كان مييرز يسافر عبر فرنسا في عربة قطار من الدرجة الأولى في طريقه كي يزور ابنه الذي يدرس في ستراسبورغ. لم يكن قد شاهد الفتى لمدة ثمانية أعوام. ولم تحدث مكالمات هاتفية بين الاثنين في ذلك الوقت، ولم يتبادلا بطاقة بريدية حتى منذ أن انفصل مييرز وأم الولد ـ وبقي الولد معها وسُرِّعَ الانفصال النهائي، كما اعتقد مييرز دوماً، بسبب تدخل الفتى الشرير في أمورهما الشخصية.
كانت المرة الأخيرة التي شاهد فيها مييرز ولده هي حين اندفع الولد فيها كي يضربه أثناء مشاجرة عنيفة. وقفت زوجة مييرز قرب الخوان، رمت صحناً بعد آخر على أرضية حجرة الطعام. ثم انتقلت إلى الأكواب. قال مييرز: «هذا يكفي!” وفي تلك اللحظة هاجمه الفتى. تحرّك بخفة متجنباً الضربة وثبّته لاوياً يده بشدة حول رأسه وفيما كان الفتى يبكي ضربه مييرز على ظهره وكليتيه. ثبّتهُ مييرز وبعد أن فعل ذلك قام بمعظم ما يقدر عليه. خبطه على الحائط وهدد بقتله. كان يعني ذلك. تذكر مييرز نفسه وهو يصرخ: «منحْتُك الحياة، وأستطيع أن أستردّها!»
مفكّراً بذلك المشهد المريع الآن، هزّ مييرز رأسه كما لو أن الأمر حدث لشخص آخر. وهذا صحيح لأنه لم يعد الشخص نفسه. فهو يعيش في هذه الأيام وحيداً وثمة القليل الذي يمكن أن يفعله مع أي شخص خارج عمله. في الليل، يصغي إلى الموسيقى الكلاسيكية ويقرأ الكتب حول أشراك الطيور المائية.
أشعل سيجارة وواصل تحديقه خارج نافذة القطار، متجاهلاً الرجل الذي يجلس في المقعد إلى جانب الباب والذي نام ساحباً قبعة فوق عينيه. الوقت باكر في الصباح والضباب معلق فوق الحقول الخضراء التي تمر في الخارج. بين فترة وأخرى يرى مييرز مزرعة وأبنيتها الملحقة، وكانت كلها مسورة. فكّر أنه من الجيد أن يعيش المرء في منزل قديم مسوّر.
الساعة تجاوزت السادسة. ولم يكن مييرز قد نام منذ أن صعد إلى متن القطار في ميلانو أمس في الحادية عشرة ليلاً. حين غادر القطار ميلانو عدّ نفسه محظوظاً لأنه كان وحيداً في المقصورة. أبقى المصباح مضاء ونظر في كتب الأدلّة. قرأ أشياء رغب بأن يقرأها قبل أن يذهب إلى المكان الذي كانوا ذاهبين إليه. اكتشف الكثير الذي كان يجب أن يراه ويفعله. بطريقة ما، شعر بالأسف لأنه يكتشف أموراً معيّنة عن البلاد الآن، تماماً كما كان يترك إيطاليا خلفه بعد زيارته الأولى والأخيرة دون شك.
وضع كتب الأدلة في حقيبته، ووضع الحقيبة في الصندوق الذي فوق الرأس، نزع معطفه كي يستخدمه كشرشف. أطفأ الضوء وجلس هناك في المقصورة المظلمة وعيناه مغمضتان، آملاً أن يأتي النوم.
بعد ما بدا وقتاً طويلاً، وتماماً حين اعتقد أن النعاس غلبه، بدأ القطار يبطئ. توقف في محطة صغيرة خارج بازل. وهناك، دخل المقصورة رجل متوسط العمر في بذلة سوداء، يعتمر قبعة. قال الرجل شيئاً ما لمييرز بلغة لم يفهمها، ثم وضع حقيبته الجلدية في الصندوق. جلس في الجانب الآخر من المقصورة وعدّل كتفيه. ثم أنزل قبعته فوق عينيه. وفي الوقت الذي انطلق فيه القطار ثانية، نام الرجل وبدأ يشخر بهدوء. حسده مييرز. بعد بضع دقائق، فتح مسؤول سويسري باب المقصورة وأشعل الضوء. بالإنجليزية وبلغة ما أخرى ـ افترض مييرز أنها الألمانية ـ طلب المسؤول رؤية جوازي سفرهما. دفع الرجل الذي مع مييرز في المقصورة قبعته إلى الخلف، طرف بعينيه، ومدّ يده إلى جيب معطفه. تفحّص الموظّف جواز السفر، نظر إلى الرجل بدقة وأعاد الوثيقة. سلّم مييرز جواز سفره. قرأ الموظف المعطيات، وفحص الصورة، ثم نظر إلى مييرز قبل أن يهزّ رأسه وأعاد له الجواز. أطفأ الضوء وهو يخرج. الرجل الذي يجلس مقابل مييرز أنزل القبعة فوق عينيه ومدد رجليه. افترض مييرز أنه سينام مباشرة، وشعر بالحسد مرة ثانية.
بقي مستيقظاً بعد ذلك وبدأ يفكّر باللقاء مع ولده الذي يبعد الآن بضع ساعات فحسب. كيف يتصرّف حين يشاهد الفتى في المحطة؟ هل يجب أن يعانقه؟ شعر بعدم الراحة من هذا الاحتمال. أم هل يجب فقط أن يمدّ يده، ويبتسم كما لو أن تلك الأعوام الثمانية لم تمر أبداً، ثم يربت على كتف الولد؟ ربما سيقول الولد بعض الكلمات: تسرّني رؤيتك. كيف كانت رحلتك؟ وسيقول مييرز شيئاً ما. والواقع أنه لا يعرف ما الذي سيقوله.
سار المفتش الفرنسي عابراً المقصورة. نظر إلى مييرز والرجل الذي ينام قبالته. إن هذا المفتش نفسه ثقب بطاقتيهما من قبل فأدار مييرز رأسه وعاد إلى النظر من النافذة. بدأ المزيد من المنازل بالظهور. ولكن لم يكن هناك أسوار الآن، فالمنازل أصغر وأقرب إلى بعضها بعضاً. في الحال، تأكد مييرز من أنه سيرى قرية فرنسية. كان الضباب ينجلي. وأطلق القطار صفرته وأسرع عابراً معبراً حيث رُفع حاجز. رأى فتاة شابة شعرها مدبّس إلى الأعلى وترتدي كنزة، تقف مع دراجتها الهوائية وهي تراقب السيارات تمر عابرة.
كيف هي أمك؟ يمكن أن يسأل الولد بعد أن يسيرا قليلاً بعيداً عن المحطة. ما الذي تسمعه من أمك؟ وللحظة وحشية خطر لمييرز أنها يمكن أن تكون ميتة. ولكنه فهم عندئذ أن هذا ليس صحيحاً، وكان لا بدّ أن يسمع شيئاً لو حصل هذا بطريقة أو أخرى. عرف أنه لو ترك نفسه يواصل التفكير بهذه الأمور فإن قلبه سيتحطّم. زرّر الزرّ العلوي من قميصه وثبّت ربطة عنقه. وضع معطفه على المقعد الذي يليه. ربط حذاءه، نهض، وسار فوق ساقي الرجل النائم. خرج من المقصورة.
اضطر مييرز أن يضع يده على النوافذ على طول الممرّ كي يوازن نفسه وهو يتحرك إلى الأمام نحو نهاية العربة. أغلق باب المرحاض الصغير وأقفله. ثم فتح المياه وغسل وجهه. دخل القطار في منعطف، وحافظ على السرعة نفسها، وأمسك مييرز بالمغسلة كي يتوازن.
جاءته الرسالة من الولد قبل شهرين. كانت موجزة. كتب قائلاً إنه يعيش في فرنسا وبدأ دراسته العام الماضي في الجامعة في ستراسبورغ. لم تكن هناك معلومات أخرى عن ما الذي استحوذ عليه كي يذهب إلى فرنسا، أو ما الذي فعله أثناء تلك الأعوام قبل فرنسا. وتذكر مييرز أن الفتى لم يذكر أمه في رسالته ـ لم يذكر كلمة واحدة عن وضعها وأين هي. ولكن، بشكل غير قابل للتفسير، ختم الفتى الرسالة بكلمة أحبك، وفكّر مييرز بهذا وقتاً طويلاً. أخيراً، ردّ على الرسالة. وبعد التفكير قليلاً، كتب مييرز كي يقول إنه كان يفكر لبعض الوقت بالقيام برحلة إلى أوروبا. هل يحب الفتى أن يلتقي به في المحطة في ستراسبورغ؟ وقع رسالته وكتب مع حبي، والدك. ردّ عليه الفتى ثم قام بترتيباته. أذهله أنه لم يكن هناك في الواقع أحد، باستثناء سكرتيره وبعض شركاء العمل، شعر أنه من الضروري أن يخبرهم أنه مسافر. دبّر إجازة من ستة أسابيع من شركة الهندسة التي يعمل فيها، وقرّر أنه سيستخدم كلّ هذا الوقت الذي أمّنه في هذه الرحلة. شعر بالسعادة أنه فعل هذا، رغم أنه الآن لا ينوي أن يمضي كل هذا الوقت في أوربا.
ذهب أولاً إلى روما. ولكن بعد الساعات القليلة الأولى، وفيما كان يتجول وحده في الشوارع، شعر بالأسف أنه لم يرتب الأمر مع مجموعة. كان وحيداً. ذهب إلى البندقية، المدينة التي قال هو وزوجته كثيراً إنهما سيزورانها. ولكن البندقية أشعرته بخيبة أمل. رأى رجلاً بذراع واحد يأكل حبّاراً مقلياً، وكان هناك أبنية متّسخة مبقّعة بالمياه في جميع الأمكنة التي نظر فيها. استقلّ القطار إلى ميلانو، حيث ذهب إلى فندق أربع نجوم وأمضى الليل وهو يشاهد مباراة كرة قدم على شاشة تلفزيون سوني ملون إلى أن انقطع بث المحطة. نهض في صباح اليوم التالي وتجول في المدينة إلى أن حان وقت الذهاب إلى المحطة. خطط أن تكون زيارته إلى ستراسبورغ تتويجاً لرحلته. بعد يوم أو يومين ـ سيرى كيف تمر الأمور ـ سيسافر إلى باريس ثم يعود بالطائرة إلى الوطن. كان متعباً من محاولة جعل نفسه يُفهم من قبل الغرباء وسيكون مسروراً بالعودة.
حاول أحدهم أن يفتح باب المرحاض. أنهى مييرز رفع قميصه. ثبت حزامه. قم فتح الباب، ومتأرجحاً مع حركة القطار، سار عائداً إلى مقصورته. حين فتح الباب لاحظ على الفور أن معطفه نُقل من مكانه. كان موضوعاً على مقعد مختلف عن الذي تركه عليه. شعر أنه دخل في موقف غريب وقد يكون خطيراً. بدأ قلبه يخفق حين التقط المعطف. وضع يده في الجيب الداخلي وأخرج جواز السفر. كان يحمل المحفظة في جيب بنطلونه الخلفي. وهكذا لا يزال يملك محفظته وجواز سفره. فتش جيوب المعطف الأخرى. ما كان مفقوداً هو الهدية التي اشتراها للولد: ساعة يد يابانية مرتفعة الثمن اشتراها من حانوت في روما. كان يحمل الساعة في جيب معطفه الداخلي لحمايتها. والآن اختفت الساعة.
قال للرجل المسترخي في مقعده، والذي يمدد رجليه ويغطي عينيه بالقبعة:»عفواً، عفواً». دفع الرجل القبعة إلى الخلف وفتح عينيه. استقام ونظر إلى مييرز. كانت عيناه كبيرتين. ربما كان يحلم. ولكن يمكن لا.
قال مييرز: «هل رأيت أحداً يدخل؟»
كان من الواضح أن الرجل لم يفهم ما قاله مييرز. واصل التحديق به بما اعتبره مييرز نظرة عدم الفهم الكلية. ولكن ربما كان هذا شيئاً آخر، كما ظنّ مييرز. ربما كانت النظرة تموّه المكر والخداع. هزّ مييرز معطفه كي يلفت انتباه الرجل. ثم وضع يده في الجيب وفتّش. رفع كمه وأظهر للرجل ساعة يده. نظر الرجل إلى مييرز ثم إلى ساعته. بدا مرتبكاً. نقر مييرز على وجه ساعته. وضعه يده الأخرى في جيب معطفه وقام بإيماءة بأنه يبحث عن شيء ما. أشار مييرز إلى الساعة مرة أخرى وهزّ أصابعه، آملاً أن يشير إلى أن ساعة اليد طارت من الباب.
استهجن الرجل وهزّ رأسه.
«اللعنة»، قال مييرز محبطاً. ارتدى معطفه وخرج إلى الممرّ. لم يكن بوسعه البقاء في المقصورة دقيقة أخرى. خاف من احتمال أن يضرب الرجل. نظر إلى أول وآخر الممر آملاً أن يستطيع رؤية اللص والتعرف عليه. ولكن لم يكن هناك أحد. ربما لم يسرق الرجل الذي يشاركه المقصورة الساعة. ربما شخص آخر، الرجل الذي جرب فتح باب المرحاض، مر قرب المقصورة ورأى المعطف والرجل النائم، ففتح الباب وفتش الجيوب، أغلق الباب ورحل ثانية.
سار مييرز ببطء إلى نهاية القطار، محدقاً في المقصورات الأخرى. لم تكن مكتظة في طبقة الدرجة الأولى بل كان هناك شخص أو اثنان في كل مقصورة. كان معظمهم نائمين، أو بدوا هكذا. أعينهم مغمضة ورؤوسهم مسندة إلى المقاعد. في إحدى المقصورات، رجل في مثل سنه، يجلس قرب نافذة ويتأمل الريف. حين توقف مييرز أمام الزجاج ونظر إليه التفت الرجل ونظر إليه بحدّة.
عبر مييرز إلى قسم الدرجة الثانية. المقصورات مكتظّة وفي كلّ منها ستة مسافرين والأشخاص، كما استطاع أن يخمّن، أكثر يأساً. كان كثيرون منهم مستيقظين، فالعربات غير مريحة بحيث لا يمكن النوم وأداروا أعينهم نحوه حين مرّ. اعتقد أنهم أجانب. كان من الواضح له أنه إذا لم يكن الرجل الذي في مقصورته هو الذي سرق الساعة فإن اللص هو من هذه المقصورات. ولكن ما الذي يستطيع فعله؟ لا أمل من هذا. تلاشت الساعة. وهي في جيب أحدهم الآن. ولم يكن هناك أمل بأنه يستطيع أن يجعل المفتّش يفهم ما حدث. وحتى لو استطاع، ماذا إذاً؟ شق طريقه عائداً إلى مقصورته. نظر في الداخل ورأى أن الرجل تمدد ثانية واضعاً قبعته فوق عينيه.
خطا مييرز فوق ساقي الرجل وجلس في مقعده قرب النافذة. شعر أنه دائخ من الغضب. كانوا عند أطراف المدينة الآن. المزارع وأراضي الرعي أفسحت المجال الآن للمصانع ذات الأسماء غير القابلة للفظ على واجهات المباني. بدأ القطار يبطئ. استطاع مييرز أن يرى السيارات في الشوارع، وأخرى تنتظر في صف عند المعابر كي يمر القطار. نهض وأنزل حقيبته. وضعها في حضنه بينما كان ينظر من النافذة إلى ذلك المكان الكريه.
خطر له أنه لا يريد أن يرى الفتى في النهاية. صُدم من هذا الإدراك وللحظة شعر بالصغار من هذه الحقارة. هزّ رأسه. في حياة كاملة من الأفعال الحمقاء، ربما كانت هذه الرحلة الشيء الأكثر حماقة الذي سبق أن فعله. ولكن الحقيقة هي أنه لا يرغب برؤية الصبي الذي فصله سلوكه منذ وقت طويل عن عواطف مييرز. تذكر فجأة وبوضوح كبير وجه الفتى حين حاول ضربه في تلك المرة، ومرت موجة من المرارة على وجه مييرز. قضى هذا الفتى على شباب مييرز، وحوّل الفتاة الشابة التي غازلها وتزوجها إلى امرأة عصبية وكحولية كان الفتى يشفق عليها ويضايقها بالتناوب. وسأل مييرز نفسه لماذا سيقطع كل تلك المسافة كي يرى شخصاً يكرهه؟ لم يرغب بمصافحة الصبي، يد العدو، ولا أن يربت على كتفه ويقوم بحديث مختصر. لم يرغب بأن يسأله عن أمه.
جلس في المقعد المواجه لاتجاه السفر فيما كان القطار يدخل إلى المحطة. صدر إعلان بالفرنسية من نظام الاتصال الداخلي للقطار. الرجل الذي في الجانب الآخر من مييرز بدأ بالتحرك. عدّل قبّعته وجلس في المقعد منتصباً فيما جاء كلام آخر بالفرنسية من مكبر الصوت. لم يفهم مييرز أي شيء مما قيل. صار أكثر اهتياجاً حين أبطأ القطار ثم توقف. قرر أنه لن يغادر المقصورة. سيجلس حيث هو إلى أن ينطلق القطار. حين ينطلق، سيكون فيه، ذاهباً إلى باريس، وهذا ما سيكون عليه الأمر. نظر من خارج النافذة بحذر، خائفاً من أن يرى وجه الصبي عبر الزجاج. لم يعرف ماذا سيفعل إن حدث هذا. كان خائفاً من احتمال أن يهزّ قبضته. رأى بعض الأشخاص على المنصة يرتدون المعاطف واللفاعات ويقفون إلى جانب حقائبهم، منتظرين الصعود إلى القطار. كان بعض الأشخاص الآخرين ينتظرون، دون متاع، أيديهم في جيوبهم، وعلى ما يبدو يتوقعون شخصاً ما. لم يكن ابنه واحداً من الذين ينتظرون ولكن بالطبع لا يعني هذا أنه ليس في الخارج في مكان ما. حرك مييرز الحقيبة عن حضنه إلى الأرض وثبت في مقعده.
تثاءب الرجل الذي مقابله ونظر من النافذة. ثم حول تحديقته إلى مييرز. نزع قبعته ومرر يده في شعره. ثم اعتمر القبعة، نهض على قدميه، وسحب حقيبته من الصندوق. فتح باب المقصورة. ولكن قبل أن يخرج، التفت وأومأ إلى جهة المحطة.
«ستراسبورغ»، قال الرجل.
استدار عنه مييرز.
انتظر الرجل لحظة أخرى، ثم خرج إلى الممر بحقيبته، وبساعة اليد كما كان مييرز متأكداً. ولكن هذا كان أقل ما يقلقه الآن. نظرَ من نافذة القطار مرة أخرى. شاهدَ رجلاً بمئزر يقفُ في باب المحطة، يدخّن سيجارة. الرجل يراقب اثنين من رجال القطار يشرحان شيئاً لامرأة في تنورة طويلة تحمل طفلاً بين ذراعيها. المرأة تصغي ثم تهزّ رأسها ثم أصغت قليلاً أكثر. نقلت الطفل من ذراع إلى آخر. واصل الرجلان الكلام. كانت تصغي. داعب أحد الرجلين الطفل تحت ذقنه. نظرت المرأة إلى الأسفل وابتسمت. نقلت الطفل ثانية وأصغت أكثر. رأى مييرز رجلاً وامرأة يتعانقان على المنصة البعيدة قليلاً عن عربته. ثم ترك الشاب الشابة. قال شيئاً ما، التقط حقيبة سفره، وصعد إلى القطار. راقبته المرأة وهو يذهب. رفعت يداً إلى وجهها، لمستْ عيناً ثم الأخرى بقفا يدها. بعد دقيقة، شاهدها مييرز تنزل عن المنصة، عيناها مثبتتان على عربته، كما لو أنها تتبع شخصاً. نظر بعيداً عن المرأة ونظر إلى الساعة الكبيرة فوق غرفة انتظار المحطة. نظر إلى أعلى وأسفل المنصة. لم يكن الفتى في أي مكان في مدى البصر. من الممكن أنه أفرط في النوم أو من الممكن أنه غير رأيه أيضاً. على أي حال، شعر مييرز بالارتياح. نظر إلى الساعة مرة أخرى، ثم إلى الفتاة الشابة التي تُسرع إلى النافذة حيث يجلس. انسحب مييرز إلى الخلف وكأنها ستضرب الزجاج.
انفتح باب المقصورة. أغلق الشاب الذي رآه في الخارج الباب خلفه وقال: بونجور. وبدون أن ينتظر جواباً رمى حقيبة سفره في الصندوق فوق المقاعد وخطا نحو النافذة. «اعذرني». فتح النافذة. قال:»ماري». بدأت الشابة تبتسم وتبكي في الوقت نفسه. رفع الشاب يديها وبدأ يقبّل أصابعها.
نظر مييرز بعيداً وشدّ على أسنانه. سمع الصيحات الأخيرة لموظّفي القطار. صفر أحدهم. في الحال، بدأ القطار يبتعد عن المنصة. ترك الشاب يدي الفتاة، ولكنه واصل التلويح لها فيما كان القطار يتدحرج إلى الأمام.
لكن القطار لم يعبر إلا مسافة قصيرة، إلى الجو المفتوح لفناء سكة الحديد، ثم شعر مييرز أنه توقف توقّفاً مفاجئاً. أغلق الشاب النافذة وذهب إلى المقعد الذي قرب الباب. تناول صحيفة من معطفه وبدأ يقرأ . نهض مييرز وفتح الباب. ذهب إلى نهاية الممر، حيث كانت العربات متصلة معاً. لم يعرف لماذا توقف القطار. ربما حدث خطأ. سار إلى النافذة. كان كل ما استطاع رؤيته نظاماً معقداً من المسارات حيث تُصنع القطارات، وتُنزع العربات أو تُنقل من قطار إلى آخر. تراجع عن النافذة إلى الخلف. قالت اللافتة التي على الباب إلى العربة التالية «ادفع». ضرب مييرز اللافتة بقبضته، فانزلق الباب منفتحاً. كان في عربة الدرجة الثانية مرة أخرى. عبر صفّاً طويلاً من المقصورات المليئة بالناس الذين يجلسون كما لو أنهم يستعدون لرحلة طويلة. كان بحاجة إلى أن يعرف من أحد ما إلى أين سيذهب القطار. لقد فهم، في الوقت الذي اشترى فيه البطاقة، أن القطار إلى ستراسبورغ يتابع إلى باريس. ولكنه شعر أنه سيكون من المذل أن يضع رأسه داخل إحدى المقصورات ويقول: «باري…؟» أو مهما كانت طريقة لفظهم لها، كما لو أنه يسأل إذا وصلوا إلى جهة. سمع قعقعة صاخبة، وتراجع القطار قليلاً، كان بوسعه أن يرى المحطة ثانية، وفكّر مرة أخرى بولده. ربما يقف هناك في الخلف، فاقداً للنفس من اندفاعه إلى المحطة يتساءل ما الذي حصل لوالده. هزّ مييرز رأسه.
صرّت العربة التي كان فيها وأنّت تحته، ثم علق شيء وسقط بقوة في المكان. نظر مييرز إلى الخارج إلى متاهة المسارات وأدرك أن القطار بدأ يتحرك ثانية. استدار وأسرع إلى نهاية العربة وعبر إلى العربة التي كان يسافر فيها. ولكن الرجل الذي مع الصحيفة كان قد رحل. ورحلت حقيبة مييرز. لم تكن عربته في النهاية. أدرك مجفلاً أنهم ربما فصلوا عربته بينما كان القطار في المحطة وربطوا عربة درجة ثانية بالقطار. كانت العربة التي وقف فيها مليئة تقريباً برجال صغار سود البشرة يتحدثون بسرعة بلغة لم يسمعها مييرز من قبل. أشار إليه أحد الرجال أن يدخل. دخل مييرز إلى المقصورة وأفسح الرجال مجالاً له. بدا كأن هناك جواً مرحاً في المقصورة. ضحك الرجل الذي أشار إليه وربت على المكان الذي يليه. جلس مييرز وظهره إلى مقدمة القطار. بدأ الريف الذي خارج النافذة يمرّ أسرع فأسرع. للحظة، امتلك مييرز انطباعاً عن المشهد الطبيعي الذي يهرب منه. إنه ذاهب إلى مكان ما، كان يعرف هذا. وإذا كان الاتجاه الخطأ، فإنه سيكتشف هذا عاجلاً أم آجلاً.
استند إلى المقعد وأغمض عينيه. واصل الرجال حديثهم وضحكهم. جاءتْه أصواتهم كما لو من مسافة. وصارت الأصوات في الحال جزءاً من حركات القطار، وبالتدريج شعر مييرز بأنه حُمل، ثم سُحب، إلى النوم.
\ وُلد ريموند كارفر في كلاتسكاني، أوريغون، سنة 1939، وعاش في بورت أنجلس، واشنطن، إلى أن وافته المنية في الثاني من أغسطس، 1988.
في سنة 1983 حصل كارفر على جائزة ليفنغ لملدريد وهارولد، وفي سنة 1985 حصل على جائرة مجلة بويتري، لفنسون. في سنة 1988 انتُخب في عضوية الأكاديمية ومؤسسة الفنون الأميركية ومُنح شهادة الدكتوراه من جامعة هارتفورد.
تُرجمت أعمال ريموند كارفر إلى أكثر من عشرين لغة.
من أعماله القصصية:
1. من حيث أتصل
2. من فضلك اهدأ، من فضلك؟
3. فصول عنيفة
4. ما الذي نتحدث عنه حين نتحدث عن الحب.
5. كاتدرائية.
اختيرت قصة “المقصورة “ من “كاتدرائية”.
—————————–
ريموند كارفر
ترجمة: أسامة إسبر