في الآونة الأخيرة ترددت كلمة «الواقعية» كثيرا حول عدد من الأفلام التي تصور بعض الظواهر الاجتماعية والسياسية المعاصرة، مثل العشوائيات والمظاهرات وطوابير الخبز والكوارث والحوادث المأخوذة عن صفحات الجرائد…هذا الاتجاه المتزايد إلى محاكاة الواقع كثيرا ما ينظر إليه باعتباره ميزة في حد ذاته، وهذا التصور ناتج عن افتراض بأن الفنان الذي يستلهم فنه من الواقع أفضل من الفنان الذي يعتمد على الخيال، وأن الفن يكون أفضل كلما كان يحاكي الواقع أكثر.هذه النظرة سائدة في مجتمعاتنا منذ عقود طويلة حتى بين نقاد الفن ومؤرخيه ولكن المدقق يمكنه أن يدرك مدى قصور هذه النظرة وتشوشها وسط ثقافة لم تفكر في التوقف يوما للتساؤل عما يعنيه مصطلح «الواقعية»..
فعلا…وهو أمر غريب لأن كلمة «الواقعية» هي أكثر المصطلحات استخداما في وصف الأفلام، إلا أننا حين نفكر قليلا في معناها فلن نصل غالبا إلى معنى محدد ولن نتفق على المقصود من هذه المعانى.
كلمة الواقعية ترد إلى أذهان المشاهدين غالبا أمام أي عمل يصور الطبقات الفقيرة والمتوسطة بقدر معقول من التفاصيل في الديكور والملابس ولغة الحوار وسلوك الشخصيات التي تتشابه مع ما يحدث في الواقع…ولكن هل يعني ذلك أن تصوير حياة الأثرياء أو المثقفين أو رواد الفضاء يتنافى مع الواقعية حتى لو كان يعتمد على تفاصيل حياتية دقيقة؟ ثم هل تعني التفاصيل الدقيقة التي نراها في فيلم أمريكي باهظ الإنتاج يروي قصة رجل عصابات عاش فعلا خلال فترة زمنية معينة أن هذا الفيلم واقعي؟
هناك فرق، إذن، يدركه المشاهد بين نوعين من محاكاة الواقع: الأول يمكن تسميته بـ«المصداقية» التي يجب أن تتوفر للعمل الفني حتى لو كان خياليا، وقد وضع «أرسطو» في كتابه «فن الشعر» قواعد هذه المصداقية، وسوف أعود إلى ذلك بعد قليل. النوع الثاني من محاكاة الواقع يحمل نوعا من الالتزام السياسي أو الاجتماعي لدى الفنان تجاه الواقع الذي يقوم بتصويره، غالبا ما يتمثل في الانحياز إلى الطبقات والفئات المهمشة والمظلومة. مع ذلك فمن التسطيح أن نقرن الالتزام بالـ«واقعية» لأن الموقف السياسي يمكن أن يقترن بأي مذهب فني حتى لو كان «السيريالية» أو «العبثية».
حتى منتصف القرن التاسع عشر، قبل بزوغ الثورة الصناعية والاختراعات والاكتشافات العلمية وأصول التفكير العلمي «المادي» أو «الواقعي» كما يجرى تسميته، لم يشغل الكثيرون أنفسهم بمدى أهمية أن يكون الفن واقعيا. الشيء المهم كان ضرورة توفر مجموعة من القواعد التي تخلق الاحساس بـ«صدق» ما تراه وتسمعه، حتى لو كان «الالياذة» أو «ألف ليلة وليلة». ومنذ أكثر من 2330 عاما وضع الفيلسوف اليوناني «أرسطو» شروط هذه المصداقية:
الدراما عند أرسطو تنقسم إلى نوعين رئيسين هما التراجيديا والكوميديا، وكل منهما يجب أن يراعي مجموعة من القواعد حتى «يصدقها» الجمهور. في التراجيديا، مثلا، يجب أن تكون الشخصيات نبيلة، وحتى نصدق الحوادث التي تدور يجب أن يكون هناك دوافع مقنعة لدى الشخصيات وتبريرات منطقية للأحداث وأن يكون لها بداية ووسط ونهاية. لا يرفض «أرسطو» الخيال بل يدافع عنه، ولكنه يشترط «المصداقية». ومن الطريف أن هذه المصداقية تتفق مع قواعد المصداقية التي وضعتها هوليوود، مثل مراعاة الصحة التاريخية للملابس والديكورات، كذلك استخدام تكنيك سينمائي جيد يتوافق فيه الصوت مع الصورة، وزوايا التصوير وتتابع اللقطات، ومع دخول نظام النجوم إلى هوليوود أصبحت المصداقية أيضا مرتبطة بنوع الدور الذي يلعبه النجم، فهناك من يتخصص ويصدقه الناس في دور البطل المغوار، أو من تتخصص ويصدقها الجمهور في دور الطاهرة البريئة…
هذه «المصداقية»، وياللعجب، طالما استخدمت لتبرير أعمال جامحة الخيال، مثل أفلام الخيال العلمي والفانتازيا والأكشن، وطالما روجت لواقع ميلودرامي أو رومانتيكي مختلف تماما عن واقع المشاهدين وحياتهم…ومن المهم هنا أن نميز بين «القابلية للتصديق» وبين الواقعية.
اليوم الذي ولد فيه الواقع!
بالرغم من أن الفنون عمرها قديم جدا،آلاف السنين على أقل تقدير، إلا أن «الواقعية» كمذهب فني لم تظهر سوى في منتصف القرن التاسع عشر تقريبا، ولعل أول استخدام للمصطلح كان في مجال الأدب عام 1830 ليصف نوعا من الأدب يناهض الرومانتيكية التي سادت وقتها، وتلخيصا لهذا المواجهة يقول كاتب المسرح الشهير «بيتر بروك» ( 1925 – ): «إذا كانت الرومانتيكية تمجد الخيال، فإن الواقعية أعلت من شأن البصر». الكلاسيكية وبالفعل ارتبط مصطلح الواقعية بالفنون البصرية في منتصف القرن التاسع عشر ليصف نوعا من اللوحات تحاكي الصور التي تنتجها كاميرا التصوير الفوتوغرافي، التي كانت اختراعا حديثا في ذلك الوقت، وكان الفنان التشكيلي جوستاف كوربيه (1819- 1877) من أوئل الفرنسيين الذين ارتبطت أعمالهم بمصطلح الواقعية خاصة بعد لوحتيه «دفن الموتى في أورنان» و«عمال تكسير الصخور» اللتين صدمتا رواد معارض باريس البورجوازيين 1850.
إذا كانت الكلاسيكية ترى أن العالم أكثر منطقية ونظاما مما يبدو عليه، وإذا كانت الرومانتيكية ترى أن العالم أكثر عاطفية وانسانية مما هو عليه، فإن الواقعية تحاول أن تصور العالم بدون مبالغات وبأكبر قدر ممكن من الموضوعية. لقد آمنت الواقعية بأن هناك حقيقة غير ذاتية وكافحت ضد الانحياز الشخصي للفنان وضد المبالغة في العواطف، وسعت وراء «الحقيقة» وطالبت الفنان أن يتخلى عن أفكاره المسبقة ويلتزم بتصوير ما يراه بأكبر قدر من «الدقة». لقد ارتبط ظهور الواقعية بازدهار العلم ووضع أسس التفكير العلمي مثل القدرة على الملاحظة والتسجيل الدقيق للظواهر ووضع الفرضيات واختبارها، كما ارتبط أيضا ببداية ظهور كتاب وفنانين يتمتعون بإستقلالية تتيح لهم امتلاك وعي وضمير اجتماعي محايد يرى شرور المجتمع ويسعى إلى اصلاحها مثل «أونريه بالزاك» و«جوستاف فلوبير» في فرنسا و«تشارلزديكنز» و«توماس هاردي» في انجلترا.
ويثار هنا سؤال : هل كان ظهور «الواقعية» ناتجا عن عصر العلم بشكل عام و اختراع التصوير الفوتوغرافي ثم السينمائي بشكل خاص، أم أن اختراع الفوتوغرافيا والسينما- كما يرى البعض – كان وليد الميل المتزايد نحو رؤية الواقع وتسجيله، هذا الميل الذي غذته الحياة الصناعية والعلمية الحديثة؟
كذلك يثار سؤال آخر: هل الأفلام التي تجنح إلى الميلودرامية والمبالغات العاطفية وتنضح بالموقف الشخصي المنحاز للفنان يمكن وصفها بـ«الواقعية» طالما أنها تتحدث عن حياة العمال والفقراء والمهمشين؟
سوف نعثر على بعض الاجابات فيما يلي.
السينما…هل هي فن واقعي بالضرورة؟
عندما ظهر فن السينما قبل سنوات معدودة من نهاية القرن التاسع عشر اعتبر البعض أن حلم تصوير الواقع وتسجيله وحفظه أصبح متاحا أخيرا، وقام الأخوان «لوميير» مخترعا السينما بتصوير فيلمهما القصير «العمال يغادرون مصنع لوميير» الذي يعد في رأي البعض فيلما واقعيا، وفي نفس الفترة تقريبا كان الفرنسي «جورج ميليه» يصور فيلمه «رحلة إلى القمر» الذي يعتبر أول فيلم فانتازي خيالي…ومنذ ذلك الحين توالت عشرات الأساليب وآلاف الأفلام يمكن تقسيمها تحت هذين التصنيفين: الأفلام التي تحاول أن تصور العالم كما هو، والأفلام التي تصور العالم كما يراه خيال الفنان. ولكن الأمر ليس بهذا الوضوح والبساطة، لأن كل فيلم على حدة يطرح ويعيد طرح السؤال، بقصد أو دون قصد، عما هو الفرق بين الواقعي وغير الواقعي…ولكن لنؤجل هذه المناقشة إلى النهاية.
مع استقرار صناعة السينما وانتشارها في هوليوود وضعت بعض القواعد الخاصة بـ«المصداقية» أو «القابلية للتصديق» التي يجب أن تتوفر في أي فيلم، خاصة في القصة والشخصيات، ثم في الديكور والملابس وتكنيك التصوير والإضاءة والمونتاج إلى آخره، ولكن تحت هذه الشروط الشكلية حملت الأفلام الهوليوودية الكثير من عدم الدقة العلمية ومخالفة قوانين الطبيعة وروجت رؤية ميلودرامية للحياة تحول فيها البشر إلى أبطال أنصاف آلهة وأشرار أنصاف شياطين، ونظرة رومانتيكية للعلاقات العاطفية لا علاقة لها بالواقع.
مع قيام الثورة الشيوعية في روسيا 1917 أصبح المذهب الفني الرسمي الوحيد المعترف به في الاتحاد السوفيتي والبلاد الشيوعية الأخرى هو «الواقعية الاشتراكية»، الذي يعتمد على تصوير مساوئ الرأسمالية وبطولات العمال والفلاحين والمثقفين المؤمنين بالاشتراكية في مواجهة الاقطاعيين والرأسماليين، وتتسم غالبا بالدعائية السياسية المباشرة والبساطة الشديدة في الشكل والاسلوب بهدف الوصول إلى الملايين الذين لا يعرفون القراءة والكتابة. وهناك فارق بين «الواقعية الاشتراكية» (سوشيالست رياليزم) وبين «الواقعية الاجتماعية» (سوشيال رياليزم) التي تصف الأعمال التي تتناول مظاهر الثورة الصناعية وتأثيرها في خلق طبقة من الأغنياء جدا وأخرى من المعدمين، وتصور هذه الأعمال حياة الطبقة العاملة والفقراء والمهمشين والمهاجرين وكفاحهم في مواجهة الظلم وسؤ الحظ كما يمكن أن تصور حياة الأغنياء اللاهية، ولكن مع وجود هامش من الذاتية للفنان وبدون الالتزام بالموقف الماركسي بالضرورة. وقد ظهرت «الواقعية الاجتماعية» ومشتقاتها في أوروبا وأمريكا غالبا كنوع من رد الفعل لمواجهة الرومانتيكية والمثالية والأعمال التي تستغرق في الذاتية، وبعض فناني «الواقعية الاجتماعية» أقسموا على مكافحة «الفن الجميل» وأي اسلوب يغازل العين والعواطف، وفي مجال السينما ظهرت «الواقعية» غالبا كرد فعل على الأفلام «التجارية» التي تنتجها هوليوود وغيرها من مصانع الأفلام «التجارية» سواء كانت في ايطاليا أو بريطانيا أو الهند. والفارق بين «الواقعية» و«الهوليوودية» هنا لا يكمن فقط في نوع القصص والحبكات التي ترويها الأفلام ولكن أيضا في طرق انتاج الأفلام وتنفيذها…ويتغير مفهوم الواقعية دائما وفقا لطريقة الانتاج وتنفيذ الأفلام بالاضافة إلى اختلاف الرؤية السياسية والفنية تجاه العالم.
واقعية جديدة…وقديمة
إذا كانت السينما التجارية تعرض ما يريد المجتمع أن يراه ويسمعه، فإن السينما الواقعية، كما يرى البعض، هي التي تقدم ما يرى وما لايسمع عادة، وبينما يرى البعض أن الواقعية تهدف إلى تصوير المجموعات التي لا ترى، والأصوات التي لا تسمع وأنها من هذا المنظور ذات طبيعة سياسية، إلا أن الناقد الأمريكي «رايموند ويليامز» رأى أن «المد الاجتماعي للواقعية» لا يهدف فقط إلى تصوير الفقراء، ولكن أيضا الناس العاديين الذين يشبهون الجمهور الذي يشاهد الفيلم.
وتوصف بالواقعية عادة تلك الأفلام التي تضع شخصياتها داخل الاطار الاجتماعي والاقتصادي، والمتاعب الاقتصادية التي تواجهها الشخصيات تكون أحد الدوافع الأساسية لحبكاتها.
أحد التعريفات الأخرى للواقعية هي تلك النوعية التي تتخذ من «الحاضر» موضوعها: الواقعية لا يعنيها الدراما التاريخية ولا الأحداث الماضية ولكنها تركز عملها على العالم المعاصر!
من أشهر التيارات السينمائية التي ارتبطت بمصطلح الواقعية تيار «الواقعية الجديدة» الذي ظهر في ايطاليا عقب نهاية الحرب العالمية الثانية على يد مخرجين مثل «روبرتو روسلليني» و«فيتوريو دي سيكا» في أفلام اهتمت بتصوير البشر العاديين خارج الاستديوهات في حياتهم اليومية بدون حبكات درامية أو ديكورات أو اضاءة غير طبيعية. وكما يقول السيناريست الايطالي «سيزار زافاتيني» أحد رواد هذا التيار: «على عكس الموقف الأمريكي…نحن نهتم بالواقع حولنا…أما الواقع في السينما الأمريكية فيتم «فلترته».
ولكن «الواقعية الجديدة» ليست بأي حال أول واقعية في السينما، لأننا نجدها في أفلام تعود إلى بداية السينما كما في الفيلم البريطاني «احتياطي قبل الحرب وبعد الحرب» الذي أخرجه «جيمس ويليامسون» عام 1902، حول جندي يعود من حرب البوير إلى الوطن ليعاني من البطالة، أوائل الأفلام التي تحمل ميلا واقعيا بارزا فيلم «تابو« للمخرج الألماني «ف.م. مورناو« ، وهو فيلم يضم ممثلين غير محترفين من سكان «تاهيتي» ويصور الواقع الاقتصادي وسيطرة الاستعمارعلى تجارة اللؤلؤ ظهر عام 1922. في نفس العام في فرنسا ظهر تيار «الواقعية الشعرية» الذي كان رفضا لكل من الرومانسية الهوليوودية ولـ«السينما الخالصة» التي نادى بها الطليعيون، وقدمت من خلاله أفلام تتحدث عن المهاجرين والعمال والمصانع وكان من أبرز ممثلي هذا التيار «جان جابان» الذي أطلق عليه نجم أدوار الطبقة العاملة ويمكن أن نلاحظ هنا التناقض الكامن في الربط بين كلمتي الواقعية والشعر، وقد أوضح الناقد «أندريه بازان» أن اختراع أشكال شاعرية جديدة هو أفضل وسيلة لتقديم رؤى وطرق جديدة للنظر إلى العالم والواقع…وسوف نجد أن مصطلح الواقعية كثيرا ما يطلق على نوعيات مختلفة وقد تكون متناقضة في أساليبها ولكن يجمع بينها محاولة الخروج من الأشكال السائدة الثابتة واستخدام بعض العناصر السينمائية مثل التصوير أو المونتاج أو التمثيل بطرق جديدة.
وعلى العكس من «الواقعية الشعرية» في فرنسا و«الواقعية الجديدة» في ايطاليا، شقت السينما البريطانية طريقها الخاص في الواقعية الاجتماعية منذ بداية السينما تقريبا. استمدت الواقعية البريطانية جذورها من أعمال «تشارلز ديكنز» و«توماس هاردي» في الأدب وشهدت ازدهارها في مجال السينما الوثائقية خلال الثلاثينيات من القرن العشرين، وبعد فترة تراجع في الأربعينيات نتيجة التشدد الرقابي على الأفلام ذات المضمون السياسي والاجتماعي عادت الواقعية في الخمسينيات تحت اسم مختلف هو «الموجة الجديدة»، أو «دراما حوض المطبخ» كما أطلق عليها بعض النقاد نظرا لتركيزها على مظاهر الحياة اليومية، وهو مصطلح مستمد من الفن التشكيلي من بعض لوحات الفنان «جون براتباي» التي تصور أحواض وأدوات المطبخ والحمام، أو «السينما الحرة» حسب تعريف آخر، ويقول المخرج البريطاني المعروف «توني ريتشاردسون»، أحد رواد «السينما الحرة» في الخمسينيات والستينيات: «هي نوع مستقل من السينما التجارية، حرة في اتخاذ مواقف شخصية حادة وحرة في إعلاء حق المخرج في التحكم بفيلمه». والواقعية البريطانية ذات صبغة سياسية يسارية واضحة، واهتمام أساسي بحياة الطبقة العاملة ومباذل الحياة اليومية العادية، ويمكن العثور على امتدادها في أعمال مخرجين معاصرين مثل «كين لوش» و«مايك لي».
«الموجة الجديدة» البريطانية تختلف عن «الموجة الجديدة» التي ظهرت في فرنسا في نهاية الخمسينيات، والتي تحمل اسلوبا جديدا في النظر إلى الواقع وتحليله من خلال هدم الطرق القديمة في صناعة الأفلام…«الموجة الجديدة» في فرنسا اتخذت شكلا آخر في الستينيات تحت اسم «سينما الحقيقة» – «سينما فيرتيه» – كانت رفضا أكثر جذرية لطرق الانتاج الهوليوودية التي تعتمد على النجوم والديكورات والمجاميع الضخمة والمؤثرات الخاصة…الخ، وفي المقابل اعتمد مخرجو هذا التيار على الممثلين غير المحترفين والكاميرات الصغيرة المحمولة على الكتف والتصوير في المنازل والشوارع، ومن الطرق التي اعتمدوا عليها تسجيل الحوارات العادية بين الناس في الشوارع ثم العثور على صور تناسب هذه الحوارات!
تحت مسميات الواقعية، إذن، يمكن أن نعثر على طيف واسع من التيارات والمواقف والأساليب، تتفق فقط في شيء واحد هو زعمها بأنها تقدم الواقع والحقيقة أكثر مما تقدمه الأفلام السائدة…ومن هذا المنظور يمكن أن نعتبر فيلما مثل «فيرا الصغيرة» الذي ظهر في الاتحاد السوفيتي عام 1988 عملا «واقعيا» معارضا لعدم الواقعية التي اتصفت بها أفلام «الواقعية الاشتراكية» تحت الحكم الشيوعي!
الواقعية في هوليوود
في السينما الأمريكية أفلام «واقعية» بالتأكيد، وحتى في السينما الهوليوودية نجد أفلاما ومخرجين وتيارات تجنح نحو «الواقعية» بدرجات. مع الأزمة الإقتصادية وفترة الكساد الكبير في ثلاثينيات القرن الماضي اجتاح هوليوود نوع من الواقعية تمثل في اتجاه معظم الأفلام إلى مناقشة قضايا وموضوعات معاصرة بعضها مأخوذ مباشرة من صفحات الجرائد، وبالأخص صفحات الحوادث، وفي الخمسينيات يمكن العثور على شكل جديد من الواقعية في فيلم مثل «على رصيف الميناء» للمخرج «ايليا كازان» الذي تألق فيه «مارلون براندو» باسلوبه «الواقعي» في التمثيل.
يمكن العثور أيضا على أطياف من الواقعية داخل السينما المستقلة خلال الستينيات والسبعينيات مع بزوغ السينما السوداء «بلاكسبلويتيشن» التي تصنع بواسطة الأمريكان الأفارقة وتتوجه لهم، والتي تطورت خلال التسعينيات على يد مخرجين مثل «سبايك لي» و«جون سينجلتون».
ويمكن اختصار الأمر بالقول أن الواقعية في السينما الأمريكية تجسدت في الخروج على معادلات الإنتاج الهوليوودية وفي المعالجات الأكثر جرأة وتشاؤما لمشاكل المجتمع الأمريكي مثل العنصرية والعنف والأحياء الفقيرة والمخدرات، ولكنها بشكل عام تفتقد في معظمها للبعد السياسي اليساري المباشر كما نجد في الواقعية الإنجليزية مثلا.
الواقعية في العالم الثالث
من الطبيعي أن يزداد «الميل الواقعي» لدى صناع الأفلام اليساريين لأنها تتفق مع مفهومهم عن النقد الماركسي للأوهام ولأشكال الفنون التي تزعم تفوق الطبقات الأغنى وتبرر الظلم والعنصرية والاستعمار. وفي البلاد التي كانت تسعى للاستقلال عن الاستعمار أو التي استقلت حديثا أصبحت الواقعية مرتبطة بالكفاح السياسي، كما نجد في السينمات الهندية والأفريقية.
بالرغم من نزعتها الميلودرامية التي تسم أغلب أعمالها، إلا أن السينما الهندية شهدت بعض الأعمال الواقعية منذ عشرينيات القرن العشرين، كما عرفت «الواقعية الاجتماعية» منذ الأربعينيات على يد مخرجين مثل «شيتان أناند» و«بيمال روي» و«ريتويك جاتاك» و«ساتياجيت راي» . السينما المصرية التي تغلب عليها الميلودراما أيضا قدمت بعض الأعمال الواقعية منذ الثلاثينيات في «السوق السوداء» و«العزيمة» والعديد من أعمال «صلاح أبو سيف». «عثمان سيمبين» في السنغال قدم أيضا مزيجا فريدا من الميلودراما والواقعية في أفلامه.
واقعية…أم ميل واقعي؟
يتحدث الناقد الألماني «زيجفريد كراكاور» عما يطلق عليه «الميل الواقعي» الذي يسم الأفلام التي «تحدد هويتها بالتعارض مع السينما التجارية السائدة والمهيمنة». ومن الفوارق الأخرى بين «المصداقية» الهوليوودية و«الواقعية» أن عناصر مثل التسلسل الدرامي ووجود دوافع للشخصيات ونوع فني للفيلم لا يتم التقيد بها في السينما الواقعية، التي قد يوجد بها لحظات ليس لها هدف درامي، هذا «الشعر المرئي» أو «شاعرية الحياة اليومية» كما يصفها الناقد الفرنسي «أندريه بازان»…«زافاتيني» قال عن فيلمه «أمبرتو دي» : «كنت أريد أن أصنع فيلما من لا شيء»!
الواقعية التي ظهرت في أعقاب الحرب العالمية الثانية لم تكن رفضا لهوليوود فحسب، ولكن لـ«القابلية للتصديق» نفسها التي تعد أحد شروط الفن السائد. بعض هذه الأفلام أبدى لا مبالاة مدهشة بدوافع الشخصيات وبالمسار المتسلسل المنطقي للأحداث. وفي بيان جماعة «دوجما 95» التي أسسها مجموعة من السينمائيين الدينماركيين منتص التسعينيات يمكن أن نرى أن القواعد التي وضعوها تعارض بشدة كل ما تتباهى به السينما التجارية السائدة مثل استخدام الديكورات والإضاءة الصناعية والموسيقى التصويرية والمونتاج الخلاق والتصوير من أكثر من زاوية، فقد قام مخرجو «دوجما 95» بتحطيم كل هذه العناصر من أجل تقديم سينما تحاكي الواقع بأكبر درجة ممكنة. ولكن في السنوات التالية نجد أن زعيم المجموعة المخرج «لارس فون ترير» قد خرج على هذه القواعد تماما في فيلمه «راقصة في الظلام» ، وهو ما أثار جدلا كبيرا حول مدى اخلاصه لمبادئ الجماعة، ولكن «فون ترير» لم يتوقف في أفلامه اللاحقة عن محاولاته لاستكشاف طرق جديدة في التعبير عن الواقع كما يراه.
الناقد الفرنسي «أندريه بازان» الذي حيره على ما يبدو مفهوم الواقعية لم يغامر بتسمية أي فيلم بأنه «واقعي»، ولكنه رأى أن هناك شيئا اسمه «الايمان الأصيل بالواقع» يربط في رأيه بين أعمال مخرجين قد يبدون على طرفي النقيض مثل «روبير بريسون» و«جان رينوار» و«فيتوريو دي سيكا» و«روبرتو روسلليني» و«أورسون ويلز»!
الأسماء السابقة تعبر عن أساليب سينمائية في غاية الإختلاف، فمن التقشف الشديد انتاجيا واسلوبيا عند «روسلليني» إلى الإسلوبية المبالغ فيها عند «ويلز»، ومن الخشونة الزائدة عند «دي سيكا» إلى الشاعرية المطلقة عند «بريسون» يمكن أن نتأكد أن «الواقعية» لا يمكن تعريفها بسهولة.
وهل هناك واقعية فعلا؟
عندما ظهرالتصوير الفوتوغرافي روج البعض لفكرة الواقعية باعتبار أن الإنسان توصل أخيرا لتسجيل الواقع بصريا، وعندما ظهرت السينما رأى البعض أن القدرة على تسجيل الواقع قد اكتملت.
ولكن من قال أن الصورة الفوتوغرافية «واقعية»؟ انها مجرد ورقة ثنائية الأبعاد تختزل مشهدا ما متحركا وتثبته داخل اطار محدود بالأبيض والأسود أو بألوان مهما بلغت دقتها فهي تختلف عن ألوان الواقع…وهو ما ينطبق على أي لوحة كلاسيكية مثل «الموناليزا» و«العشاء الأخير» وأي لوحة فنية تسعى إلى محاكاة الواقع.
بمعنى آخر، حسب رأي الناقد والمنظر السينمائي الفرنسي «كريستيان ميتز» أن كلا من الفوتوغرافيا والسينما تعتمدان على شفرات بصرية وموسيقية وشفهية يتعين على المشاهد فكها حتى يمكنه محاولة فهم المعنى، وبالتالي فهو يسقط أفكاره على ما يراه…الواقعية – كما يقول «ميتز» – «ليست نافذة ( على الواقع )، ولكنها مرآة يرى فيها المتفرج نفسه».
في النهاية يمكن أن نتوصل إلى أن «الواقعية» في السينما هي مجرد فكرة ومحاولة لتصوير الواقع باسلوب مختلف يعطي الانطباع بأن ما يراه المشاهد «ليس شغل سينما»، أي ليس فيلما مصنعا مفبركا بطريقة أو بأخرى…وبعد فترة، عندما يعتاد المشاهد على هذا الاسلوب ويدرك الصنعة التي يتم بها يكون الآوان قد أتى لإسلوب آخر وتيار آخر من «الواقعية» يحاول من جديد عقد صلة مباشرة وحميمة بين ما يراه المشاهد على الشاشة وما يعيشه ويراه في الواقع.
عصــــام زكــــريـا
ناقد سينمائي من مصر