في الطريق الى (ابو رمانة)، ظلت صامتة، مثل الموت كنت ارى، في نهار الصيف المثير ذاك، كل شيء فيها: لهفتها الكتومة، وتوترها اللاهب، وانشغالها، لم اقل شيئا، لم اكن بحاجة الى كحلام، كنت بحاجة الى حركة. ( كنت افكر: كلام بلا معنى لقوله). كان جو الحرب يختلط بـ " جو الحب". كانت "مقولة الحب الخفي" (من اي تعلمتها؟) تملأ كياني. لم اكن اريد ان يشاركني احد مشاعر حبي، حتى "موضوع الحب" نفسه.
كان الشام غارقا في الشمس والشمس تثير كل شيء. تجعله اسود، محتقنا ومملوءا نبضا، وفجأة، تلتصق بي. تحضن بكيانها، كله زندي. زندي الذي غدا جزءا منها، بعد ان كان جزءا مني. ولكي اقربها كثر، ثم اكثر: اقرب وجهها من وجهي، واشياءها من الشيائي، كان يكفي ان ارفع زندي، واحسستها تعلو. تعلو كريشة في جناح تلحق به وهو يطير.
– اريد ان..
انفجر القول في رأسي، وكانه قنبلة من قنابل الحرب.
– متى ؟ والى اين؟
لم اكن اتوجه بالسؤال اليها ولكن الى نفسي. كنت اعتقد ان للجسد فضاء خاصا به، وللكلام "الحقيقي" كذلك. وان اختراق ذلك الفضاء "المحكم السد". لايمكن ان يتحقق جون ثغرة في بنيته الداخلية شعور محبط. شهور العاجز عن اختراق "بنية" لم يكتشف بعد ثغراتها. وقد اقول شعور اللص الذي تعود ان يسطو على ممتلكات الاخرين،وقد وجد ما ملكه بشق الانفس، يريد ان يطير بـ(بساطة) من بين يديه، دون ان يسرقه احد اخر حتى.
– لا –
ولم يستمع احد الي، حتى ولا انا، ازيز الطائرات التي اخترقت، فجأة جدار الصوت فوق دمشق ابتلع كل شيء. ووجدتني احميها بجذعي الذي غطاها من الذيل الى الذيل.
لا، لم اكن خائفا عليها. كنا اريد ان احميها حتى استطيع فك الحصار، حصارها عن نفسي. افهم ما تريد. واتطلع، بارتباك حولي. ابحث عن المنفذ1 المخبيء. شوارع (المهاجرين)، كلها خالية لا احد غيرنا. جسدان مضطربان يتحركان بلا انقطاع. يتحركان تحت اشجار الياسمين، وازهارها البيض الناصعة، ومن حين لاخر، تجيء بعض اشجار الزيزفون، بازهار صفر فاقعة.
هنا لا هنا لا هناك عن موقع الغضب فيها. لا اجد احيط باركانها. اريد ان اقع على النحو الذي منه تنطلق العصارات لا، لم تكن تنظر الى السماء لتبحث عن الخطوط التي خلفتها الطائرات، فوقنا. ولم تسد اسماعها حين اخترق جدار الصوت، ايضا كانت هفهفة ثوبها الحرير تتطاير مثل خشخشة عصافير تمشي فوق ساحة مملوءة بالحب.
في الحقيقة، لم اكن ابحث عن اي من هذه العلامات السخيفة. كنت اريد ان ادرك سبب الانفصال، لا، الانفصال الظاهري، فحسب، بل الانفصال العميق بينها وبين المحيط. لماذا لا تهمها الطائرات ولا غاراتها؟ الشوارع الخالية لماذا لا تثير اسئلة لديها؟ الحرب، كلها، الحرب بحربها، لماذا لا تبعث اي توتر في ملامحها؟ لا لم اكن سبب " الانفصال" بل عن اعراض "اللامبالاة" لديها. لكنها ليست لامبالاة نفعية، بل هي (كما بدا لي) موقف فلسفي، من الحياة وحواشيها. الا انها لم تكن توحي اطلاقا، باي شيء يمكن ان يدفع من يعرفها الى مثل هذه الاستنتاجات الغريبة عنها.
ماذا افعل، وقد اصبحت الان في متناول الحشى؟ وقد احتلت كياني كله كنت عاجزا، في حقيقة الامر, عن حل معضلة صغيرة، كهذه، لماذا كنت عاجزا الى هذا الحد؟
كنت اقابل بين "انفصالها" العني الواضح الانفصال الذي تخطى مفهوم "التأثيم" والذي يوحي بقوة، انه لا يعرف (وربما لم يعرف، ابدا) تأنيب الذات، كنت اقابل بينه وبين "حالة الدمج التي كانت تفعم ذاتي، كلها لم اكن اتصورني،. بعد منفصلا عن الشوارع، عن الماء والاحجار والناس الذين يحيطون بي، كنت اعيش حالة دمج " عفوي" اريد ان اقول "دمج حلولي" كالم وغير واع، على الاطلاق. دمج غير مفكر فيه.
ما اثار فضولي، في هذا التقابل هو مبدأ "الكف عن الفعل" عندي كنت اكتفي في الواقع باحساسي هذا لكان الاحساس يغني عن المبادرة.
كنا نقف متواجهين، ولاول مرة، رأيت جسدها المكتنز الصغير يكاد يطير. واحسستني امد يدي اليه ولا اجد له اثرا. بعنف غير محسوب دفعتها (وكنت اظن اني دفعتها (قليلا) ورفضتني: لا ليس بهذا الشكل ولا في هذا المكان. وتساءلت (بنوع من اللامبالاة): عندك شروط؟ (كنت احسب ان الجسد الذي قيد مرة الى الفراش سيقاد كل مرة نرغب فيه). واجابتني بحدة ووضوح عندي شروط كثيرة. بالتأكيد عندي شروط، تتعجب؟ وكأن الموقف لم يكن يقتضي مني الا ان احرك لساني، قلت: اما انا فليس عندي شروط، ابدا ( واضفت متبجحا) ولا محظورات، ايضا كل ما تصل اليه يدي قابل للاختلاس ( ووجدتني امتليء سعادة بالفكرة الاخيرة التي غلبت على لساني). واكدت رغبتي من جديد: بلى هنا، وهنا بالذات. لصق هذا الجدار. وتحت شجرة الياسمين، هذه وبدأت الامور تختلط. لم اعد ارى الا الجدار الذي غدا عاليا، عاليا جدا، كأنه كان يصعد قصدا الى السماء, وجذع الشجرة الخضراء ذات الازهار التي غدت، فجأة غريبة الشكل والرائحة. ازهار تلوثت بعطر احمر وكساها، كلها سائل مريب. وانت وانا الذي لم اعد اقف على الارض.
كنت تحدقين في وجهي بنوع من القرف والخوف. ولم اكن اريد معاودتك اتذكر، الان كنت تحدقين مرعوبة في وجهي الذي كساه عرق اسمر وكبير، وانت ترتعدين: انت مجنون بلا شك انا مجنون ضحكت هازئا، ولم تضحكي.
بعنف، ممدت يدك الى الغصن الطري المقاوم وقصفته قصفا، وصار دمك يسيل وكأن عقربا لسعك، صرت تمصين دمك مصا مصا. تمصينه وانت تنظرين بلا مبالاة، الا النسغ الذي كان ايضا يسيل.
ظلت الاشجار واقفة. وبدأنا نسير.نسير من شجرة الى اخرى. كنا نبتعد. يبتعد احدنا عن الاخر؟ ومن جديد، جاء صوتك، كنت تريدين ان تقولي شيئا. وسألتك؛ اتريدين حقا؟ وهززت رأسك. ولم يتح لي ان ارى حركة الرأس المدور. كنت اهزك: انظري انظري. كان الجسد المعدني يحوم فوقنا. وفوقنا، تماما اطلق حزمة الصوت الرهيبة، وغاب، وبدأت الناس تركض. كانوا يركضون مثل حمع من الارانب الحائضة. ولكي الفت انتباهك صرت اقهقه. وتساءلت بدهشة: لماذا قلت: انظري حركة الناس الراكضين من الخوف، حركة بلهاء. لا توجه لها، ولا قاعدة ولاهدف تكاد تكون مجرد حركة. حركة عشوائية. وما الغريب في الامر؟ قلت وانت تسترين فخذك الذي لامسه الضوء، فجأة.
لم اكن الم، بعد بسر تلك الحركة وقوتها. قوة الحياة التي تواجه، في وضح النهار، نهايتها المحتملة. كنت بحاجة، كما ادرك الان، الى فهم كثير من الحركات ( الحركات التي كانت تبدو لي بلا معنى، والتي ساظل اكررها زمنا طويلا).
كنا نقترب بهدوء، من (الروضة) المكان الذي ساتركك فيه. والذي منه سأعود ادراجي ماشيا حتى اطراف حي (المزة) الملفوح بعيدا. عالمان التقيا، برهة، وافترقنا لكان احدنا لم يكن قد عرف الاخر، ابدا. وما ان بدأت تصعدين الدرج المرمري، هازة ردفيك الصقيلين، حتى لبست وجهي الحقيقي، بعد ان خلعت القناع اليومي، عنه وكانني التقيت بنفسي، بعد طول غياب، صرت اتنفس ضاحكا. ضاحكا بصوت عال، يسمع من بعيد.
لاول مرة احسست ان للهواء طعما اخر. طعم يشبه طعم "قرنفل" الجزيرة القديم. ملأت رئتي منه. كانني اريد ان اغسلها من الهواء الآسن. الذي كنا اعبه معك، قبل قليل.
ولجت الباب دون ان تستديري. دون ان تلقي على نظرة
خليل النعيمي (روائي وطبيب سوري ، مقيم في باريس)