تستند دراسة إنتاج المبدع الأستاذ عبد الكريم غلاب إلى عدة معطيات أساسية في تاريخنا الثقافي. أهمها تنوع اهتماماته ومشاغله الفكرية والإبداعية؛ بين القصة القصيرة والرواية والفكر والتاريخ واللغة والقانون والمقال الصحفي. يضاف إلى ذلك أنه يعتبر من الرعيل الأول الذي واكب وما يزال تحولات الثقافة المغربية، وتنوع أجيالها واهتماماتها وحالات تقلبها. كما أن الأستاذ عبد الكريم غلاب رائد من رواد الرواية المغربية. فلا يمكن دراسة السرد المغربي المعاصر، وخصوصا الرواية المغربية الحديثة دون التطرق إلى روايتيه «دفنا الماضي«و«المعلم علي». وتعتبر الرواية الأولى «دفنا الماضي» حجر الأساس لهذا النوع الإبداعي. والهم أنه يبرهن على توجه الكتابة عنه نحو المجايلة والمعاصرة.
1/ مبدأ الملاءمة ومبدأ الانشطار:
إن كان عبد الكريم غلاب قد أبدع وأجاد في روايتيه «دفنا الماضي» و«المعلم علي»، ووضع بالتالي للرواية المغربية أساسها الصحيح. فإنه في «شروخ المرايا» أبرز قدراته الفائقة على توليد الأفكار، وقدرته على الإمساك بروح المرحلة. أقصد مشاغل الشباب الحائر بين العاطفة الإنسانية والرغبة في العمل وإكراهات المجتمع الحديث. والإحباط والقلق الوجودي الذي يتملك الشباب في نهاية القرن العشرين وعلى مشارق الألفية الثالثة.
1.1/ يبرهن عبد الكريم غلاب في مجموعته القصصية «هذا الوجه أعرفه» على قدرته في الحفاظ على العتاقة، وفي الخوض في الجديد. أي قدرته على الملاءمة بين مسألة الأصيل والمعاصر.
والقصة من منظور غلاب، وفي مجموعته، بناء ومحتوى. بناء مرصوص له مقدمة وعقدة ونهاية. ومحتوى لا يتخلى عن أهم الوظائف الاجتماعية للأدب، الجمالية والمعرفية والتربوية.
في هذه المجموعة يعطي الأستاذ القصاص أهمية قصوى للمحتوى، ويبقى جانب الشكل بسيطا بساطة القصص الأولى؛ قصص ما قبل مرحلة التجريب الكتابية التي اجتاحت المغرب بداية الثمانينيات من القرن المنصرم. أما اللغة فإنها تمتاح من المعجم الأصيل. وبعض ألفاظها لا نعثر لها على أثر في الكتابات المعاصرة الشابة. بل هي جواهر مبثوثة في الكتابات المعتقة والعتيقة.
2.1/ تنتمي شخصيات المجموعة القصصية إلى فئة واحدة بسيطة على مستوى السلم الاجتماعي. ولكن تختلف في اهتماماتها ومهامها. شخصيات متعلمة، وشخصيات غير متعلمة. ولعل في هذا إشارة إلى أن ما يحد الفئة لا علاقة له بالمعرفة. ولعل المعرفة/الأدب منذ القديم قد ارتبط بالفقر والحاجة.
3.1/ يعتني القصاص والروائي والمفكر عبد الكريم غلاب في بناء قصصه على الصراع النفسي والفكري للشخصية القصصية. وبالتالي يأتي النص بناء ومزعا إلى بنيتين سطحية وعميقة. ولهذا الانشطار تأثيره على القائم بالحكي – القائمين بالحكي – فيسلم الراوي الأول الخيط لراوي الثاني الافتراضي وهكذا.
في قصة «رحلة حب في قطار سريع» تنجلي هذه القضايا والتقنيات الكتابية. فالفجوة النفسية خلقت لحمة النص وشكلت حبكته. تركب فتاة القطار وفي المقصورة تجد نفسها وحيدة (البنية الأولى) ثم يقتحم عزلتها شاب وسيم (البنية الثانية). ينغمس الشاب في القراءة ولا يرفع أنفه ولا عينيه عن السطور وهي تتوالى أمامه (البنية الثالثة). لكن داخل الفتاة يغلي، فكرها يخوض في الأحلام ومشاعرها تتمنى (البنية الرابعة). هناك ترابط منطقي، وتسلسل أيضا. لكن القصة تنبع من التصادم بين الوهم والحقيقة، بين الواقع والحلم، بين الرغبة والإشباع. وهنا تبرز حرفة وصنعة المبدع. فاغتنام اللحظة الإبداعية يبدأ بخلخلة الحالة الأولى بقوة الاختراق وتمزيق الفضاء الخاص والحميم. وبين الفتاة والشاب يقف شيطان الحكي. يأخذ منه خيطا ومنه خيطا آخر ويحوك الحكاية. حكاية عاطفية تنتهي مع وصول القطار آخر محطة وضياع الشخصيتين في الأمكنة. لكن هل سيتلاشى الإحساس وحكاية الداخل؟
4.1/ يجد الأستاذ عبد الكريم غلاب ميلا قويا في قصصه نحو تشريح الشخصية القصصية. لهذا فمحور قصصه (الشخصية القصصية). في قصة «شامة» مثلا، يبني القصاص شخصيته بناء متفردا إلا أنه ليس غريبا. فالشخصيات المحورية لديه لها نماذج شبيهة في الواقع. وبالتالي فالقصاص لا يميل إلى الحكي الخرافي أو إلى أسطرة الشخصية القصصية – إلا في قصة «الشجرة والبحر» – إنما يتسلمها كما هي في الواقع. والذي يبني الحكاية إنما هو سلوك الشخصية أو وضعيتها الاجتماعية. ويؤلف بذلك حكايات بسيطة لشخصيات بسيطة لكن مُقْنعة بواقعيتها. عكس ما سنقف عنده من سمات للشخصية القصصية في قصص من التسعينيات ومن عالم الافتراض الوجودي في المجموعتين «أشياء تمر دون أن تحدث فعلا» و«السيد ريباخا».
2/ الرسم بالكلمات أو كتابة الخارج:
1.2/ في قصة «الزوج الرابع» يؤكد القصاص المبدع عبد الكريم غلاب على ملامح الكتابة من الخارج، حيث الراوي مستبد بالحكي وعالم بكل صغيرة أو كبيرة، وبكل ظاهر أو خفي، وبكل ما ارتبط بالماضي – ماضي الشخصية القصصية – أو بالحاضر. ولا يشارك في أحداث القصة. بل ينقل فقط ما يجري تحت عينيه. ويوهم أنه ليس الكاتب الخارجي. لأن أفعاله لا تفترض بل تقرر تماما كعدسة الكاميرا. محايدة ووسيط ضروري. إلا أن الكاتب الخارجي لا يتخلى عن سلطته ولا يسلم كل مفاتيحه للراوي المحايد والوسيط. ويحتفظ بالمهارات والتقنيات الكتابية، كيفية نسج النص القصصي، وكيفية الربط بين أحداث الحكاية.
من التقنيات البارزة في المجموعة ومن ثم قصة «الزوج الرابع» اللعب على تشظية الفضاء الحكائي وتقسيمه إلى القريب والبعيد، كما في السينما. في المشهد القريب تقع أحداث الافتتاحية أو مقدمة القصة. وفي المشهد البعيد/ الخلفي تتشكل النواة الحقيقية والدافعة التي ستضع عربة الحكاية على السكة. أي تسلسل وتدفق الأحداث المروية.
2.2/ مشهد قريب ومشهد بعيد:
يبني القصاص عبد الكريم غلاب محتوى قصة «الزوج الرابع» على اللحظات التالية:
* مشهد قريب (ثرثرة النساء)
* مشهد بعيد/خلفي (لعبة الورق)
* توتر نفسية الفتاة
* انفجار الحل
في المشهد القريب يعرض القصاص جلسة نسائية خاصة وحميمة يسودها المكر والسخرية والمشاكسة والمزاح. كعادة جلسات النساء حيث لا سلطان فوق سلطان الكلام والمسارات. في حميمية نسائية تتمازح النساء حول الزواج والطلاق. تعتبر (سعدية) الشخصية المحورية لأنها امرأة تزوجت أربع مرات وطلقت ثلاث مرات. وفي كل مرة كانت تضطر لترك الأبناء مع الزوج، وكتمان لواعجها وعثرات حظها.
في المشهد الخلفي وبموازاة المشهد القريب نجد مشهدا خلفيا لا يسلط عليه القصاص الكثير من الضوء ويعتبر هامشيا. إنه مشهد الأطفال وهم يلعبون الورق.(مشهد) يضم الكبار، و(مشهد) يضم الصغار. وبين الأطفال «فتيحة» ابنة «سعدية» تسترق السمع، وتقرع أذنيها ألفاظ ومعلومات جديدة عن والديها. إنها فتاة بدأت تعي، بدأت تكبر، وفي حاجة إلى معرفة الأسرار الدفينة والاطلاع على الحقيقة التي تعلمها النساء ولا تعرفها هي: حقيقة والديها. وحقيقة زواجهما. وهل لهما أبناء آخرون من أزواج ومن زوجات أخريات (ربائب وإخوة)؟
بين التناوب على تقريب المشهد الافتتاحي وإبعاده، وبين إبعاد المشهد الطفولي (مشهد الصغار) وتقريبه يركز القصاص على حالة «فتحية» التي سلبها ما يصل إليها من حديث النساء حول حقيقة أمها «سعدية» ووالدها. وزرع داخلها حالة من القلق والاضطراب والتوتر. وقد اعتمد القصاص على التوتر لينتقل بالحكي من حالة الاطمئنان إلى حالة الاضطراب والخلخلة. وبالتالي الانتقال من المقدمة إلى جوهر وصلب القصة، كما يقال. فماذا نتج عن هذه الحالة المتوترة بين فتحية وأمها ؟
من خلال التوتر تفجر الوضع بين الأم وابنتها لتفصح عن المسكوت عنه. عن السر الدفين. سر الوالدة وسر الوالد. ومن خلال المواجهة التي تدخل فيها الراوي بتفسير وبنقل ما يعتمل داخل الشخصيتين القصصيتين، وصل القصاص إلى الحل والنتيجة: تخلص الأم من حمل ثقيل – السر – وتألم الفتاة بمعرفتها الحقيقة الكاملة.
3.2/ مبدأ الملاءمة:
يقدم القصاص مشهدا قريبا ويسلط عليه الضوء ويأتي في صيغة حوار بين النساء. وفيه يبرز القصاص مبدأ هاما يمكن أن نطلق عليه مبدأ الملاءمة. ولا يشمل فقط اللوحة القريبة بل يمتد على سائر النص القصصي. ويشمل كذلك جل نصوص المجموعة القصصية.
إن من أساسيات الكتابة القصصية عند الأستاذ عبد الكريم غلاب الحفاظ على مبدأ التطور في الأحداث (خلافا لما هي عليه الكتابة القصصية الحديثة عند كتاب التسعينيات وبداية القرن الحالي). والحفاظ على مبدأ التلاؤم بين ثلاثة عناصر حكائية مهمة، وهي: الشخصية القصصية وحالتها الاجتماعية وكلامها (السلوك الكلامي). ما دام النص القصصي «الزوج الرابع» قد اختار شخصياته من بين النساء فإنه وجد نفسه وجها لوجه مع عالم مختلف، له طقوسه، وله كلامه الخصوصي. من طقوسه السخرية والمشاكسة والمكر، وكلامه مُلْغٍزٌ يقول ليخفي لا ليظهر. ملفوظه لا يفصح والمعنى مقدرٌ في الذهن. لأن الكلام غير اللغة. وكلامه مضمن ويستند على الكثير من الأمثال الشعبية السائرة. فهل هو ثرثرة نساء، كما تعلن «سعدية» لابنتها «فتحية»: «يا بلهاء. تلك ثرثرة نساء. لا تهمك في شيء». ص (139).
لكن ما يهم هنا هو مبدأ الملاءمة بين الشخصية القصصية ووضعيتها وحالتها الاجتماعيتين، وبين كلامها، وحتى يبدو عالم الحكاية منسجما متكاملا. وتلك صفة من صفات الكتابة عند عبد الكريم غلاب وعند كتاب القصة من الخارج. وتبعا لمبدأ الملاءمة جاء النص القصصي متضمنا لعدد من الأمثال والأقوال الشعبية الدارجة على الألسن. ومنها:
* «الغنى يزداد والجمال ينقص». ص (131)
* «عصفور في اليد خير من عشرة على الشجرة». (131)
* «الشرع أعطانا أربعا..». (133).
* «ما كل مرة تسلم الجرة». (134)
* «المرأة المطلقة كالفستان المستعمل. من منا يقبل أن يلبسه؟». (134)
* «السعد لمن أعطاه الله». (134)
* «كثرة الهم تنقص من العمر». (135)
* «أحرقت مراكبها. لم يعد أمامها إلا أن تفجر دملا كان يوما سيمتلئ صديدا». (143)
* «ألح والدي بأن الصلح خير». (143)
* عيناه زائغتان. لا يحترم نفسه إذا رأى امرأة في الطريق حتى وهو يتأبط ذراعي…«. (143)
ما يلفت الانتباه هنا هو إصرار عدد من الكتاب، ما قبل السبعينيين، على عدم تهجين اللغة العربية الفصحى – في الحكاية – خلافا للقصاصين المغاربة الذين يكتبون بالطريقة ذاتها؛ أي اعتماد عدم المحايدة في نقل الأحداث والخواطر والمشاعر والابتعاد عن المشاركة في الحكاية كشخصيات ثانوية أو رئيسية. أقصد طبعا المرحوم محمد زفزاف وإدريس الخوري. وهما يقحمان ألفاظا دارجة وكلاما دارجا، لكن بدرجات. فمحمد زفزاف أقل توظيفا للألفاظ والتعبير الدارج من إدريس الخوري. الذي يستعملها استعمالا بلاغيا ووظيفيا، وهي إحدى مميزاته في الكتابة. أما جيل التسعينيات والألفية الثالثة في بدايتها فإنه اجترح لغة وسطية لكنها متأثرة بالتقنيات الحديثة.
3/ مبدأ الانشطار:
1.3/ مضاعفة المتكلم:
إذا كان مبدأ الملاءمة مبدأ خطابيا فإن الأستاذ عبد الكريم غلاب يركز كثيرا على مبدأ التحول في محتوى القصة (الأفعال). وذلك ناتج عن التزامه بنظام التطور الحدثي المنطقي. ويسعى في تحقيق ذلك إلى توظيف مبدأ أساسي آخر هو مبدأ الانشطار. فلا تكاد تخلو قصة من قصص المجموعة من الانشطار سواء في البنية الحكائية أو في بناء الشخصية القصصية. ومعنى الانشطار تنوع فضاءات الحكاية. كالانتقال من الحكي عن الخارج، خارج الشخصية القصصية، إلى الحكي عن دواخل الشخصية بالاستناد على التأمل والخواطر والمشاعر وكل التفاعلات التي لا تظهر صراحة بل تدل عليها سلوكات الشخصية القصصية كما أشرنا مثلا إلى ذلك في قراءة توتر «فتحية» في قصة «زوج رابع». مما يدعوه إلى توليد المتكلمين وتعدد حضورهم أيضا. إما بذكر ذلك في النص أو باستعمال عبارة «قال الراوي». إنها مضاعفة شكلية يحاول القصاص من خلالها خلق التوهيم الواقعي في الحكي – رغم أن قصص عبد الكريم غلاب واقعية – وخلق شخصية وسيطة بين الكاتب والراوي المهيمن. يوظف القصاص هذه التقنية الشكلية في قصة «شامة». يقول النص:«الأطفال وحدهم يسألون عن خالتي شامة حينما يعودون من المدرسة ومن دار المعلمة. وتختفي من ذاكرتهم مع الأيام إلا حينما تحكي إحداهن لأخرى الخرافة التي استثارت إعجابها أو يناقش أحدهم أخاه بعض تفاصيل قصة مضحكة، وهما يؤكدان أن القصة حقيقية. كانت تحكيها جازمة بأنها ليست خرافة. «قال الراوي: مرت أشهر، لا يدري أهي ثلاثة أم أربعة، لم تطرق خالتي شامة فيها باب الدار الكبيرة…». ص (86).
في هذا المجتزأ نكاد لا نميز بوضوح بين الراوي الأول والراوي الثاني في الفقرة الثانية. أما عبارة «قال الراوي» فإنها إضافة شكلية تحاول مضاعفة الراوي في القصة. وإعطاءه حضورا ثانيا وشكليا. لأن محتوى كلام الراوي الأول لا يختلف عن محتوى كلام الراوي الثاني، لا في الموضوع، ولا في القصد، ولا في الأسلوب. إلا أن هذا الاستعمال يحيلنا الى النصوص السيرية الشعبية أو كتابة الأخبار التي تعتمد على السند، والمقول الخرافي الشعبي. إذا فوظيفتها، بالإضافة إلى مضاعفة صورة الراوي وصوته، باستحضار للموروث القصصي الشعبي المكتوب والشفهي. وذلك احتفاء بالحكاية، بالمحتوى.
2.3/ مبدأ الانشطار:
أين تتجلى بنية الانشطار في قصص عبدالكريم غلاب؟
تظهر بنية الانشطار في قصة «رحلة حب في قطار سريع». على مستوى الشخصية القصصية. وذلك باللعب على فضاء الداخل الكتوم وفضاء الخارج المشدود إلى المثيرات.
على مستوى البنيات الحكائية نجد القصاص كثيرا ما يبني النص على التنامي المتوازي أو التنامي المتجاور بين الحكايتين. كتجاوز الفعل الحكائي (واقع شامة – قصة «شامة» – ومكانتها في الدار الكبيرة) وحالتها الداخلية. أي ما تحسه في باطنها من حرمان وحاجة إلى الأطفال الذين لم تلدهم. أو التوازي بين مجلس النساء – في قصة «الزوج الرابع» – ومجلس الأطفال. إذا أشكال الانشطار تتعدد وتختلف في هذه المجموعة القصصية.
وعلى مستوى الأسلوب يحدث الانشطار بين توظيف الخطاب المباشر الذي يؤشر عليه القصاص بالعوارض، وبين توظيف الخطاب غير المباشر حيث يسود الراوي متوغلا في بواطن الشخصية القصصية ومسترجعا ماضيها وذكرياتها. هذا المستوى من الانشطار يسود قصص المجموعة. ويؤكد عليه القصاص ويلح. ويتجلى ذلك في بناء وهندسة النص القصصي مما يترك لدينا الانطباع بأن القصاص أثناء عملية الكتابة يستحضر الصوتين معا وفي اللحظة ذاتها، صوت الراوي وصوت الشخصية القصصية. والفرق بينٌ. فالراوي في الكتابة من الخارج يرصد الأفعال والأحداث، ويصف الشخصيات ويربط بينها في الكلام. إنه الخيط الناظم والوسيط. أما الشخصية القصصية فإنها عنصر أساسي في تنامي الأحداث لأنها تُحْدثها، ولأنها تستقبلها وتَحْدُثُ لها.
إن تركيز القصاص عبد الكريم غلاب على استحضار أصوات الشخصيات في صورة عوارض مستقلة يحيل على الكتابة الأولى بالمغرب الحريصة جدا على العناصر المكونة للقصة القصيرة وأهمها الوضوح. فهي واضحة في اختيار شخصياتها، وواضحة في اختيار كلامها وأساليبها اللغوية، وواضحة في مقاصدها. وحرصها على إعطاء القصة كل الوقت والفرص، مهما طال النص، للتنامي والاكتمال، كما سنبين في دراستنا لمجموعة المرحوم محمد زنيبر الموالية. وفي هذا المستوى بالتحديد تكمن الفوارق بين الكتابة الستينية والسبعينية والكتابة الجديدة في زمن العولمة والسبيرنطيقا.
3.3/ التنامي المتجاور:
في قصة «شبر…وفتر» يتجلى التنامي المتجاور لوضعين. وكل وضع يتجاذب الآخر من أجل نسج الحكاية. موضوع القصة بسيط ومتداول. تحكي القصة ما يتفاعل داخل فكر ونفس شخصية قروية هاجرت البادية لتستقر بالمدينة. بمجمع للبراريك يطلق عليه «دوار الرجاء في الله». يقول النص:«طق…طق…طق…رفع عينيه إلى أعلى. حينما كان يرفعهما لا يجد في أبعادهما إلا زرقة السماء. تصطدمان الآن بهذا الذي يتلقى طقات من أعلى فتدوي في أذنيه انفجارات تملأ نفسه بالرعب. هو الذي لم يعرف الخوف في الآفاق التي ارتادها مع الشياه والأبقار، لم يدخله الرعب وهو يعود معها إلى العزيب وقد غربت الشمس وادلهمت السماء، صفت أو ملأتها سحب داكنة، أبرقت أو أرعدت…هو الآن في قفصه ذاك، تداعبه دفقات المطر الأولى المنذرة بشر، لم يحتمله سقف خيمته الجديدة». ص(113).
في هذا المجتزأ يتجاور (الآن) و(الماضي). زمنان مختلفان متناقضان. بينهما أصبحت الذات مرعوبة مرتجفة خائفة. في الماضي، في البادية كانت الشخصية القصصية لا تبالي بزخات المطر ولا حتى بالسماء إذا أرعدت أو أبرقت. أما الآن في دوار الرجاء في الله، وتحت سقف الكوخ القصديري أصبحت الشخصية القصصية ترتعد خوفا. والحديث عن الآن يستدعي الماضي، للمقارنة، لاكتشاف المتغيرات والحالات الطارئة على الذات. هذا التجاور يصاحب النص على نهايته. وذلك قصد إبراز السلبيات التي جنتها الذات النازحة على ذاتها المقيمة. وهي صيغة حكائية تحتوي اتساع الحكاية في تسلسلها الطبيعي.
إذا كان الموضوع متداولا، وأصبحت سلبيات الهجرة القروية سافرة وظاهرة للعيان سواء الاجتماعية أو القيم أو التربية أو الإنسانية عموما. فإن ما يمنح هذه القصة إبداعها، لعبها الجاد على المجاورة بين زمنين متناقضين، ولحظتين مختلفتين متباعدتين. وانطلاقا من مبدأ التجاور سلط القصاص الضوء على عالمي الشخصية القصصية المختلفين؛ عالم البادية وعالم المدينة. الوضعية السابقة والوضعية الحالية. وانطلاقا كذلك من انشطار فكر الشخصية القصصية بين الآن والماضي تدفق النص القصصي.
4.3/ التنامي المتوازي:
ينشئ القصاص عبد الكريم غلاب قصصه على التوازي بين خطين؛ الأول خط نطلق عليه واقع الحكاية. وهو كل الأحداث التي ينتجها السياق العام للنص القصصي. والتي تلعب فيها الشخصيات القصصية دورا حاسما. ولا تتم الإحالة عليها في خارج النص. أي كل ما يرتبط بالمستوى اللساني من تعيينات ومن قرائن زمنية وقرائن مكانية تحدد بدقة وضعية المتلفظ ودلالة الملفوظ الكلامي. والثاني خط نطلق عليه متخيل النص. وهو كل التفاعلات الداخلية التي ينقله الراوي المهيمن ويغوص من أجلها في أعماق الشخصية القصصية. أو كل ذلك التوهم ، وتلك التخمينات التي تلح على القارئ وترتبط في بعض قصص عبد الكريم غلاب بالبعد التربوي والقيمي. كما نجد في قصة «وحيد» حيث سيُحسَمُ في نهاية القصة الخلاف بين واقع الحكاية ومتخيلها، أي بين البنية السطحية للحكاية والبنية العميقة المحددة بالأبعاد الوظيفية الاجتماعية. وسيكون الحسم فصلا بين حياة سابقة وحياة جديدة جادة وخالية من الأوهام. وموضوع الزواج أثير عند القصاص، ويتكرر في أهم أعماله الروائية والقصصية.
يقول النص في خاتمة حاسمة:
«- لست فاتي بعد اليوم…فاطمة..أنت محمود..أفهمت…؟
«- …معا إلى عدلين يكتبانها، وثيقة زواجنا يشهدان بأن وحيد ابننا. عشنا ظلامية الحياة…آن أن ننير له طريق الحياة». ص (49).
4/ تفصيح اللهجة الدارجة:
يكتب الأستاذ عبد الكريم غلاب القصة القصيرة بحرفية. إلا أنه متمسك بأساليبها الصارمة عكس ما تخوض فيه التجربة الجديدة، التي يعايشها. وهذا ليس عيبا نأخذه عليه بل من خلاله نحاول إبراز قدرات القصة القصيرة المعاصرة في المغرب على التحول والتطور والتعايش. والأستاذ عبد الكريم غلاب متمسك بالقصة كما كتبت قبل السبعينيات (شكلا/خطابا)، وما صارت عليه في الثمانينيات من القرن المنصرم. إلا أنه حدق وحرفي بالإضافة إلى طول نفسه وطول النص القصصي، والاعتناء باللغة العربية من حيث أساليبها ومعجمها. فالقصاص شديد الحرص على توظيف الأساليب المستعملة في القرآن الكريم والحديث الشريف. وشديد الحرص على العناية بالمعجم. وألفاظه لا تستعمل في كثير من النصوص القصصية الحديثة، أو النصوص القصصية القصيرة للكتاب المغاربة الجدد، باستثناء كتابة القصاص «علي الوكيلي».
كما أن القصاص عبد الكريم غلاب يفصح باللهجة الدارجة، ويفصح بالأمثال الشعبية المتواترة. وتلك كلها سمات نجدها عنده في الرواية كما القصص القصيرة. كل ذلك إضافة إلى عنايته بالشخصية القصصية وتفجير بواطنها وهمومها النفسية والفكرية ومعاناتها الاجتماعية. فالشخصية القصصية عند عبد الكريم غلاب لما تكتوِ بنار التقنية ولما تدخل في ضبابية العوالم الافتراضية. إنها ما تزال في طور الإنسانية.
2/مبدأ التنامي عند محمد زنيبر
1/ إذا كنا قد وقفنا عند مبدأي الملاءمة والانشطار عند عبد الكريم غلاب، فإننا نود إبراز مبدأ ثالث يشكل الرؤية الخارجية أو ما أطلقنا عليه «الكتابة من الخارج»؛ إنه مبدأ التنامي الذي ألمحنا إليه سابقا، مع الوقوف على بعض الملامح الأسلوبية عند محمد زنيبر وموقع المتكلم عند. وكل ذلك يبرز أهمية الشخصية القصصية في الكتابة القصصية المغربية المعاصرة وأيضا إبراز التحولات التي تشهدها القصة القصيرة المغربية المعاصرة والحديثة.
1.1/ لا تخلو كتابة سردية من التنامي. أولا لأن اللغة،وهي الأداة الأساسية في التواصل، وفي نقل محتوى القصة، ذات بعد زمني محض. وهذا أصبح معروفا ومسلما به منذ ف.دي سوسور. فنحن لا يمكننا النطق بحرفين – مختلفين – في لحظة زمنية واحدة، بل هما محكومان بالترادف والتوالي. ثانيا لأن النص القصصي محكوم بالتطور الداخلي، خصوصا النصوص السردية التي تكتب وفق التصور «التقليدي» أو تلك التي تطورت عنه أو أخلصت له. أما الكتابات التجريبية والحداثية فإنها انفلتت من أسر التنامي الخطي ولم تفلت من التنامي بإشكاله الأخرى المختلفة. فما هي تلك الأشكال؟
2.1/ نميز في مبدأ التنامي بين ثلاثة أشكال مختلفة.
الشكل الأول، وهو الأكثر شيوعا في الكتابات الموصوفة بأنها تقليدية،ونطلق عليه التنامي الخطي. لأنه مرتبط أكثر بتطور الشخصية المحورية والأحداث المتصلة بها، وبالبعد الزمني الخارجي الذي لا يقبل التوقف ولا يقبل التراجع أو التداخل. لهذا فالقصة في هذا الشكل من التنامي تسير بشكل خطي ولا تحيد عنه قيد أنملة. والإمكانيات التي تجعل من هذا التنامي (فنا) متصلة بالفجوات القليلة التي تلعبها الذاكرة. إما باسترجاع بعض الذكريات أو الاستسلام لتعليقات الراوي. لأن في هذا النمط من الكتابة يسود الحكي راوٍ عالم بكل شيء مهيمن ومالك للحكي والحكاية.الشكل الثاني من التنامي نطلق عليه التنامي المتوازي. وهو نمط يختار الراوي أو الكاتب أن يحكي عن الشخصية القصصية ويرتب أحداثها ووقائع حياتها انطلاقا من زاويتين. كأن يختار تقنية مضاعفة الراوي أو أن يزاوج بين خارج الشخصية القصصية (واقع الحكاية) وبين باطن الشخصية القصصية (متخيل الحكاية/النص). والتوازي في هذا النوع من الكتابة لا يخل بمبدأ التنامي، فالراوي لا يهمل زاوية نظر لصالح أخرى. بل يسير بهما معا إلى النهاية حيث يلتقيان وكأن البناء القصصي مغلق على ذاته. فالنهاية الواحدة الموحدة هي ذاتها البداية الواحدة الموحدة.
الشكل الثالث من التنامي القصصي نطلق عليه التنامي المتجاور. حيث تتجاور حكايتان جنبا إلى جنب. ويركز الراوي على أكثر من شخصية قصصية واحدة. وتكون الحكايات المروية متصلة فيما بينها برابط وثيق أو واهن. إلا أنها جميعا تشترك في مبدأ التنامي نحو النهاية. ولا يمكن أن يتم هذا القصد والمعنى الواحد إلا بوجود واكتمال معنى ومقصد الحكايات الأخرى المتجاورة معها.
هذه الأنماط الكتابية الثلاثة للتنامي القصصي تخضع أكثر للنظر منها للتطبيق الفعلي والعملي. لأن النمط الأول الخطي ساد عددا من الكتابات الأولى وما يزال امتداده في بعض الأعمال، أعمال الرواد في المغرب المعاصر. أما النمط الثاني والثالث فغالبا ما نعثر عليهما في الكتابات التجريبية والحداثية وكتابات الشباب المقطعية أو المقطعة ضمن لوحات متجاورة تجاورا فسيفسائيا.
2/ التنامي في «خطوات في التيه».
1.2/ صدرت المجموعة القصصية «خطوات في التيه» للقصاص المرحوم محمد زنيبر سنة 1986م. وتضم سبع قصص متفاوتة في الطول، بعضها طويل جدا والآخر متوسط وقصير. وهي مجموعة قصصية تحتوي على كل المكونات الأساسية للكتابة من الخارج. تلك الكتابة التي ترسم الواقعة وتصور حالات الشخصية القصصية وتحافظ على المسافة بين الراوي والحكاية، وتعتني بالوصف والحوار، وتحافظ على الفصحى كأسلوب وكلغة وككلام الشخصيات المحورية والثانوية. وتُفَصِّحُ اللهجة العامية الدارجة. وتنتقد المجتمع وسلوك الأفراد وتحمل في طياتها جهارا مبدأ الإصلاح والتقويم الأخلاقيين.
2.2/ لهذه الأسباب، ولهذه المميزات ندرجها ضمن الكتابة من الخارج. في قصة «بدون سيارة» يتجلى مبدأ التنامي الخطي، وتمسك القصاص به كتقنية، وكإمكانية ناجعة لسرد مشاهداته ونقل لوحاته الفنية. وقد اعتمد في ذلك على طريقة المشائين. لذلك نطلق عليه وعلى روايته «المشاء». وفي هذه القصة يتجلى هذا الاختيار. فالقصاص اختار ذات صباح أن يتخلى عن سيارته لمدة وأن يجرب المشي ليخبر فوائده. فبدأ تطبيق نظريته التي ترى في المشي فوائد جمة، وفي ركوب السيارة مساوئ عدة. لكن ماذا حدث ؟
أثناء تنقله من البيت على السوق يلاحظ فضول الناس وسؤالهم عن ترجله. يقول النص:«ولما رآني [صاحب الفواكه] أنكرني:» كيف ؟ عم الحاج بدون سيارة! الله! الله!». ص (85). بعد استنكار الفكهاني يأتي استغراب أحد أصدقائه، وتبجح أحد طلابه.
متذمرا مما لاقى، متحرجا من مضايقات الناس والسيارات في الشارع العريض، عرج الحاج على الغابة حيث الطبيعة والهواء النقي. يقول النص:«فلو أسدلت عليه شيئا من الستر وملت إلى طريق خالية ومسالك وسط الأشجار، لتجنبت فضول المتعجبين وإزعاجهم، وأضفت إلى فائدة المشي لذة الاستمتاع بالطبيعة واستنشاق الهواء النقي». ص (88).
هناك أيضا سيجد نفسه مقحما دون إرادته في أمور أفظع وأعنف. إن الغابة ليست فقط مكانا لتنشق الهواء النقي ولا لممارسة الرياضة بل هي كذلك وكر يختبئ فيه العشاق ويتسترون فيه على فضائحهم. فماذا حدث؟
لقد أوَّلَ الناس (واقع الحكاية) خروج الحاج مشيا على الأقدام وتخليه عن سيارته تأويلا خطيرا خاطئا، مفاده أن الحاج الأستاذ طرد من عمله وأصبح عاطلا فباع السيارة ليقضي حاجاته. هكذا اضطر الحاج الى التخلي عن رغبته في المشي وعاد إلى سيارته «الزرقاء».
هذا اختزال شديد لحركة تنامي أحداث القصة، وليس تلخيصا لها أو ترتيبا دقيقا. لكن الغاية من ذكر هذه العناصر تكمن في إبراز خطية التطور. فالزمان الذي اختاره القصاص لهذا النص القصصي لا يتجاوز يومين. الراوي فيهما يمشي متجولا بين البيت والشارع والغابة، يلاحظ وينقل إلينا بصدق مشاهداته، وهي لا تخلو من غاية، وغايتها انتقادية أخلاقية يعيب فيها الكاتب على الناس سلوكهم الفضولي، حيث يتدخلون في شؤون الناس دون إذن. ويعيب فيها عليهم خضوعهم للعرف. وهو بذلك ينتقد المجتمع الذي أصبح أكثر إيمانا بالمظاهر منه إيمانا بالداخل وحقائق الأمور والناس. كما أنه ينتقد السلوك الأخلاقي لبعض الأزواج، ويفضح فقر وحاجة الناس البسطاء. والسخرية البلاغية الأدبية جزء هام لدى الكتاب ذوي الرؤى الانتقادية. لذلك لا تخلو منها هذه القصة.
3.2/ إذا كان التنامي في هذا النص القصصي خطيا، فإن ملامحه ليست واحدة ومنسجمة. فهي تتراوح بين الحكي البطيء، والحكي السريع والمختزل، وبين الفجائي.
1.3.2/ الحكي البطيء:
يرتبط الحكي البطيء بالجولة اللاحمة لعناصر الحكاية واقعا ومتخيلا. فالمتحول مرتبط بغاية متعة المشاهدة. لهذا خطواته تتنقل ببطء شديد. فهي لا تقصد إلى شيء محدد سوى إضاعة الوقت وترويض الساقين، والتلذذ بالمشاهدة. وبالتاي فنقل المشاهد يأخذ كل الوقت والراوي القصاص يتأنى في وصف مشاهداته إما معقبا على تعليق أو ملاحظة أو كلمة أو إشارة من شخص صادفه في الطريق، أو معلقا على فعل اختار القيام به، كالتعليق على فوائد المشي ومساوئ سياقة السيارة.
2.3.2/ الحكي السريع:
وهو ضد الأول، يقوم على الاختزال وعلى مراكمة الأحداث أو حذف التقنيتين الأساسيتين في تشكل الحكي البطيء، وهما: الحوار والوصف. إذا فالحكي السريع يتخلى عن الحوار والوصف ويعتمد على الحذف والاختزال. وهو أسلوب يسود اليوم الثاني في (واقع الحكاية) وهذا النموذج يمثل الحكي السريع. يقول النص: «قضيت بقية اليوم في شؤون أخرى [اختزال في الأحداث وحذف] وفي الغد استأنفت رياضتي بعد الغذاء [حذف]. ومررت من نفس الطريق، لكني تجنبت الغابة في هذه المرة مخافة أن أروع العشاق الآمنين [سخرية واختزال وإشارة لما سبق روايته] وفضلت أن أسير في الشوارع الكبرى وسط المدينة، حيث المتاجر والعمارات. وسرتُ مدة طويلة دون أن يستوقفني أحد [إشارة لأحداث البارحة]…». ص (93).
لهذا الاختزال والحكي السريع غاية وهدف. إنه يلمح إلى انحدار القصة نحو النهاية. لأن بناء النص القصصي هرمي له نقطة بداية تتدرج ببطء نحو القمة وتنحدر بسرعة نحو النهاية، الخاتمة والحل. ثم إنه يلمح إلى التحول الحاصل في بناء النص شكلا ومحتوى. أي تمكن الإشاعة من نفوس الناس وإقرارهم بإفلاس (الحاج) بعد طرده من عمله. وبالتالي قد أصبح فضلة لا حاجة إلى سؤاله.فوجب إهماله ومطالبته بما عليه من ديون.
3.3.2/ الحكي الفجائي:
أسميه كذلك وأريد أن أشير إلى ظاهرة التحول وانزياح الحدث انطلاقا من لفظة أثيرة لدى العديد من كتاب التنامي الخطي، وهي لفظة «فجأة». ولفظة «فجأة» هاته لها فعل سحري في السرد. إنها تدخل القارئ في لحظة من الاندهاش، وفي حالة من الاستسلام الكلي. فيقبل بكل ما يقع بعد «فجأة» تلك. سواء أكان حدثا مفردا أو بنية حدثية، أي سلسلة من الأحداث المخالفة للأحداث المنبثقة عنها والسابقة عليها، سواء برابط أو بدونه، وسواء بانسجام أو بدون انسجام.
لهذا يجب الانتباه في حالة دراسة مبدأ التنامي أو دراسة بناء المحتوى أو تعاقب أو نكوص الأحداث إلى لفظة «فجأة». وعلى الناقد أن ينتبه الى ما تحتويه من سحر وجاذبية، واختزال للزمن واستباق وطفرة. فوجودها في النص السردي يصبح وجودا بلاغيا له دلالة عميقة، ويصبح وجودا تركيبيا وبنائيا كما أومأنا إليه.
3/ ظهور جديد في الوقت:
1.3/ في هذا النص القصصي يحدد المرحوم محمد زنيبر تصوره النظري لفن القصة أو على الأصح ينقل إلينا فهمه لمعنى الحكي والسرد. ومن خلاله يمكن أن نحكم على هذه المجموعة القصصية وأن نصنفها ضمن الكتابة من الخارج التي تختلف عن الكتابة القصصية من الداخل عن الكتاب المحدثين، والجدد. يقول النص:«وكنت أقص عليها (أمه) من المشاهد التي خضرت لها ما لو رآه أصحاب الأقلام لتسابقوا إلى احتضان مناظره وتسجيل حواره، وكأنهم يأخذون أحسن ما يعطيه الفن. إنها ثمار الفن الطبيعي التي تختلف عن ثمار الفن الفني كما تختلف فاكهة الشجرة المغروسة في مهب الريح عن الحلوى المصنوعة بالأيادي الماهرة المطبوخة داخل الفرن…». ص (124).
2.3/ الفني والطبيعي:
نُميز بدءا بين نمطين من الفن، يسمى الأول (الفن الفني)، ويسمى الثاني (الفن الطبيعي). فما الفرق ؟
إن الفن الفني وليد الخيال. وهو عالم المتخيل – مصنوع – لا يمت إلى الواقع – المرجع – بصلة إلا ما كان انعكاسا لصدى صور ذهنية اعتباطية. وهذا النمط المتفشي في كتابة القصاصين الجد.
أما الفن الطبيعي، فهو متصل بالواقع، أو هو أحداث الواقع نفسها. وانطلاقا من التشبيه المدرج ضمن المجتزأ أعلاه يمكن الحكم بأن القصاص يكتب ضمن الفن الطبيعي الذي ينهل نماذجه القصصية من شخصيات الحياة لها وجود حقيقي. وأن الأحداث التي يرويها والقصص التي يحكيها أو المشاهد الحياتية التي يرتبط بها هي الواقع ذاته. وأن قصصه ليست في النهاية سوى انعكاس صادق للحقيقة الواقعية. طبعا هذا الإشكال النقدي خاض فيه نقاد الأدب من جل المناهج، والمدارس والفرق: البنيويون خاصة، والمتأثرون بالدرس اللساني. كما خاض فيه النقاد الماركسيون أو الواقعيون. وإذا كانت اللسانيات السوسورية (نسبة إلى ف.دي سوسور) قد فرقت بين الثنائيات الكبرى وضمنها السانكرونية والدياكرونية. فإن ملمح الاعتباطية صارخ وبارز. وهذا يعني أن الأدب ليس انعكاسا للواقع، أو أنه ليس انعكاسا مباشرا للواقع بل هو تمثل وتصور ذهني اعتباطي قد يماثل الواقع الخارجي، وقد لا يماثله بل يوهم به، كأنه هو. لأن اللغة الوسيط اعتباطية. وهو مخالف تماما لما ذهبت إليه النظريات النقدية الماركسية أو المتفرعة عنها وكذلك المنحرفة. فالأدب التزام بالواقع وانعكاس للحياة «الأدب هو الحياة» عند الطبيعيين، وتطابق لها أيضا. وللمبدع دور رئيسي في تغيير أوعاء الناس من خلال انتقاد عيوب المجتمع وسلوك الناس. ومن خلال تحسيسهم بعيوبهم وبأخطائهم. وفي أحسن الأحوال فالأدب كما يقول ماكسيم غوركي «تجميل للمأساة». وهو قول لا يعني أن الأدب غير الواقع بل هو هو لكن بشكل جميل فني وأدبي.
والكتابة من الخارج حتى في حالة اهتمامها بالشكل الفني فإنها لم تتخلص من النظرة الانتقادية الإصلاحية. ولم تبتعد عن واقع الناس البسطاء، وعن جحيمهم اليومي. وأن الواقعية التزاميه أو سحرية أو خرافية بقيت المتحكم الأول في رؤاهم الإبداعية.
3.3/ معنى القصة:
إنها مشاهد حياتية مؤلمة ومضحكة سافرة في آن. أبطالها وأناسها حقيقيون يأكلون الطعام ويمشون في الأرض مثقلين بالأحلام والإحباط وبكثير من القيم، بكثير من وطأة الأنا العلوي. يتمثل ذلك في الشخصية المحورية (البطل) الوطني الغيور الملتزم بالحق والحقيقة، الشجاع الذي لا يرضى أن تهان كرامته أو يتجاوزه أحد اعتمادا على الظلم والجور. رجل نظيف نحيف. يقول النص: «وإذا بشخص يخرج من الصف ويتقدم إلى الجزار، قائلا: «ليس من المعقول أن تقدم هذا الرجل على الجماعة. يجب أن يأخذ نوبته في الصف كغيره من الناس. فنظر الجزار إلى الشخص الذي ظهرت منه لهاته الجرأة، فإذا هو بشخص نحيف الجسم بجلباب أبيض نظيف ونظارتين وفي يده قفة…». ص (127.126).
إذن فالقصة نقل أمين لمشاهد الواقع.
4.3/ موقع الراوي:
فما موقع الراوي في هذه القصة ؟
إنه مشاء متحول، لا يحاور الناس حول المفاهيم الصورية والمبادئ والقيم العليا المجردة. لا يسألهم عن الجمال، ولا عن الخير، ولا عن الشر…بل يتجول ويراقب ويشاهد وينقل إلينا (القراء) بصدق ما يجري تحت عينيه. ليست غايته في أن يتشبه بسقراط. لكن أن ينقل الواقع من خلال اللغة بغاية العبرة والانتقاد والتهذيب والتحليل.
بدءا فالراوي غير محايد ما دام يتكلم عن مشاهداته بياء المتكلم. يقول:«بدأت جولتي، ككل يوم، بالدوران في حومتنا التي يخترقها شارع مهم…». (124). وهذا المظهر تمويهي. لأن الراوي في العمق غير مشارك في الأحداث، وأن ضمير المتكلم المنفصل والمتصل لا يعنيان أن الراوي شخصية فاعلة في الأحداث. إنه فقط شخصية راصدة تقوم بدور الكاميرا في حياد. تجري الوقائع الحياتية جريها العادي ولا يلتفت الناس إليها لأنهم يخوضون غمارها. ولأن الراوي يمتاز بقوة الملاحظة وبفضول المبدع ونهم الناقد الاجتماعي وبعين ورغبة المصلح فإنه ينتبه على ما لا ينتبه إليه عامة الناس.
تظهر محايدته تلك من خلال تحديد الراوي لموقعه من الأحداث الجارية. يقول النص:«من هو، يا ترى، هذا الشخص المشار إليه بالهمس ؟ تساءلت في نفسي وأنا أتفرج من قريب على مشهد الطابور المصطف أمام اللحم الجزار». ص (125).
في هذا المجتزأ نجد أن الراوي يعي تماما موقعه. إنه موقع المتفرج، أو العين البديلة التي تنوب عن أعين القراء غير الحاضرين لحظة انفجار الأزمة. ولكي يقنعنا بصدق ما ينقله، ولكي يقنعنا بحياده وبمشاركته في صنع الحدث، وبوقوفه موقف المتفرج، يضيف:«لقد أصبح المنظر مثيرا آنذاك. فتحولت من مكاني واقتربت حتى أرى كل شيء». ص (127).
إن تحديد مواقع المتكلم في النص القصصي تحديد في الأصل لاختيار سبق الوقوف عنده. وهو القاضي بحد معنى القصة لدى المرحوم محمد زنيبر. إن الكتابة القصصية فن طبيعي يقوم على النقل الأمين للوقائع اليومية. ليس أصدق أو أكثر إقناعا للمتلقين من الحديث بضمير المتكلم. لأن منطقة التخييل تصبح ضيقة جدا. والوقائع المتحدث عنها تصبح أقرب إلى المرجع الواقعي الملموس.
5.3/ تقنيات كتابية:
لهذا جاء التخييل لغويا أو بلاغيا صرفا. فما هي إذا التقنيات الكتابية التي تمنح النص القصصي قدرا من الفنية ومن الجمال الإبداعي ؟
1.5.3/ التعليق:
بالإضافة إلى القدرة على الحكي بطيئه وسريعه وفجائيته نجد القاص يوظف إمكانية التعليق على ما يحدث، وذلك مرتبط لديه بغاية قصوى هي الغاية التربوية الأخلاقية. إما في صورة سخرية مل تعليقه على جواب الجزار على طلب «بودبزة». يقول النص:«جواب استسلام وخضوع». ص (126). أو في صورة تأكيد وتثمين مثل هذا القول المنقول زيادة في التأكيد :«قالوا عنه إنه يمر في الشارع بتواضع واحتشام، لا يكلم أحدا ولا يهز نظره إلى احد». ص (128).
للتعليق ها هنا وظيفة جمالية وبنائية. فهو من خلال التعليق يرسم الملامح المقومة لكل شخصية قصصية، ويضيف إلى تناميها بعض الصفات. لذلك لا بد أن تتوفر الشخصية المرجحة أخلاقيا على صفات البطولة وصفات الوقار التي آمن بها المغاربة كقيم عليا مميزة خلال مرحلة مناهضة المستعمر وأيام التلاحم الوطني. وهو ما ترومه هذه القصة القصيرة وكاتبها.
2.5.3/ التشبيه والسخرية:
إن للتعليق إمكانية تسمح للقاص بالانفلات من قيد التنامي المنطقي الصارم للأحداث. يسمح التعليق للراوي بإبداء معارفه وتقديمها إلى القراء، كما يسمح للراوي بتقمص صورة المصلح والمرشد الذي يفرز للناس بين ما يضرهم وما ينفعهم. إنه أضعف الإيمان لتغيير المنكر (تحول القيم). ثم هناك إمكانية أخرى يوظفها القاص في هذا النص يحاول من خلالها التخفيف من صلابة وثقل الأحداث. وهي توظيف التشبيه مستعيضا به عن الوصف والحوار. وهذه بعض منه استعمل بغاية المقارنة لكن تحت غطاء السخرية. يقول النص:
* «وكأنه ينظر إلى أكباش ونعاج ليس لها إلا أن تسكت وتستسلم».ص (126).
* «…إن أقل ما يشبه به نفسه في ذلك الموقف هو السبع حينما يكون شبعان ويصول صولته وسط الغاب…». ص (126).
* «كان يظهر إلى جانب «بودبزة» كالقصبة إلى جانب الدوحة». ص (127).
* «ومن دون شك أن شعور الناس كان مماثلا إذ كانت تعلو وجوههم ابتسامة سخرية أمام هذا العصفور الذي يريد أن يتبارى مع النسر». ص (127).
* «وانتفض بودبزة في مكانه وتذكر أن الناس ينظرون إليه كما ينظرون إلى الأسد». ص (128).
* «هو عنتر البلد وأسدها يأتي هذا الهر المنتوف فيتجرأ عليه ؟». ص (129).
* «لقد سخن دم الغول، ويخشى على الرجل من بطشه». ص (129).
هذه بعض الصور والتشبيه «الصريح» الذي منح النص بعده الجمالي والإبداعي «البلاغي». وخرج به من مأزق الترابط والتسلسل المنطقيين الصارمين.
3.5.3/ الوصف المسرود:
الوصف المسرود إمكانية ثالثة استعملها القاص للخروج من الرتابة التي يتسبب فيها عادة طول النص وتماسك الأحداث وتواليها. ويتجلى الوصف المسرود في الصفحة (126) حيث يعمد الراوي إلى تعريف القارئ بما قيل عن «بودبزة» وبما وصف (عُرٍِفَ) به بين الناس. إنه هنا أيضا مجرد ناقل للقول إضافة إلى نقله للمشاهد الخارجية.
كما يتجلى في وصف الراوي لمشهد العراك الدائر بين بودبزة والشخص النحيف النظيف. وينقل الراوي مشاهداته بشيء من التفصيل الدقيق للحركات والقوال وردود الأفعال.
4/ «خطوات في التيه» مجموعة قصصية تجسم ملامح الكتابة من الخارج. وتؤكد أن هناك اتجاها قصصيا في المغرب له ملامحه، وله تقنياته الكتابية، وأيضا غاياته التي لا تنفصل عن الوعي والأحداث السائدين في مغرب ما قبل السبعينيات. ويجري الحكم على الفترة ذاتها، وقد خصصنا لها كتابا منفردا.
المصدران:
1/ عبد الكريم غلاب: هذا الوجه أعرفه. مجموعة قصصية. مطبعة النجاح الجديدة. ط1. الدار البيضاء. 1997م.2/ محمد زنيبر: خطوات في التيه. مجموعة قصصية. دار النشر المغربية. ط1. الدار البيضاء. المغرب. 1986م.
محمد معتصم
ناقد من المغرب