سامي داوود
كاتب وشاعر عراقي
أخذت على عاتقي البحث في تحول الأشكال، فيا أيتها الآلهة أعينيني…
أوفيد/ التحولات
مساحة ضيقة لوجهٍ واحد
اعتقد المؤرخ الروماني بيليني الأكبر (23 – 79 م) أن الرسم قد ولِدَ من الحُب، بأنامل فتاة كورثيسكية حاولت أن تخطط الصورة الظلية لوجه حبيبها الراحل إلى الحرب. وذلك كالتالي: «ودّع جنديا حبيبته، فرسمت الفتاة خطوط ظله على الحائط لتحتفظ بوجهه”1. رأى والدها الخزاف ذلك، فوضع الطين على خطوط الظل، ليلد الرسم النافر/ الريليف، من الحب. مخالفا بذلك -بيليني-، قراءات أخرى، وجدت أن مفهوم التصوير/ وبداية صورة الوجه قد ولدت من الموت، من الرغبة في إدامة حضور الشخص، والاحتفاظ به كصورة، في صيغة قناع شمعي يرفع عن وجه الموتى، والذي منه تنحدر العبارة اللاتينية Image. بيد أن الظلّ لا ملامح له. والفتاة الكورثيسكية احتفظت فقط بالخيط المفضي إلى روح الوجه. ذاك الذي لا يُمثّلُ بالمحاكاة، بل وإنما بالنظرة المباشرة إلى الوجه في حضوره الحي؛ في السحنة إذ تغمرها الانفعالات بالتأثيرات الحسية المتعددة، كالعبوس والبشاشة والشرود والذبول والتلَون بشتى درجات الدم المتدفق وفقا لمدى حضور الآخر في وجهنا، سواء باستحضاره ذهنيا أو برؤيته المباشرة حتى ولو خطفا في عطفة شارع ما. وبالتالي يبقى الوجه بقدر ما هو ظاهر، متموضعا دلاليا في العمق، ومشروطا بعدم التلاعب. فهذه الأخيرة من سمات القناع، وبمجرد توظيف الوجه كقشرة مضللة من خلال التلاعب بالعلاقة بين حركة الوجه الخارجية وبين الانفعالات التي تدفع من العمق حالة عواطفنا بمنتهى شفافيتها، يفقد الوجه خصلته الجوهرية كمعبر شفيف لوضعنا أمام الآخر، عراة من كل تكلف أو ادعاء، ويغدو الوجهُ حتى في غياب القناعِ قناعا بحد ذاته. فالوجه هو احتواء بالمبادلة، وتفاعل أولي سابق على التعبير. وبالتالي لا يمكنه سوى أن يكون علاقة مع، وجزءًا من وجود الآخر فينا.
الوجهُ إذن مَسرحُ علامات. يتبدى عبره ما نحمله داخليا كشيء لا يختزل بمظهره. وهو مظهر لمضمون أوسع، لذلك تكون أكثر التعابير هشاشة في الوجه، أكثرها عمقا بالدلالة. كرجفة الشفاه مكتومة النطق ومطابقتها للإحساس بالكرب. كالابتسامة الساخرة، أو الابتسامة العميقة في وجه تغمره الرغبة في العناق، إذ تحيل الحركة ذاتها إلى مضمونين مختلفين، لكنهما دائما مطابقان لموقف داخلي، سواء مشمئزًا أو محبًّا.
وقد سبق لـ «هيغل» أن تناول العلاقة بين الوجه والرمز في تماثيل الفراعنة، معتبرا أن كل وجه في مصر القديمة هو رمز إلى جوانية غامضة، لكنه تمثيل يتوسل الشكل الحيواني لإضفاء المزيد من الغموض إلى وجه أحد موضوعاته كأبي الهول مثلا. لذلك كان الوجه في فن الفراعنة تمثيلا مفارقا، يشير إلى الداخل، عبر وسيط حيواني، لديه صلة قربى رمزية مع الشخص أو الفكرة التي مثلها النحت الفرعوني، وهكذا وجد هيغل في الأهرامات كتلًا بلوريةً ضخمةً للروح الكامنة في عمقها، وفي أبي الهول تمثيلًا لما أسماه بـ « اللغز الموضوعي.»3
وبالتالي، من نافل القول أن الوجه هو مثول للذات أمام نفسها، لكن في إطار علاقتها مع الآخر، ودائما كجوهرٍ مشترك بالمبادلة. لذلك وجدت بعض التأملات في فن البورتريه، بأن الوجه هو شيء جواني، محمول إلى الخارج بعلامة مزدوجة: مرئية بالقسمات، ومتوارية أيضا بظاهر القسمات. ولأن الوجه مشروط بوجود آخر يراه، يكون النظر إليه بمثابة البحث عن الأثر فيه. تنظر لتعثر على العلامة التي يُستحضر بها الشيءُ المنفلتُ من الوعي، للمثول في الوجه كشيء عميق وخارج عنه. تنظر لتعثر على ما يُدنيك إليه أو ينفرفك منه.
قبل اكتشاف المرآة في منطقة ميزوبوتاميا 6000 ق.م4، كان وجهُ الآخر مرآة ظهورنا الذي يستحيل رؤيته دون وجود أحدٍ آخر ينظر فينا. وقد أخذ تطوير المرآة قرونًا طويلة. فبالرغم من أول مرآة شبيهة بمرآة اليوم قد ظهرت في القرن الأول وفقا لـ بيليني الأكبر، إلا أنها ظلت حكرًا على الصفوة الحاكمة. ولم يكن لدى الإنسان الريفي حتى سنة 1835 سوى ماء الجداول لرؤية وجهه فيه. فترسخ الظهور بالتقابل في جوهر انفعالاتنا، وجعل الوجه سؤالا منفتحا على الرغبة والعنف، وبالتالي مدخلًا أخلاقيًا لرؤية الآخر كتمثُلٍ للاختلاف والمشابهة.
يتسق ما تقدم في جزء منه مع بعض المعالجات المتنوعة للوجه في فلسفة إيمانويل ليفيناس. والذي كان يرى حتى في الأرق علاقة مع الآخر، حينما يعوق حضوره القدرة على النوم. ناهيك عن الثقل الأخلاقي للوجه في التراث الشعبي. مثلا: ما هو الوجه الذي تشير العبارة التالية إلى خسارته:” بأي وجهٍ يمكن النظر إلى من أسأنا إليه؟
لطالما تعثر الأدب وفن البورتريه بإمكانية تصوير الوجه. ملطخين الوجه بصيغٍ تحجيم مظهره إلى مجرد شكل. فكانت الحاجة إلى توليفة مركبة من أفكار هيغل عن «الجوانية الظاهرة» في الفن الرمزي، للتعبير عن روح الوجه بشكل يختلف عن تمثيله بالأشكال والألوان. وذلك للعثور على الأثر الغائر للوجه. صورة الذات المضافة إلى الجلد واللون والملمس والسحنة برمتها. والمتمثلة كعلاقة معقدة مع الصورة المركبة للمرء في داخله، مع كل ما يمكن أن يكونه المرء كأثر لتجاربه التي نحتت فيه خصال ومواقف عاطفية تميزه وتحدده ككائن متفرد بكينونته. تلك الصيغة التي يمكن أن تسحب إلى سطح الوجه عمق ما لا يمكن ملامسته. كالبصمة التي يتركها وجه أحدهم فيك. وتحتار في كيفية التعبير عن ذلك، أهو وجهه في الوقت الذي لا يمكنك تذكر لون عينيه، أم أنه الخيط الرفيع لابتسامته النابضة هنا… في شفتيك، حيثما يتلاشى في فضاء وجهك تمايزك عنه، أم هو كل ما بات رائيا عبرهُ وكان غير موجود قبل رؤيتك له. ليبقى حضوره معلقا بداخلك ككثافة صورة تومض ما إن تسقط عيناك في الشرود، صورته المعلقة في أفق نظرتك لكل شيء، صورته المترامية خارج التسمية.
ضمن هذا السياق، أجدني مختلفا مع قراءة «جورج باتاي» في قراءته لولادة الفن في كهف لاسكو، وتصوره عن غياب الوجه في فنون ما قبل التاريخ. حينما كانت الحيوانات مفوضة بالإنابة لتمثيل وجه البشر. معتقدا -باتاي- بأن الإنسان البدائي كان يخجل من وجهه فتجنب تمثيله5. في حين أن المسح المقارن لفنون ما قبل التاريخ، يظهر أن الوعي بالوجه كحامل جوهري لروحانية الذات لم يكن قد نضج بعد، إلى جانب وجود الوجه في رسوم ومنحوتات مواقع أثرية أخرى، مثل كهف التاميرا بإسبانيا وآخر في مدينة أريحا. لقد أثبط ضعف الوعي بالوجه القدرة على تمثيل صورته بالصيغ المكافئة شكلا لفكرة الإنسان البدائي عن الوجه، فحلت محله بدائل حيوانية فقيرة المعنى.
لكن، مع الوعي، بدأ الخداع أيضا بالتداخل في الوجه عبر القناع. والمعالجات الأدبية لمفهوم القناع لا تنتهي. غير أنها فكرة غير نافعة في سياق هذا المقال، حيث يشكل القناع اكتمالا لوجه الذات المخادعة. ولا ينفصل عن جلدها. طالما هو قرار إرادتها المحضة. حتى الشخصية المزدوجة لـ (دكتور جيكل وهايد 1886) التي قدمها روبرت ستيفنسون، تبقى مجرد مجاز أدبي حول شخصية فصامية وليست مسخًا خالصًا، إذ يستخدم الشخص نفسه مشروبا سحريا ليكون محترمًا في النهار وشريرًا في الليل. أما المسخ بالمعنى الذي أرنو إليه في هذه المادة، فهو كمفهوم يتضمن الخداع ويتجاوزه، ولا يقتصر على الإرادة، بل يأتي كمعطى طبيعي لمغذيات سلوكية مَرضية متراكمة، تغدو شكلا حياتيا للمسخ ذي الوجوه المتعددة. إنه وجه يتغذى على ما هو خارجه، ولا يمتلك داخلا يمثله.
فالمتغيرات التي أدخلتها الرقمنة في التواصل، والتي اشتغل على جزء منها مؤخرا «دومنيك وولتون» في مؤلفه6 Penser la communication حول غياب المبدأ المؤسس للعلاقة الإنسانية «التشارك في الوجود» عن التواصل الحديث، قد غيّرَ مسار الإحالة في الوجه إلى الداخل بمحتوى نرجسي. وبات الوجه مجرد انعكاس لذاته غير المؤنسنة بالتفاعل، مفتقرا بذلك إلى نظرة الآخر التي تقوم بتوطين متبادل لأثر العلاقة مع الآخر ومثوله الحسي في الوجه. طالما أن وجود الغير لا يتعدى كونه منصة عرض أو صندوقًا للذة النرجسية، وليس لوجوده بحد ذاته معنى. يكفي ملاحظة التراكيب اللغوية حتى نعثر على الخسارة في العلاقة الإنسانية. فالتعابير مبوّبة، ولا تحمل تصورًا عن الذات، وعموميتها تحرمها من التخصيص الشعوري، تلك التي ترسم مكانة الآخرين بالكلمات. بحيث باتت اللغة بمثابة الطباعة التلقائية لأقوالنا المبرمجة والموجهة بالنسخ واللصق، في سياق من التواصل غير المفضي إلى روابط تعمّق حسيا الذات كمعطى ما بيني.
وبالتالي تخسر هذه الأخيرة فرصة الخروج من قصورها الذاتي والتعرف على ما يختلف عنها لتكتشف ما تجهله. فالعلاقة بمجرد تماسها مع الغير تكون مشوبة بالزيف لتعلقها بنسخة فقط من بين شريحة الوجوه المتعددة للذات مفرطة التواصل الاستعراضي. ولأن طبيعة الآخر لم تعد في حساب التواصل، إذ يعفينا فائض المنصات المتوفرة لتشبيك وجودنا الافتراضي بالآخرين، يعفينا من التفكير في قيم وأفكار من نتشابك معهم. وفرتهم كرقائق تضخ النرجسية بالمتابعة، أهم من وجودهم كبشر، فيحل التشبيك محل التعارف، الأول يحدث بنقرة، بينما يتطلب الآخر تفاعلا مترويًا بالتحاور، الأول لغته الشعارات المخدرة للعقل، والثاني لغته السياق الفكري لكل ذات. وهكذا، تظهر الذات مُرتّقة بوجوه متعارضة يستحيل أن تتكدس جميعها في وجه إنسان ما ضمن سياق حياته الواقعية.
الأمر ليس له علاقة بالصراع الثقافي كما كان يعتقد وولتون في مؤلفه أعلاه. وذلك على أهمية هذا الأمر في جعل تفاعلات كثيرة سطحية ودون طائل. نظرا لأن ما نطلق عليه بالرموز الثقافية للتفاهم فيما بين البشر، تغدو معطلة لافتقار التواصل المعاصر إلى السياق الثقافي المؤصل لمعنى الكلمات والأفكار في المناقشات.
المشكلة متعلقة بفائض الاستعراض النرجسي. ينظر المرء إلى نفسه في شاشة موبايله، على مختلف المنصات الرقمية التي تنوع صورة ظهوره. ولديه صورة مختلفة على كل منصة. ووجوده بأكمله مكرس للاستعراض: مأكله، ملبسه، حياته الحميمة، حفلاته، طيشه، موت رفاقه، مرضه، غباؤه.. إلخ، وكل ما يمكن أن يستجدي به تغذية رقمية لرؤية نفسه متابعا من قبل العلاقات الافتراضية. وأكثر الناس تفاهة أكثرهم متابعة اليوم.
يدمر هذا المستوى من تواصل الذات مع صورتها، كل إمكانية لتنمية الروح بداخلها. وذلك بعد أن فُكَّ عقدُ الوجه بالآخر، وتحلل هذا الأخير من ذات مقابلة، إلى سطح متلون بالبدائل الوفيرة. ولم يعد يرى فيه ما يمكن التشارك معه. إنه محض رقاقة تضاء لتدوير صورة الوجه رقميًا وحسب.
فقد أفضى تداخل الوجه بالرقمنة إلى إمكانية الظهور بأوجه متعددة دون أن تكون هذه الوفرة من الوجوه قناعا، بل امتدادات فعلية للذات. وجوه تحمل تقلبات الذات باختلاف المنصة. ووفقًا لمسلمات علم النفس، يصعب مثلا أن يكون النذل طيبا، فطيبته مكيدة. في حين أن المسخ الرقمي يمكنه أن يظهر بوجه طيب ودنيء في آن. يضع ما تقدم الوجه أمام مفهوم شائك دلاليًا، هو التحول.
يتباين ثقافيا وتاريخيا معنى التحول/المسخ la métamorphose إلى حد التعارض. حيث وظفته الآداب الشرقية لتورية صوت نقدي بممثل حيواني كما في السردية الهندية «كليلة ودمنة»، والتي ترجمها ابن المقفع عن البهلوية في القرن الثامن. إذ لا ينطبق على الإجراء السردي لشخصيات كليلة ودمنة مفهوم التحول في الهيئة أو في النفس. بل هو إجراء سردي يتشابه مع نص أكثر حداثة، كتبه سانت إكزوبيري سنة 1943 خلال فترة إقامته في أمريكا لكسب تأييدها ضد النازيين. أي النص الأكثر بلاغة في بساطته «الأمير الصغير». الذي بدأ رحلة لقاءاته بمصادفة ثعلب يقدم أجمل جملتين في النص، واحدة حول الصداقة والأخرى عن التداخل غير القابل للنسيان للون شعر الفتى الأمير والضوء المندثر في حقل القمح الذهبي7. حيث الكائنات تنطق باللغة ذاتها في الكواكب الستة دون الحاجة لأي تحول. هي كيانات حلولية على غرار ما يظهر في كليلة ودمنة.
علما أنّ معنى الـ ميتامورفوزس في اللاتينية أيضا لا يحسم دلالة التحول من حالة إلى أخرى أدنى. إذ يمكنها أن تكون كما في التراث الإغريقي امتيازا للآلهة للتنقل من جسد إلى آخر دون تغيير في مرتبتها الإلهية. فنجد مثلا أن زيوس في الأوديسة ينتحل الأشكال الحيوانية التي يريدها فقط لأجل التقرب من النساء. كما ويظهر التحول كارتقاء في المكانة مثل حالة رومولوس مؤسس روما الذي ارتقى إلى مرتبة إله في «التحولات» للروماني أوفيد Ovid (43 ق.م 17 م).
شَكّلَ مفهوم التحول Métamorphose مرتعا خصبا للأدب المشغول بفلسفة الرغبة. لكن نثريات الشاعر الروماني أوفيد تُظهر الرغبة في التحول كفعل بطولي. بينما تتطابق الدلالة اللغوية والفكرية لعبارة المسخ في اللغة العربية بكونه تبخيسا في الخُلق. لذلك، استرشد المترجم الأول لنثريات أوفيد، ثروت عكاشة، بالنص القرآني «سورة يس/ آية 67» لصياغة عنوان ترجمته بـ»مسخ الكائنات»8 معللا ذلك بغلبة التحول إلى مرتبة دونية على بقية التحولات في الكتاب. بينما فضل أدونيس عبارة التحولات في ترجمته للنصوص ذاتها.
في مؤلفه «مدينة الله»، اعتبر القديس أوغسطين أن مفهوم التحول في الهيئة محض هراء9. فالتحولات تصيب فقط النفس. وسمو النفس أو دناءتها تموضع الجسد في سلم الكائنات10. وبالتالي، ليس هناك شيء اسمه مسخ سوى في المجازات الأدبية. كرّس أوغسطين خمسة عشر عاما لتأليف كتابه هذا بداية القرن الخامس. محاولا الإلحاف بكل شيء ضمن سياق مفهومي العدالة والأخلاق، السياسة والمشاعر والجسد والمتعة…إلخ. وبالتالي، مهما كانت حال الجسد، يبقى التعبير أن الإنسان متوقفا على القدرة على التقاط ماهية النفس.
منذ أوفيد وأغسطين وإلى القرن 19، ظلّ مفهوم المسخ ناقصا حتى ظهور أناشيد مالدورور لـ لوتريامون سنة 1867. يسرد لوتريامون في المقطع السادس من النشيد الأول قصة دخول أحدهم الغرفة بعد أن قام بترك أظافره تنمو لخمسة عشر يوما، ليستخدمها متلذذا في تعذيب طفل مراهق، ثم يشارك مع الآخرين من الغرفة المجاورة استنكار تلك الشناعة11 يظهر المسخ هنا كشخص لا يعرف الصداقة أو الحب. متلذذا بما ينتهكه، ومتلذذا في استنكار ما اقترفه، دون أن يكون مرجعية اللذة لديه،ارتباطه بأي شخص آخر عداه. هذا هو المفهوم الأقرب إلى مفهوم المسخ الرقمي الذي أقترحه في هذا المقال. ليس كتبخيس في الهيئة، بل انحدارا في المنزلة الإنسانية، حيث كل شيء يغدو ممكنا للشخص الحائز على وجوه متعارضة، يستخدمها دون حرج من أية مسؤولية تستدعيها القيم لتجعل الفعل منحدرا أو ارتقاءً في المكانة. والقيم مهما كانت صالحة، تفسد إن احتواها الإناء الفاسد.
ولأن مفهوم المسخ يكتنف على تصور شرخ في وحدة الجسد والنفس، وانقلابهما إلى نقيضةٍ متنابذة. بهذا المعنى قد تتبادر إلينا شخصية غريغور سامسا في قصة التحول لـ كافكا. تتعارض هذه القصة مع نظرية التطور لداروين. لا يجهل كافكا هذه البداهة. لكنه سعى إلى الإفراط في المجاز كحاجة معرفية لمجادلة فكرة جوهرية وملحة على نطاق اجتماعي واسع. يمكن للإصابة بالشلل أو الإفلاس المالي أن يعيد هيكلة العلاقات الاجتماعية بطريقة مؤذية كما لو أن الشخص قد تحول بالفعل إلى حشرة. خسارة المكانة الاجتماعية القائمة على الروابط الإنسانية المزيفة، حتى ضمن العائلة المشدودة بالأوراق المالية، تكون طبيعة العلاقة الإنسانية بين أفراد العائلة هي شكل المسخ، وليس فرضية التحول إلى مخلوق أدنى. وموقفه هذا يشكل امتدادا لموقف القديس أوغسطين، رغم مجازية تحول غريغور إلى حشرة.
لقد توفرت مع رقمنة الحضور الإنساني، إمكانيات غير مسبوقة للظهور في مواقع كثيرة دون أن تكون موجودا فيها بالفعل، وباختلاف المنصة اختلف الصوت والوجه. لم يبقَ المسخ محض مجاز، بل انتقل إلى مستوى أكثر تعقيدا في الواقع. معززا بكل ما وفرته له التقانة من أشكال الظهور. المسخ المخصّبُ بالرقمنة متحور كشبكة من الوجوه القابلة للتبديل. شخص لا يكتفي فقط بارتكاب فعلٍ دنيء والمشاركة في استنكاره، بل وأيضا يمكنه أن يتهم ضحاياه بأنهم اعتدوا على أنفسهم وعليه أيضا. ليقوم حرفيا بالتهام ضحيته مرتين، الأولى بالاعتداء عليه والثانية بمصادرة حق الضحايا في أن يكونوا ضحايا. باحثا عن لذة متناقضة، الاعتداء والشعور بالأذية.
يوجد في علم الجريمة واقعة الافتراء، لكنها غير كافية لمعادلة هذه الأنماط السلوكية. في الافتراء ثمة ادعاء بشيء لم يحدث، أما أن تعتدي وتضع الضحية في مكانة الجاني، لتضاعف بذلك الاعتداء عليه. فذلك شيء يتجاوز صورة المسخ التقليدية، بما فيها فقرة «خراب الكائن» التي كثفها لوتريامون في النشيد الآنف الذكر.
يمتاز المسخ الرقمي بوجوه متعددة تشكل جميعها امتدادات طبيعية لنفس الشخص. في القناع يكون الخداع محسوسا بفكرة الخديعة. في النسخة الافتراضية/ الرقمية من الذات، يكون الوجه بمختلف تعيناته، تمثلا لحقائق متعارضة داخل الشخص ذاته. لن تكون لديه أبدا حقيقة واحدة، بل حقائق متعددة ضمن نطاق اجتماعي منفصل عن سياقه التاريخي والثقافي. البيئة الاجتماعية أقل تأثيرا مقارنة بالبيئات الرقمية المتنوعة، والتي تجعل الشخص ذاته متوافقا مع أفكار لا جامع بينها سوى الاستعراض. لذلك نجد المسخ الرقمي حاضرا في جميع الاستعراضات الشعبية، وقاموسه يقتصر على العبارات القطعية. ولديه هوس مرضي بالفضائح، ليس لأنها بوابة الشهرة وحسب، بل ولأنه لا يخجل من شيء، وسلوكه مجرد من كل مبدأ إنساني.
وقد وفرت آلية حذف الشخص من الاتصال، إحساسا بالقدرة على مبادلة الناس ببعضهم. غير مدركين أننا مخلوقات متجذرة في الذاكرة بالأفعال والانفعالات والحواس. وهكذا تتسرب آلية الحذف إلى بنى العلاقات الملموسة في الواقع العياني، لتصبح الرفقة طارئة، والجوار منفصلا عن فكرتي القريب والبعيد. وبالتالي، يسهل التخلي عن العلاقة، واللحاق بالركب المتحول من حال إلى آخر، في سياق من الانتحالات الزائلة.
اعتقد روبرت موتزيل في روايته «كائن بلا خصال» بأن الإنسان يختبر في حياته عشرة تعينات أو حيوات شخصية. ليس واضحا لماذا اختار موتزيل الرقم عشرة. لكنها كفكرة سابقة على ما أطرحه هنا، ليست متوافقة مع تعددية الوجوه للمسخ الرقمي. حيث يكون لهذا الأخير في اللحظة ذاتها شريحة متعددة من الوجوه، يمكن توظيفها على مختلف المنصات المتعارضة، لدرجة لا تكفي ملامحه لتغطيتها بالقسمات. فملامحه الطبيعية غير كافية لتغذية كل تحول في انطباعات وجهه، فتظهر تعابيره مبتسرة وفاسدة. الوجه هنا أشبه بشاشة مغبشة، وجوه متداخلة بشفافية لا تعكس أي عمق. وبالتالي، لا يبقى الإنسان، كما كان يعتقد غاستون باشلار في «الماء والأحلام» بأنه كائن أعماق. بل وإنما مخلوق من شرائح رقمية.
الكائن المشوش بالإشعارات
يفتقر التواصل الحديث إلى المدى التأملي للكلمات. أي الصمت الداخلي لكلماتنا التي يفترض أنها تأتي كنتيجة مترتبة على التفكير بما نحاول قوله عبر اختيار أدق الكلمات وأفضل الصيغ. فالأفكار بالنسبة إلى الشخصية الرقمية للإنسان المهووس بالتواصل، منفرطة ولا يتخللها سؤال الجدوى. بقاؤه متصل دائما بمختلف المنصات، تستقطع استجابته بالمنبهات. وتجعل العبارات مبتسرة ومتشعبة بكل ما يجعل الشيء ونقيضه متداخلين. لذلك يُستثار مهووس التواصل بالتنبيهات الاعتباطية لمختلف المواضيع، متحدثا في كل شيء دون التفكير فيما يقول أو يُقال له. ونقاشاتهم تفضي فقط إلى المزيد من سوء الفهم. فالإصغاء معطل بالإشعارات. تنتقل آلية ضعف القدرة على التعامل مع الكلمات، إلى بنية العلاقة الإنسانية. وتجعل البنى العاطفية لهذه العلاقة أيضا بمثابة رُتقٌ مجتزأة من التعارضات المتراكمة للوجه.
يفضي هذا التداخل بين الشخصية الرقمية للفرد وبين حياته الواقعية إلى فصامٍ قسري في كينونته، لدرجة تشعر معها أن من طبيعته أن يكون مشوشًا، عيناه زائغتان، وجمله إسقاطات اعتباطية لحزمة متنافرة من أشكال الوجود غير القابلة للجمع في كيان شخص واحد. دون أن يعني ذلك أن الشخص الرقمي يغدو منفتحا على التعددية الثقافية، بل وإنما عاجز على التخلص من فوضى المنصات التي تطلب منه باستمرار البقاء متصلا. إنه كتلة فارغة من السياق، ولا يمكن توقع مآل كلامه أو فعله.
حدّق مهما شئت، لن ترى شيئا. فقد تغبّشَ الوجه بالانتحال المتتابع للوجوه المعشّقة بالشعارات. هذه التهيئة الخاطفة لأثر الحيوات الرقمية في نحت الشخصية المائعة. تضع اللغة في علاقة فاسدة مع المعنى. كل جملة يكتبها، يشوشها إشعارٌ ما على شاشة موبايله، عيونه الزائغة بنقص الانتباه، تختصر حال وجهه كدمية مفككة.
لذلك لم تعد هناك حكاية عميقة. في العلاقات المأخوذة بروح الحياة الرقمية. تغدو الأحاسيس مبرمجة بأيقونات الإيموجي. والعلاقة ليست ارتباطا بالآخر، بل تماس خاطف بنسخة من تمثلاته المتعددة، السريعة الزوال كبخار الفم على شاشة الموبايل. هذا السطح الذي تنطبع عليه أصابعنا أكثر من أي جلد آخر. والهاوية التي نتبادل معها النظرة. الشاشة التي إن انطفأت، يسقط عبرها الوجهُ في فراغ الذات. نهاية الوجه هي نهاية الحكاية الإنسانية. هذا الذي كان حتى وقتٍ قريب بمثابة مرآة مقعرة، عبره، كانت الانفعالات تنمو كنباتات مائية، تتراءى على السطح بجذورها المتفرعة في عمق الزمن.
تناول محسن مخملباف في فيلمه «رحلة قندهار 2001» نواة الخراب المترتبة على الحرب الأهلية، عبر شخص يجول بوالدته المبتورة الساق، بحثا عن الأطراف الصناعية الموزعة من المنظمات لإعادة بيعها. كانت والدته سلعة تسوله ومدخراته في آن. تجسد هذه الشخصية مفهوم الذات بالنسبة إلى المسخ الرقمي، الآخر سلعته، ولكن أيضا سبب انحداره إلى حال أدنى.
لقد طوّرنا أنانيتنا بخطاب تسويغي مبني على فكرة البروز الاجتماعي بأي ثمن. غافلين بذلك عن الثغرة المتنامية للدناءة في الروح. والتsي تنتهي بالمرء إلى منزلة أدنى مهما كان عليه ظاهرا. فَطِنَ مبكرا سانت أوكزبري لهذه الخسارة في نصه المركب من شذرات الحكمة، أي «رسالة إلى رهينة 1943».13 فكرر عبارة «الاحترام» ثلاث مرات في كل مرة استخدمها. وذلك لجعل اللقاء بالآخر سببا لارتقاء الذات. هو الارتقاء ذاته الذي يجعله ليفيناس مترتبا على تقابل وجهين بعمق منعكس، كأنك تدخل عبر وجه الآخر إلى ذاتك لتلتقي بالآخر بما هو أنت المختلف. وهذا ما نخسره في الرقمنة.
ليست الحياة في مكانٍ آخر، هي هنا، في الدفء المنسدل من ارتماء طفلك عليك، في الخشونة النورانية لأصابع والديك الممتدة لخطوتك الأولى، في قفطان والدتك الذي يلفك كيرقةٍ غافية على ظهرها. تتموضع هذه التفاصيل خارج اللغة، لا لقصورٍ في طبيعة اللغة بحد ذاتها، بل لأن فحوى الوجود الإنساني لهذه الحالات يأخذ معناه فقط بالمعايشة والمشاركة في تكوينها الحسي بحواسَّ كاملة.
الهوامش
على الرابط التالي: https://new.artsmia.org/stories/the-invention-of-drawing/ The invention of drawing
دوبريه، ريجيسي. حياة وموت الصورة. ترجمة فريد الزاهي. إصدارات أفريقيا الشرق، الدار البيضاء 2007. ص 17
هيغل. الفن الرمزي،الكلاسيكي،الرومانسي. ترجمة: جورج طرابيشي. طبعة 2، دار الطليعة، بيروت 1986. ص 87
أول مرآة كانت عبارة عن حجر بركاني يعكس الصورة، وفي الألف الرابع ق.م، ظهرت مرآة مصنوعة من النحاس. راجع بهذا الصدد les origines du miroir على الرابط التالي:
https://www.telepro.be/decouverte/histoire-les-origines-du-miroir.html#:~:text=Les%20premiers%20miroirs%20sont%20vieux,Vers%204.000%20avant%20J.
Georges Bataille : LASCAUX ou la naissance de l’art
على الرابط التالي https://www.pileface.com/sollers/spip.php?article2483
WOLTON Dominique. Penser lq communicqtion/ Flammarion, Paris 2020
إكزوبيري، أنطوان دو سانت. الأمير الصغير. ترجمة: محمد التهامي العماري. ط 2. المركز الثقافي العربي/الدار البيضاء 2013.ص71
أوفيد. مسخ الكائنات. ترجمة: ثروت عكاشة. ط 3. الهيئة العامة للكتاب/ القاهرة. 1993. ص27
Cristina Noacco LA MÉTAMORPHOSE DANS LA LITTÉRATURE FRANÇAISE DES XIIE ET XIIIE SIÈCLES
La métamorphose dans la littérature française des XIIe et XIIIe siècles – Chapitre I. Repères historiques – Presses universitaires de Rennes (openedition.org) .
أوغسطين. مدينة الله. ترجمة: الخور أسقف يوحنا الحلو. المجلد الأول. ط 2.دار المشرق. بيروت.2006.ص388
لوتريامون. أناشيد مالدورور. ترجمة: سمير الحاج شاهين. المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت 1982. ص55
راجع بهذا الصدد. كافكا فرانز. التحول. ترجمة: مبارك وساط. منشورات الجمل. بغداد. 2015
إكزوبري، دو سانت أنطوان. رسالة إلى رهينة. ترجمة روز مخلوف. موقع معابر، على الرابط التالي:
maaber.org/tenth_issue/literature_16.htm