إهداء: إلى نضال.. حتى لا نخجل ذات يوم… قطعة لحم ملقاة على الرصيف تنزف، اليوم عطلة، والشارع مقفر والقطعة مازالت طرية والدم يغري بالاقتراب منها، بالتوقف للحظة، لم تقترب منها ذبابة واحدة، الذباب يتكدس حول قشرة موز، كنت أتأملها وقد اعتراني شعور غريب، وغزتني قشعريرة مباغتة، أمسكت عصا لأحركها فلم أقو، ووجدتني ألقي العصا بعصبية وأقرر الابتعاد عن المكان، كنت مرعوبا بسبب حلم مزعج، مرعوب لأن المبنى أنيق، مرعوب لأن الرصيف قدر، فجأة برزت قطة مذعورة من الجانب الخلفي للسور، فانتظرت ما ستفعله بقطعة اللحم.
بدأت تلاطف القطعة وهي تلعق دهاءها، كعادة القطط في ملاطفة الكائنات والأشياء خاصة في فصل الربيع، لم تكد تمضي لحظات إلا والقطة ملقاة بجانب قطعة اللحم، اقتربت منها فوجدتها قد لفظت أرواحها السبع دفعة واحدة، تراجعت إلى الوراء حتى لا تعلق بي إحدى أرواحها، وذهب في ظني ما ذهب في ظنكم، ثم اتجهت إلى بيت رسامة عرفتها حديثا، تعجبني رسومها لكن تقرفني عيناها، لها عينان رصاصيتان واسعتان سابحتان في دموع لا تنزل أبدا، في عينيها شبق مفضوح ووضاعة مقيتة لا تليق بفن الرسم لا أحب عينيها هذا كل ما في الأمر، وهي تعرف هذا جيدا، لقد قلت لها ذلك عند أول لقاء منذ شهر تقريبا، ضحكت وزاد بريق عينيها.
وجدتها صامتة كذاكرة ميتة، لم أتكلم.. حكايات كثيرة دارت في خلدي وددت أن أرويها، لو أحدثها عن أول لقاء لي مع امرأة أشعلتني ولم تطفئني، امرأة كولادتي، لا تتكرر.
وددت أن أفاتحها في موضوع قطعة اللحم التي تسببت في موت القطة البيضاء..
لو تعرف أنني رأيت في المنام أن أسناني قد سقطت كلها دفعة واحدة، لابد أنها ستجزع لأن سقوط سن واحدة يعني شؤما كبيرا فما بالك بكل الأسنان! كانت تلون لوحة وتخاطبها بصمت مغر، اللوحة لا تتسع لأكثر من الأسود على غير عادتها.
كانت ترسم سكينا، تمنيت أن تطلق عليها اسم "شهوة عابرة" أو "موت مؤجل".. ستكون وقاحة مني لن أغفرها لنفسي.. بأي شرعية أسمي وليدتها؟
كم كانت رغبتي قوية في الحديث، سأكون ثرثارا عوضا عنها وستضطر لطردي، في السابق، تترك الرسم كلما زرتها وتجلس قبالتي لتحدثني عن كل تفاهاتها اليومية حتى يتملكني الضجر فأمضي إلى ضفاف النهر القريب من بيتها..
كانت تريد أن تسمعني لكني قليل الكلام كعادتي، ألحت علي منذ عرفتني أن تطلع على أحد نصوصي فلم أستجب لها وفي زيارتي السابقة، جلبت لها مجموعة من النصوص.
والآن هي تشيح عني، لعلها لم تقرأ شيئا منها، لعلها لم تفهمها، كنت أهم بالحديث فتغيب اللغة.. ما أتعسني هذا الصباح.
وددت لو تصافحني بعينيها الوقحتين، لكنها لم تفعل، لعل السكين أكثر إغراء مني..
تسللت خارج أسرار حديقتها.. لم أذهب للنهر وانما عدت من نفس الطريق لأجد قطعة اللحم مازالت تنزف وقد تناثرت حولها أكثر من جثة، لعلها قطة وثلاثة كلاب أو أربعة كلاب وقطة أو ثلاث قطط وكلب، لا يمكنني أن أميز الجثث وأحدد العدد لأن الرائحة كانت كريهة وقاتلة.. أسرعت نحو أحد الأصدقاء لابد أن أتحدث هذا المساء، كانت شفتاي مطبقتين بشكل مرعب..
طرقت بابه فلم أجده..
سأتصل بها لابد أن أسمع صوتها الذي يعيد لي توازني ويربك وجولتي..
لا أحد يرد..
الصمت مطبق في المدينة، اتجهت نحو ملعب كرة القدم لعلني أسمع ضجة، الصمت في كل مكان مدينة تحتضر، دخلت مقهى، لم يقترب مني النادل ذهبت له فأشاح عني.
خرجت، كان لا بد أن خرج حتى أمتلئ بالرائحة الكريهة من جديد..
عدت إلى غرفتي الكئيبة، فوجدتها بانتظاري.
– لقد قلقت عليك، منذ الصباح وأنا أنتظرك.. لم أجبها.. لم أستطع.. خرجت مسرعا والدهاء تسيل من فمي.. ركضت.. ركضت.. الرائحة تكاد تقتلني كانت تركض ورائي وتصرخ:
– انتظر.. ماذا أصابك؟..
ركضت.. ركضت اقتربت أصبحت أمشي فوق الجثث اللزجة للكلاب والقطط..
انزلقت قدمي فغاصت في فم كلب، زحفت.. لابد أن أصل.. زحفت.. كان طائر يرفرف على قطعة اللحم، كنت أسرع زحفا حتى لا يموت الطائر،.. تمنيت أن أصرخ لأنبهه لم أقو.. أما هي فقد غاب صوتها.. لقد تراجعت..
بلغت قطعة اللحم وكان الطائر قد اقترب تماما منها كاد يغمس منقار الموت لكني أمسكته بيدي اليمنى وقبضت اللحمة باليد اليسرى، لابد أن أنقذ الطائر من مصير الكلاب المدجنة والقطط الشبقة…
أطلقت الطائر، وأخذت قطعة اللحم النازفة بيدي وركضت نحو البيت.. الرجال على الأرصفة صامتون، والنساء أمام البيوت، والأطفال يرقبون المشهد بصمت.. لم أجدها في البيت، هرولت نحو الرسامة.. تلك المرأة التي قرأت نصوصي بحقد.. دفعت باب حديقتها وانطلقت نحوها، كانت تتأمل السكين المكتملة بوله مشبوه.
لأول مرة أرى الرعب في عينيها، لتجرب هذا الشعور ولو مرة في حياتها، ألقيت لساني النازف على وجهها لتلقى مصير كلابها.. واندفعت باتجاه النهر لأسبح حتى تشرق الشمس..
فاطمة الزياني (قاصة من تونس)