في العدد الخامس من مجلة نزوى (يناير 1996م – شعبان 1416هـ) خرج الينا هادي حسن حمودي بمقال عنوانه (شيء عن المنظومة النحوية للخليل) ردا على مقالي بالعدد الرابع عن هذه المنظومة. وقد تفضل (هادي) بتقديم بعض (التنبيهات) و(الملاحظات) التي تستوجب مني الشكر، فقد أجهد نفسه في القراءة والكتابة، وذلك موقف يستحق عليه الثناء حتى لو كان مخطئا، مخالفا الحقائق العلمية وأصول الكتابة (قاصدا أو غير قاصد).
ولن أتجاوز الحقيقة عندما أقول: إنني تأثرت في بداية الأمر تأثرا شديدا بمقال الأستاذ الفاضل حيث علت نبرة السخرية غمزا ولمزا وتلميحا وتصريحا وتجريحا، لأنني ظننت أن هذا المقال ممن يعرف للكلمة وزنها ويعطي للعلم حقه من احترام العقل والضمير، أو ممن تخصص في حقل اللغة والنحو، ولكن ما لبث أن تبدد حزني عند تصفحي لما يكتبه حمودي الذي نال بألفاظه النابية وأسلوبه الساخر أساتذته من العلماء الجادين وغيرهم. إذ يكفي أن ينهال بهذا الاسلوب في صفحة واحدة من كتابه (المقامات ص 6) على (الحريري، الثعالبي، الحصري القيرواني، بروكلمان، زكي مبارك، مرجليوث، السباعي بيومي، جرجي زيدان، عبد الملك مرتاض) وأين أنا من كل هؤلاء العظام ؟ فلا تخلو صفحة واحدة من عبارة أو فقرة جارحة. إذن فهذه هي طبيعته وهذا هو دأبه، وحين يتكلم عن مجموعة أخرى من أساتذته يقول:(من منهم يستطيع أن يفهم تلك القوانين النحوية التي تضمنها كتاب سيبويه) (من منهم يستطيع أن يفهم الفرق بين صر وصرصر (الخليل وكتاب العين ص 79) وتناسى أنه يتكلم عن اعلام اللغة والأدب من أمثال إبراهيم بيومي مدكور وأحمد أمين ومهدي المخزومي.. الخ.
وعلى هذه الشاكلة يتكون معجم مفردات الهادي من ألفاظ تتجاوز حدود البحث العلمي مثل: (رداءة – أوهام – أخطاء – اغاليط – تحريف) ص 47 من مقدمة كتاب العين له، وفي ص 30(السهو – السخرية – المنهزم)، ونجد (الفشل، مهاوي التحريفات – شن حربا – غافلون – رواية غير معقولة – رواية خرافية) في كتابه (الخليل ص 71. 74. 85) ويقول (الحصري القيرواني لم يتحر الدقة – جانبهما التوفيق – تنكبوا عن المنهج – استبان لنا ضعفهما) (المقامات ص 6. 39)..الخ.
كدت أطرح الأمر ولا أبالي به، غير أن أمانة العلم تحتم علي أن أكتب هذا الرد: حتى لا يستقر في ذهن القارىء الكريم ما ورد بالمقال من أوهام وأخطاء تدل على عدم أمانة أو ضمير. وقد لفت نظري في بادىء الأمر أن حمودي – وهو أستاذ جامعي – قد نسي أن الحياة الأكاديمية بالجامعة تعلم الباحث أدب الحوار، لذا خرج عن حدود الحوار العلمي بطريقته المعروفة التي ربط فيها بين منظومة الخليل وفكره اللغوي و(أحمد عدوية وشريط ايس كريم في جليم) على حد قول الكاتب المهذب في أسلوب ساخر هزلي يفسره علماء النفس بأن صاحبه يلجأ اليه هروبا من نقص أو ألم أو ربما كان غدرا أو استعلاء أو غرورا (الضحك، هنري برجسون 114، سيكلوجية الفكاهة، زكريا ابراهيم ص 10. 144. 145).
أما عن (تنبيهات) حمودي وما أطلق عليه (أغاليط في النحو واللغة وأساليب التعبير) فليسمح لي أن أزيل أوهامه وسقطاته مع ذكر مرجع لكل معلومة ستذكر.
1 – يشير الهادي حمودي الى استخدامي لمصدر الفعل (سبق) قائلا: (كنت أظن أن سبق فعل متعد كما في القرآن العزيز كقوله تعالى: [ لا يسبقونه بالقول ] الأنبياء 27، وقوله:[ فاستبقا الباب] يوسف 25 وغيرهما… غير أن الكاتب يقول.. وسبقها للمدرسة الكوفية حيث جعل المصدر العامل عمل فعله سبق لازما).
أقول له: إنه استشهد على عمل الأفعال ونسي الفروق الأسلوبية بينها وبين المصادر التي هي هرع في العمل، والوارد عندي هو (المصدر) والفرع يختلف عن الأصل بجواز دخول (لام التقوية) على مفعول الفروع مثل اسم الفاعل والمبالغة والمصدر… الخ، وقد صرح ابن هشام في مغنى اللبيب 1/217 بدخول لام التقوية على مفعول هذه الفروع نحو (ضربي لزيد حسن) فكلمة (ضرب) مصدر من الفعل المتعدي لكن (لام التقوية) دخلت على مفعوله مثل بقية الفروع الواردة في نص ابن هشام، وهذه اللام (مقيسة) (حسب القاعدة) كما قال صاحب (الجنى الداني ص 106)، وانظر مجلة مجمع اللغة العربية بدمشق 4/ 182، النحو الوافي عباس حسن 2/ 476. وينتابني الخجل الشديد عندما أقول للهادي: لقد استخدم هذا الاسلوب في كتابه المفتقر الى المنهج (الخليل وكتاب العين) أكثر من عشرين مرة، أذكر له بعضا منها في ص 42 (إنكار أبي حاتم للكتاب)(مكررة) والفعل أنكر فعل متعد، وقد جاءت اللام مع مفعول مصدره (للكتاب)، وفي ص 47 (استكمال الخليل لمشروع كتابه)، وفي ص 45( تأليف الخليل للكتاب) وكثير من هذه النماذج الفصيحة، وأخرى غير الفصيحة في صفحات كثيرة من كتابه السابق مثل ص 17، 22، 27، 56، 57، 62، 63، 65… الخ، وكذلك في كتابه الفكر السياسي كما في ص 81، 339 وغير ذلك كثير.
والسؤال: إذا كان هذا الاسلوب خطأ على (المذهب النحوي) لـ(حمودي) فلماذا استخدمه ؟ هل لأنه مقيس صحيح لكل الأفعال المتعدية الى مفعول واحد كما صرح النحاة ؟ ؟ أم هو حلال له حرام علينا؟، لكن من المؤكد أن حمودي يقصد إضلال القارىء عندما يستشهد بآيات كريمة تحمل (الأفعال) ونحن في حقل المصادر وهي أسماء؟ هذا إذا كان عارفا بالقاعدة !!: فمن الزيف أن يستشهد بالقرآن في غير موضع الحوار تسترا وراء كلام الله العزيز.
2- يقدم حمودي اعتراضه على قولي: (سواء بالمكتبات الخاصة أو العامة) فالواجب – في مارسته النحوية – أن أستخدم (أم) واستشهد بقول الله تعالى [سواء عليهم أأنذرتهم أم لم تنذرهم] البقرة 6 واستشهاده بالآية صحيح على (أم) الواقعة بين فعلين (جملتين) ولم يلحظ الكاتب المفضال أن (أو) عندي جاءت بين اسمين (الخاصة – العامة)، وبما أنه جدير بالتعلم – على حد قوله – وأنا ضعيف أمام طلبه – أقدم له معلومة سريعة من كتب النحو قديمها وحديثها،حيث تقول القاعدة إن (أم) الواقعة بعد سواء (همزة التسوية) لا تقع إلا بين جملتين، وهذا نص لا يقبل المناقشة مغنى اللبيب 1/41 شرح الأشموني 3/100، حاشية الصبان 3/100 أما بين المصادر والأسماء فلا يجوز استخدام (أم) مطلقا، ولو تم ذلك لصار شاذا لا يقاس عليه. (النحو الوافي 3/589 ولابد أن حمودي لم يلاحظ أنني استخدمت (أو) بين اسمين،وقرأ الآية بعض القراء – وهم فصحا، ثقات – باستخدام (أو) بدل (أم) (معجم القراءات القرآنية 1/ 22 مغنى اللبيب 1/42.
وقد عرضت القضية على مجمع اللغة العربية بالقاهرة فأصدر قرارا حاسما أجاز فيه استعمال (سواء) مع (أم) ومع (أو) بالهمزة وبغيرها بين الجمل (راجع القرار ص 227 من كتاب المجمع الذي صدر عام 1919م باسم (كتاب أصول اللغة) كما أرجو أن يكون قد أدرك أن (أم) لا تأتي بين اسمين أو مصدرين صريحين بعد سواء.
3- يستمر الأستاذ الفاضل محلقا في فضاء إضلال القارىء حيث يعترض على استخدام (خلال) في قولي (نستطيع من خلالها) أقصد المنظومة قائلا ان استخدامها هنا يعني الضعف والخلل والهنات، مستشهدا بقول الله: [فجاسوا خلال الديار] ومن الأمانة أن يعرض لمعنى الآية عرضا كاملا لا مبتورا. إن كثيرا من المفسرين قد ذهبوا الى غير ذلك حيث قالوا إنها تعني (البينية) (بين) وذلك لا يعني الضعف، فالطبري يقول معناها (طافوا بين الديار) وابن عباس (ترددوا بين الدور والمساكن) والفراء (قتلوكم بين بيوتكم) تفسير القرطبي 10/ 116، المعجم الوسيط 1/253 ويشير الألوسي في (روح المعاني 15/18 الى أن (خلال) اسم مفرد لا جمع والمعنى ترددوا وسطها، وهي صحيحة في استخدام الكتاب لها حتى عندما وردت عند حمودي في كتابه (المقامات ص 41) حين يقول: ( ونعتقد أن المقامات تكشف عن نفسها وعن كيفية نشأتها ونموها الفني من خلال ذاتها) وانت لا تقصد الخلل أو الضعف لأنك في موضع المدح حيث تقول في ص (5) (وما فن المقامات الا صورة من صور التجديد وهي صورة خالدة)، وأنا أسألك بحق الله، هل كنت صادقا مع نفسك عندما قلت ذلك وكنت تستخدمها دون وعي منك ؟
4- ينقلنا الكاتب النجيب الى عالم الأديب عبدالعزيز البشري وفكاهاته الساخرة عندما يعترض على (أنجب التلاميذ) متسائلا في ظرف لا مثيل له: هل هي من النجابة أو الإنجاب ؟ وأقول له مع أنه لم يفرق بين (أنجب) أفعل التفضيل الاسمي و(أنجب) الفعل: إنها تكون للنجابة في الحالتين فالفعل (أنجب) أي ولد له ولد نجيب لسان العرب 6/4343.
5- وعلى غرار منهج الفكاهة السابق يعترض الشيخ حمودي على استخدامي لكلمة (مصاحبة) للربط بين المنظومات النحوية وزمن تأليفها، فمن وجهة نظره (أن تمرير المصاحبة يستبطن تجويز المعاداة)،وهو قول هزيل مبني على أن كلمة مصاحبة تعني المصادقة، وقد تجاهل – أو نسي أو غير ذلك – أن المصاحبة أحيانا تعني الملازمة فقط لا المصادقة ففي المصباح المنير ص 333( كل شيء لازم شيئا فقد استصحبه، قال ابن فارس (الذي حقق له الشيخ حمودي معجم مجمل اللغة) وغيره واستصحبت الكتاب وغيره حملته صحبتي..)، كما أن واو المعية تعني المصاحبة لا المصادقة العين 1/ 95.
وعلى طريقة الأستاذ العلامة ما ورد في كتابه (الخليل) ص 43 (النسخة الأم) فتمرير كلمة الأم يستبطن بالضرورة الأب وغيره فنقول النسخة الأب، النسخة الأخ والأخت.. الخ.
ثم يخرج علينا حمودي برأي مبتسر يعترض فيه على قولي: (معرفة كنه وطبيعة التأليف النحوي) قائلا: (وسيبويه وسائر البصريين والكوفيين وغيرهم قد منعوا الفصل بين المضاف والمضاف اليه… شأنه) ويصرف النظر عن رداءة الأسلوب في بقية الجملة وعدم اتساقه، اذ ليس ذلك مهما أمام (التزوير النحوي)، فالسيوطي ذكر أن الكوفيين يجوزون الفصل مطلقا، كما جوزه يونس والكسائي، وكذلك جوزه ابن مالك في بعض كتبه، وقد قال بعض النحويين إن الفصل قياسي ليس في الشعر فقط اعتمادا على قول الرسول الأعظم في حديث البخاري (هل أنتم تاركو لي صاحبي) حيث جاءت (تاركو) مضافة الى.صاحب وفصل بينها ب (لي) همع الهوامع 4/ 295، الاشموني 2/ 275، 276، المقتضب للمبرد 4/373 شرح الصبان 2/ 274 الانصاف 2/475، 476/ كما أجازه بعض القراء وهم ثقة الحجة 150، تفسير القرطبي 4/ 91، وثبتت هذه القراءات بالتواتر فهي صحيحة (الصبان 2/276)، وابن كيسان نقل جواز الفصل صراحة لم شرح المفصل 3/23)، ويقول حمودي إن سيبويه منع الفصل ويرد عليه النحويون (قطع الله يد ورجل من قالها) حيث ذكر النحويون صراحة أن سيبويه جوز هذا الاسلوب على تقدير محذوف،وأن الفراء جوزه مطلقا دون تقدير (الأشموني، الصبان 2/274،275).
ولو أنني استخدمت هذا الأسلوب لكان خطأ أما لو استخدمه حمودي فإنه صحيح. يقول: [… صورة من صور نجاح (أو فشل) المفاوضات] ولا أدري لماذا لم يقل (نجاح المفاوضات أو فشلها. ولن تفلح الأقواس في فك القضية لأن حمودي استخدمه في أماكن أخرى وبشكل أكثر غرابة حيث حذف المضاف اليه (الفكر السياسي ص 15، 18).
ومع ذلك لا نستطيع أن نخطىء العلامة الجليل الذي يفصل دائما بين المتضايقين حتى لو كان الفصل متعسفا ورديئا من النوع الذي رفضه النحاة حين يقول في مقالته التي نحن بصددها الآن (نزوى ص 80) (فلا حاجة لوضع هكذا افتراض كسيح ضعيف) عبارة سمجة مستثقلة لماذا لم يقل: لوضع افتراض كسيح هكذا.
ثم يتجلى المحقق حمودي ليحكم متسرعا كطبيعته على نسخ المخطوط المستخدمة عندي ليقول: (هي نسخة واحدة تداولها نساخ عديدون فأكثروا منها، و لا يمكن أن تعد كل هذه النسخ إلا نسخة واحدة) ومع أن هذا الكلام خطأ فادح في حقل التحقيق فلا أدري من أين جاء له هذا الفهم في مقالي ؟ فلو أنه أجاد قراءة النص لفهم غير ذلك، فهناك إشارة الى نسخة نقل منها ونسخة أخرى عرض عليها أذكره بمقولته في كتاب (الخليل ص 43) التي جاء فيها: (يمكن أن ينتسخ من الأصل ما لا يحصى من النسخ) وبمقولة ابن منظور في لسان العرب 6/4407 (الأصل نسخة والمكتوب عنه نسخة). وما أسوأ أن يخدع حمودي نفسه وقارئه فينسب الي كلاما لم أقله حين يدعي علي القول بأنني ذكرت (أن عدد الأبيات ورواياتها متطابقة في النسخ العشر) مع أنني لم أذكر ذلك تلميحا أو تصريحا، والمقال بين يدي القارىء الكريم في العدد الرابع ليكشف هذا الزيف والبهتان بنفسه.
انتقل الى نظرية (الفروض والاحتمالات) للمؤرخ حمودي، حينما اعترض على مناقشتي لتلك العلاقة بين (الخليل وقطرب) مع أن الخليل توفي قبل تطرب بإحدى وثلاثين سنة على أقل تقدير، وقد ذكر الخليل (قطربا) مع هذا الفارق الزمني بينهما، فكان لابد من دراسة العلاقة بين الاثنين، ولم يكن القصد اثبات التلمذة كما ذهب حمودي في مناقشته العرجاء التي خرج منها بقوله: (لا أعرف أحدا من القدماء أو المعاصرين قد وضع شرطا للتلمذة أن تكون وفاة التلميذ في حياة شيخه)، وأحيل القارىء الى كتابه (الخليل ص 40) ليقرأ قوله: (كما لحظ بعض الناظرين في العين روايات عن علماء تأخروا عن زمن الخليل فقويت شبهة أن الخليل لم يكتبه) عليه أن يقرأ في ( تحقيق النصوص ونشرها ص 43) (وتعد الاعتبارات التاريخية من أقوى المقاييس في تصحيح نسبة الكتاب أو تزييفها) ولهذا رفض الشيخ عبدالسلام هارون نسبة أحد المؤلفات للجاحظ (كتاب تنبيه الملوك والمكايد) لأن صاحبه ذكر أخبارا عن كافور الاخشيدي الذي توفي بعد الجاحظ بعمر يتساوى مع عمر قطرب بعد الخليل، وما يبيحه حمودي لنفسه يحرمه على الآخرين.
والعلامة حمودي لديه قدرة بارعة تظهر في توله: (فقد تمكنا بتوفيق اته من إعادة الحياة (لعين) الخليل) (كتابه الخليل ص 88)، لهذا كان من السهل بالنسبة له أن يعيد الحياة الى تلك (الهمزة) المنتحرة من كلمة (الفصحاء) ليضيف الينا معلومات عروضية غير صحيحة ويزودنا بما لا نعرفه ولن نعرفه الا عن طريقه (الفصحاء جمع فصيح) ولو التفت الى العبارة المكتوبة أسفل نص الخليل وهي (الصفحة الأولى من النسخة أ) لأدرك بعين المحقق الخبير أن مقالي كان يحتوي على صورة لحق الأصل من تلك الصفحة، والمفروض أن تظهر صورة المخطوط في المقال دون طباعة، لكن لظروف لا دخل لي فيها طبعت هذه الصفحة فسقطت الهمزة لأنها لم تكن في مكانها تماما من الكلمة كما حدثت أخطاء أخرى لم يلاحظها أشير اليها (البيت الأول والرابع) وكذلك في البيت السابق لقول الخليل.
يامن يعيب على الفصاحة أهلها * إن التتابع في الفهامة أعيب
(الفهامة: العي والجهل)العين 3/356، القاموس المحيط 4/292 أما الهمزة في الموضع الثاني فقد سقطت كما سقطت (الميم) من كلمة (مقالة) فأصبحت (قالة) في كتابيك (الخليل ص 58) ومقدمة (معجم العين 35).
واذا اعترفنا لحمودي بأحقيته في السؤال عن تلك الهمزة النافرة والاطمئنان عليها، فلا نعترف بتلك المعلومات العروضية غير الصحيحة، فهو يشير الى إهمالي القول بأن (منظومة الخليل.. مبنية كلها على البحر الكامل بتفعيلاته التامة كلها) (لاحظ التأكيد حيث تكررت (كلها) مرتين) وسأتجاوز معلومة الإهمال (ففي مقدرته أن يعود الى المقال ليرى أنني ذكرت ذلك) الى قوله (التفعيلات التامة)، وأقول له. التفعيلات لا توصف بالتمام فهذا من صفات البيت أو الوزن لا التفعيلة (ارجع الى معنى البيت التام في (العيون الغامزة ص 34)، المنهل الصافي 157)، وما أسوأ التأكيد لمعلومات هي خطأ صريح، لكن المنهج لا يخطىء صاحبه.
ثم يقدم لنا معلومة عروضية أخرى يذكر فيها أنني حولت (متفاعلن الثانية الى فعلاتن) ومع أن هذا الكلام لم يحدث فإنني أقول له: منذ متى يتم ذلك التحويل في الثانية ؟ فالتحويل لا يتم إلا في التفعيلة الثالثة فقط، أما في الثانية فلا تتحول لأننا أمام بحر الكامل و(فعلاتن) من بحر الرمل والمؤكد أنك تقصد (متفاعل) حيث حدث (القطع) في التفعيلة وذلك لا يحدث أيضا في الوسط (راجع الوافي في العروض والقوافي للتبريزي ص 79)، ولا شك أن كتب العروض التي أشار إليها (إبهاما) هي المسئولة، وهو مبرأ من أي ذنب ولهذا استأذن الأستاذ المفضال أن أستغل معلوماته وخبرته العروضية – فأنا استغلالي النزعة – وأطلب منه أن يزودنا بوزن البيت التالي عروضيا
إذا لم تستطع شيئا خدعه * وجاوزه الى ما تستطيع
وفي موضع آخر يعترض على قولي: (نسبتها للخليل) وأن الصحيح (الى) وحمودي يعلم أن اللام تأتي بمعنى الى، قال تعال. [ بأن ربك أوحى لها ] ( الزلزلة 5) أي اليها، وهذا كثير كما قال النحاة (الجنى الداني 99) وقول الله [ وسقناه لبلد ميت ] الأعراف 57( أي الى) وحمودي يقرأ قول الله تعالى [ ونسوق المجرمين الى جهنم وردا ] مريم 81 فالفعل ساق جاء مع (الى) و (اللام) ويستطيع أن يقول (تكلم عن) أو (تكلم على) الجنى الداني 246، واقرأ قرار مجمع اللغة العربية بالقاهرة عن التضمين الذي يحل لك مشكلة (عاش في) أو (عاشها) والنحو الوافي 2/ 564-594.
ويحق لي أن أشيد بشجاعة حمودي في ارتكاب أخطاء لغوية وأسلوبية ليس لها وجه من الصواب في كتابه (الخليل ص 28.14، 29، 88، 95 وهو أعرف بأخطائه من غيره.
أما عن التحقيق وعدد الأبيات وطباعة (ألفية) الخليل، فإنه في حالتنا هذه تقتني الأخلاق العلمية أن يتقدم حمودي بمعلوماته التي ظنها، أو حتى تيقن أنها غائبة عن غيره، فيكون شكره حينئذ واجبا أضاف جديدا أو لم يضف، فهدفنا واحد وهو إخراج نص الخليل في صورته الصحيحة، مع أنه يعلم أن القضية خلافية، فالوثائق متنوعة ومختلفة في معلوماتها،وما يستقيم لي من أبيات منسوبة الى الخليل يمكن الا يستقيم له أو العكس، فلا هو، ولا أنا نستطيع أن نحصر نسخ أي مخطوط على وجه الدقة في كل مكتبات العالم الخاصة أو العامة، وله أن يقرأ في أول كتاب عربي عن فن التحقيق لشيخ المحققين العرب عبدالسلام هارون قوله (ومهما أجهد الباحث نفسه للحصول على أكبر مجموعة من المخطوطات فإنه سيجد وراءه معقبا يستطيع أن يظهر نسخا أخرى) (تحقيق النصوص ونشرها ص 36) والدليل أن حمودي لا يعرف شيئا عن كل نسخ المخطوط التي عثر عليها، ولا عن النسخ التي ظهرت بعد نشر مقالي أو عدد الأبيات التي تم النظر فيها لاستخلاص ما رأيته يقيني النسبة الى الخليل ولا عن المعلومات التي وصلت من علماء اليمن، إذ لا يمكن أن يتسع مقال لضم كل هذه التفاصيل، فذلك موطن الدراسة.
وهنا لابد من وقفة مع هذا التحقيق لنسأل أنفسنا هل يمكن الاعتماد على تحقيق يفتقر صاحبه الى أمانة الكتابة وضمير الباحث، ومنهج التحقيق العلمي الصحيح ؟فنحن نعلم أن جزءا مهما من توثيق النص لابد أن يعتمد على دراسة المتن نفسه لنبعد ما نحل على الخليل، والكاتب المفضال يرى أن دراسة المتن لا ضرورة منها، كما رأينا في مشكلة (قطرب)، فهو يرفض (المنهج التحقيقي المعتمد في إظهار كتب التراث) قائلا: (لا ندري ما أهمية كل هذا للقارىء المعاصر) (الخليل ص 87)، ومن رأيه أن (التوثيق عمل خاص بالمحقق) ص 87، ويكفي أن أشير فقط الى عمومية الكتابة المفتقرة الى دقة المحقق فيما نشره، فباعترافه أن ما سلم له من أبيات منسوبة للخليل 541 بيتا، وهو يعلم أن كلمة (ألفية) لا تطلق إلا على ما وصل الى ألف بيت، فلماذا أطلق على المنظومة (ألفية) مع أن كل من نسخ النص أو أشار اليه – فيما رأيت – سماه (منظومة) أو (قصيدة) وهكذا يفصح العنوان عن مضمون التحقيق تهويلا وتضخيما( ولنا عود الى ذلك في مقالات أخرى). ومع كل هذا لو أن تحقيق حمودي وقع في يدي فربما أفدت منه وأشرت الى ذلك،لكن ماذا نفعل وتحقيقه مطمور لا يعلم به أحد الا هو،حتى كبار المحققين من الأقطار العربية الذين تحاورت معهم عن المنظومة منذ عامين لا يعلمون عن تحقيقه شيئا، وكذلك معي (أصل) تقرير معتمد من لجنة علمية متخصصة عن توثيق المنظومة وتحقيقها والموافقة على نشرها، ولم تشر من قريب أو بعيد الى تحقيق الهادي، وأتساءل: منذ متى كان العلم حكرا على أحد ؟ أو منطقة يحرم دخولها؟ هل ينفي الهادي إمكانية أن يكون هناك تحقيق ثان أو ثالث لنص تراثي يمكن أن يزاد فيه أو ينقص منه أو حتى يتساوى معه ؟ وقد فعل ذلك معه (زهير عبد المحسن سلطان) الذي حقق الجزء الأول من معجم (مجمل اللغة) لابن فارس مع علمه بتحقيق الهادي له ؟ (مقدمته ص 7) هل ينفي الهادي أن يكون قد حقق بقية أجزاء المعجم بعد تحقيقا تحقيقا علميا بارعا ؟مع جهد كبير مبذول من (زهير) باعتراف الهادي (مقدمة الهادي ص 1) (مع ملاحظة أن هذين التحقيقين تما بعد تحقيق أجزاء المعجم وطبا عته مرتين بمطبعة السعادة بمصر ( 1911م، 1947م) بتحقيق الشنقيطي ومحمد محيي الدين عبدالحميد.
ومن غريب الأمور وعجائبها، وبعد هذه الاصدارات الثلاثة لهذا المعجم يقول حمودي في (مقدمة تحقيقا لهذا المعجم ص 5) (ان بقاء هذا السفر العظيم لهذا العالم الجليل بين ركام الأوراق الصفر التي أتى عليها الزمان وعدت عليها عوادي الأيام سبّة لابد من ازالتها بإخراجه وتيسيره للناس) مع ملاحظة أن (مجمل) حمودي، ظهرت طبعته الأولى 1985م وهي آخر إظهارة للكتاب، وربما نجد له مظهرا آخر.
مرة أخرى أسأل: هل ينفي الهادي ما أطلق عليه (تحقيقا) لمعجم (العين) بعد إظهارات ثلاثة أيضا باعترافه هو (الخليل ص 85) حتى لو اعترف بأن هناك نقصا أو عيوبا في الثلاثة: لأنه لم يحقق الرابعة فقد هدم النظام الصوتي الذي أفنى الخليل جزءا كبيرا من حياته له. وشوه الهادي ذلك العمل الجاد بتحويله الى النظام (الألفبائي) مع رفضه لمنهج التحقيق العلمي الذي طبقا على المعجم فظهرت أخطاء التحقيق الصارخة المشار اليها في التقرير الذي أثار ثورته تلك التي نحن أمامها (معي نسخة من هذا التقرير العلمي، وستظل نسخة واحدة كما هي حتى لو أصبحت آلاف النسخ عند نشرها في مجلة علمية).
وأخيرا أقول: كان الأولى أن يقدم هادي حسن حمودي دراسة جادة في علم النحو لما تفصح عنه أبيات هذه المنظومة من قضايا نحوية، وهي جد كثيرة، ولهذا فإنني أتضرع الى الله طالبا له (الهداية) الواردة على لسان (السيد أبي سالم بن كهلان بن نبهان) أحد أحفاد الخليل، عندما قال فى منظومته النحوية دون أن يسخر من احد:
تعلم هداك الله تعلم وعلم * ودع كل ما يدعو الى الجهل تسلم
تعلم بنى النحو واعلم بأنه * دليل ومصباح وسل عنه تعلم
وكل أخي علم ولو حم علمه الى * النحو محتاج وما أنت بالعمي
احمد عفيفي ( استاذ اللغة العربية بجامعة السلطان قابوس)