ليونيد أندرييف 1
I
كان النهار يدنو من نهايته، فيما كان شابٌّ وفتاة ماضيين في المشي، ماضيين في الحديث، لا يُلقيان بالًا إلى الوقت، ولا إلى الطريق. على سفح تلّة أمامهما، بدأ الظلام يتسرّبُ إلى حرجٍ صغيرٍ كانت الشمس تتّقد عبر أغصانه جمرةً حامية، شديدة الحمرة، تُلهب الهواء وتجعل منه غبارًا ناريًا ذهبيّ اللون. كانت الشمس على قَدْر من القرب والألق جعل كل شيء في المحيط يبدو وكأنه يختفي، ولم يبق شيء غيرها يلوِّن الطريق ويمهّدها. أحسّ الماشيَين بألم في عيونهما، فانكفآ راجعَيْن. وسرعان ما انطفأ أمامهما كلّ شيء، وبات هامدًا وواضحًا، صغيرًا ومحدَّد المَعالم. وفي مكان ما، على بُعدِ فرسخ2 أو أكثر، أحاط الغروب الأحمر بجذع صنوبرة عالٍ، وشبَّ مشتعلًا في الفضاء الأخضر مثل شمعة في غرفة مظلمة. فجأة غطّت الطريقَ أمامهما حُمرةٌ قانية. فبات كلَّ حجر في الطريق الآن يُلقي ظلًا طويلًا، وأضاءتْ هالةٌ ذهبيةُ الحمرةِ شعرَ الفتاة الذي تخترقه أشعة الشمس. ثم انفصلت عن الشَّعر خصلة لولبيّة خفيفة، وتمايلت في الهواء مثل عشّ عنكبوت ذهبيّ.
الظلام الذي خيّم على الطريق أمامهما لم يقطع حديثهما، ولم يغيّر مجراه. فقد استمرّ كما كان صافيًا، نابعًا من القلب، ذا موضوعٍ واحد هو قوّةُ الحبِّ، وجمالُه، وخلودُه. كلاهما كان في ميعة الصبا والشباب، الفتاة لم تتعدَّ السابعة عشرة من عمرها، والشابّ نيموفيتسكي3 يكبرها بأربع سنوات. كلاهما كان يرتدي لباس الدراسة، هي في فستانِ مدرَسة ثانوية بنّيٍّ متواضع، وهو في هندام طلاب التكنولوجيا الجميل. وكان كلّ شيء مثلَ حديثهما فتيًّا، جميلًا ونقيًّا: قامتاهما الرشيقتان، المرِنَتان، كأنهما مفعمان بنسيم تتناغم معه مشيتُهما الخفيفة اللّيّنة، وأصواتهما العذبة التي يترقرق حتى في كلماتها البسيطة لطفُ التأمّل، مثلما يترقرق الغدير في ليلة ربيعٍ هادئة لا يكون الثلج فيها قد ذاب كلّه بعدُ عن الحقول المبقّعة.
وفيما هما يمشيان انعطفا سالكَين طريقًا لا يعرفانها، يصحبهما ظلّاهما الطويلان، وشيئًا فشيئًا يزدادان نحولًا، برأسَين صغيرَين مضحكَين، تارة يتحرّكان أمامهما، وتارة يسيران إلى جانبهما مندغمَين في خطٍّ واحد، ضيِّقٍ وطويل كظلِّ شجرة حَور. لكنهما كانا يتحدّثان، ولا يريان الظلال. وفيما هما يتحدّثان لم يرفع عينيه عن وجهها الجميل الذي كأن الغروبَ الورديَّ طبعَ عليه جزءًا من ألوانه الرقيقة. أمّا هي فكانت خافضة بصرها، تنظر إلى الدرب، فتنحّي بمظلّتها الحصى الصغيرة، وتراقب كيف تتناوب فردتا حذائها الصغير، برأسيهما الحادّين، على الظهور بانتظام من تحت فستانها الغامق اللون.
كانت تعترض الطريق ترعة جعلهما المشيُ جانبها مغبَّرين، متهالكين، فتوقَّفا لحظة. رفعت زينوتشكا4 رأسها وجالت عيناها بنظرة ضبابية حولها، ثم سألته:
ـ هل تعرف أين نحن؟ فأنا لم آتِ إلى هذا المكان من قبلُ أبدًا.
تفحّص الشابُّ المكانَ باهتمام: نعم، أعرفه. هناك، وراء هذه الرابية، تقع المدينة.
ومدَّ لها يده التي لم تألفِ العمل، ناعمة وبيضاء مثل أيدي النساء. كانت زينوتشكا مبتهجة، راودتْها رغبة في أن تقفز فوق الترعة، أن تجري، وأن تصرخ: “إلحقْني!” ـ غير أنها تمالكت نفسها، وبِرقّةٍ وشكرٍ ظاهر أحنت رأسها، وبشيء من الخشية مدّت له يدها الصغيرة التي ما تزال تحتفظ بما هو معهود في يد الطفلة من انتفاخ لطيف. أمّا هو فقد ألحّت عليه رغبةٌ قويّة حتى الألم في أن يشدّ على هذه اليد الصغيرة المرتعشة، غير أنه تمالك نفسه أيضًا، فأحنى رأسه قليلًا وأخذها باحترام، وغضّ نظره بتواضع حين انكشفت ساقها قليلًا وهي تجتاز الترعة.
عادا من جديد يمشيان ويتحدّثان، إلا أن رأسيهما كانا مليئين إحساسًا بتلامس يديهما دقيقةً. كما شعرت الفتاة بحرارة جافة في كفِّه وأصابعه القوية؛ فطاب لها ذلك وشعرت بشيء من الخجل، فيما شعر هو بنعومةٍ وديعة في يدها الصغيرة، ورأى خيال رِجْلها الأسوَد وفردة الحذاء الصغيرة التي تطوّقها بسذاجة ولطف. وكان ثمّة شيء حادٌّ، لانهائيّ في هذا التصوّر الدائم الحضور لمقطعٍ ضيِّق من تنّورتها البيضاء وساقها الرشيقة، أطفأه بجهد إرادة غامض. وعندئذ ابتهج وأحسَّ قلبُه بقَدْر كبير من الرحابة والحرية في صدره جعله يرغب بالغناء، وبأن يرفع يديه إلى السماء ويصرخ: “اركضي، وأنا سأجري لأدركك”، ـ هذه المعادلة الضاربة في القِدَم للحبّ البدائي بين الغابات والشلالات الصاخبة.
وبفعل هذه الرغبات كلِّها كانت الدموع تقترب من حنجرته.
كانت الظلال الطويلة المضحكة تتلاشى، وبات غبار الطرقات رماديًا وباردًا، غير أنهما لم ينتبها إلى ذلك وهما يتكلّمان. فقد قرأ كلٌّ منهما كثيرًا من الكتب الجيّدة، وأمام عيونهما كانت تمرّ صوَرٌ وضّاءة لمَن أحبّوا وتألّموا واستُشهِدوا في سبيل الحبّ النقيّ. واستيقظت في الذاكرة مقاطع شعرية مقروءة منذ زمان بعيد، أضفتْ على الحبَّ تناغمًا موسيقيًّا وحزنًا حلوًا.
ـ ألا تذكرين من أين هذا؟ ـ سألها نيموفيتسكي وهو يسترجع:
“… ومن جديدٍ إنها معي،
تلك التي أحبُّها،
تلك التي أخفيتُ عنها كلَّ أشواقي،
حناني، كلَّ حبّي،
لم أبُحْ بلفظةٍ لها بشيءْ…”5
ـ كلّا، ـ أجابت زينوتشكا وأعادت:
“كلَّ أشواقي،
حناني، كلَّ حبّي،
لم أبُحْ بلفظةٍ لها بشيءْ…”
ـ حبّي كلَّه، ـ ردّد نيموفيتسكي مثل صدى لا إرادي.
ومضيا يتذكّران ثانية. فتذكّرا صبايا ببياض الليلك وهنّ في ثياب الراهبات السوداء، يتهادَين وحيداتٍ، ضجِرات في الحديقة التي تغطّي أرضَها أوراقُ الخريف، سعيداتٍ في تعاستهنّ. وتذكّرا أيضًا رجالًا فخورين، نشيطين، وهم يتعذّبون ويتوسّلون الحبَّ، وشفقةَ النساء المرهَفة. كئيبةً كانت تلك الصور التي تستدعيها الذاكرة، غير أن الحبّ كان فيها أكثر صفاء ونقاء. فقد كان الحبُّ يتبدّى لعيونهما بجمالٍ عجيب، هائلًا كالعالَم، ساطعًا كالشمس، ما من شيء يفوقه جبروتًا وحسنًا.
ـ هل تستطيع أن تموت في سبيل من تحبّ؟ ـ سألته زينوتشكا وهي تنظر إلى يدها الشبيهة بيد طفل.
ـ نعم، أستطيع، ـ أجاب نيموفيتسكي جازمًا، وهو ينظر إليها مباشرة وبصدق. ـ وأنتِ؟
ـ نعم، وأنا أيضًا، ـ وأخذها التفكير. ـ يا لها من سعادة أن تموت في سبيل من تحبّه. لكَم أتمنّى ذلك.
تلاقت عيونهما الصافية المطمئنّة، وتبادلت شيئًا جميلًا، وابتسمت شفاههما. ثم توقّفت زينوتشكا:
ـ انتظرْ، ـ قالت له. ـ ثمّة خيط صغير على سترتك.
وبطمأنينة رفعت يدها نحو كتفه، وبإصبعين وحذرٍ أزالت الخيط.
ـ هه! ـ قالت، ثم استعادت جدّيّتها وسألته: ـ ما لكَ شديد الشحوب والنحول؟ أنت تدرس كثيرًا، صح؟ لا تُجهِدْ نفسك. لا لزوم.
ـ لكِ عينان زرقاوان، فيهما نُقَطٌ وضّاءة كشرارات صغيرة. ـ أجابها وهو يتفحّص عينَيها.
ـ أمّا عيناك فسوداوان. بل هما عسليّتان، دافئتان. وفيهما…
لم تُكمِل زينوتشكا كلامها عمّا فيهما، ومالتْ برأسها عنه. تضرّج وجهُها حمرة، وباتت عيناها خجولتين، مرتبكتَين، فيما افترّت شفتاها عن بسمة رغمًا عنها. ومن غير أن تنتظر نيموفيتسكي وهو يبتسم فرِحًا بشيء ما، سارت إلى الأمام، ولكنّها سرعان ما توقَّفت.
ـ انظرْ، لقد غابت الشمس! ـ صاحت بذهولٍ حزين.
ـ نعم، لقد غابت، ـ ردَّ عليها بحزنٍ فجائيّ حادّ.
لقد انطفأ النور، وماتت الظلال، وبات كل شيء حولهما باهتًا، أخرسَ، لا حياة فيه. ومن هناك، من حيث كانت الشمس اللاهبة ترسل بَريقها قبل قليل، راحت كتلٌ من الغيوم تزحف صُعُدًا ومن غير ضجيج، وشيئًا فشيئًا تلتهم الفضاء الأزرق الصافي. كانت الغيوم تصبح سُحُبًا تتصادم، وبصعوبة وبطء تغيِّر أشكالَها الغريبة المهتاجة، وتندفع إلى الأمام، وكأن ما يدفعها رغمًا عن إرادتها قوّةٌ رهيبة لا مَرَدَّ لها، وإذ تنفصل غيمةٌ عن الأُخريات تدور وحيدة، صافية، متشابكة، ضعيفة وخائفة.
II
شحَب خدّا زينوتشكا، واحمرّت شفتاها كأنهما داميتان، واتّسع بؤبؤاها فوق الحد وكدّرا عينيها، فقالت بهمس خفيض:
ـ أشعر بالرعب. ما أشدَّ الهدوء هنا. هل ضعنا؟
عقد نيموفيتسكي حاجبيه الكثَّين، وألقى على المكان نظرة متفحِّصة.
في غياب الشمس، وتحت أنفاس الليل القريب الطريّة بدا المكان موحِشًا وباردًا؛ وامتدّ رماديًّا في الجهات كلِّها، بأعشابه القصيرة التي كأن أقدامًا داستها، بوديانه وتلاله وحُفَرِه الطينية. كان هناك كثير من الحفر العميقة، والجُرفيّة، والصغيرة التي تغطّيها أعشاب زاحفة، وظلامٌ صامت بهدوءٍ يبقى طول الليل. ثمّ إن وجودَ الناس الذين كانوا يفعلون هنا شيئًا ما، ثم رحلوا، جعل المكان أكثر خواء وكآبة. ومثل غمائمَ من ضبابٍ ليلكيّ كانت الأجَمات، والأشجار المتفرِّقة تنهض وكأنها تنتظر ما ستقوله لها الحُفَر المهجورة.
قمع نيموفيتسكي شعورًا بالاضطراب ثقيلًا وغامضًا يتصاعد في نفسه وقال:
ـ كلّا، لم نَضِع. إنني أعرف الطريق. أوّلًا نسير عبر الحقل، ثمّ نجتاز تلك الأشجار. هل أنت خائفة؟
ابتسمت بجرأة وأجابته:
ـ كلّا، الآن لست خائفة. ولكن لا بدَّ من الإسراع إلى البيت، لكي نشرب الشاي.
انطلقا إلى الأمام بسرعة وثقة، ولكنهما سرعان ما أبطآ خُطاهما. لم يتلفّتا يمينًا ويسارًا، ولكنهما أحسّا بعدائية متجهّمة تطلع من الحقل المليء بالحُفَر وهو يطوِّقهما بألْفٍ من العيون العكرة الجامدة. ساورهما هذا الإحساس، وألقى بهما إلى ذكريات الطفولة. كانت ذكرياتٍ بهيجة، تضيئها الشمس، وأوراق الشجر الخضراء، والحبُّ والضحِك. لكأنّ ذلك لم يكن حياة، بل كان أغنية فسيحة، ناعمة كانا أنغامَها في معزوفتَين: إحداهما تصدح صافية مثل كريستال رنّان، والأخرى أقلّ رنينًا، وأكثر صفاء مثل جرَس صغير.
ظهر أمامهما امرأتان جالستان على حافّة حفرة طينية عميقة، إحداهما تضع رِجلًا على رِجل، تنظر بثبات إلى تحت، وقد ارتفع منديلها عن رأسها قليلًا، كاشفًا عن خصلات شعرٍ ملبّدة، وانحنى ظهرها، فانحسر أسفلُ كنزتها الوسخة وعليها أزهارٌ بحجم التفّاح، وخيوطٌ معقودة تتدلّى. إنها لم تنظر إلى المارّة. أمّا المرأة الأخرى، فكانت شبه مستلقية بالقرب منها، رافعة رأسها. كان وجهها غليظًا، واسعًا، فيه ملامحُ رجلٍ، وتحت عينيها تتّقد على خدَّيها البارزين نقطتان بحمرة القرميد، شبيهتان بكدمتَين طريَّتين. كانت أشدَّ وسخًا من المرأة الأولى، تصوِّب نظرها ببساطة إلى العابرين.
وحين مرّت أمامها زينوتشكا وصاحبهُا، انطلقت تغنّي بصوتٍ ذكوريٍّ خشن:
لك وحدك، يا حبيبي، تفتّحتُ مثل وردة عطِرة…
ـ هل تسمعينني، يا فاريا؟ ـ خاطبت صديقتها الصامتة. وحين لم تتلقّ جوابًا منها قهقهت بصوتٍ عالٍ، غليظ.
كان نيموفيتسكي يعرف هذا النوع من النساء الوسِخات، حتّى عندما يرتدين ثيابًا غالية ونظيفة، وتعوَّد على رؤيتهنّ. وها هو الآن يُلقي على هاتين المرأتين نظرة عابرة، ويتخطّاهما من غير أن تخلِّفا في نفسه أثرًا. إلّا أن زينوتشكا التي كادت أن تلامسها بفستانها البنّي المتواضع، داخَلَها للحظةٍ إحساسٌ عدائيٌّ سخيف وشرّير. ولكنّ هذا الانطباع لم يلبث أن زال بعد دقائق معدودة، مثل ظلّ غيمة تمرّ مسرعة فوق مرج يشعُّ كالذهب. ولمّا مرّ بها وتخطّاها رجلٌ يعتمر قبّعة، ويرتدي جاكيتًا ولكنّه حافي القدمَين، وامرأةٌ وسِخة مثله، رأتهما، إلا أنها لم تشعر بهما. ومن غير ما تفكيرٍ شيّعت بنظرها طويلًا هذه المرأة، وخالجها شيءٌ من استغرابِ ما جعلها ترتدي هذا الفستان الرقيق، اللاصق بجسمها كأنه مبلول، يلفّ ساقيها، وتحيط بأسفله طبقةٌ من وسخٍ دهنيّ باتت جزءًا منه. كان في خشخشة هذا الطرف الوسِخ من فستانها الرقيق شيءٌ مقلق، مؤلم ومُريب.
ومن جديد عادا يسيران ويتكلّمان، تتبعهما متثاقلةً سحابةٌ قاتمة، تنشر ظلًّا شفيفًا يلفّهما بحذر. وعلى الأطراف المهلهَلة من السحابة كانت تتراءى باهتة بقعٌ معدنية تتوارى عبر طرقات تتشكل من دون صوتٍ وراء حجمها الثقيل. وتجمّع الظلام خلسة، وعلى نحوٍ غير ملحوظ جعل من الصعب تصديقها، وخُيِّل أن النهار ما يزال موجودًا، ولكنه نهارٌ مصابٌ بمرضٍ عُضالٍ، يموت على مهْل. كانا الآن يتحدّثان عن تلك المشاعر والأفكار الرهيبة التي تراود الإنسان في الليل، حين لا يكون نائمًا، لا الأصوات تضايقه ولا الكلام، فيما ذلك الشيء الذي مثلُ الظلام، عريضٌ وكثيرُ العيون، والذي هو الحياة، يضغط بقوّة على وجهه تمامًا.
ـ هل تتصوّر اللانهاية؟ ـ سألته زينوتشكا، وهي تضع يدها المنتفخة كيد طفلة على جبينها، وتزمُّ عينيها بقوّة.
ـ كلّا. اللانهاية… كلّا، ـ أجابها نيموفيتسكي وهو يزمُّ عينيه أيضًا.
ـ أمّا أنا فإني أراها أحيانًا. وقد رأيتها أوّل مرّة عندما كنت ما أزال صغيرة. إنها تشبه العربات. هناك عربة، ثمّ أخرى، وثالثة في خطّ طويل لا ينتهي، ليس فيه إلا عربات، عربات… شيء رهيب، ـ وارتعشتْ.
ـ ولكن، لماذا العربات؟ ـ ابتسم نيموفيتسكي، رغم أنه كان يشعر بشيء كريه.
ـ لا أعرف. عربات. واحدة، ثمّ أخرى… بلا نهاية.
كان الظلام ينعقد خلسة، وكانت قد مرّت فوق رأسَيهما سحابة كأنّها تدقّق النظر من الأمام في وجهَيهما اللذَين اعتراهما الشحوب. وأخذ يتزايد ظهور قاماتٍ غامضة لنساءٍ وسِخاتٍ، ممزَّقات الثياب، وكأن حُفَرًا عميقة، ليس معروفًا سببُ حفرها، كانت تقذف بهنّ على السطح، فراحت أطراف ثيابهنّ البليلة تخفق على نحوٍ مقلِق. كنّ يظهرن تارة كلٌّ على انفراد، وتارة كلُّ اثنتين أو ثلاثٍ معًا، ترتفع أصواتهنّ في الهواء قويّةً ووحيدة على نحوٍ غريب.
ـ مَن هذه النساء؟ من أين هذا العدد الكبير منهنّ؟ ـ سألت زينوتشكا بهلع وصوتٍ خفيض. كان نيموفيتسكي يعرف مَن هنّ هؤلاء النسوة، وكان يرعبه وجودُهما صُدفةً في هذا المكان السيّء الخطير. ولكنّه أجاب باطمئنان:
ـ لا أعرف. هكذا. لا لزوم للكلام عنهنّ. سنعبر الآن أشجار هذا الحرج الصغير، وهناك نصل إلى المخفر والمدينة. مؤسف أننا خرجنا متأخّرَين إلى هذا الحدّ.
كان مضحكًا لها قولُه “متأخِّرين”، إذ إنهما خرجا في الساعة الرابعة، فنظرت إليه وابتسمت. إلا أن عقدة حاجبَيها لم تنفكّ. ولكي تهدِّئه، وتهوِّن عليه، اقترحت:
ـ فلنسرِع. إني راغبة بالشاي. بل والحَرج بات قريباً.
ـ هيّا بنا.
حين دخلا الحرج، وتعانقت أعالي الأشجار بصمت فوق رأسَيهما، بات الظلام شديدَا، ولكنهما أحسّا بالراحة والسكينة.
ـ هاتي يدكِ، ـ عرض عليها نيموفيتسكي.
مدّت له يدها متردِّدة، فخيِّل لها أن هذه اللمسة الخفيفة بدَّدت الظلام. كانت يداهما جامدتَين، تشدّ إحداهما على الأخرى، حتى إن زينوتشكا تنحّت قليلًا عن صاحبها، إلا أن وعيهما كلّه تركَّز في إحساسهما بهذا الجزء الصغير من الجسد، حيث تلامست يداهما. ومرّة أخرى عاودتهما الرغبة في أن يتحدَّثا عن جمال الحب وقوّته الخفيّة، إنما على نحوٍ لا يُفسِد هذا الصمت، أن يتحدّثا بالنظرات، لا بالكلام. لقد ظنّا أن عليهما أن يتبادلا النظرات، وأرادا ذلك، ولكنْ لم تواتِهما الجرأة.
ـ أخيرًا، ها هم الناس! ـ قالت زينوتشكا مبتهجة.
III
على مرج أكثر إضاءة كان ثلاثة أشخاص جالسين بالقرب من زجاجة فارغة، ينظرون بصمتٍ وترقّب إلى القادمَين. أطلق الحليقُ بينهم، مثلَ ممثِّلٍ، ضحكةً وصفيرًا كأنما تعبيراً عن التعجّب:
ـ ياااه!
انقطع قلبُ نيموفيتسكي، وتجمّد في اضطراب رهيب، إلّا أنه تابع سيره بخطّ مستقيم، كأن أحدًا يدفعه من الخلف في دربٍ ضيقة تمرّ بالقرب منهم. كانوا ينتظرون، وعيونهم الستّ عابسةٌ بثبات ورعب. وبرغبة غامضة باستعطاف هؤلاء العابسين، ممزَّقي الثياب الذين يشي صمتهم بالخطر، وبإظهار عجزه أمامهم، علّه يوقظ فيهم الشفقة، سألهم:
ـ أين الطريق إلى المخفر؟ أهيَ هنا؟
لكنهم لم يجيبوا. وأطلق الحليق صفيرًا ساخرًا وغير محدَّد، فيما صمت الاثنان الآخران، وحدّقا النظر بثباتٍ شرّيرٍ ثقيل. كانوا سكارى، غاضبين، راغبين بالجنس والتدمير. اعتدل ذو الخدَّين الأحمرين، المنفوخُ الجسم مستندًا على مِرفقَيه، ثم نهض ببطء على قدمَيه مثل دبٍّ، وتنهّد بصعوبة. ألقى رفيقاه عليه نظرة خاطفة، وعادا يحملقان بزينوتشكا من جديد.
ـ أشعر بالرعب، ـ قالت شفتاها.
ومن غير أن يسمع ما قالت، فهمها نيموفيتسكي من ثقل يدها عليه. وإذ شعر، وهو يحاول الاحتفاظ بهدوئه، أنه لا مفرّ ممّا سيقع الآن، أسرع خُطاه الموزونة بثبات. ثمَّ تقاربت عيون الثلاثة وهي تلمع خلفه، فخطر لنيموفيتسكي أنه “لا بدّ من الهرب ـ ، ولكنّه أجاب نفسه: ـ كلاّ، لا يجوز أن أهرب”.
ـ إنه شابّ هزيل تمامًا، حدَّ الإزعاج، ـ قال ثالثُ الجالسين، الأصلعُ ذو اللحية الحمراء الخفيفة الشعر. ـ ولكن الفتاة جميلة، يشتهيها أيٌّ كان.
ـ انتظرْ، أيُّها السيّد، لنقول لك كلمتين! ـ قال الطويل بصوت غليظ، ونظر إلى رفيقَيه.
وهَمّا بالنهوض.
ـ يجب أن تنتظر حين يطلبون إليك، ـ قال أحمر اللحية، ـ وإلا نلتَ نصيبك من الضرب.
ـ الكلام لك! ـ صاح به الطويل، وبقفزتين لحق بهما.
حطّت يده الثقيلة على كتف نيموفيتسكي وهزّته، وحين التفت طالعته بالقرب من وجهه تمامًا عينان دائريتان، جاحظتان ورهيبتان. كانتا على درجة من القرب منه وكأنه ينظر إليهما عبر عدسة مكبِّرة، وبجلاءٍ يرى عروقًا في بياضهما، وقيحًا أصفر قليلًا على أجفانهما. فترك نيموفيتسكي يد زينوتشكا الخرساءَ، ودسَّ يده في جيبه مغمغمًا:
ـ تريد مالًا!.. إليك المال. بسرور.
كانت العينان الجاحظتان تزدادان استدارة وبريقًا. وحين زاغ نيموفيتسكي بنظرته عنهما تراجع الطويل قليلًا، ووجّه ضربة من تحت إلى ذقنه جعلت رأسه يترنّح وفكّيه يصطكّان، وقبَّعته تنزلق إلى جبينه وتسقط، ثم بسط ذراعيه وانطرح على ظهره. ظلّت زيونتشكا صامتة، ثم استدارت من غير أن تصرخ، وبكل ما أوتيَت من قوة أسلمت ساقيها للريح. فأطلق الحليق صرخة طويلة وغريبة:
ـ آ ـ ا ـ ا !..
وجرى يركض خلفها صارخًا، فأدركها.
هَمَّ نيموفيتسكي بالنهوض وهو يترنّح، ولكنْ لم يتسنّ له أن يستقيم بجذعه حتّى تلقّى ضربة أخرى على قَذاله طرحته أرضًا. كان وحيدًا أمام خصمَين، ضعيفًا لم يتعوَّد العراك، ولكنه جاهد طويلًا وراح يخدشهما بأظفاره، مثل امرأة تقاتل، وهو يشهق باكيًا بيأسٍ أعمى ويعضّ. ولمّا خارت قواه تمامًا أنهضاه وحملاه فعاند، ولكن رأسه امتلأ بالضجيج، ولم يعد يفهم ما أصابه، فارتخى بين أيدي حاملَيه. كان آخرُ ما رآه قطعةً من لحية حمراء تكاد تدخل فمه، أعقبها ظلامُ الغابة، وكنزةٌ زاهية على فتاة تركض. كانت تجري صامتة ومسرعة، مثلما كانت تفعل قبل أيام قليلة، وهي تلعب لعبة القبض على شخص هارب، يطاردها الحليق بخطوات قصيرة، يكاد يدركها.
أحسّ نيموفيتسكي بفراغ حوله، فانطلق يركض مرعوبَ القلب، منحنيًا إلى تحت، وانطرح بجسمه كلِّه على الأرض مغميًّا عليه. ألقى الطويلُ وأحمر اللحية بنيموفيتسكي في وادٍ، ثمّ توقّفا قليلًا ينصتان إلى ما يجري في القاع. ولكنّ وجهَيهما وعيونهما كانت مصوّبةً إلى حيث ظلت زينوتشكا. فقد ترامت من هناك صرخة فتاة تختنق، وسرعان ما انقطعت. فهتف الطويل غاضبًا:
ـ أيُّها الوغد! ـ وانطلق يركض بخطٍّ مستقيم، يكسِّر الأغصان مثل دبٍّ.
ـ وأنا! وأنا! ـ صرخ أحمر اللحية بصوت رفيع وهو يجري في أعقابه. كان ضعيف البنية يلهث، فقد أصيبت ركبتُه بأذى في العراك، وتحسّر لأنه أوّلُ من فكّر بالفتاة، وسيكون آخر من ينالها. فتوقّف وحكّ ركبته بيده، ثم وضع إصبعًا على أحد منخريه وتمخّط، واستأنف الجري وهو يصرخ شاكيًا:
ـ وأنا! وأنا!
انتشرت سحابةٌ في السماء كلّها، وخيّم ليل مظلم، هادئ. وسرعان ما أخذت قامة أحمر اللحية القصير تختفي في الظلام، فيما استمرّ وقتًا طويلًا وقْعُ خطواته المضطرب، وخشخشةُ الأشجار وهو يخترقها، وصوتُه يتردّد شاكيًا:
ـ وأنا، يا أخوتي، وأنا!
IV
دخل الترابُ فمَ نيموفيتسكي وعلق بأسنانه. كانت رائحة التراب الكثيفة الهادئة أوّلَ وأقوى ما شعر به وهو يثوب إلى رشده. كان رأسه ثقيلًا، كأن رصاصًا قاتمًا صُبَّ فيه، فبات صعبًا تحريكُه. وكان جسمه مضعضَعًا كلّه. شعر بألم شديد في كتفه، ولكنّه لم يُصَب برضوض أو كسور. فجلس وأطال النظر إلى فوق، لا يفكّر بشيء، ولا يتذكّر أيَّ شيء. يتدلّى فوقه تمامًا نباتٌ ذو أوراق عريضة سوداء اللون، تتراءى من خلالها سماء باتت صافية. فقد مرّت السحابة من غير أن تُسقط قطرة مطر واحدة، فجعلت الهواء جافًا وخفيفًا، وارتفع الهلال عاليًا في كبد السماء، مقصوصًا يذوب أحد طرفيه شفافًا. إنها لياليه الأخيرة، ينشر فيها ضوءه البارد، الحزين، الوحيد. وكانت قِطع غيوم صغيرة تسبح مسرعة في أعالي السماء/ حيث استمرّت بالهبوب ريحٌ قويّة، ولكنها، على ما يبدو، لم تحجب الهلال، بل كانت تتفاداه بحذر. وفي انفراد الهلال، في حذَر الغيوم الصافية العالية، وهبوبِ الريح التي لا تؤثّر على ما تحتها، كنتَ تشعر بما في الليل المخيِّم على الأرض من عمقٍ غامض.
تذكّر نيموفيتسكي كل ما جرى، ولم يصدِّق. كلُّ ذلك كان مرعبًا، ولا يشبه الحقيقة التي لا يمكن أن تكون رهيبة إلى هذا الحدّ. وهو نفسه، في جلوسه وسط الليل، ينظر من مكان ما على الأرض إلى الهلال المقلوب والغيوم الراكضة، كان غريبًا أيضًا، ولا يشبه نفسه الحقيقية. وخطر له أنه في حلُم عاديٍّ رهيب. رهيب وسيئ جدًّا. وتلك النساء اللاتي رأينَ الكثير كنَّ حلُمًا كذلك.
ـ هذا مستحيل، ـ قال مؤكِّدًا، وهزَّ رأسه الثقيل هزّة خفيفة. ـ هذا مستحيل.
ومدَّ يده يبحث عن قبّعته ليذهب، فلم يجدْها. وجعل فقدانُها كلَّ شيء واضحًا فورًا، فقد أدرك أن ما جرى لم يكن حلُمًا، بل هو حقيقة فظيعة. وبعد دقيقة كان، وقد جمَّده الرعب، يحاول أن يصعد من حفرته، فيسقط مع ما يتشبّث به من تراب، ثم يعاود المحاولة ممسكًا بأغصان شجيرة ليِّنة.
ما إن خرج حتى ركض بخطٍّ مستقيم، لا يفكّر ولا يختار الاتجاه، فأطال الركض والدوران بين الأشجار. ثم فجأة أيضًا، ومن غير ما تفكير، ركض في اتجاهٍ آخر، ومرة أخرى عادت الأغصان تخدش وجهه، ومن جديد عاد كل شيء شبيهًا بالحلم. وخُيِّل لنيموفيتسكي أن شيئًا مشابهًا حدث له من قبلُ ذات يوم: ظلام، أغصان لا تُرى تخدش وجهه، وهو يركض مغمَض العينَين، يظنّ أن ذلك كلّه في المنام. فتوقّف، ثم جلس جلسة غيرَ مريحة، وغيرَ عادية، مثل مَن يجلس على الأرض وليس تحته شيء. ومرّة أخرى فكّر بقبّعته وقال:
ـ هذا أنا. يجب أن أقتل نفسي، حتى ولو كان هذا حلمًا.
وقفز وانطلق يركض ثانية، ولكنه صحا فأبطأ الخُطى، وهو يتصوّر على نحو غامض ذلك المكان الذي وقع فيه الاعتداء عليهما. كان الظلام يغمر الغابة تمامًا، يخترقه أحيانًا شعاعُ هلالٍ باهت، فيخدعه إذ ينير الجذوع البيضاء، فيما بدت الغابة مكتظّة بناسٍ لا يتحركون، ولسبب ما صامتين. وكان هذا أيضًا قد حدث من قبل، وكان أيضًا يشبه حلمًا.
ـ زيناييدا نيكولايفنا! ـ ناداها نيموفيتسكي ناطقًا اسمها بصوت عالٍ جليّ، واسم أبيها بصوتٍ خفيض، وكأنه يفقد مع صوته الأملَ بأن أحدًا سيجيب.
ولم يُجِب أحد.
ثم عثر على الدرب الفرعي، فعرفه وسار فيه حتى المرج. وهنا فهم تمامًا من جديد أن كلَّ ما يجري حقيقيٌّ، فأخذ يركض هنا وهناك مرعوبًا يصرخ:
ـ زيناييدا نيكولايفنا! هذا أنا! أنا!
وإذ لم يُجِبه أحد استدار نيموفيتسكي بوجهه صوب المكان الذي يُفترض أن تكون المدينة فيه، وصرخ مستغيثًا:
ـ النجـ… ـدة!
وعاد يركض هنا وهناك وهو يهمس بكلماتٍ ما، ويفتِّش عن الشجيرات الكثيفة إلى أن ظهرت أمام قدميه بقعة عكِرةُ البياض، شبيهة ببقعة ضوءٍ ضعيفٍ جامدة. تلك كانت زينوتشكا وهي مستلقية.
ـ يا إلهي! ما هذا؟ ـ قال نيموفيتسكي وعيناه جافّتان، بصوتِ رجلٍ ينتحب، وركع على ركبتَيه ولمس المستلقية.
لامست يدُه جسدًا عاريًا، مشدودًا وباردًا، ولكنه ليس ميّتًا، فارتجف نيموفيتسكي، وسحب يده بقوّة.
ـ يا غاليتي، يا حمامتي، هذا أنا!، ـ همس وهو يبحث عن وجهها في الظلام.
ومرّة أخرى مدَّ يده في اتّجاه آخر، فاصطدمت بجسدٍ عارٍ. وهكذا في أيّ اتّجاهٍ يمدّ يده كانت تقع على جسد امرأة عارية، ناعمٍ ومشدود كأنه بات دافئاً بفعل ملامسة هذه اليد. أحيانًا كان يسحب يده بسرعة، وأحيانًا يبقيها بعض الوقت. ومثلما كان بعد ضياع قبّعته يبدو لنفسه غيرَ حقيقيّ، كذلك لم يستطع أن يجد صلة بين هذا الجسد العاري وزينوتشكا التي في خياله. وما كان قد حدث هنا، ما فعله الناس بهذا الجسد الأنثوي الخامد، ظهر أمامه بوضوحٍ كلّيِّ البشاعة، وتردّد صداه في جميع أعضاء جسمه بقوّة غريبة متكرِّرة. وانبطح بطريقة جعلت مفاصله تطقطق، وبغباء كامل حدّق بالبقعة البيضاء، وعقد حاجبيه كمن يفكّر. لقد تجمّد فيه الرعب أمام هذا الحدث، فتكوّر عقدةً واستلقى في روحه مثل شيء غريب عليه، ولا قوّة فيه.
ـ ما هذا، يا إلهي! ـ كرَّر قائلًا، غير أن صوته لم يكن صادقًا، وكأنه مفتعَل.
تلمّس قلبها، فوجده يدقّ ضعيفًا، وإنما بانتظام. وحين انحنى على وجهها تمامًا، أحسّ بنفَسٍ ضعيف وكأن زينوتشكا راقدة في غيبوبة عميقة، بل كأنها نائمة لا أكثر. فناداها بصوتٍ خفيض:
ـ زينوتشكا، هذا أنا.
ولسببٍ ما، أحسّ أن الأفضل هو أن تستمر غيبوبتها طويلًا. ثم حبس أنفاسَه، وألقى نظرة سريعة على ما حوله، وبحذرٍ داعب خدّها، وبادر إلى تقبيل عينيها المغمضتين، ثم شفتيها اللتين انفرجتا قليلًا تحت ضغط قبلته القوي. وخافَ أن تستيقظ، فأبعد عنها رأسه وخمد. إلا أن جسدها كان أخرس، لا يتحرّك، وفي عجزه واستسلامه شيءٌ ما بائس، مثيرٌ وجذّابٌ بقوّة لا تقاوَم. وبلطف عميق، وحذَر لصّ رعديد حاول نيموفيتسكي أن يردّ عليها مِزَق ثوبها، فساوره شعور مزدوج، بالأمومة وبالجسد العاري، كان حادًّا مثل خنجر، وعصيًّا على الوصف كالجنون. إنه كان الحامي والمهاجم معًا، فراح يتوسّل العون من الغابة ومن الظلام، ولكنْ لا الغابة مدّت له يدَ العون، ولا الظلام. كان أمامه طريدة وحوش، وفجأة وجد نفسه ملقى وراء ضفّة الحياة البشرية المفهومة البسيطة، فعانق شبقَه الحارق المنتشر في الهواء، ووسّع منخريه.
ـ هذا أنا، أنا. ـ كرّر مثل ببغاء، عاجزًا عن فهم ما حوله، مليئًا بذكرى ما رآه من قبل: الخطّ الأبيض في تنّورتها، خيال رِجلها الأسوَد والحذاءُ يطوِّق تلك الرِّجل بحنان. وفيما كان ينصت إلى أنفاس زينوتشكا، لا يحيد بنظره عن المكان الذي فيه وجهها، قرّب يده منها، ثم أنصت ثانية وزاد يدَه اقترابًا.
ـ ما هذا؟ ـ صاح بقوّة ويأس، وقفز مرعوبًا من نفسه.
للحظة واحدةٍ لمع في عينيه وجه زينوتشكا واختفى. فحاول أن يفهم أن هذا الجسد هو زينوتشكا التي كان يسير معها اليوم، وكانت تتكلّم عن اللانهاية، ولم يستطع. وحاول أن يشعر برعب ما جرى، غير أن الرعب كان شديد الهول، إذا ما فكّرنا أن كلّ ذلك حقيقةٌ، ولم يظهر.
ـ زيناييدا نيكولايفنا! ـ صرخ متوسِّلًا. – لماذا هذا؟ زيناييدا نيكولايفنا!
ولكن الجسد المنهَك ظلّ صامتًا، فخرَّ نيموفيتسكي على ركبتَيه وهو يطلق ألفاظًا لا رابط بينها. كان يتوسّل، يهدِّد، ويقول إنه سينتحر. يهز الراقدة ويضمّها، يكاد ينشِب فيها أظفاره. والجسد الذي سرَت فيه الحرارة ينصاع لجهوده، خاضعًا لحركاته، بقَدْر من الرعب، والغرابة، وعدم الفهم جعل نيموفيتسكي يقفز مرة أخرى، ويصرخ بصوت متقطِّع:
النجدة! – وكان صوته كاذبًا، كأنه مقصود.
وعاد فهجم على الجسد العاجز عن المقاومة، وراح يقبّله ويبكي، وهو يشعر أن أمامه هوّةً مظلمة، رهيبة، تجتذبه. لم يكن نيموفيتسكي موجودًا، ظلِّ نيموفيتسكي متأخرًا في مكان ما، وهذا الموجود الآن يدعك بقسوةٍ ضارية جسدَ الراقدة الساخنَ الخائر، وهو يقول مبتسمًا ابتسامة مجنون ماكرة ساخرة:
ـ ردّي علَيّ، أم أنت لا تريدين؟ فأنا أحبّك، أحبّك.
وبتلك الابتسامة الماكرة الساخرة نفسها أدنى عينيه المتّسعتين من وجه زينوتشكا، وهمس:
ـ أحبّك. أنت لا تريدين أن تتكلّمي، ولكنك تبتسمين، وأنا أرى ذلك. إني أحبّك، أحبّك، أحبّك.
وبمزيدٍ من القوّة ضمّ الجسد الرخو، الصامت الذي باستسلامه العديم الحياة أيقظ فيه شهوةً وحشيّة، فراح يتفجّع ويهمس من دون صوت، لم يبقَ فيه من الإنسان إلا القدرة على الكذب:
ـ أحبّك. لن نقول لأحد، ولن يعرف أحد. وسأتزوّجك غدًا، متى تشائين. أحبّك. وسأقبّلك وتردّين علَيّ، حسنًا؟ زينوتشكا…
وضغط بقوّة على شفتيها شاعرًا بأن أسنانه تنغرز في جسدها، وهو يفقد في ألم القبلة وقوّتها آخرَ ومضات التفكير. وخُيّل له أن رعشة سرت في شفتَي الفتاة. إلا أن رعبًا حارقًا شعّ لحظةً واحدة، فأنار أفكاره كاشفًا أمامه عن هوّة سوداء.
وابتلعته الهوّة السوداء.
كانون الثاني/يناير 1902