(و لكن انتبه جيدا، أنه لم يكن يسلي إلا نفسه)
لورنس داريل
في بداية الربيع ومثل كثيرين أصاب بحساسية جلدية تجعلني أهرش جسمي في مواضع متعددة وخاصة في الرجلين والظهر.
هرش الرجلين عملية سهلة وميسورة إذ لا عوائق ملحوظة بين يدي الهارشة وبين رجليّ وخاصة الجزء الأوسط من الساقين.. ليس هناك مشكلة إذن مع الرجلين المشكلة كامنة في ظهري وخاصة في أجزاء لا تستطيع يدي أن تصل إليها..
عندما تشتد نوبات الحساسية وتصل إلى ظهري أهرش ما تيسّر من مناطق في ظهري تستطيع يدي الوصول إليها.. أما الأجزاء الأخرى النائية فانني غالبا أميل على زوجتي لأداء المهمة، وهي على العموم قامت بالمهمة لمدة أسبوع على الأقل، ولكن بعد ذلك أخذت تتململ تدريجيا إلى أن اختلفنا في إحدى المسائل ذات مرة وأطلقت آراءً اعتبرتها زوجتي غريبة ومتطرفة بحيث غضبت مني غضبا شديدا انعكس بسرعة على موقفها عندما اشتدت حساسية ظهري وكان لا بد من طلب المعونة منها، ولكنها هذه المرة لم تستجب بل أنها صرخت في وجهي قائلة:
– أنا مش هرّاشة عندك، وهكذا صار لزاما عليّ أن أبحث جديا عن هراّشة.
لقد عرفت دائماً أنني كائن فيّ شيء لله. وهكذا ما إن ابتدأت أفكر جديا بالبحث عن هراشة لشرائها، حتى برز صديقي الطيب فراس فجأة في شارع سقف السيل أثناء ذهابي إلى المقهى، وبعد أن تبادلنا حديثا قصيرا مّد يده إلى كيس في يده وقدم لي هراشة، أي نعم، قدم لي هراشة كهدية، ويبدو أنه اشترى عددا منها استحلاها بسبب شكلها الفريد وربما لرخص أسعارها. والحقيقة أنني بقدر ما سعدت بهدية صديقي التي جاءت على الوجع بقدر ما اندهشت لشكلها الفريد، الجميل والأنيق بيدها البرتقالية التي تنبثق من قضيب رشيق لامع وتنتهي بمقبض يظهر كأنه جلدي مع أنه ليس كذلك..
سبب دهشتي يعود إلى أنني عرفت نوعا معينا من الهراشات مصنوع من النحاس وقد سبق أن اشتريت واحدة من سوق الحميدية في دمشق ولكنها كانت من النحاس والذي سرعان ما ينطفئ لونه ليميل إلى شيء من السواد بسبب سرعة تأكسد مادة النحاس- لهذا لم يكن شكل تلك الهراشة جذاباً، إضافة إلى أنني أصبت بنوع من الصدمة عندما شاهدت أصابع الهراشة التي تشبه أصابع طفل سمين وأيضاً كان ذراعها قصيرا نسبياً ولا يمتاز بالطول والرشاقة التي لهراشتي الحالية، ربما حدث ذلك لأهداف التوفير إذ أن مادة النحاس أغلى من مادة البلاستيك.. وهكذا, ومع ذلك قامت تلك الهراشة بمهماتها على أكمل وجه في ذلك الربيع الدمشقي، ربما قبل أكثر من ثلاثين سنة.. أما تلك الهراشة فلا بد أنها (انطعشت) واختفت في ربكة حزم أغراضنا للعودة إلى عمّان في أواخر عام 87، لهذا كنت سعيدا وفخورا بهراشتي الجديدة بذراعها الرشيق الطويل وبالأربع أصابع البرتقالية النحيلة التي ينتهي بها طرف الهراشة.. أصابع طويلة رشيقة تجعل ممن يمتلك ما يشبهها من أصابع الأولاد مؤهلا ليكون عازف بيانو كبيراً.
وبسبب جمالها الفريد، كثيراً ما كنت أمعن النظر وخاصة في الأصابع الرشيقة وهي أربعة وليست خمسة، بحيث بتّ على يقين أن الأصل في الأيدي أن تحمل أربعة أصابع وليس خمسة.
وخلاصة القول أنني استمتعت بخدمات هذه الهراشة لمدة تزيد على ثلاثة أسابيع وهي المدة المعتادة كل سنة لبروز الحساسية الجلدية عندي.
وطبعاً وبهدف تصفية بعض الحسابات الصغيرة مع زوجتي كنت أتعمّد المبالغة عندما أهرش جزءاً من ظهري فأروح أطلق التنهدات والآهات كمن يستمع إلى أم كلثوم.. الأمر الذي كان يغيظها كما توقعت وهي تتقلب متأففة قائلة بسخرية:
– دخيلك إنت وهراشتك اللي بتسواش شلن.
وهنا كنت أحس بالغبطة لأنني نجحت في إغاظتها وإثارة الغيرة في نفسها من الهراشة..
هكذا مضت الأمور في أيام الحساسية تلك إلى أن انتهت تلك الأيام وهنا ولدى إلقائي نظرة على الهراشة التي أضعها مع بقية أغراضي على الكومودينة الصغيرة التي تحمل التيبل لامب وبعض الكتب والمجلات وبعض الأدوية وربما بعض أقراص المهدئات.. لدى إلقائي نظرة إلى الهراشة احسست بأنها باتت حزينة لأنها لم تعد تؤدي لي أية خدمة..
ولكنني كنت على خطأ إذ اتضح أن الهراشة الذكية هي ذات مآرب أخرى وإليكم ما حدث:
قلت إنني بسبب فوضويتي الزائدة أضع كل شيء على تلك الكومودينو التي بجانبي بما في ذلك أيضاً علبة سجائري والقداحة… وذات مرة وبسبب ازدحام كل هذه الأشياء سقطت القداحة على الأرض فأردت التقاطها ولكنني اكتشفت بدهشة أنها ليست في المكان الذي قدرت وجودها فيه ولكنها انزاحت بعيداً عن متناول يدي على مسافة حوالي نصف متر تحت السرير بحيث بات متعذراً أن التقطها بيدي، حاولت مستخدما إحدى الجرائد بعد أن كورتها ولكنني لم أنجح لأن القداحة كانت تنزلق أحياناً ولا تتزحزح أحياناً أخرى.. وبعد محاولة ثالثة فاشلة تذكرت الهراشة والتي ما إن مددتها باتجاه القداحة حتى أطبقت الأصابع الرشيقة البرتقالية على أطراف القداحة لتحضرها فخورة طائعة إليّ.. وهنا أحسست أن الهراشة تضحك مسرورة لأن مهمتها لم تنته بعد.
حدث هذا عندما سقط الموبايل أيضاً والذي أيضاً. ويا للغرابة، استقر في نفس المحل الذي كانت قد استقرت فيه القداحة.. وأيضاً حصل نفس الشيء للمرة الثالثة عندما سقطت نظارة القراءة حيث دفعتها القوة الغامضة إلى نفس المكان أيضاً وأيضاً.
الأمر الذي أكد لي أن هراشّتي أجرت بطريقتها الخاصة حواراً ديموقراطياً مع أشيائي المعرضة دائماً للسقوط – وإلا كيف تفسّر انزياح كل ما سقط إلى نقطة معينة تحت السرير بعيدة لمسافة لا ثقل عن نصف متر – والحقيقة التي خرجت بها هي أن الأشياء أيضاً تتحاور وتتواطأ مثل بني البشر.. وإلا فكيف لنا أن نفسّر العديد من الظواهر الغامضة في هذا الكون..
إذن وجدت هراشتي وظيفة جديدة وخاصة أنه بسبب ازدحام سطح الكومودينو فأن أشيائي المزدحمة معرضة دائماً للسقوط كما أسلفت القول..
ومن يدري، ربما وجدت مهمات أخرى لا أتوقعها,,
كل هذا جعلني أنظر باحترام شديد إلى هذه الهراشة إلى درجة أنني كتبت لها:
أيتها الهراشة الرشيقة
يا من تجيدين العزف على مكامن الحساسية في ظهري
بالأطراف الحادة بعض الشيء لأصابعك الرشيقة
يا من تسرعين كخادم مطيع، لالتقاط ما تساقط من أشيائي الصغيرة..
يا من لا تأكلين ولا تشربين ولا تطلبين مني هراشة لك، إذ ربما أنت مصابة بالحساسية مثلي.. فمن يدري؟
أنت يا قليلة الطلبات, لا تطلبين فستانا ولا مشوار أو ذهاب إلى السينما، لا تطلبين هدايا ولا سكربينات..
أنت أيتها الرائعة، لو كنت امرأة لتزوجتك، أيتها الجميلة بأصابع نحيلة.