تأليف: لويز إيردريك
ترجمة: د. سمر مرسي
فيما بين قبائل “الأنيشينابه” على الطريق حيث أسكن، كانت تُروى قصة امرأة أحبت رجلا غير زوجها كانت تواعده بين الآجام فحملت منه طفلا. كانت المرأة تُدعى “أناكواد” أي الغيم، وكالغيم كانت هي؛ دائمة التبدل من حال إلى حال؛ فيوما عابسة متقلبة المزاج مادةً شفتها السفلى في استياء، وعيناها ترميان بشرر وتنذران بعواصف، ويوما تُشعّث شعرها على وجهها وتنفخ فيه كيما تداعب أطفالها الذين يكادون يصرخون ضحكا. إذ كان لها طفلان آخران من زوجها، صبي شغوف بها في الخامسة وفتاة ماهرة في التاسعة.
وحين أحضرت “أناكواد” وليدها من بين الشجر في ذاك الخريف، كانت الابنة الكبرى كأنها أم ثانية له، حتى أنها كانت تصحو في جنح الليل كيما تنظفه وتُلقمه ثدي أمه، التي كانت تنام على الرغم من صراخ الصغير، فلا تصحو إلا لماما. ولا يعني ذلك أنها لم تكن تحب صغيرها. بل على النقيض، قد كانت مولعة به ولعها بأبيه. وقد أوغل ذلك الولع وتلك العاطفة في قلبها فأصبح ينوء بما يحمل من مشاعر. ألا لو كان بوسعها تمزيق عرى ذلك العشق الأثيم لما تلكأت، ولكن تفكيرها في الرجل الآخر الذي كان يعيش بالقرب من البحيرة لم يكن يفارقها أبدا. فأصبحت كسماء ملبدة، وغدت ترنو إلى الجدران في بلادة وضجر، وأحيانا ما كانت تبكي لساعاتٍ بلا انقطاع وتدفن وجهها بين كفيها. ورويدا رويدا لم تعد قادرة على الطهو ولا على تنظيف الكوخ، فغدا العبء ثقيلا على ابنتها ما جعلها تتمدد كل ليلة على وشاحها بمربعاته البنية والحمراء منهكة خائرة القوى، فتغط في النوم حتى يُضطر الزوج لإيقاظها كيما توقظ أمها؛ إذ كان يشفق من مزاج زوجته المنحرف.. ذلك المزاج الذي كان يعكره إدراكها أن الشخص الماثل أمامها هو زوجها وليس الرجل الآخر.
وأخيرا لم يسع الزوج، على الرغم من حبه إياها، إلا أن يقر بأن حياتهما معا لم تعد ممكنة. وكان هو الذي بعث إلى عم الرجل الآخر كيما يحضر. آنذاك، كانت الجماعات التي ننتمي إليها تعيش متفرقة في شتات بمحاذاة الشواطئ وفي الجزر وحتى في السهول. فما كان ثمة طرق معبّدة بعد، بل ممرات في طرق وعرة، وعلى الرغم من ذلك كان لدينا جياد وعربات ومزالج لفصل الشتاء. وحين وصل العم ليأخذ “أناكواد” في عربته ذات مزالج الجليد كان الأمر جد عصيب، إذ ظل الزوجان يتشاجران بشأن الأطفال واحتدم شجارهما هذا إلى أن أذعن الزوج في نهاية المطاف مستسلما. وعندها أدار الزوج وجهه شطر الجدار، وظل كذلك بلا حراك كيلا يرى ابنته التي لطالما أحبها وآثرها تجلس بجوار أمها ملتفة بوشاحها في داخل العربة. بعدها مباشرة رحل الجمع بما حزموه من أمتعة غير مبالين بتسخين الأحجار لتدفئة أقدامهم. وقد صم الأب أذنيه كيلا يسمع ابنه وهو يصرخ حين تبين له فجأة أن الجمع على وشك الرحيل بدونه.
وحين هوى العم باللجام على جسد الحصان فمال إلى الأمام، حاول الصبي القفز داخل العربة بيد أن أمه فكت قبضة يديه من على الألواح وهي تصيح: “لا تفعل.. لا تفعل”. فهوى الصبي على الأرض ما آلمه. لكن شيئا ما بداخله لم يكن ليدعها تمضي. فنهض من عثرته وعلى الرغم من ارتدائه ملابس خفيفة جعل يركض خلف العربة على الجليد المتراكم، وزادت سرعة الجياد وظل الصبي يحمل نفسه على مواصلة الركض على الرغم من الألم الذي اعتصر صدره. لم يركض الصبي بمثل تلك السرعة ولا ذلك الإصرار والعزم من قبل، لكنه كان مصمما، وأبى أن يصدق أن ازدياد المسافة بينه وبين العربة حقيقة لا جدال فيها. وظل يركض حتى احتقن حلقه وانتفخت أوداجه وتجمدت رئتاه من شدة البرد، فسقط على الجليد ثم رفع رأسه فرأى العربة من بعيد ورأى أمه وأخته تتضاءلان حتى اختفيا عن مرمى بصره، عندها أسقط في يديه وانكسر شيء ما داخله، ولم يعد يأبه أحيا كان أم ميتا. لذا حين رأى الأشباح الرمادية.. ظلالا تمشي الهوينى متجهة من الأشجار إلى جانبي الممر، لم يعتره أدنى خوف.
ثم عرف الصبي فيما بعد أن أباه قد أخذه ملفوفا في دِثار وحمله إلى البيت. كان صدر والده عريضا وكان لا يزال قوي البنية على الرغم من الدم الذي كان يبصقه من رئتيه ما سيكتب نهاية لحياته بعد سنين طوال؛ سنين سيحكي خلالها لابنه -الذي نسي ذلك الجانب من القصة تماما- كيف ظن للوهلة الأولى لدى سماع ما ذكره من رؤيته ظلالا أن مسًّا قد أصابه. ولكن بعدها، وبينما كان الصبي يصف هيئة تلك الأشباح تبين الأب أنها ليست أرواحا كما كان يظن. فساوره القلق وقرر أخذ بندقيته والرجوع إلى الممر وأوقد نارا بالكوخ وأدنى الصبي منها وخرج وسط الثلوج. ولعل القصة قد ذاعت في المستوطنات التي نعيش في وسطها لأنه كان على الأب أن يحكي ما رأى مرارا وتكرارا كيما يتبدد أثره من عقله، فلربما تكون القصة مثلها كمثل الأحلام المخيفة والكوابيس، على المرء أن يظل يتحدث عنها كيما يقهر سطوتها عليه. بيد أنها لن تتبدد من عقله ها هنا، ذلك لأنها حقيقة وليست حلما.
لم تكن آثار الظلال سوى آثار لذئاب. وفي ذلك الزمن كان اعتمادنا الكلي في معيشتنا على المال الذي نجنيه من بيع فرائها وجلودها ما جعلها تتوحش وتخرق المعاهدة القديمة التي كانت مبرمة بينها وبين أجدادنا. فجعلت تهاجمنا لفترة من الزمن إلى أن أدركنا الأمر وتركناها تحيا وتتكاثر في سلام. أما الأب فقد تابع السير حين رأى تلك الآثار. فرأى الموضع الذي حاولت عنده جماعة الذئاب تلك -في استماتة- نزع أوتار أرجل الجياد. وبعدها رأى الموضع الذي قفزت عنده إلى مؤخرة العربة. فأخذ يغذّ السير إلى أن بلغ الموضع الذي يفضي فيه الممر إلى البحيرة المتجمدة، وهناك رأى ما رأى مبعثرا وحوله غرابيب سود تنهش الفتات المتبقي من وليمة الذئاب.
لقد ظل الصبي لفترة لا يدرك شيئا مما وقع؛ إذ أسرّ الأب ما علمه في نفسه، في العام الأول على أقل تقدير. وحين سأله الابن عن وشاح أخته الممزق ذي المربعات الملونة، وفيم احتفاظه به في البيت، لم يُحر الأب جوابا. لكنه بكى حين سأله الصبي عما إذا كانت أخته تشعر بالبرد من دون الوشاح. ولم يبح له أبوه بالقصة إلا حينما أنهكته العلة ونال منه المرض، روى له القصة مرارا وتكرارا على المنوال نفسه: أخبره كيف ألقت “أناكواد” ابنتها إلى الذئاب عند اقترابها من العربة.
حين ألقى الأب تلك الكلمات، وجم الفتى ولم يفه ببنت شفة. فما عسى أخته شعرت حينها؟ ما الذي اعتمل في قلبها ساعتذاك؟ هل انكسر شيء ما داخلها مثلما وقع له؟ علم الفتى ساعتها أن ما تصدع داخله لن يُجبر أبدا إلا إذا وقع شيء مريع. ولم تبرح مخيلته صورة الأم وهي تضع رضيعها وتمسك أخته من خصرها، لم تبرح مخيلته صورتها وهي تدفع الفتاة برفق إلى جانب العربة، ولا صورة الوشاح البني بخطوطه الحمراء وهو يرفرف في الهواء، وكذا صورة الظلال، الذئاب وهي تندفع معا في سرعة وشره بينما اختفت العربة ذات المزالج في الأفق.. اختفت إلى الأبد، ذلك أنه وأباه لم يريا “أناكواد” بعدها.
…
حين كنت صغيرا، كان أبي يثير فزعنا كونه سكيرا يعكف على الشراب. وكان ذلك بعد وفاة أمي، لأنني قبل ذلك لم أكن أراه يعاقر الخمر إلا في العطلات حينما كان هو وأمي يعودان إلى البيت في وقت متأخر، أو في مواسم جمع التوت حين كنا نخرج إلى الآجام ونبيت في خيام مع آخرين. وحين ماتت أمي أصبح يعب الخمر بشراهة ولا يفيق منها. وكنا نبقى بمفردنا بالبيت لأيام طوال. ولدى عودته كنا نقفز من الشباك ونختبئ في الآجام، وكان هو يخطو على غير هدى باحثا عنا ويصيح مناديا إيانا. أما نحن فلم نكن نعود إلى البيت إلا بعد أن يكون قد غط في نوم عميق.
كنا ثلاثة: أنا الأكبر في العاشرة، وأختي وأخي الصغيران وهما توأمان لما يزالا في السادسة. وأزعم أنني كنت أُعنى بهما بمهارة فائقة. لقد جمعت بيننا الألفة، ذلك أننا تعلمنا سنن التعايش معا طيلة سنوات الخمر تلك. أما أختي فاسمها “دوريس” وأما أخي فـ”ريموند” وقد تزوجا أخا وأختا أيضا. وحين كنا نجتمع معا –وهو ما يحدث عادة لأننا كنا نسكن على الطريق نفسه– كنا نأتي على ذكر تلك الأيام في خلال الحديث ولعب الورق وربما خلال احتسائنا الجعة الخفيفة بين الحين والآخر. فمعظم الناس يدرك ما مررنا به، فقصتنا ليست فريدة، ولكنا نرى أنها تساعدنا على مقارنة وجهات نظرنا بعضها ببعض.
فعلى سبيل المثال، كيف كان ليتسنى لي أن أعرف أن “ريموند” رآني في المرة الأولى التي خبأت فيها حزام أبي؟ إذ سحبته من حول خصره حين غاب عن الوعي ثم دفنته في الأجمة. وظللت أفعل ذلك دوما. ولم يستطع والدي أن يفهم لمَ تُسرق أحزمته دوما عند ذهابه إلى المدينة لاحتساء الخمر، حتى أنه اتهم رفاقه بسرقتها. ولكن كان لديّ أسباب وجيهة. إذ استشعر أبي ليس فقط حرج خروجه بعدها مرتديا سروالا معقودا بحبل، لكنه أيضا لم يلو حزامه في غضب مفرقعا طرف حليته المعدنية المعقوفة في الهواء، ولا استطاع ضربنا به. بيد أنه يقينا قد استخدم أشياء أخرى لذلك الغرض؛ إذ كان واسع الحيلة. فكان ثمة لوح وعصا من خشب الصفصاف، وكان ثمة أبي نفسه ..يداه.. قبضتاه.. نعلاه وأشياء أخرى كان بوسعه أن يقذفنا بها. ولكن في النهاية، تمكنّا من تفاديه بسهولة وبعدها أصبحنا نادرا ما نعاني رضوضا أو خدوشا. كان لنا مكان نأوي إليه في الآجام وكانت لنا نار مخيم نستدفئ بها في الليالي الباردة. وقد اعتدنا، كلما سنحت فرصة، سرقة مال قد خبأه أبي في نعله، حيث كان يظنه المخبأ الحصين. وهكذا، أضحى أبي في أعيننا شيئا نتفاداه ونستغله ونغلبه بالحيلة والدهاء. وقد واصلنا حياتنا معه كما لو كان عملا محفوفا بالأخطار غير مأمون جانبه. وأحسبنا قد كففنا عن التفكير فيه بوصفه إنسانا، ويقينا قد كففنا عن التفكير فيه والدا وأبا.
كان نموي يفوق نمو بعض أقراني، وذات ليلة –وأنا في الثالثة عشرة- بينما كنت جالسا رفقة “دوريس” و”ريموند” آملين أن نأكل طعاما إلى جانب طحين الشوفان والحليب المعلب اللذين خبأتهما كي لا يبيعهما أبي، سمعته وهو عائد إلى البيت؛ كان يصيح محدثا جلبة طوال الطريق، فنظر إلىّ كل من “دوريس” و”ريموند” واتجها إلى النافذة الخلفية. وحين رأياني لا أتأهب للخروج معهما توقفا، وقالا “هلم، تعال” وحاولا شدّي فأبعدتهما عني وسألتهما أن يسرعا بالخروج، إذ إنني لن أبرح مكاني. أحسب أن بوسعي الانقضاض عليه الآن.. هكذا كان جوابي.
كان أبي عريضا قويا لم يَهزُل جسده بعد من أثر الخمر. كان أنفه منحرفا إلى أحد جانبي وجهه من أثر عراك ثم انحرف إلى الجانب الآخر جراء ضربة أخرى، وبذا فقد بدا مستقيما حينذاك. أما أسنانه فلم يتبق منها سوى نصفها، وكانت تنبعث منه تلك الرائحة المعهودة لامرئ قضى خمسة أيام رفيق خمر. وحينما دنا من الباب وقف للحظة، وكانت عيناه كشقين دقيقين حولهما حمرة وانتفاخ. ثم أدرك أنني كنت أنتظره فابتسم ابتسامة ممجوجة. إن لكمتي الأولى قد أثارت دهشته؛ فلطالما تمرنت على تسديد اللكمات إلى مخلاة مملوءة بالقش ثم إلى لوح مبطن لتقوية قبضتيّ حتى أصبحت لكماتي سريعة كالبرق الخاطف. إلا أنه كان لا يزال يفوقني قوة، أما وزنه فقد يربو على وزني بعشرين رطلا. ومع ذلك فإني حتما سأوذيه، كنت موقنا بهذا. لسوف ألقنه درسا كي لا يتعرض لي ثانية. إلا أنه قد فاتني ذلك الأثر الذي سيتركه هذا العراك في نفسي.
إن عراك المرء مع أبيه له أثر مريع يُستشعَر فجأة مع الضربة الثانية.. نوع مخيف من الفرح. فثمة قوة قد تدفقت من أعماقي فرقصتُ قبالته في خفة ونشوة وقد تملكني شعور بأنني جد محق. لقد كان هدفي تدميره.. تماما.. وددت أن أوسعه ضربا، ولأقتله إذا لزم الأمر.. فها هي لكمة نيابة عن “دوريس” وركلة نيابة عن “ريموند”. وفي خلال ذلك كله كنت صامتا ثم صرخت ثم لذت بالصمت ثانية، في فورة السعادة تلك التي ملأت جوانحي بيأس مصاحب. لذا أظن أنه يمكنك القول بأنني كنت مغتربا عن حقيقة ذاتي.
ثم اتجه نحوي واصطدم بكرسي مكسور، فألقى بحطامه بعيدا. فأمسكت بإحدى أرجل الكرسي وسددتها إلى أذنه فدارت رأسه ورأيتها وقد سال منها الدم. وراقبت نفسي وأنا أضربه مرارا. لقد كنت أعلم ما أفعله، لكن ليس على وجه الحقيقة، ليس على النحو المعتاد. كنت أشعر كما لو كنت مستندا إلى الجدار في هدوء عاقدا ذراعيّ، وتملؤني الشفقة على كلٍ منا. رأيت الصبي ورجل الكرسي ورأيت الرجل وهو يتكوم ويسقط على الأرض، رافعا يديه في توسل. ثم لاحظت لبرهة أن الرجل على ضخامة جسده لم يكن يبالي حتى برد الضربات إلىّ.
وفجأة، أحسست أنه أبي من جديد. وحين جثوت بجواره أحسست أنني ابنه. عندها بحثت عن أقرب خرقة والتقطت ذلك الدثار الذي كان أبي يحتفظ به دوما معه لسبب ما. وحين التقطته مجففا الدم من على وجهه، قلت له: “ها أنفك قد اعوجّ ثانية”. فنظر إليّ في حيرة وثبات كما لو لم يكن قد ذاق الخمر في حياته قط. وظللت أجفف وجهه بذلك الدثار الخَلِق. حسنا، لقد كان وشاحا.. حقا.. وشاحا نسائيا ذا طراز قديم، ربما كان يوما ما مرسومٌ عليه مربعات. إذ لا يزال يُرى به خطوط بعضها أحمر بينما بدت الخلفية باللون البني الباهت. كان أبي يراقب يدي في يقظة وهي تمسك بالوشاح وتدنيه من وجهه. حينها أيقنت تماما أنني قد أوسعته ضربا حتى أنه تملكه الذهول، فوضع إحدى يديه حول معصمي في رفق وبالأخرى أخذ الوشاح وغضّنه ووضعه وسط جبهته. لقد بدا كما لو كان يصلي أو يستجمع أفكاره ليبثها في قطعة القماش تلك. وقد لبث على تلك الحال لفترة، فتركته وشأنه، وظللت رابضا أتنفس بصعوبة، وعلى الرغم من ذلك أحسست بأن شيئا ما يسألني البقاء. بعدها قال لي أبي أخيرا بنبرة جديدة يقظة ستظل تطرق سمعي من ذلك الحين فصاعدا “هل تعلم أنني يوما ما كان لي أخت؟”.
في فترة ما عمدت الحكومة إلى تهجير السكان حتى من أبعد مناطق المحميات، ليقطنوا بجانب الطرق وفي المدن وفي مساكن قد أقامتها. وبدا ذلك حسنا في بادئ الأمر، ثم ما لبث أن ساء الوضع. وبعد زمن قصير بدا كل من كان ذا شأن إما سكيرا أو قتيلا أو على وشك الانتحار أو في حال من الذل والهوان. إذ بدا أنه ما من أحد قد ظل على طباعه القديمة، طباع الأجداد في قبيلة “الأنيشينابه” الذين كانت قلوبهم عامرة بالصلاح إلى أبعد مدى وكانوا مستعدين لفعل أي شيء من أجل الآخرين.. في تلك الفترة ماتت أمي، وآذانا والدي كما أسلفت.
والآن، فقد انقشعت سحابة اليأس هذه إلى حد ما شيئا فشيئا، وكوفئ أولئك الذين عايشوها، إلا أن أحزاننا لا تزال معنا قد ورثناها عن الأجداد، أحزان تُضاف إلى أحزاننا نحن، وعذابات تسكن منا الحنايا حيث لا نجد لنسيانها سبيلا. نحن بحاجة إلى النسيان، فلطالما سرنا حول حافته دون الخوض فيه.
أما بعضهم فقد فر بعيدا مثل أخي وأختي، إذ تزوج كل منهما وعاشا في هدوء بجانب الطريق. ومثلي أنا أيضا، وإن كنت أوثر العيش وحيدا، وحتى أبي أيضا؛ إذ التقى مؤخرا امرأة. وذات مرة، حينما تطرّق في حديثه إلى الماضي وإلى القصة ذاتها مرة أخرى، أخبرته أخيرا بالأمرين اللذين لطالما شغلا تفكيري.
الأول: أن احتفاظه بوشاح أخته خطأ، لأننا لا نحتفظ بملابس الموتى أبدا. إذ قلت له “لقد آن أوان إحراقه، فلترسله إليها ليلف روحها” وقد وافقني أبي الرأي.
أما الأمر الثاني الذي أخبرته به فقد جرى مجرى السؤال. إذ سألته “هل خطر ببالك ولو لمرة أن أختك تلك ذات القلب الطيب والروح الجسور قد عاينت الموقف في جملته؟ فقد رأت أن الذئاب كانت جوعى ليس إلا، وقد علمت أن حاجتها تلك ضرورة لها ليس إلا. وعلمت أيضا أنك كنت في الخلف وحيدا وسط الثلوج، كما أدركت أن الرضيع الذي تحبه لن يعيش بلا أم، وأن العم هو الوحيد الذي يعرف الطريق. لقد ارتأت أن شخصا واحدا في العربة عليه أن يضحي بنفسه وإلا سيهلك الجميع. وفي لحظة الكشف هذه، ألا تحسب أنها –وهي من هي، سليلة الأقدمين ممن كانوا يعملون لخير الآخرين ويؤثرونهم على أنفسهم- قد قفزت يا أبي.. يا أخا تلك الصغيرة؟ ألا تظن أنها قد رفعت وشاحها وهوت؟