(السم الذي لا يقتلني يزيدني قوة)
(نيتشه)
ذات وقت عندما افرغت ما في رأسي من تفكير طويل اتجهت صوب مناجاة الحب في قلبي, التحفت برداء التواضع اطلب القرب من هؤلاء.. كان الوقت يقترب من عسعسة الليل.. فتح أحدهم الباب وقال بنبرة تعلوها الدهشة.. غريبة.. عادل.. تفضل أدلفت داخلا وفي وجهي بعض علامات الخجل وبلعت ريقي وقلت.. لا غربة بعد اليوم.. قادني الى مجلس ذي قاعة صغيرة ذات باب خشبي.. بيوتهم تنطق بالفقر والمعاناة ولكنهم أعزاء بنفوسهم.. جلست محملقا في السقف كان يبدو من الخشب وانصاف الجدران من اسمنت والباقي من تبن وطين.. في الواجهة المقابلة للباب الخشبي علقت صورة لعبدالناصر والأخرى لرب البيت.. كأنما يريد أن يقول لكل من يرى ذلك المشهد بانه ناصري وكفى.. وتذكرت وأنا أتنفس الصعداء أسفا فلسفة الخيانة والهزائم كان ذلك التنفس البطيء قد هدأ من روعي وأعاد اتزاني الذي فقدت بعضا منه أثناء دخولي.. كان ثمة صندوق صغير من خشب مركون على الزاوية اليمنى من الباب الخشبي للمجلس.. منذ سنين مرت وأثناء زيارتي لهذا الرجل بحكم القرابة كان يفتح هذا الصندوق برموز قديمة موجودة في القفل ويخرج منه مجموعة من الصور محفوظة في غلاف قديم.. ربما يستعيد بعض أيام الشباب من الذاكرة البعيدة التي تركها هناك حيث الغروب ليتفاخر بماض هو ليس له أهل ويرضى بالحاضر وليس خليق بالرضا.. كان مما يثير الغثيان أحيانا ولعه الشديد بالافتخار بابن اخته الذي كان يتلقى تعليمه في مدن رعاة البقر ويقول انظر الى هذه الصورة كم هو يشبهني.. كانت الصورة لرجل بدين غير ملتح وملامحه تشي بابتسامة بعيدة ربما على غير ما كان يظن به حلم صاحبنا.. ومرت السنون بعد هذا الواقع عندما رفض الزواج من ابنته التي قدمها له في طبق من ذهب كما يفعل أي اقطاعي في سلطة المصالح ويجرد الضمير من مبادئه فالغاية في هذه النفوس لها ما يبررها.. كم تغير صفو النفوس حتى ما عاد يذكره.. مستهزئا بالمرأة التي تزوجها ومستغربا كثيرا كيف ان الحلم الجميل الذي رسمه لابنته قد تلاشى بعيدا خلف سحب الفجر ذات صيف.. كم تتغير النفوس في لحظة من انظر كيف يشبهني الى رجل لا يستحق الا الضفادع.. كانت تلك الايام التي مرت كأنها ماثلة أمامي أتيه في بحر الذاكرة وأغرق بأحاسيسي وأغيب عن الوجود.. تجرحني اللحظة وتبكيني الذكريات.. كان أحد ابنائه الذي يجلس أمامي قد أعد القهوة والتمر والفناجين لم أسمع نداءه لي للمرة الاولى كرر نداءه بصوت مرتفع.. ان تفضل.. انتبهت وقلت.. هل جاء أبوك.. رد مبتسما بالنفي.. ثم تداركني بسرعة بقرقعة الفناجين مادا يديه الى التمر مرحبا بالتفضل.. كنا نجلس على زرابي حمراء فيما كنت أمعن النظر في ذلك الصندوق المغلق بالرموز وأنا احتسي القهوة في فنجان ذي لون أبيض عليه رمز لسيفين ونخلة وقلت هامسا في نفسي.. ما هي رموز النفس لأبيك وما هو مفتاح الدخول? وتذكرت اني جئت لاستظل تحت نخلتهم ولكنهم أبعدوني بالسيوف..! قلت ممعنا النظر الى الساعة بتوتر.. لقد تأخرت.. أين ابوك? قال كمن يحاول معرفة شيء ما ذهب يصلي! كم نحن نصلي دون أن ندري? وأردف.. أي خدمة تفضل.. قلت له بأدب جم أطال الله عمرك.. ابلغه سلامي.. واستأذنت لأنصرف وقبل الخروج التفت حولي لعلي أراها وما رأيت شيئا الا الظلمات.. وقبل ان ابتعد سألني.. هل أنت مريض? قلت: ربما.. لماذا? قال: ما سر كل ذلك الغياب? حملقت في بيت الجبل الشاهق العلو الذي يتبجح البعض ببنائه.. وكم يتشدق هؤلاء بأشياء كثيرة لا تستحق الذكر.. فعلت ذلك كمن يحاول التخلص من سؤال محرج وقلت له: ناظرا في أعماق عينيه كنت أفكر كيف مر القطار.
قالت لي أمي: حاول مرة أخرى وتصرف بحكمة أنت رجل انفعالي ولكنك طيب القلب ياعادل! طبعت قبلة الحنان على جبهة أمي واستشعرت بشيء ما في صدري يزيدني اصرارا على مواصلة الطريق لمعرفة آخر المشوار.. كانت أمي قد أعدت وجبة العشاء لم تكن لدي شهية للأكل سوى اني سكبت كأسا من الشاي الأحمر وارتشفت النكهة ثم وضعته بجانب الكؤوس الاخرى.. أمي قالت انها تريد هذه الفتاة (لحاجة في نفس يعقوب).. نهضت وفتحت باب الحجرة.. دخلت واغلقت الباب ثم استلقيت على الفراش واضعا كلتا يدي على مؤخرة رأسي محملقا في السقف الذي بدا لي وكأنه شيخ أبيض يهرب من سلطة الاقطاع ليتلاشى بعد حين في مدائن الغفلة.. انعكست انوار احدى المركبات المارة من النافذة المفتوحة في الغرفة التي لم أغلق ستائرها في الجدار الذي يقابلني وتشكلت لوحة من ضياء خافت ذكرني بامرأة تحتضر صراخا عند لقاء الجسد.. استجمعت كل أحلامي وتذكرت وجوها ملطخة بالخيانة والاباطيل.. كل الذين عاشرتهم كانوا كالقرطاس الممزق بعثرتهم في المهملات..! فتحت نوافذ الماضي في صدري.. لكم اتعبتني الزلازل والاعاصير.. ولكم احرقتني المواقف والكلمات.. تنهدت ثم نهضت واتجهت نحو ستارة النافذة المفتوحة لأغلقها ارسلت نظري بعيدا حيث (القمر اذا اتسق) أحسست ولكأن النجوم تقدم شكوى الشجن للقمر.. وتمعنت فيه كثيرا وهو يرسل اشعته اليها لكأنما كان الضياء خطابا.. أو لكأن النور كتابا الى كل القلوب.. انزوت في داخلي حنينا لامسا بعيدا من ارتواء اللحظ والنظر.. ومرت لحظة استفهام في نفسي فكأنها تعيد علي سؤال السنين.. أيها الحب ماذا فعلت بقلبي?
عندما اقتربت منه لم يكن بيني وبينه الا مسافات النفس.. لم أدر من اين تبدأ الدرب ولا كيف لي أن اقطع كل تلك المسافة?.. وقلت: اني جئت لاقترب منكم. فهل تحبون الاقتراب مني?.. متى تقترب الدروب في القلب تحترق المسافة وتهدأ الطريق.. ركز في عيني قبل أن يجيب وقال: لن أجد لابنتي أفضل منك.. تردد صدى هذه الكلمة في نفسي قليلا.. ربما انه كان لا يعلم شيئا عن خلفية كنت أحياها مستهترا فيها بالنساء.. وتلقائيا اعادتني الذاكرة الى ماض سحيق يوم كتبت الحب على الورق وتراسلنا بالتلاعب والاكاذيب.. اللعب بالقلب لا يجعل الحب لعبة ولكن النقود تستطيع أن تخلق الوقاحة والحقراء.. وتذكرت هل كنت محترما حقا? اذن لماذا شتمتني خضراء الدمن وقدمت شكواها ضدي, كم كانت منذ عمر مر كالعملة تتناقلها الايدي والصناديق والآن تبدو (بحجم خرتيت اصابه البهاق) وسأثرثر لاحقا عن كل تلك التفاصيل.. ترى لو كان غيري هل كان سيصمت عن تلك الاساءة? وهل كان سيصمد على كل تلك الجراح.. ربما لو كان غيري لأوجعها انتقاما لكني برغم كل ذلك الاذى كنت صامتا وصامدا احتراما لشخصي واحتراما لقول أمي (أنت طيب القلب يا عادل)…
طيب القلب يا أمي!! مع كلاب نهشت لحمي ورمتني عظاما على أرصفة التفاهة والشائنات.. وشاء الله أن يمتحي كل ذلك الحقد من نفسي..
كلانا يعرف شخصه لكن ليس بالمعنى الحرفي للكلمة هو يقول: انه كان صديقا لأبي.. وأنا أقول: أحقا كان لأبي أصدقاء كهؤلاء العميان?.. وضع الفنجان بيده اليمنى على البساط ثم نهض وادار مفتاح مروحة السقف.. ليس لديهم جهاز تكييف.. تأقلم هؤلاء الفقراء على فصول الحياة وترعرعت فيهم منذ الطفولة سنين الوجاهة والوهج لكن سيظل العالم السفلي تتشكل فيهم (عقلية سلفية بالغة القسوة) مهما تبدلت أحوالهم الى حين.
وعاد الى حيث كان وبدأ حوارا عن شكل الحياة لكني قاطعته وأنا أضع دلة القهوة جانبا بعدما تناولنا الكثير منها.. حيث استفزني التلقي والاستجابة وقلت: متى سترد علينا? وأعاد مواله القديم (لن أجد لابنتي أفضل منك) وسيأتيك الرد قريبا.. لم أكن أعلم بأنه يجيد العزف على قيثارة ابن ابي سلول وان ذلك الرد سيحتاج الى سنين من عمري.. استأذنت لانصرف لكنه قاطعني.. والشاي بالنعناع.. قلت: سأشربه لاحقا, ورافقني الى الباب ثم نظر الي وأنا اختفي عنه بتلك الخطوات العرجاء التي لازمتني طويلا منذ الصغر.
عندما عدت الى البيت كانت تبدو على وجهي بعض علامات الارهاق وكانت أمي بانتظاري لتظفر بنبأ يفرحها, ألقيت عليها التحية كانت لوحدها في مؤخرة البيت تسقي بعض أشجار الليمون المتناثر بمقربة من رمانة ذات اخضرار جميل يتراقص على غصونها عصفور يترنم بنغم حزين اعاد الى القلب أشجان الرحيل والفقد.. جريت نحوه لأبعده عن هذه اللحظة مخافة أن تداهمني ذكريات الصوت الجريح, وركضت اليه لكن ما لبثت أن تدحرجت قدمي على حجر كبير فسقطت بالقرب منه وطار.. حتى عندما أحاول التهرب من بقايا الوجد يخذلني التعثر والسقوط.
ضحكت أمي وهي تفرغ آخر قطرة ماء من آنية معدنية الصنع في جوف وردة أثمرت بعض ألوان الطيف ثم رمت الآنية فجأة وأخذت تركض وراء ماعز اقتحم علينا المكان من الباب الخلفي للبيت حتى اذا اختفى اغلقت الباب وعادت.. كنت على حالي ما تحركت قيد أنملة منطرحا على صدري بالقرب من تلك الرمانة أداعب أغصانها الخضر وأرسم تحت جذورها أشكالا من الشكوى.. كانت أشعة شمس العصر تنعكس على وعاء زجاجي وضع بالقرب من باب المطبخ حملته أمي وهي تقترب مني متسائلة في فرح: ربما انها فرحة اللقاء وهي تفتح باب المطبخ لتضع الوعاء في مكان أمين.. وعندما خرجت اقبلت نحوي أرسلت لها ابتسامة أمل وأنا أحمل حجرا أرشق به قطا أسود كان قد تسلق السور دونما علم منه بان ثمة رجلا مستلقي تحت رمانة اعجبته برودة التراب والطين, لم يصبه الحجر وقفز إلى الجانب الآخر ولو حدث غير هذا لسقط سهوا على رأس هذا المسكين المنجرح.. قلت وهي تقترب من أمامي: قال انه لن يجد لابنته أفضل مني إلى ان يتضح عكس ذلك! فرحت أمي بهذا وارتسمت على وجهها المتعب ابتسامة عريضة بحجم ربيع جميل تمنيت لو تدوم كل الفصول لاستفتح بها أحلام حياتي.. المسكينة كانت لا تعلم أن بعض الألسنة تتلاعب بألفاظ الحروف.
قال لي ببرود متجمد تحت نقطة الصفر: ابنتي لا ترغب في الزواج.. كل ذلك الوقت..
كل تلك السنين كنت أبحث عن هذا الرد لكنه جاء ردا متأخرا جدا أضاع بالانتظار بعضا من سنين عمري بشهادة أمي..
لم أكن في نظره الأفضل ولكنه قلب المعادلة الى تفاضل برقم غير صحيح كأي اقطاعي يتمسح بمسوح الدين ويتكلم باسم الوسيلة..
رد وقح لكن الوقاحة صراحة أحيانا.. لم يهمني الرد كثيرا بقدر ما سيكون شهادة اثبات لأمي الا تجبرني الاقتران بمن تريد..
هؤلاء جميعا نفوس من فراغ وسيعودون اصفارا بلغة الموت..
عادل الكلباني قاص من سلطنة عمان