضير ود. كامل العتوم شرف قراءة هذا العمل قبل طبعه ونشره ومصافحة القارئ العربي إياه، كاسراً الحدود الجغرافية التي طالما حكمت على الأدب العُماني أن يبقى أسيرها. وما تشريفي بكتابة بعض كلمات في هذا التصدير إلا كرم سخي من قبلهما، أدرك سلفاً ألا قول بعد الجهد البيّن الذي أطلت الوقوف عليه، لا سيما مقدمته التي اختطاها بروح ناقدة عارفة ببواطن التحقيق وأهواله، فقلت في نفسي: إن هذا لعمري عمل كريم. كريم بتجشمه عناء البحث في فن أدبي أهملته الذائقة العُمانية لزمن طويل لحساب الشعر، وأهمله التاريخ للأدب العماني من بعد لحساب الشعر أيضا، وأهمله التاريخ للأدب العربي لحساب الطبيعة الجغرافية، التي قضت بأن يبقى هذا الركن القصي من بلاد العرب بعيداً عن الأضواء ردحاً من الزمن. فان يتجرد باحثان لكشف ما بقي مخطوطاً منه وغائباً طوال هذه العقود الزمنية أمام القارئ العربي- مع ما يتبعه من كشف لحقائق تاريخية وأدبية، تجعل من هذا النتاج في مرتبة الريادة التاريخية- فهذا مما يستحق تقديراً وشكراً جزيلين. وبعد، فقد بدا جلياًُ ان هذا الكتاب لا يقف إلى جانب أي من وجهتي النظر النقديتين القاضية احداهما بانعدام القيمة الفنية لجنس المقامة الأدبية، وانصرافها إلى الشكل والبراعة اللفظية التي يمتلكها صاحبها على حساب الموضوع، بل ذهاب تلك النظرة إلى أبعد من ذلك حين رأت فيها اطاراً صلباً جامداً وانشاء متكلفاً مرهقاً وحكايات تتوارى خلف الشغف بالاغراب اللغوي والحرص على تسجيل المعارف والعلوم، ولذا فهو غير ملائم للروح الأدبية للعصر الحديث حسبما ذهب محمد يوسف نجم وغيره. ولا يقف – كذلك- إلى جانب تلك النظرة التي تعد المقامة الأدبية جنساً استطاع أن يشق لنفسه طريقاً وسط سطوة الشعر في الأدب العربي، وإن كان ينقصه كثير من العناصر الفنية المعروفة الآن، بل رآه بعضهم- كعبد الملك مرتاض وسواه- انه الجنس النثري الوحيد الذي يمثل وجه الابداع الراقي في العربية بحق، أو الابداع المعترف بأدبيته أكثر بين أدباء العربية الغابرة. ويبدو لي انه من غير الجائز ان انصرف إلى تحديد اطار الغاية التي أرادها هذا العمل دون أن أسجل موقفاً خاصاً مما تقدم، فأقول إن كلا النظرتين ظلمتا فن المقامة الأدبية كثيراً، وحكمتا عليه بالقياس إلى معايير لا ترتبط بفن المقامة في ظروف نشأتها تلك – هذا إذا سلمنا بأن المقامة فن انتهى عهده باستواء نضجه قصة ورواية فأما أولاهما فقد حاكمته بالمقارنة مع التطور الحاصل الآن في الأدب النثري، وكأنها تطلب من الطفل في مهده أن يكون شاباً يافعاً بمقاييس مستقبلية، دون أخذ في الاعتبار ان الشاب الذي تريده كاملاً سوياً لا يمكنه أن يكون كذلك قبل أن يولد طفلاً، والأخرى جمدته في مرحلته الزاهية الحافلة بالاغراب وجميل اللفظ وروعة الصياغة- يوم كان السلطان للكلمة وحدها وللفظ سطوته- دون أن تنظر إلى ما استجد بعده على أنه امتداد له وزيادة عليه، معتمدة دهشة خلقه الأولى، وكأن جنس المقامة الأدبية لدى أصحاب هذه النظرة مقطوع عما لحقه من تطور، ومبتور عن سياقه التاريخي. والحق أن فن المقامة حلقة ضمن سلسلة طويلة من تاريخ الأدب الانساني، ولا ينبغي أن يستثنى من النظر عند تتبع سلسلة تطور الأجناس الأدبية، فيحتاج عند النظر فيه إلى عين أكثر موضوعية، لتضعه في اطاره الصحيح، وتحكم عليه بمقاييسه التاريخية الحقيقية بأن تجعله فناً فاعلاً خارجاً من عباءة الجمود والتصلب. ومع ذلك، لابد من الاعتراف بأن ثمة عوامل جنت على جنس المقامة الأدبية، بعضها عوامل داخلية صدرت من صميم الثقافة العربية، وبعضها الآخر عوامل خارجية. فأما العوامل الداخلية فتمثلت في استنكاف المتلقي العربي من استقبال هذا الفن (الجديد في حينه) باعتباره كلاماً وأباطيل ومجموعة أكاذيب، فامتنع أكثر الأدباء عن المضي فيه خشية اقتراف ذنب اللغو الافتراء، بل – وكما يطالعنا هذا الكتاب- ان بعضهم كان يسارع إلى التوبة والاستغفار بعد كتابته مقامة او اثنتين. وان أولئك الذين عرفوا بتعاطيهم لفن المقامة متهمون في نديتهم وأخلاقهم، ومنعوتون بالشرب وعدم الاستقامة، فلم يجدوا – نتيجة لذلك- حرجاً من الخوض في هذا الفن الذي يعتمد – برأي المتدينين- على الكذب والتلفيق، واتكائه على الكدية والاحتيال والخداع، لكونها موضوعات ثابتة وأساسية في معظم المقامة الأدبية. فعوامل كهذه من شأنها ان تحدّ من تطور هذا الجنس الأدبي الناشئ، وتجعل المتتبع له يلحظ انقطاعه الواضح عن السياق التاريخي لتطور الأجناس النثرية، فضلاً عن أن القدسية التي نالها الشعر العربي في ذلك الوقت لم ينلها هذا الجنس المظلوم. فإذا كان المجتمع العربي يكبر الشاعر منذ جاهليته الأولى، فجعله بمرور الزمن يكتسي شيئاً من القداسة، فليس كاتب المقامات كذلك، لأن الثقافة العربية شعرية خالصة، فكما يغريها اللفظ وجزالته يغريها اللحن وموسيقاه كذلك، وما استطاعت المقامة – الفن الجديد- أن تعوض بأسلوبها المحدث هذه التلازمية الثقافية العربية إلا في وقت لاحق وحديث جدا، اضافة إلى ما ذكرنا من حرمتها الدينية. وقد يقول قائل ان في الشعر كذباً أيضا، وهذا ما لا ينكره أحد، وفي بيت البحتري أكبر دليل على تبرمه بالمترصدين لشعره والمغربلين لصدقه من كذبه عندما يقول: كلفتمونا حدود منطقكم والشعر يغني عن صدقه كذبه غير ان القص كذبه أبين وأوضح، وعوامله المتكاملة المنسوجة من أقاويل صاحبه أظهر من أن تخفى، فكان تحريمه أشد، والخوض فيه لغواً وافتراء، مع ما له من غايات تعليمية وترفيهية وغيرها في كثير من الأحيان، ولكن الطرف مغضٍ عنها ما دام أساسها حراماً، رغم محاولة بعض كتابها الدفاع عن أنفسهم بمقارنتها بالقصص التي تقال على لسان الحيوان والطير. وإلى ذلك لا يمكن تجاوز هذا المقام دون أن أزجّ بمقولة آمنت بها طويلاً مفادها «ان الكاتب الكبير هو كاذب كبير»، وانه لا يمكن البحث عن يقين كاتب أو شكه في ما يكتب من فنون الكلام، كما لا أستطيع أن أقول هذا ولا أذكر لوقيان الشمشاطي قبل ألف سنة وهو يلتمس من قرائه ألا يصدقوه، لأن الحقيقة الوحيدة التي يعرفها انه كاذب، ولكنه الكذب الجميل المتماسك، انه الكذب الأدبي – الابداع الأدبي. وأما العوامل الخارجية التي جنت على فن المقامة، فهي مصادفة أن يولد فن القصة في الغرب، ليلج الأجواء الشرقية بشكله المكتمل تقريبا، واجداً أمامه أقلاماً تستجيب لهبوب رياحه، الأمر الذي أظهره وليداً مكتملاً مقطوع الصلة عن طفولته الشرقية. وعليه فسأكون حذراً جداً وأنا أحاول توصيف الواقع وربطه بما كان، دون أن أدعي أصلاً وفرعاً أو تطوراً ونمواً، فأقول: ربما لو أتيح للمقامة أن تنمو نموها الطبيعي لوصلت إلى المرحلة التي كانتها القصة في الغرب لحظة ميلادها ثم تطورها- هذا من جهة- ومن جهة أخرى فانه لما كان القص هو الأساس الذي بنيت عليه المقامة الأدبية، وكرسته القصة الحديثة من بعد، فليس بعد ذلك مجال لنفي العلاقة بين الجنسين شئنا أم أبينا، فهي العلاقة الفطرية التي تحملها البشرية في أعماقها، وتنحو بها لسرد القصص والحكايات منذ القدم، ليجد فيها المرء أنسه ومتعته وفائدته، وبها ينقل معرفته وخبرته في الحياة، لتتواصل الأجيال عبر هذه السلسلة من الحكايات التي لا تنتهي ما بقي على الأرض بشر. وبعد كل ما سبق، فقد وجدت هذا العمل ينحو لغاية محددة لا يحيد عنها، وقد ابتعد به صاحباه عن الجدل في قيمة المقامة ودورها، وبعدها وقربها من الأجناس الأدبية الأخرى، إذ كان التحقيق جل همهما، ومصب جهدهما، حتى كان كتابهما المؤلفَ الأول الذي يجمع المقامة العمانية خلال عصورها المختلفة بين دفتيه، وقد صهر في مقدمته رؤى المحققَين واضاءاتهما التي تشكل بوابة للقارئ حتى يلج إلى لب العمل المحقق، وإلى ذلك فقد كشف الكتاب من الحقائق الأدبية والتاريخية ما يجعله داعياً لاعادة النظر في التاريخ للأدب العربي فيما يخص فن المقامة، لا سيما عند الاشارة لأصولها وروادها، حتى كان الخليلي خاتما لهذا الباب في القطر العُماني، مؤكدا على قدرته على الخوض في جميع فنون القول، لتتلاشى الدهشة من تخليه عن أهم العناصر التي عرفت بها المقامة الأدبية، وذلك لحساب مجتمعه وثقافته ونشأته الدينية، لتصبح بعض مقاماته معرضاً لغوياً صرفاً يفقد موضوعه في أحيان كثيربة، لتصبح محض خطبة أو جملة من المواعظ. ولما كان هذا الجهد آخذاً مكانه في المكتبة العمانية والعربية، ليشكل لبنة أخرى في البناء الثقافي العماني والعربي، بالنظر إلى نسيجه التاريخية المشكل لرؤاه ووعيه، فان جهداً أكبر لابد أن ينشط في هذا الصعيد، لنستخلص التراث العُماني من الأقبية الرطبة والزوايا المظلمة، فنعكس معادلة الرقم الذي يمثله المخطوط من التراث العماني إلى رقم في كنف التحقيق والنشر. ويبقى الشكر موصولاً لمن تجرد ليرد الجميل، فلم يجد أجمل من الحفر في كنوز هذا البلد فيعيد صوغ جانب من آثاره كجزء من حقوق الأجيال الحاضرة.
باحث وأكاديمي من عُمان