بدر الشيدي*
المكان عما قيل بأنه هو سلطان المكونات السردية التي تخضع أمامه جميع مكونات النص. وللمكان حضور متميز في الأعمال الأدبية بشكل عام. وقد وصفه (شارلز كريفال) « بأنه هو الذي يؤسس الحكي لأن الحدث في حاجة إلى مكان بقدر حاجته إلى فاعل وإلى زمن، والمكان هو الذي يضفي على التخيل مظهر الحقيقة «.
إلى جانب أشياء كثيرة في أعمال مبارك العامري، كالمرأة والسفر والترحال والجوانب الإنسانية والوطنية. يبرز المكان كتيمة ومن خلاله نستطيع أن نتعرف على ما يدور في خلد الكاتب أو جزء منه. وما يشعر به وما يتمنى أن يكون. سواء كان نصا قصصيا أو روائيا أو نصاً شعرياً. بالإضافة إلى العناصر الأخرى التي تسبح في فضاء الكتابات.
ويأخذ المكان عند مبارك العامري حيزا وأهمية كبيرة في أعماله المختلفة. بكل ما يمثله المكان بأبعاده المتخيلة والواقعية. والمكان لديه هو مسرح الأحداث والهواجس التي تصنعها الذاكرة التاريخية. وهو العنصر الجمالي الذي يضفي مزيدا من المتعة والألق واللذة على النص وعلى المتلقي . ويبقى المكان عنصرا لا يمكن تجاوزه في أعمال مبارك العامري. ويتبوأ منزلة متقدمة حضورا وفنا.
المكان في أغلب أعمال مبارك العامري بأنه تحدث عن المكان الواقعي، كمكان الطفولة ومرتعها، والمكان المديني .. مكان المدن والشوارع والحانات والمقاهي ومكان القطارات والمطارات، ولم يتحدث عن المكان الريفي والمكان اللامتناهي الفضاء الواسع إلا قليلا.
شغوف بفسيفساء المدن
الممهورة في القلب
حيث امتزاج الأمكنة والاشياء والنفوس النقية في كأس الروح
التواقة أبداً
لاعتناق الجمال ..
لكن ذلك لم يمنع الشاعر الذي السفر في المكان اللامتناهي الواسع، وهو القابع دوما بالقرب من بحر عُمان في مدينة الحيل .. قال عن البحر :
« حين أسير بمحاذاة الموج ينتابني شعور بالتماهي كقطعة من الملح اتخذت قرارها النهائي بالعودة إلى الجذور .. الجذور الموغلة منذ أزمنة سحيقة في خزائن المحيطات. كم هو عنيد هذا البحر كدكتاتور ظلامي .. وكم هو سمج، كمتصوف بوذي .. وفي كلتا الحالتين كم هو غامض حد التوجس .. البحر يا صديقي هذا المتمترس بين ضفتين كمحارب قديم ، أشعر أنه يتذكر ثرثرتي وصراخي علي شاطئه .. لقد اعتدت أن أكلم نفسي حين أكون بمفردي على الشاطئ .. ربما أهذي ، أو أجري مقاربة من الجنون ، الجنون الذي يخيل لي أن ثمة شعرة رفيعة نفصل بيني وبينه، أحاول أن أقنع نفسي بأنه الملاذ الأكثر اماناً وسط ضجيج هذا العالم الزاحف نحو حتفه…» .
وفي كل تلك الأمكنة التي يتحدث عنها نراه وأقفا في زاوية معينة يراقب المكان بعينه ونبض قلبه، يتداخل مع المكان لدرجة التماهي والذوبان فيه، وهكذا في أغلب ما يقوله وخصوصا النصوص الشعرية يمكن لنا أن نكتشف مكانه في المكان.
ولما كان مكان الطفولة هو مكان الانطلاقة الأولى ومكان التأسيس، مكان الألفة ومركز تكثيف الخيال كما قال ( غاستون باشلار ) نرى ذلك في حديثه عن بيته القديم وما يحمله من ذكريات ومعاني جمالية، ظل يحن إليها. ونشاهده بمجرد أن يلامس مصراع الباب ويستدعيه بين الحين والآخر.
يقول :
كلما حركت مصراع الباب
هرولت نحوي طفولتي
مادة ذراعيها النحيلتين
تستقبلني
كما تركتها ذات نهار
يغشاها اليتم
وشظف الأيام
العجاف ..
مرة أخرى لا يخرج من وصف مكان الطفولة والذكريات . وهذه المرة يستدعي المكان من خلال شجرة البيت الوارفة الظلال. نرى ذلك في قصيدته (دوحة البيت) يسترجع الذكريات والحنين، ويقول :
تتعاقب الفصول وفيئها ما زال وارفا
يضفي على الفناء لمسة حانية
نافثا في الفضاء الجحيمي
نفحة خضراء
تغوي النوم فيستكين كملاك في النهارات
يتقاسم الأطفال والقطط ظلها الرطيب
وقبل المغيب بساعة أو ساعتين
تمسي مملكة لنسوة الجوار
ينسجن عبر محيطها الاثيري ثوبا للحكاية ..
يبقى المكان الأول حاضرا في قصيدته، قد يكون حضورا طاغيا أو حضورا رمزيا خاطفا. وهكذا، نراه عندما يعصب به الحنين إلى مكان الطفولة ذلك، يهرع إلى بيته الأول الذي لا يفارقه إلا ليعود إليه، يعود إلى مكانه الاثيري المميز القابع في الذاكرة وينشد له :
حينما يستبد بي الحنين
وتجلدني غربة الرخام
والتكنولوجيا
أهفو بنشوة عارمة
كما نسر مهاجر
نحو بيتنا القديم
مفتشاً
عن رائحتي الأولى
وضحكتي الناصعة ..
ويضيف بولع وهو يخاطب المكان .. البيت .. بتلك اللغة المكثفة ، فيقول :
هنا ولدت
ونشأت
وكتبت أولى قصائدي ..
ومن سطحه
تبادلت النظرات
مع قمر
في الجوار ..
لكنه لا يلبث أن يلقي نظرة الوداع على ذلك البيت المليء بالحنين :
وداعاً بيتنا القديم
لقد تساويت مع التراب
واقتفيت خطى الغائبين ..
يختار مبارك العامري مكانه بشكل دقيق وبوعي ، فينجح في تشكيل المكان الذي يريد.. دائما يأخذ لنفسه مكان يشرف من خلاله على العالم الذي حوله. فيحوله إلى مكان أثيري .. فيسقط مكانه الحقيقي المتخيل وشخوصه على المكان. اتخذ المكان وكأنه مقعد ينظر من خلاله للعالم دون أن يتوغل فيه، يبقى ينظر له ولا يشارك فيه، لا يدخل إلى أتونه وأيضا لا يبرحه، فهكذا في شارع الفراهيدي، ينظر من ثقب صغير في باب الغرفة للخارج لذلك العالم الصاخب الذي يعج بالحركة والتناقض. إنه نوع من التسلية البريئة أو ربما حنين إلى أيام خلت. ( شارع الفراهيدي ص 11).
المكان ليس بالضرورة مكانا ثابتا أو رقعة أرض، هكذا يخبرنا مبارك العامري. فالمكان ربما يمثل بعدا رمزيا آخر في أعمال الكاتب، هو المكان الذي تستقر فيه روح الكاتب، فربما هو مقصورة قطار أو مقعد على ضفاف شارع أو مكان أثيري على كرسي في مقهى في مكاناً ما، أو وطن أو وجه فتاة لمحها على عجل. من خلال ذلك كله يقول ما يخالج نفسه ويضفي وصفه على تلك الأشياء . ففي نص ( وجوه في قطار ) يصف لنا لغث المسافرين والهمسات وثمة شخص يقف (لعلة الشاعر) يبحث عن رفيق يرافقه مشواره.
وفي الداخل لغث متقطع
لمسافرين أدمنوا الإيغال في ثنيات
مغامراتهم الصغيرة
وثمة همسات ماكرة لامرأتين حديثتي العهد
بلغة التخاطب
عبر قرون الاستشعار ..
بعيدا بعض الشيء عن مقاعد
الدرجة الأولى تشخص عينان
باحثتان عن رفيق
يختصر المسافة الموحشة
بكلمة أو ابتسامة.
المكان لديه هو المكان الأثيري الذي ينظر من خلاله إلى العالم الذي حوله، إلى الحياة وكل ما تحمله من مباهج ومتغيرات.. فعندما يجلس على مقهى مثلا في الدار البيضاء أو شارع في الرباط. يرنو للعالم من مكانه. كما في قصيدة له بعنوان (شارع في الرباط ) يصف لنا ذلك الشارع السعيد النابض بالحياة، فيعكس ذلك كله على نفسية المشاهد الغريب الذي قد يمثله الشاعر، الواقف يتأمل ذلك الشارع وتلك الأقمار التي تعبره، فيقول :
سعيد ذلك الشارع
ونابض كقلب يافع حي
لأن ثمة أقمارا تعبر رخامه الصقيل
حاثة الخطى نحو دهاليز المدينة
تسكر الغريب
فيسير على غير هدى
طارداً من تلافيف رأسٍ أثخنته الملمات ذكرى أمسه الغابر ..
وإذا ما وشقته الأعين ببريقها الأخاذ
يتهاوى على أول مقعد في المقهى
فيكثف وصفه للمكان المقهى ويصل ذروته عندما يؤكد بأن ذلك الشارع سعيدٌ. يقول :
سعيد ذلك الشارع بالتأكيد
لأن نبعا من أقمار ينساب فوق رصيفه
برهافة وخفر
وثمة حقل من أزهار يسير على قدمين
سالكا درباً بمحاذاة السوق
نافثا عبيره في الأزقة.
مبارك العامري الشاعر الرحال الذي يهوى السفر والترحال، ويجوب الأماكن وحيدا غالبا، كما قال :
وحيداً أجوب المدن
ويداي فارغتان
إلا من حقيبة وكتاب
فيما القلب بستان حب ووطن لا يشبه سواه ..
لا ينسى تلك المدن والساحات الجميلة المبهجة، تلك التي يشعر بالألفة فيها. معبرا عن ذلك وكأنه يدرك بأنه لن يستطيع الوصول إليها جسديا فيطلب أن يؤخذ إليها ..
خُذوني إلى ساحات المدن البهية
حيث مشاتل الحرية
خضراء خضراء
وأعراس الحب
يافعة ندية كأزهار فجر جديد ..
خذوني لأسترد أملي المفقود
ضوء أناي
الغافي في الأعماق
وصوتي المرهون
لسلالات الاسلاف
ونخب عافيتي ..
للوطن مكان كبير ويتسع في نصوص الشاعر، مكان حاضرا وبقوة، ينشده وكأنه هو ضالته التي لا بد أن يصل إليها مهما تزاحمت عليه الأماكن وتداخلت حوله الدروب والزقاق، يبقى الوطن هو الحضن الذي يضع عليه مبارك العامري رأسه ويستريح من عناء الزمن وصخب الأمكنة.
تأخذنا الجغرافيا
بعيداً إلى أرجاء مترامية
من العالم
لكن أرواحنا
تظل دوماً
رهن وطن
أحببناه
حد الوجد
والتماهي ..
ولمدينة مسقط صرخة مدوية من نوع آخر، تلك المدينة التي لم تغب عن سماء قصيدته وظلت لديه كنبتة يرويها بماء الشوق والحنين، يقول:
لم أسأم مسقط
يوماً
وإن تزاحمت في مرآة الذاكرة
الأمكنة والوجوه
لكن حنيني أبداً
يظل شاهقاً
إلى بيتنا القديم
وأهلي الطيبين ..
زيارة قصيرة لمسقط الرأس
وفي قصيده له بعنوان (مستقر الروح ) التي أهداها لمزون التي أحبها. ومزون كما نعرف هي رمز للوطن، وأحد الأسماء التي تطلق قديما على عُمان. الوطن المكان الذي ظل قابعا في مخيال الشاعر. يقول مخاطبا مزون :
كلما جئت لاهثا
مغسولا بالتعب
تفتحين صدرك الوثير
كخان تقطنه المحبة ..
وكلما اشتهيت أن أصنع وطنا صغيرا لأحلامي المبعثرة
تفرشين أهدابك سجادة تستقر عليها الروح.
أنت الشاهقة دوماً
كمسلة نحتتها النسور وأصقلها الوجع ..
إلى أن يقول :
نحن أبناؤك الأبرار
الذين لوحتنا الصحراء
ودوختنا أعين المها
نقف اليوم
كناي تزأر فيه الريح
وكشجرة هرمة
منذورة للغبار.
سلاما لك أيها الشاعر الذي سيظل في نفوسنا وذاكرتنا للأبد .. سلاما لك لقصيدتك التي ستبقى نابضة بالحياة، كما كان قلبك المليء بالحب والسعادة.. قلبك الذي تركته ذات يوما كما قلت .. تركت قلبي في بعض الموانئ .