تستثمر الرواية النسوية الخليجية إخفاقات وصعوبات حياة الأنثى في المجتمعات الخليجية ، بالعديد من التابوات التي يستقيها مروجوها من الدين تارة ومن الأعراف والتقاليد تارة أخرى من أجل تحجيم حركة المرآة في هذه المجتمعات ، وإضعاف دورها في الحياة الاجتماعية ، التي تخطت في انجازاتها الحضارية والتقنية الدول المتقدمة ، بينما تقف المرأة / الأنثى في هذا العالم متفرجة لا تتقدم خطوة بل تتأخر ، وبهذا المعنى تحرص الروائية الخليجية على حمل راية الدفاع عن هذه المرأة ، ضد هذه التابوات او تخفيفها ، والكاتبة هنا تشبه كتابات كتاب الخمسينات في الوطن العربي الذين حملوا راية الدفاع عن الإنسان المهمش المعدم ، وتحملوا وزر هذا الموقف بالسجن او النفي او التضييق على حرياتهم ، هنا نجد الكاتبة الخليجية تقوم بهذا الدور ، وتستنفد كل طاقتها من اجل رفع هذا الظلم عن بنات جنسها .ولهذا فهي لا تعتني كثيرا بالأشكال الروائية .
في رواية (سيقان ملتوية – هاشيت انطوان ش.م.ل..2014) للروائية السعودية زينب حفني تعلن الروائية عبر مقابلة معها أنها تكتب (عن المرأة المقهورة التي لا تستطيع أن تقف أمام عادات مجتمعها ولا تملك القدرة على اختيار مصيرها الذي تريده، لا الذي يرسمه الآخرون لها). ويشي عنوان الرواية بذلك ،فالسيقان الملتوية تؤشر حالة عجز تام يمتنع فيها الجسد عن ممارسة حركته الطبيعية ، واستخدام صيغة الجمع هنا تعني أن حالة العجز عامة وقد استشرت في مجتمع الرواية ، على مجموع النساء والرجال في هذا المجتمع ،ويتجلى ذلك على سلوك شابة سعودية تتمرد على تابوات عائلتها ومجتمعها ، وتعمد إلى كسر رتابة حياتها ، وإعلان التمرد على قيود عائلتها التي حملتها معها إلى بلاد الغربة – بريطانيا – .
تعرض الروائية حياة عائلة سعودية تعيش في بريطانيا منذ 25 عاما ، ضمن ثلاث بنات ولدن في بريطانيا وتعلمن فيها ، والأب حاصل على شهادات عالية ويمتلك محلا تجاريا كبيرا في لندن .
ومنذ الصفحات الأولى نتعرف على حكاية عائلة الأب مساعد ، في بريطانيا ووجهة نظره في الحفاظ على تراث العائلة والمجتمع السعودي في الغربة ونهاية هذه المصالحة الزائفة ودخول العائلة ممثلة بالأب في أزمة القطيعة التامة من خلال هروب ابنتهم الكبرى سارة الى مكان مجهول في بداية عام 2007، اثر صفعة والدها لها باعتبارها أساءت التصرف معه ، حين أعلنت أمامه انها لم (تعد قاصرا) وأنها في نظر القانون راشدة، مما (أصابه مس من الجنون،شد شعرها انهال عليها ضربا ص13).
فضاءان يتصارعان
تعمد الروائية زينب حفني الى استضافة فضاءين متصارعين احدهما في السعودية والآخر في لندن ، يأتي الأول من خلال الذاكرة باعتباره ماضي الشخصيات الضاغط بكل قوته عبر خزين الذاكرة المتمثل بالأب (مساعد ويوسف) في حين يتضح الفضاء الأخر (لندن) واقعا فعليا تتخلق فيه بقية الشخوص (الإناث بشكل خاص) ،ومن خلال مسرحة الأحداث ، نلاحظ قوة الشد إلى الوراء ، والإصغاء إلى صوت الماضي وموروثاته عند الأب والأم ، بينما يكون ذلك الماضي جزءا من هوية غامضة وملتبسة عند سارة وزياد والجيل الذي نشأ في الغربة، ومن خلال هذا الصراع الخفي ، تلغى وترفض هويات وأفكار، وتسعى شخوص الرواية إلى حتفها المحتوم : الموت أو الهروب إلى فضاء آخر، في حين تنكفئ شخوص الماضي على نفسها في رحلة حزن خاسرة .
تسرد الروائية حياة مساعد ويوسف بتقنية ضمير الغائب كلي العلم ، نشأتهما في السعودية وإكمالهما الدراسة في لندن وعلاقاتهما العاطفية أثناء الدراسة ،وحرصهما على إدامة العلاقة مع العائلة والتمسك بالهوية بكل محمولاتها، وتبدو شخصيتا مساعد ويوسف ، إطارا مرمزا لأفق العلاقات القديمة ، فهما هامشيين في وجودهما في الرواية ولا قدرة لهما على رد الاتهامات المبطنة التي تلاحقهما سواء من الأجانب او من المقربين لهما من أبنائهم وبناتهم بشكل خاص ، عن هويتهما والملابسات التي تكتنف اجواء هذه الهوية ، فالسرد يحملهما طائفين على متنه دون أن يتيح لصوتيهما الخروج ، فهما هنا تعبير عن العلاقات والتابوات والسلوك الاجتماعي الموروث ، الذي لا يملك من وسائل الدفاع سوى الأوامر والنواهي ، وبهذا المعنى جاء الصراع بين الحياة الجديدة في الغرب وبين من يمثل الهوية الوطنية التي يحملها العربي في الغربة واهية وضعيفة حيث تتوج وجهة النظر في هذه الرواية لصالح الحياة الجديدة بكل سلبياتها وايجابياتها .
صراع الهويات
وتعطي الروائية مساحة واسعة لشخصية سارة التي تنهض بسرد يومياتها بين لندن والسعودية من وجهة نظرها وبصوتها الخاص مستعينة بتقنية السيرة الذاتية التي تجعل من السرد اقرب إلى وقائع الحياة ، وفي هذه السيرة نتعرف على حياتها في لندن وعلاقاتها مع العراقي عادل الذي يبقى منتميا إلى الماضي مجسدا بهويته العراقية على الرغم من نشأته في الغربة ،فهو يقول عن بغداد (آه يا سارة ، كل العراق مسكون في مغارة طفولتي مثل مدن الأشباح التي كنا نتخيلها في صغرنا ص38) وعندما تخبره سارة بأنها تحس وكأنها (مقيدة بأغلال غليظة ، كلما غاصت ساقاي في بلدي ، اشعر بوجوه مشوهة المعالم تلاحقني في كل شارع امشي فيه ص38) يرد عليها بنبرة حزينة : (هل الأوطان تخلق الاستعباد ؟؟ سامحك الله ص39) لكنه حين يعود إلى العراق بعد التغيير 2003 للتواصل مع شعبه ، تكون نهايته القتل بسيارة مفخخة ، وكأنه عقاب لمن يتمسك بهويته، في حين يبدو زياد الفلسطيني خارج الهويات يمثل مواطنا عالميا يستطيع أن يعبر الهويات المتشابكة في وعيه ، وهو يقول عن وطنه فلسطين (لم اعد اصدق أن هناك وطنا اسمه فلسطين كان له وجود على خارطة العالم العربي ص41) كما يرى في أحلام والديه بل في أحلام شعبه بالسلام والحياة الآمنة في وطنهما (بأنهما يجدفان بمجداقين قديمين وقارب متهالك سيهوي إلى القاع في لحظة …ص41) ويبلغ به الاغتراب عن وطنه وإنكار هويته بتعليق ساخر على قصيدة محمود درويش : أرضنا ليست بعاقر …كل ارض ولها ميلادها ، قائلا ) :احسب انه لا جدوى من هذه المحاولات اليائسة لاسترداد وطن أصبح في خبر كان …ص45)ويعلق على استشهاد جده في حرب 1948( أقف أمام صورة جدي واقرعه ناعتا إياه بالغبي ، لأنه فقد حياته من اجل شعارات جوفاء ص45).وفي نهاية الرواية يكون زياد اختيار سارة مكملا لحياتها بعيدا عن عائلتها في لندن .
المرأة شهوة متحركة تغوي وتخرب
يبنى عالم الرواية بكامله على تطلعات الأنثى للتحرر من عسف العلاقات الأبوية المتوارثة وسلطة رجال الدين الذين يملكون سلطة تفسير النصوص الدينية ووضع قواعد السلوك السوي للمرأة بشكل خاص ، وبهذا المعنى تسهم الرواية في تكريس ردة فعل المرأة من خلال الكشف عن وجهة نظرها في هذا العالم الذي يسلبها حريتها وحياتها.
إن عالم رواية (سيقان ملتوية) يبنى من خلال شخصية سارة، التي تسرد معظم أقسام الرواية ، فهي – بمساندة أكيدة من قبل المؤلفة – التي تعطي تأشيرة الدخول للشخوص الآخرين لعالم الرواية وهي تقنية من أهم التقنيات التي تستثمرها الروائية زينب حفني في هذه الرواية ، في صياغة الصوت المنولوجي ، عبر تعددية أصوات أخرى يكون معظمها خاضعا للمراقبة وموجها توجيها خاصا ،من قبل الساردة بالتضامن مع المؤلفة بهدف طرح أسئلة الأنثى الغاضبة والمتمردة على شروط حياتها وتغليب وجهة نظرها عن العالم المشاكس الذي يحيط بها، عبر استثمار أصوات الشخصيات الأخرى باعتبارها تمثل القرين او الشبيه، وتلقينه أقسى الانتقادات ضد التابوات الاجتماعية والدينية ، وهي تصدر عن شخوص خارج منظومتها،ولتكون ردودها وكل من يحيط بها : الأب، الأم، أقرباؤها من الذكور والإناث، على هذه الاعتراضات ردودا خافتة لا فاعلية فيها مقارنة بأسئلة وحوارات القرين والشبيه متمثلا في شخوص ربيكا وزياد وهيا ابنة عمها ….
من الأسئلة المحيرة التي لم تجد لها إجابات عند والدها او المحيطين به تلك الأسئلة عن دور (رجال هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر) التي (نلمس فواجعها عن قرب في أسارير بنات عمومتنا ، وفي مشاهدة الأنوثة المقيدة في الطرقات ، وداخل الحجرات المغلقة …) (لماذا يعكف رجال الهيئة على مطاردة الفتيات ؟؟ (…) ولماذا لا تستطيع المرأة الخروج من البيت من دون عباءة ص82) والاهم من كل ذلك ( لماذا لا تدافع الهيئة عن حقوق الفقراء؟ هل دورهم محصور في تنقية الأجواء من أنفاس المرأة ، وترك المحتاجين للأقدار تتكفل بمطالبيهم ؟ص83
لتكون قناعة سارة بأن الذي يجري( يناسب الأزمنة الغابرة ..)
الوجه الآخر للمأساة (القرين)
تمثل ربيكا الوجه الآخر لشخصية سارة ، فهي من أصول سعودية نسبة للأب ، لكنها نشأت في بيت بريطاني بعد أن تعذبت أمها مريام من انتظار حبيبها يوسف السعودي للزواج منها والاعتراف بابنتها ، فاضطرت للزواج من بريطاني أعطى ابنتها ربيكا اسمه ، وبهذا المعنى وفرت الروائية جوا من الحرية لربيكا في أن تأتي أقوالها جريئة حول (الهوية ، والأبوة ، وغيرها) ولتكون وجهة نظرها إسنادا لوجهة نظر سارة التي كبلتها قيود البيت السعودي في بريطانيا بالمحرمات …
تقول سارة (تجثم على قلبي هضاب من الهموم ، مع اقتراب كل عطلة صيفية ، أجد رحلتي للسعودية مضجرة …ص75) ثم تسرد حكاية الوجه الآخر للمأساة ابنة عمها ( هيا ) التي أنهت حياتها بالانتحار بعد أن حاولت التحرر من بعض القيود التي فرضتها منظومة المحرمات سواء في البيت أو في الشارع فقابلت من يريد الاقتران بها بعد طلاقها من زيجتها الأولى لتفاجئ برجال الهيئة وقد حضروا واقتادوها إلى مقرهم ،وحين حضر أبوها ليستلمها منهم قال لها:(لقد مرغت اسمي بالوحل ص77) وانهال عليها بالضرب ثم منعها من الخروج من البيت بتاتا !!
تلخص (هيا) مأساتها ومأساة جنسها بمجموعة من الضوابط : تزوجت على وفق رغبات أهلها ، بعمر السابعة عشرة وطلقت بعد عامين ، وهي تقول عن الطلاق (في بلدنا لا توجد مبررات مقنعة للطلاق ، يكفي أن يقول الرجل انه لم يعد راغبا في زوجته …) أما إذا كانت هي لا ترغب فيه فيجب أن تقدم مبررات للقاضي وإلا اعتبرت ( مستهترة ، وقد تظل سنوات مثل بيت الوقف لا يحل بيعه ولا شراؤه ص76).
وإذا كانت الكاتبة قد وضعت (هيا) في الزاوية الحرجة ، لتكشف عن التمرد السلبي الذي تعيشه الأنثى ضد قيودها الغليظة ، فانها وضعت على لسان ربيكا ، التي تمثل الشبيه او القرين لشخصية سارة ، أو بتعبير آخر نرى أن ربيكا تمثل المنولوج الداخلي في أعماق سارة حين لا تستطيع البوح الصائت لرغباتها وتطلعاتها ، لتؤكد قناعتها بان ما يجري (يناسب الأزمنة الغابرة) ويتأكد ذلك أن كل أقوال ربيكا المتمردة والساخطة على وضع الأنثى في مجتمع الرواية يجري بحضور سارة ومن خلال مدونتها السيرية ، التي تسرد قناعتها بأقوال ربيكا التي ترددها في نهاية الرواية باعتبارها أفكارها الخاصة : (… ارفض أن أحيا في ارض تلتهم حريتي،وتصادر كينونتي باسم الأعراف والتقاليد،إنني لا ارغب في الانتماء إلى تربة تشعرني بأنني مطية سهلة لكل من هب ودب ص94).وهذه العبارة صدى لأفكار ربيكا التي تقول 🙁 إذا أنت توافقيني الرأي على أن آباءنا وأمهاتنا ليسوا المحركين الرئيسيين لوجهة مستقبلنا ، كل ما تقولينه أمور شكلية وقناعتنا نحن من يصنعها ص92).
كما نلاحظ أن تحريض ربيكا وتأثيره على شخصية سارة يبلغ أشده حين تحاول سارة أن تثبت إن ( الإسلام منح المرأة حقوقا كثيرة ص70) بالإشارة إلى كتاب فاطمة المرنيسي ( سلطانات منسيات ) التي أكدت فيه على ( تزوير تاريخ المرأة المسلمة (وكأنه سبب لانحسار أدوارها القيادية ) فتجيبها ربيكا متهكمة (لماذا لم تتطرقي للمناضلات المسلمات أمثال تسليمة نسرين وأيان علي وغيرهما ، اللواتي سجلن اعتراضهن على انحياز دينكن للرجل الذكر على طول الخط ….ص70) إضافة إلى سلسلة من الاعتراضات والوقائع التي تسردها ربيكا عن وضع المراة المسلمة ، وهنا يهمنا طرح استنتاج يشي بأن الروائية قد استثمرت أسماء وهمية في روايتها لبناء عالمها الروائي إلا أنها هنا تتوقف عند أسماء حقيقية ( تسليمة وأيان والمرنيسي ) الهدف منها تورية مبطنة ، تشير إلى هدف بعيد يعمد إلى تعزيز وجهات نظر سارة وشبيهتها ربيكا من خلال ربط عالم الخيال ( الرواية ) بالعالم الواقعي والتعريف بآراء الحركة النسوية الناشطة من اجل حقوق المرأة وحريتها ممثلا بناشطات نسويات مسلمات أمثال تسليمة البنغالية وأيان الصومالية والمرنيسي المغربية .
وعلى الرغم من مسحة الندم وتأنيب الضمير الذي اعترفت به سارة في نهاية الرواية إلا أنها عزمت على قرارها بالهرب مع زياد وترك عائلتها على صدى صوت ربيكا ( تربيت أن اصنع قدري بيدي ، لم اهتم يوما بالمكتوب في صفحات الآخرين عني ص95) .
إن وقائع الحياة في المدن العربية ضد تطلعات النساء في الحياة العادلة وعسف حكامها والقائمين على السلطة الدينية فيها على النساء والرجال على حد سواء ، تسهم في تعميق غربة الإنسان عن وطنه وإنكار هويته بتمنيات وأحلام الحصول على هويات العالم المتمدن الذي يحيط بنا بل يجلس في بيوتنا ويخاطبنا من خلال وسائل الاتصال الحديثة التي قربت المسافات ، وجعلت من شعوبنا أقليات تتطلع إلى إثبات هويتها والحفاظ عليها.
جميل الشبيبي