حسن الربيح
شاعر سعودي
-1-
سأَحتَفي بالمَوتْ
هل تَفهمُونَ أَنَّني أَكفُرُ بالحَياةْ؟!
سأَحتَفي بالمَوتْ
لأَنَّهُ لا يُخلِفُ المِيعادْ
لا يَعرِفُ الكَذِبْ
مُؤْتَمَنٌ، لا يَخرِقُ القانُونْ
وهذهِ الصِّفاتُ مُستَحِيلَةٌ عَلَى البَشَرْ
-2-
لا يُجدي مَعَهُ أَن تَبكي
أَو تُغري فيهِ نُيُوبًا عَطشَى، بالضَّحْكِ
نَتَرقَّبُ فِيهِ مَجيئًا
بأَحاسيسَ مشتَّتةٍ في الأَمَلِ الشَّارِدْ
ويَجيءُ بإِحساسٍ واحِدْ
لا يُجدي أَن تُؤْمنَ فيهِ
أَو تُعلِنَ فَلسفَةَ الشَّكِّ
فالنَّاتِجُ واحِدْ
سيَجيءُ بإِحساسٍ بارِدْ
-3-
طاعِنٌ في القِدَمِ المَجهُولِ
هذا البَلَدُ
بَلَدٌ للمُتعَبينْ
تَسَعُ اللَّحظَةُ فِيهِ
ضِعفَ ما تَطوي السِّنِينْ
بَلَدٌ يَتركُ للإِنسانِ
حُرِّيَّتَهُ في أَن يَنامْ
بَلَدٌ لا صَخَبٌ فِيهِ
سِوَى رَفِّ الحَمامْ
-4-
تُفهرِسُنا في كِتابِ الوُجُودْ
ومِن قبلُ، كنَّا خَواطرَ نزهُو،
ونلهُو برأْسِكَ
أَيَّ العناوينِ تختارُ،
حينَ أَمرُّ ببالِكَ؟
ماذا ستَكتُبُ في الصَّفَحاتِ
الَّتي كُنتُ هيَّأتُها للقَصِيدْ؟
وفي زَحمةٍ من رُفوفِ التُّرابِ
ستُتركني، ثُمَّ تَلهَثُ خَلفَ كِتابٍ جَديدْ
خَطيبَ الأَبدْ،
بلا ثَرثراتٍ، تُعلِّمُنا كَيفَ نَبني البَلَدْ؟
وكيفَ نُطيلُ الحَياةَ بقَلبِ القَصيدةِ
حينَ يخونُ الجَسَدْ
ستقرؤُنا دونَ أَن تَتساءَلَ
عمَّا وراءَ السُّطورِ،
فأَنتَ تَرَى النَّاسَ، والقَملَ شيئًا
كأَنْ لا تَرَى من أَحَدْ
ورَغم العَمى، أَنتَ تُبصرُ كُلَّ مَكانٍ
ولكن تَسيرُ بلا سِكَّةٍ، يا قِطارَ الرَّمَدْ
-5-
برَغم ما تَمدُّكَ الحَياةُ من أَنهارِها
فلا تَخافُ الفَوتْ
برَغم ما راودتَ من نسائِها
ورُحتَ تَعوي: هَيتْ
برَغم ما تَنهَبُ من مِصباحِها مِن زَيتْ
لم تَشتَعلْ،
وطالَ عُمرُكَ المَهيبُ بَينَنا،
كأَنَّما تكبرُ من أَعمارِنا؛ لكي تُنافِسَ الأَمَلْ
هناكَ في عالمِكَ الفَسيحِ، تَسبي كُلَّ بَهجَةٍ
ولم نَزَلْ نَدعُوكَ في كُلِّ اتّساعٍ: مَوتْ
-6-
الشَّهيدُ يَراكَ حَياةً مُخبَّأةً
تَحتَ قَطرَةِ دَمْ
والغَوِيُّ يَراكَ عَدَمْ
والحَصَى لا يَراكَ،
وأَنتَ المُحايدُ لا تَتجلَّى،
ولا تختفي
لَم تكُنْ لذَّةً،
أَو أَلَمْ
إنَّما هي حاسّتُكَ الخارقَةْ
لا تُحَسُّ سِوَى في المَجازِ
ولا يُستَدَلُّ عَليكَ سِوَى بالحَياةِ
فهل أَنتَ وَجهٌ لها؟
مَن رآكَ رَأَى نَفسَهُ
أَنتَ تحيا هُنا بَينَنا!
كيف تَجمعُ فيكِ النَّقيضَينِ
في لَحظَةٍ واحدةْ؟!
وبرَغم التَّآويلِ
تَبقَى بَعيدًا عن الرَّمزِ..
عن كُلِّ هَذي التُّهَمْ
-7-
لماذا تَطيرُ بنا بَغتَةً دونَ إِخبارِنا،
وتذاكرُ رِحلتِكَ الأَبديَّةِ
محسُومةُ الحَجزِ مُنذُ الوِلادةِ؟
هل كنتَ تخشى بأَن نتخلَّفَ عن مَوعدِ الطَّيَرانْ؟
لماذا تَرانا، ولَسنا نَراكَ؟
أَكنتَ تخافُ بأَن نفقأَ العَينَ منكَ؛
ونُخفي عَليكَ المَكانْ؟
لماذا لماذا..؟
وتَشتدُّ حَيرتُنا، ثمَّ نَنسَى
ونمضي إِلى رقدةٍ تتباعد خَلفَ الزَّمانْ
-8-
مَحطَّةُ أخيرة
فَوقَ مِصطَبةِ العُزلَةِ
انتَظرُوا مَوتَهم:
رَجُلٌ
أَقعدتْهُ السّنُونُ طَويلًا
بَكَى نِصفَهُ المَيْتَ
في قَدَمَيهِ انطَوَت
خُطوةُ الحُلمِ خاسِرَةً
والمَسافاتُ ما بينَ عَينَيهِ ذابِلَةٌ
كُلُّ حاجاتِهِ هَرَبَت
من يَدَيهِ إِلى غيرِهِ
ما أَذلَّ السُّؤَالَ
وما أَوجعَهْ!!
أَتُراهُ يُفَكِّرُ بالغَدِ
أَم بالَّذي قَد مَضَى؟!
أَم تُراه يعدِّدُ أَيَّامَهُ، ويذلِّلُها
كي تَجيءَ
إِلى مَوتِها طَيِّعَةْ؟
رَجُلٌ
لم يفكِّرْ بأَنَّ اصفِرارًا خَبيثًا
سَيَجثُو عَلَى دَمِهِ
قد جَثا
يَومَها أَصبحت كُلُّ لَحظاتِهِ
وانكِساراتِهِ
وابتِساماتِهِ عَبَثا
وشِفاهُ الأَحِبَّةِ تَملَؤُهُ أَملًا
غَيرَ أَنَّ العيونَ تُكَذِّبُهم
حينما يَرمُقُونَ إِليهِ بدَمعٍ خَفيٍّ
يُحيلُ الأَغاني رِثا
رَجُلٌ
كلُّ تَفكِيرِهِ
في المَحطَّةِ تِلكَ
مَتَى سَيكُونُ هُناكَ؟
وكَيفَ ستَنطفِئُ الأُغنيَةْ؟!
راحَ يَبحَثُ عن مَوتِهِ
الحَياةُ بكُلِّ مَباهِجِها
لم تَكُنْ مُغرِيَةْ
لَيسَ زُهدًا
ولَكِنَّهُ أَوغَلَ الحُلمَ
في المَوتِ
عاشَ طويلًا
ليَطرُدَ من ذِهنِهِ
ذَلكَ الشَّبَحَ المُستَبِدَّ
إِلى أَن أَفاقَ عَلَى حِكمَةٍ
في نِهايَةِ أَسفارِهِ:
المَوتُ هاجِسُكَ المُستَقِرُّ
عَلَى المَوتِ في خُطوَةِ الأُمنِيَةْ!
وَحدَها رَكِبَت
الفَتاةُ الَّتي فاجَأَت مَوتَها
لم تَكُنْ
في المَحَطَّةِ تَنتظرُ
سأُفوِّتُ – قالت – عَلَى المَوتِ
فُرصَتَهُ في التَّشَفِّي
ولُعبَتَهُ في العَذابِ البَطيءْ
سَوفَ أَجلِبُهُ
مُكرَهًا ها هُنا
وسَأُجبِرُهُ
أَن يَشُدَّ حِبالًا
إِلى السَّقفِ
أُرجُوحَةً
لانتِحاري الرَّحِيمْ
هكذا أَحرِمُ المَوتَ
من أَنْ يُوقِّتَني بعَقاربِهِ
ثُمَّ أَنتظرُ