(إلى محمد العلوي، صياد من صور ) يعيشان هو وزوجته في كوخ خشبي أمام البحر، ولأنه كان يبدأ يومه في الظلام فإن قدره ألا يكون له يوم أخير في حياته. فخاتمة أيامه يجب أن تكون اليوم ما قبل الأخير قياسا بزمن الوجود والبشر…. وفيما يلي تفاصيل أمينة، وحوار فصيح، لما وقع له في ذلك اليوم :-
أحدهم أعطاني ريالا مقطوعا. مرارا أمرتك بألا تذهبي للبيع في الظلام.
في الشتاء تختلط صلاة الفجر بالظلام.
هه. إذن أصبح كلانا يعمل في الظلام، أنا أصيد في الظلام وأنت تبيعين في الظلام ، يا لحياة الظلمات هذه .
ماذا سنفعل بالريال المقطوع .
لا أعرف. ربما سأستعين بأول زائر إلى بيتنا.
كل هذا الصيد الزهيد، وفوق ذلك يعطوننا ريالا مقطوعا.
ما أصيبه لا يشبه بأي حال ما يصيده الزاحفون إلى البحر عندالغبش،ما أجنيه لاينبت إلا في الظلام.
أنت الوحيد الذي يذهب إلى البحر ليلا في هذه القرية.
نعم، وما أسحبه على قلَّته ، يعني الكثير، فبعد أن مات هاشل لم يعد أحد يعرف قيمة سمكاتي، كان هو من يتهافت عليها ويستقبلني قبل الجميع أمام البحر.
بعد موت هاشل خفتت عزيمتك ولم تعد تستمتع كما كنت بالذهاب إلى الصيد.
ليس هذا مايخفت همتي، إن شيئا آخر أكبر من ذلك بكثير.
أعرف ما تقصد، فالصيادون يتحدثون كثيرا عن جرافات السمك البعيدة، ولكن ما حاجتك بهم، فأنت لاتصل إلى تلك المسافة التي يصلها الآخرون.
هه . لم يعد الأمر يفرق كما كان في السابق، علي الآن أن أشق طريقا طويلة حتى أصل إلى مأوى السمك في الماء، في السابق كنت ازحف خطوتين في الظلام وأجد ما أشاء،إن الجرافات هي التي قادت الصيادين الى أن يبتعدوا كثيرا للبحث عن رزقهم، لذلك فإن سعره لايني وأن يرتفع وذلك لأن مشقة كبيرة نحتاجها لإخراجه من البحر.
ألاتخاف على روحك من الغرق، لماذا لا تصبر وتصيد قريبا من الشاطئ وتنتظر مايرزقنا الله به.
وهل بقي رزق في الشاطئ، جربت ذلك وكنت أستسلم للنوم وأصحو لأجد الشبكة فارغة، وألم الكآبة السوداء يعتصر قلبي، لذلك قررت أن أختفي بعيدا في عمق البحر، يجب أن تعلمي بأن الجرافات تفعل فعلتها بشراهة، فالصغير يجرفونه والكبير بطبيعته لايقترب من الشواطئ إلا نادرا.
بذلك ستتعب، ألم تشعر بأنك غدوت كبيرا مع الأيام.
أشعر أحيانا بأن قوتي بدأت تذبل، فبسبب بعد المسافة والتجديف الطويل، صارت أنفاسي تخرج وتدخل بمشقة من صدري وكأن أشياء أخرى تزاحم طريقها، ولكن لاحيلة لي .
تراجعت المرأة جهة المطبخ، فهي رغم كبرها الواضح إلا أن التجاعيد لم تغز كثيرا خدها المنبسط والمحفوف بالطمأنينة، وجبهتها الساطعة كصفحة المعدن في قاع الماء، وعيناها اللتان تتنقلان بحب على كل ماتقعان عليه، حتى على النار تحت القدور وعلى الظلال التي تزحف بترتيب أزلي طيلة النهار،وعلى الفراشات وهي تحط بسلام كما تحط الظلال، وعلى الجمادات الموزعة بيسر في محيط الكوخ.
إقتربت من المطبخ الذي كان عبارة عن شق صفيحي في الكوخ السعفي الذي يسكنان فيه، يغطي بوابته رداء ثقيل حالك مترع بالظلال والبلل، ترفعه المرأة من طرفه أثناء دخولها وخروجها.
والصياد بعينيه الفارغتين المنكستين إلى الأرض، لم تغز هو الآخر التجاعيد وجهه، يرتدي دشداشة تنحسر لحد الركبة، محفوفة أطرافها بما رسمته منذ زمن يد الملوحة من خرائط باهتة وتعرجات ، قدماه حافيتان ولكنهما قويتان بأظفار خشنة عريضة ، وساعداه المشعران ، بديا صلبين بسبب التجديف اليومي ، منتصبين كمجدافين
يحفهما الشعر، ورقبته عريضة وظهره واقف كجذع قديم .
كان الكوخ الذي يقطنان فيه سعفي بكامل حيطانه صنع من أعواد السعف السميكة وعمد بجذوع نخل صلبة، سقفه صفيحي منعه من دخول المطر وما تسحبه الرياح، وبابه خشبي موارب دائما تتصدره حلقة حديد سوداء تحتها صفحة معدن ألصقت عمدا لكي يسمع العجوزان طرقات الزائر قبل دخوله.
تك تك تتك . السلام عليكم
ادخل . وعليك السلام والرحمة
أنا ناصر ياعمي
استرح بجانبي يا ناصر، جيد أنك أتيت، أحدهم أعطى زوجتي ريالا مقطوعا، هل كنت معهم في المسجد اليوم في صلاة الفحر؟
لا.
………….
هل الريال مقطوع بالكامل؟
لا أعرف. أحضري الريال يا سالمه.
لماذا يفعلون ذلك بنا، لم يحدث لنا مثل هذا من قبل، هل يعقل أن يخرج أحدهم من بيت الله ليشتري سمكا بريال مقطوع، نحن لا نطلب صدقة من أحد، إنه رزقنا .
لا عليك ياعمي. سأجد الفاعل وسأطلب منه ان يبدل الريال . لا بد أن أحدهم رآه وهو يشتري السمك منك.
تقترب المرأة وفي يدها آنية بها تمر ودلة قهوة وإناء ماء تطفو منه رؤوس فناجين مثلومة الحواف. تضع الآنية على الأرض وتصافح الضيف ثم تناوله الريال.
إنه مقطوع بالفعل، ولكن الأرقام لم يمسها شيء….. لاتقلق ياعمي طالما أن الأرقام واضحة فإن الريال سليم، ورغم ذلك سأبدله لك بريال من عندي .
اذا كان سليما كما قلت فلا داعي لأن تبدله لي . والآن قل لي هل من جديد في البلدة؟
الجديد هو ما تعرفه ويعرفه كل الناس،الشركة ستوسع بناءها وربما كوخك سيكون مهددا بالزوال، إنهم يمرون على البيوت وينذرون أصحابها بالأمر الذي سيقع.
أعرف ذلك، ولكني لن أدعهم يقتربون من بيتي .
يقولون بأنهم يعوضون الساكنين أمام البحر بأموال مجزية، الكثيرون أبدوا رغبتهم في ذلك،خاصة وأنه لم يعد البحر يدر عليهم سمكا كما كان عليه الحال.
ماذا سأفعل بأموالهم وليس لي عمل غير هذا الصيد، إني الوحيد في هذه البلدة الذي يشق طريقه إلى البحر في الظلام كل يوم .
إن لديهم طريقة في إقناع الناس.
سمعت أن الشركة نفسها هي من يقوم بجرف السمك في عرض البحر، لقد بدأوا بطردنا بهدوء من هناك، من قلب البحر ودون أن نشعر، هل يوجد عنف أكبر من ذلك.
ما باليد حيلة يا عمي، الجميع في النهاية سيغادر الساحل، ولنبحث لنا عن سكن وحياة جديدة.
كل إنسان حر فيما سيفعله ولكني لن أترك حياتي بسهولة، إن لم أشم هواء البحر كل صباح فسأموت مختنقا.
…………….
سأدعك الآن ياعمي.
ليس قبل أن تساعدني، هيا قم معي إلى القارب لندهن حبل المرساة بزيت كبد سمك الجيذر فرائحته تساعد في جلب السمك ناحية الشبكة، كما علي أن اتأكد من ثبات المجدافين.
خرجا من الكوخ فاستقبلتهما المراكب الموزعة على خط الساحل، كان بعض الاطفال وهم في غمرة اللعب تتمايل أجسادهم كالسراب من بعيد، بعض الصيادين يحنون ظهورهم في جوف مراكبهم ويحركون أياديهم بجهد، وثلة منهم يتجمعون في دائرة نشطة وهم ينسجون بصمت وأنين حبال شبكة طويلة، نسوة يحمن وفوق رؤوسهن أوعية ماء وحبات عرق تسطع من رؤوسهن النصف حاسرة.وناحية الجنوب، حيث يرسل البحر وجهه ولسانه، كان راعي غنم يتقرفص بالقرب من شياهه وإحدى عينيه مغمضتين، وراؤه عجوز يشعل غليونا ثم ينفض محتوياته قرب حذائه المصنوع من ربل الجمال. وغير بعيد عنهم كانت أشجار ضخمة مرصعة بأعشاش الغربان التي يعلو منها نقيق حاد يضفي على المكان شعورا بالحنين .إقتربا من القارب السعفي، كان العجوز يحمل وعاء به زيت كبد سمك الجيذر وفلينة قطنية تغطس في قاعه،رفع الشاب حبل المرساة من بطن القارب ثم قربها جهة أنفه، تشممها قبل أن يمسحها بالقطنة المغموسة في الزيت، وظل يفركها طويلا والصياد الأعمى يقف وراءه مرددا عينيه الفارغتين بارتياح بين المدى البحري الشاسع والأرض تحته ، بعد ذلك وزن الشاب المجدافين بيديه وحركهما في جميع الجهات، ثم فك وثاقهما وانكب يربطهما بكل جهده وأنين ضعيف يخرج من صدره، وحين انتهى نفض بطرف القارب يديه من القشر الفسفورية التي التقصقت بهما، ثم رسم ابتسامة على ثغره كعلامة انتصار، بعدها قاد الأعمى من إحدى يديه وأودعه باب بيته .
ادخل لنتغدى.
أحسنت ياعمي، سأتركك، لدي عمل كثيرفي البيت.
سحب الشاب خطواته جهة الشاطئ ومن هناك رمق سربا من نوارس الظهيرة تبحر بأجنحتها البيضاء مطلقة صراخها وهي تتعارك على السمك المتقافز. توارى بعدها مبتعدا جهة بيته وهو يتلفت يمنة حيث بدأ الأطفال وبعض الصيادين يتركون قواربهم هاربين من قيظ الظهيرة.
في تلك اللحظة كان الصياد يتحدث وهويدخل ثم يتحدث وهو يجلس فوق الحصيرة.
لو رأيتيه كيف كان يساعدني وأنفاس فرح تخرج من صدره، كأنما تركه لنا هاشل بعد موته وأوصاه علينا .
ثم أكملا حديثهما ومائدة طعام صغيره تتوسطهما.
ماذا ستفعل إذا جاءك مندوب الشركة؟.
سوف أرد له طلبه، لن أفارق كوخي ماحييت.
واذا أصروا عليك.
بعد وقفة متشنجة، تحرك الصياد متحسسا الحائط السعفي للكوخ، حيث وضع في زاوية مظلمة صندوقا خشبيا قديما، قام منفعلا و أديم الطعام ملتصقا بكفه اليمنى.
هل ترين هذا الصندوق، به سلاح ورثته عن أبي، لم استعمله يوما، سوف أشهره في وجه من يضطرني إلى ذلك .
كانت المرأة تنظر إلى حيث أشار زوجها وعلامات الريبة تتسلق وجهها كظلال خشنة.
وكما في كل ليلة ، في قلب الظلام يدفع الصياد بقدمين حافيتين قاربه السعفي من صفحة الرمل الملساء ، باتجاه أصابع البحر التي تثب منتفضة حين يلامس القارب أطرافها .
كانت ستارة الظلام تطوق جزءا من المكان ، وفي كبد الأفق ، قمر وحيد يبدو كعين تبرق لتفرج عن جزء آخر من عتمة المشهد.
تلامس أصابع الصياد رطوبة الماء ، يسحب طرف دشداشته دافعا القارب جهة الماء، ثم يرفع ساقه اليمنى يتبعها بثنية من يديه على إثرهما يرتفع بقية جسده خفيفا إلى بطن القارب .
يقبض طرفي المجدافين و يسحب بأنفه كتلة غليظة من الهواء يستعين بها لدفع القارب الذي سيتقدم مختفيا في بطن الظلام.
ومن بعيد …وراء ظهره المتواري ، كانت امرأته تشيعه بنظرها وهي تتمتم بصلاة خافتة .
عينا الصياد الأعمى شاخصتان في الأفق والقارب يتحرك ببطء، في مقدمته تتقافز فقاعات الماء،وبمؤخرته يرسم خيطا زبديا ضعيفا بدا كطريق محروثة تتشكل في السديم.
تسحب المرأة جسدها ناحية العريشة ، التي تهز الريح أطرافها السعفية ، عازفة طرقات تتوازى مع كسرات الموج .
وغير بعيد من ذلك كانت خرسانات إسمنتية بدأت تتشكل وتقترب كوحوش نائمة تلتهم ببطء صفاء المشهد.
يتقدم الصياد إلى قلب البحر ، والقمر في الأعلى يضيء طريقه الهادئ . إلى أن أرخى مجدافيه مصيخا ، قبل أن يلقي الشبكة التي استلها من مكان في المركب ، والتي طارت بمهارة في الفضاء ثم طفت لحظات قبل أن تغوص في قلب الماء، وفي الأعلى علق أحد أطرافها بخشبة القارب .
تسند المرأة رأسها على المخدة، ثم تقلب رمشيها في الظلام متأملة وبريق من عينيها يسطع ويلتقي ضوؤه بما يرسله القمر من ألوان تراوغ فتحات العريشة .
وفي اللحظة عينها، حيث أناخ الصياد قاربه، كان القمر يرسل أشعته على القارب ورأس الصياد المطبق عينيه وابتسامة انتشاء تتسع من ثغره الغائب.
المرأة تغفو والتمتمات التي توقفت مستريحة في ثغرها التعب ، تسقط على وجهها مايشبه الجناح الأبيض .
والصياد بعد أن قذف بالشبكة ، انتظر غافيا، بين خفقات هواء التيار الهادئ الذي يرتفع فوق الأمواج كحصير متصاعد يهب على جسده قبل أن يعلو ويكمل طريقه في الظلام. ثم يستل مسبحته ويحرك خرزاتها ببطء وهو يتمتم بصلاة خافتة.
تطوي سجادتها ثم تتقدم إلى زاوية في العريشة وهي تضع فوق الأثافي الثلاث ، إناء المعدن ،ومن هناك تتطاير إلى نافذة تطل على البحر، روائح الأبهرة ثم الصوت الملتهب للحساء.
وفي وسط البحر، أتم الصياد صلاته ، ثم رفع قدميه فنبضت منهما عروق نشطة مستجيبة في سحب الشبكة من البحر إلى بطن القارب .
المرأة تفتح عينيها ، وتنهض ، ثم تغوص في عمق قريب من زاوية في بيتها، تغلق الباب عليها، حيث يسمع من الداخل حركة أسطل وخرير ماء، ثم تخرج وتمتمة الصلاة تتتابع من بين شفتيها وهي تفرش سجادتها .
كانت السمكات الصغيرة تتلبط وهو يستلها بيديه ويودعها جوف كيس قطني بجانبه، ثم يحرك مجدافيه مقتربا من الشاطئ ، فيهب الصيادون الزاحفون فجرا إلى البحر لمساعدته، ينزعون ما بقي ملتصقا في شبكته ويودعونها في كيس صغير أتت به زوجته.
في بكارة الغبش التي لا تلبث أضواء الشمس وأن تشعلها كأنما لترسل نداءها الأول لحركة الكون، هنا تتضح حركة كل شيء، الموج يتقافز كأطفال فرحين ، والنوارس تبحر في الفضاء أسرابا باتجاه الشاطئ، حيث الصيادون يبدأون في شق طريقهم ناحية البحر.
وحده الصياد الأعمى ينهي عمله، كأنما ينهي نهارا يتجه عكس الزمن، حاثا خطى قاربه نحو الشاطئ، بحاسته المتوثبة والراصدة والمدربة منذ أزل على طريق البحر. كان بتلك الحاسة الفولاذية ، يستطيع أن يصل إلى طريق عودته مسترشدا بكل ماترسله الطبيعة في بكارة ذلك الصباح من أصوات وروائح، كان كل شيء في المحيط يساعده على الوصول الهادئ إلى مرساه.
تتقافز السمكات في الشبكة، تتلامع كالنجوم حبيباتها الفسفورية، وتبرق بشدة مع الانعكاس الخفيف للشمس.
يتقدم الصياد إلى حيث تقف امرأته منتظرة، منتشيا فرحا بإنهاء يوم عمله، منخراه المنفرجان بالسعادة يتساوقان مع حديثه المتقد .
تقوده من يديه إلى قلب العريشة ، تناوله الحساء الساخن ،ثم تتوارى مبتعدة وكيس السمك في يدها، مخترقة سحابة الغبش.
يرتشف الصياد الحساء، مسرحا عينيه في الفراغ ، ثم يتمدد مستريحا .
تتقدم المرأة بالكيس تجاه السوق. وفي الطريق، وكما يحدث في كل مرة، يستقل طريقها العائدون من صلاة الفجر، ويشترون كل ما بيدها في ذلك الكيس.. وفي هذا الصباح نقدها احدهم ريالا مثلوما.
محمــود الرحــبي
قاص من عُمان