لم تعد هناك مركزية للأدب، فقد انقطع فجأة – وبشكل مباشر! عن الواقع اليومي. وتحول القراء عن التفكير وانصرفوا الى قراءة الصحف، وراحوا يتحدثون في مطابخ منازلهم عن يلتسين ولوكاشينكو أكثر من حديثهم عن الروايات والاشعار، وبالتالي فليس من المهم ان تكتب شيئا. تلك حقيقة واقعة ويجب اخذها بعين الاعتبار، فلن يظل الأمر كما كان عليه في السابق. والأمر اشبه ما يكون ايضا بان الكتاب جميعا قد انقسموا على أنفسهم: الى من يود، بوعي او بدون وعي، العودة الى الماضي، والى من تقبل الوضع الناجم بهدوء وبدون تفكير او انزعاج ومن ثم راح يبحث لنفسه عن مكان مناسب فيه.
وثمة، والحق يقال، اولئك الشطار الذين فهموا الموضوع على الفور واستغلوه للانتفاع منه والحصول على قطعة الكعك ساخنة.- إلا أن ذك ليس له صلة بالادب حيث ان كل ما يتم تداوله بشكل واسع عندنا – أسوأ حتى من المواطنتين الامريكيتين جاكلين سيوزين وباربارا كارتلند. ومع ذك فهذه هي النزعة الملموسة والمحسوسة – احداث التشتت بالدرجة الأولى داخل الوسط الادبي نفسه وتقسيما الى من لا يريد، ولا يستطيع، اللحاق بنموذجه من شخصية بيجاس -، وهم اولئك الذين ارتضوا ان يتخذوا الواقع الراهن عالما لهم، والى من لم تقع منه نظرة عليه منذ زمن او يعرف هذا الواقع الراهن ولم يرد وجهه أبدا، اذن فليأخذ الشيطان ذك الواقع وليذهب به الى الجحيم. وسوف تسير الامور بدونه على ما يرام وهناك من "يؤلف من رأسه". ومن يعمل مع النموذج الفعلي ولا يبني الخيالات والاوهام، ولكن يحدث أحيانا انهم يتجولون هنا وهناك بحرية، وعلى هواهم، ولكن ذلك ايضا لا يغير من الامر شيئا. الثابتون على الارض الصلبة والمتمايلون مع الريح – هذان هما المعسكران الاساسيان، ولاحقا يجري تقسيم الى ما هو اسفر ووفق معايير اخري. وهناك على سبيل المثال اطراف، ولكن عندئذ تكون القسمة ليست حسب العلائم الجمالية وانما حسب الامور السياسية. فالطرف الايمن هو انتاج مجلة "معاصرنا" ودار نشر "الحرس الفتي". ولاسباب مفهومة تماما لا تتم مناقشة او بحث المواد التي تنشر على صفحات "الجريدة الادبية". الا انه بصرف النظر عن الكيفية، فان الكمية هنا كبيرة الاهمية الامر الذي يجعلها تترسخ في الذهن، ومن ثم نقول ان ذلك على الاقل موجود فعليا. وكل ذلك الادب القومي- الوطني لا يظهر على صفحات المطبوعات الرصينة اللهم الا على هيئة اصداء بعيدة على هذا التصريح او ذاك من تصريحات او اقوال الكاتبين فاديم لوجينوف او فالنتين راسبوتين، اي ان الاصداء أحيانا تصل، وهذا يعني إن كل ذلك مرتبط بأن هناك عملية استقطاب حادة تجرى للمجتمع من أعلى، ومن اعلن نفسه حرا ليبراليا يمضي نحو اليمين بحدة، والآخرون، وهم الوسطيون المركزيون الهادئون، يبدأون في الانصات الى صوت السيدة "نوفودفورسكايا*.. وفي الطرف الايسر يخطو الكتاب الساخرون المتفنون الاحرار بالمذهب النظري، والزعماء العمليون لمذهب ما بعد الحداثة او ما يمكن ان نطلق عليه من تسميات اخري. اما الاكثر نظرية وحداثة وهو على اية حال ليس فيكتور بروفيف مؤلف الرواية الرائجة "الروسية الجميلة"، بل برامونوف الذي يمتك القدرة على استعمال اللغة الثقافية. والحق يقال اننا نستطيع الا نتناول نظريته اما الممارسة.. فانه لم يتردد في التصريح بانه شخصيا يخيل اليه ان ف. كوتشيتوف يتساوى من حيث القيمة مع ف. جروسمان. وهذا التمرير المتطرف جدا يجعلنا نرى ان صاحبنا كوجنيكوف الوطني هو مجرى طفل بريء. هذا التصريح وغيره يعني: اني ابصق باحتقار على عشرات السنوات من العنف بحق الناس وعلى ظلال العذاب والمعاناة في ارواح الكتاب، وابصق على المعسكرات والابادة البشرية، ابصق وابصق وابصق ! ولا يمكن لأي شيء خارج المجال الاستيطقي ان يؤثر على نفسي. وها هو الناقد يكتب انه حين يقرأ قصة ا. فريدبيرج "هنا أنا!" عن الاعدام الجماعي لليهود يقول ان القراءة عن آلام الآخرين مسألة مملة بالنسبة له، وهذا كل شيء: وهكذا فالأخلاقية ليست مهمة بالنسبة له. نعم، ولكن ماذا عندما يكتب مايكوفسكي في زمنه: "اني أحب ان انظر الى الاطفال وهم يموتون"!! لقد غضب بشدة عندما لاموه على ذلك، ولكن مهما كان فان الادب الروسي ليس بوسعه ان يتخلى عن الاخلاقية. الامر المؤسف جدا ان الطرف الايمن له اخلاقياته – اخلاقيات النزعة القومية المتطرفة، ونزعة مقت البشرية التي تستل الطمأنينة من الروح، وها هم التقدميون يتجاوزونها بالصمت عن لا أو نعم. اما النزعة الاستيطيقية المرهفة في اشكالها المترددة من كيبيروف حتى روبنشتاين لم تستطع احراز نجاحات ابداعية ملموسة. ومن ايضا الذي سيقرأ وهو في كامل عقله وسلامة وعيه، على ضوء القمر، كتابات بريجوف او كتاب «رأس جوجول»؟ ونزعة الازدراء او "البصق" – هي النزعة المميزة لكتاب الادب الجديد. فالى اي حد فزع المنظرون وارتعبوا لدرجة انهم اخذوا يتخلون عن اية فكرة منظمة، بينما هذه الفكرة المنظمة تحديدا بالنسبة للأدب الروسي كانت دوما هي الضمير. وبالتالي فليس بوسع أي اوبرازتسوف وهو ينهال على رأس بوشكين برشاش ازدرائه المركز («الجريدة المستقلة» العدد 11 لعام 1996م) ان ينجح على اية حال في الغاء هذه الظاهرة -ظاهرة بوشكين. بل ان احدهم يود لو استطاع الغاءهم جميعا- بوشكين وتولستوي وديستويفسكي وتشيخوف. كيف لا! اذن لأمكن الظهور على خلفية الفراغ، او كما يكتب بيليفين على الخلفية الفراغية. وبايجاز فلنتبرأ من القديم وننفض ترابه من اقدامنا. وهكذا ثمة طرفان: التغني بالشعب المقدس الذي يحل الاله في نفسه، واللعب الادبي بالمسؤولية. واذا كان الوطنيون من الادباء لا يسمح لهم بالظهور حتى الآن على صفحات المطبوعات اللائقة نظرا لبعدهم عن الوقار (يمكننا ان نطلق عليه ابتعادهم عن الفنية)، فان الباب مفتوح على مصراعيه امام هؤلاء المتلاعبين، اما كوريتسين فانه لا يختفي ابدا عن صفحات مجلات وجرائد بعينها. ولكن مع كل ذلك لا يزال ثمة شيء أخر باقيا. وهو قبل كل شيء تيار ما بعد الواقعية الذي تقرأ في حدود ما، وعلى سبيل المثال رواية يوري بويدا "برمو". وقد بدأ بويدا انتاجه الادبي ككاتب واقعي بقصته "دون دومينو" حيث كان من الممكن ايضا اطلاق بعض التفاعيل الرمزية. ورواية "يرمو" كما يحدث في احسن العائلات بفلاديلفيا تمثل ما هو بمثابة مزبلة نفايات من شتى العناصر الفنية. وكل هذه المجموعة من الالوان والاشكال ذات اصل أدبي- سينمائي الامر الذي يطلب منه كما يبدو ان يكون شاهدا على الدم الارستقراطي الازرق والانتماء الذي لا يعتريه الشك الى ما بعد الحداثة. ولكن بصرف النظر عن ذلك، ففي الرواية ظواهر كافية تدل عن النزعة الواقعية: المضمون القوي، وشيء من القوة التعبيرية – مثلما كانت الفلاحات المحترمات قادرات على ممارسة الحب ! ولكن لا ينبغي ظهورهن بدون المنجل والمطرقة. وها هو بويدا القادر على الكتابة عموما يفضل العدول عن الدرب المطروق للنزعة الواقعية من اجل التأرجح على درب لا يقل طرقا، وهو درب الحداثة لمجرد الا يلمحوا الواقعية في عينيه! ولكن هل بويدا هو الوحيد الذي يفعل ذلك: فهناك غيره الذي يكتب ليس الواقعية – تلك التي تفوح منها بصورة حقيقية رائحة النزعة الطبيعية، وانما ينثر ويبعثر هنا وهناك تلك الامور والاشياء ذاتها. ودون أية معرفة بالكتاب المقدس او الاساطير القديمة للعهد المسيحي تراهم بمجرى ان ينزلوا من على اكتاف امهاتهم يقدمون رمزية خشنة وقديمة لمجرد تفادي الاتهام بالولع بالوقائع الساذجة، هذا النزوع نحو الظهور والشهرة لمجرد عدم استنساخ (وهي الشتيمة المفضلة !) الحياة الواقعية – يكشف عن الرعب المخبأ عميقا داخل النفس من الواقعية، والذعر من خشونتها وتشابكها، والهلع من خطرها الذي ابسط ما. يقال عنه انه كخطر الموت. ذلك بالطبع الى جانب الرهبة من الحياة وعدم القدرة على مواجهتها والتغلب عليها وغياب بسالة المقاومة حتى النهاية، وايضا غياب شجاعة الابداع وجرأته – وهو النضال من اجل الرؤية – فلننظر من اية مزبلة ينبت ذلك السعي الدائب الى الحروب من الحياة والانغمار في التلاعبات اللفظية، وهذا السعي عموما ليس بالجديد، ولكنه أقوى كثيرا مما كان عليه قبل مائة عام. الا ان الفنان يعيش "الآن"، ويعمل من اجل «الآن» ولا شيء ذا ذلك. وكل هذا الهروب الفني مجرد نقص في الدم الاحمر الساري في عروق الفنان، بل وسوء الفنان نفسه وغثاثته.
ثمة طريق آخر ينطق من الواقعية نحو جهة اخري، نحو «الجنس» حيث يشتغلون اليوم ليس بالريشة وانما بالمحجن – لا يتم تشريع الحالة النفسية الى دقائق وتفاصيل، وانما تعرض المواصفات الحادة القارصة والسلمية كما في المقالات الساخرة، وفي اطار الفكرة البسيطة بان حياتنا كلها عبارة عن كذبة قذرة ولكن على اية حال لا توجد اخرى غيرها! وببساطة فقد كانت جميع أنواع التابو على الدوام قوية في الثقافة الروسية – وليس في في عهد السلطة السوفييتية. وكان ذلك نفاقا لا يقل عما كان في انجلترا الفيكتورية، وبالاخص في مجال النصف السفلي من الجسد. وقد انكروا ذلك باعتباره غير لازم او فووري، وليس عبثا ان التصوير القوي لدى تولستوي قد هزد. ميريجكوفسكي بشدة من الاعماق: رفع تولستوي التابو، وازاله تماما دون ان يعي هو نفسه ذلك او يدركه، اما الصبي ميريجكوفسكي فقد تمسك بالممنوعات في قدسية العابدين لاسيما وان ذلك بالنسبة له، مع زهده وتنسكه، لم يكن يمثل أية مسربة. ان الميل الى المنع التابو يأمر موجود داخل طبيعتنا النفسية، وهذا بالضبط يشبه تماما التحمس الذي استقبل به النصف السفلي من الجسد في الرسم، وكأنما صدر أمر: ممكن !. ولكن تقاليد فن الرسم هذه ليست موجودة في الادب الروسي، ولا في الفنون البصرية والمرئية. وهكذا نجد ان الذي يحدث ليس ذلك التقارب الانساني الرائع وانما الجنس المثير للقرف. وذلك بالطبع لون مغاير تماما! ورسم القذارة شيء لا ينتج عنه سوى القذارة، وفضلا عن ذلك، فالسعي الى اشاعة الجنس في كل شيء يفضي الى التبسيط- فالحياة حتى عندما تكون بدون اية فرصة او بهجة هي على اية حال زاهية ومتعددة الالوان. ولكن بذلك الشكل يظهر الاسود حتى الرمادي الباهت، ونكتشف انها ليست لوحة معبرة، وانما مجرد نزعة.
اما العودة الى وصف الحياة كما هي فيتم النظر اليها تقريبا وكأنها جريمة. ويعد من التصرف المعيب مطالبة الاعمال الفنية (الواقعية طبعا) بمطابقة العالم المحيط. ويقال لك انت كالقيصر فعش وحدك، وهذا كل شيء. واسمح لنفسك بان تبصق على كل ما يحدث في الواقع والكيفية التي يحدث بها ايضا، فهذا ليس بالشيء الجوهري. اذن وليكن ذلك، الفن ليس التعبير عن الواقع الراهن (رغم انه من الممكن المجادلة في ذلك) ولكنه لا يستطيع ان يكون موجودا داخل نظام مستقل تماما متى وان كان مرتبطا ليس بصورة مباشرة بحياتنا اليومية، ولكنه في الحقيقة، وعن اية حال، هو مرتبط فعليا بها. والقضية برمتها- بالنسبة للنقد- هي كيفية هذا الارتباط تحديدا. وها هي امامكم نزعة اخري: العدمية. وانا هنا لا اقصد وجهات النظر المتطرفة، ليس ف. كوريتسين. كما ان السؤال هنا لا يطرح عن السبب في ان مثل هذا الشخص الواقعي المتركز (احيانا تطلق على هذه النزعة بدون توافر اية أسس صفة السوريالية) مثل لودميللا بتروشيفسكايا تنحرف نحو اليسار، وعقب قصتها الموفقة "الوقت ليلا" تبدأ في تعقيد قصصها؟ وما هي العمليات المخفية تحت هذا الاتجاه؟ وبأي شيء يرتبط ذلك؟ كلا. ولماذا بعد رواية "تشيك" و "الترزي الثري" يكتب فازيل اسكندر "كارمن تشيجوير" و "الانسان وما حوله". ماذا يجري؟ كلا. ولكن فليكن، لقد سب زولوتونوسوف النزعة الشوارعية الساذجة لفترة ما بعد الأدب السوفييتي- وهذا من جانبه فضل عظيم لانه في رأينا لا يعاني حسن التربية المفرط. لم يعد هناك الآن في الحركة النقدية اية حاجة الى اي تأسيس للاعلان عن الاتجاهات: فهم يلصقون بك هذا اللقب او تلك الصفة وكفى، فافرح وافخر بأنهم على الاقل قد تذكروك وذكروك. وكما كان يجري في السابق قبل اعلان البيريسترويكا، دارت على الاسماع، وعلى ألسنة النقاد تحديدا، خمسة او ستة اسماء احيط اصحابها بمنطقة واسعة من الصحراء القاحلة، والامر الآن كذلك ايضا. فقد بقيت كلتا الحالتين ولكن بصورة معكوسة. وحتى قبل ذلك حينما كان الناقد يزمع تناول الكلاسيكيين. فيقولون له. ذلك غير مهم. واذا نوى الكتابة عن الشاعر اكودجافا قيل له ان هذا لا يستحق، فقد اصبح اكودجافا الآن تمثالا برونزيا. والمحرر يقتصر على وجهة نظر واحدة، يرى اسماءه الخمسة – الستة، ولا اكثر منها حتى لو قتلت نفسك، فلن يسمح لك بالخروج الى ما وراء هذا الدائرة الضيقة ! ولا حاجة او داع لأي تحليل لأي شيء، فهذا ايضا ليس مهما لأي احد. ولكن اسمح لنا بالتساؤل عن سر معرفتك يمكن يكون هذا بالنسبة له شيقا؟ ان الصاق النعوت والالقاب ليس نقدا، بل مجرد تمثيل للنقد، او نقد مخادع. ان اي جزء ما ايا كان على ضآلته من التخيل (أعني ما بعد الحداثة) يجتذب مباشرة سلك النقاد كله، ويسرع الجميع في عجلة الى قراءة ووصف ذلك الذي قيل او يقال انه ليس من الممتع ولا يستحق القراءة او الاهتمام. وقبل فترة وجيزة جدا وقعت بين يدي مقالة علمية عن ناربيكوفا. وكم كان حماسيا فيها تمثيل العملية النقدية، وكيف تم تجزيء النسيج السردي (في حالة امكان قول ذلك عن كاتبة مثل ناربيكوفا)، وكيف كان بحث المشكلة المطروحة عميقا من حيث: لماذا اطلق على بطلة الرواية اسم رجالي هو "بيتيا"، واية مشاعر واحاسيس ينبغي هنا استطلاعها، وكيف تجمع لغة الرواية وتخلق جو الشعور الجنسي المنطلق والحر..
كان كورني تشوكوفسكي في زمنه قد اخذ واعطى قائلا: هاكم ما هو بقدر حجم الجبل من تحليل ابداعات ليديا تشارسكايا الكاتبة التي تعشقها جداتنا وامهاتنا. انه ثم يطلق النعوت والالقاب، وانما عرض وبرهن. اما النقد الحالي فانه لا يكلف نفسه عناء القيام بمثل ذلك. ان واضعي الموضة الادبية يعكفون طوال الوقت على خياطة الثوب الجديد للملك المنتظر، بينما الادب يسير في طريقه. ولقد اغفل النقد الجاد وفاتته ظاهرة مثل ف. جورنشتاين، والتزم الصمت تجاه ظاهرة يو. كارابتشيفسكي عدا بعض الاشارات الفاترة بشأن "انبعاث مايكوفسكي"، ولم تظهر او تسمع في الحركة النقدية من حيث الجوهر اصداء ولو خافتة عن اعماله السردية او الشعرية. فما الذي كتب عن آسار ابيل؟ وعن روزينير الى ان توفي في بوسطن؟ وهل كتب احد ما اي شيء حقيقي عن روايتي س. ليبكين "عشرة ايام" و "مذكرات ساكن"؟ وعن سرد ف. كورنيلوف؟ ولكن ما ان يظهر سرد محلي قديم اللهجة لمجرد ان تذكر فيه التسمية السحرية لمدينة نيويورك حتى يظهر الضوء الاخضر. وبالفعل تجد نفسك تقول: يا لهذا من سجايا الخدم والاتباع ! انه لأمر حسن ان طبعت مؤلفات ف. نيكراسوف، ولكن أليس ما طبع منها يكاد يكون أبعدها عن الاهمية وفي ذات الوقت على سبيل المثال لم يتم اعادة طبع رواية "في مدينة الحبيبة"، وهل في الوقت متسع لذلك! ينبغي انجاز الفرصة واستغلال الوقت للاسراع في طبع اعمال مارينين وليونوف.
لقد غدت الخطوات في ميدان الرمزية الرخيصة والخيالية غير المقنعة بمثابة علامة الجودة في السرد الواقعي بالنسبة لفئة معينة من النقاد. بدون هذه العلامة لا يقبل النقاد اصلا على الاهتمام بك، وبدون السير على الاسلاك الشائكة وابتلاع المسامير لا يتم النظر في الفترة الراهنة الى الرواية كرواية، ويمكن اعتبار الاشارة الى ابتلاع المسامير تعبير مجازيا فعندما تغيب الاحداث والتصرفات والبطل والبطلة، ويكون الحضور الرئيسي فقط لخيط متصل من الافكار والتداعيات والاقوال، ففي تلك الحالة لماذا يطلق على هذه الضفيرة من الكلمات المرصوفة تسمية رواية؟ هذا هو الامر. وقد ظهرت الرواية – الذكريات، والرواية – المقالة، والرواية – الاستقصاء، وغيرها من التسميات التي يمكننا ان نسردها حتى يوم القيامة؟ اما النقد فانه يبتلع كل ذلك ولا يغص به. أهو مرض. كيف لا! ينبغي الارتفاع الى مستوى روح العصر والعصرنة. وكل شيء على تلك البساطة، فمن من النجوم اللامعة حاليا في سماء اللغة الروسية لديه القدرة على التأليف رواية جديرة بالاعتبار؟ من يستطيع؟ عدا الذين يكتبون القصص البوليسية التافهة؟ من؟ والناقد المسكين يرتجف خائفا من الوقوع في الخطأ سهوا، فيعمد الى قراءة المجلدات الضخمة لكي يتوصل الى فك الرمز حتى يسقط من الاعياء! ولكن لا بد من وسيلة لادراك التثاؤب هو تواصل بينما يعرض كاتب الرواية معارفه في علم النفس المرضي ويستل الحقائق من تاريخ بلاده بشكل لا يمكن لاي مؤرخ ان يبلغه. وذلك يتم في الوقت الحاضر كلآتي: اكتب ان تشاباييف كان شاذا حنسيا، وان بوخارين ولد في اسرة شاه فارسي، وسف يكون النجاح حليفك (في علم النقد). كلا. لا جدوى من تخصيص فيكتور بروفييف للنقد موضعا في المقام الاول، انه قد أخطأ. لقد ساعد النقد في الكثير من الامور على خلق وضع مناقض للوضع الطبيعي في الميدان اللغوي الوطني، وهذه هي نواجهها اليوم. كما ان مسؤولية انصراف القاريء عن المجلات السميكة تقع في جانب كبير منها على الحركة النقدية. ليست السياسية وحدها هي التي تقترف الذنب، فالمذهب هو الادب نفسه، والنقد على وجه الخصوص. لماذا يتم رفع غير المقروء وغير الصالح عاليا؟ ولماذا يتم اهمال ما هو جدير التقويم؟ ان كل ذلك يحدث ليس بمحض الصدفة، وليس لان النقاد لديهم ذوق غريب فهذا الذوق الغريب- لدى الجبل القديم يعني ذعر التخلف عن العصر والمرحلة، اما لدى الجيل الفني فهو خفي العقل وانعدام المسؤولية.
في السابق كان مطلوبا عرض الملك عاريا- الرواية الانتاجية – في شكل الرفيق الذي يرتدي ملابسه بشكل جيد وبعضلات مفتولة وعينين زرقاوين بينما هو أفاق نحيل الجسم يخفي كذبه ووقاحته خلف خرقة ما. والآن يقولون قد حلت الحرية. ولكنها مع ذلك لم تات او تحل: جاءت الحرية، ولعلها جاءت من اجل جوال الذهب، ذلك الذي تم الحديث عنه. ولكن ذلك يجري في القبيلة الادبية الحالية بشكل اشد واقوي مما كان عليه في السابق. واذا كانت الرقابة الحزبية في السابق قد مارست القرصنة والتحكم، فان الرقابة الآن لها اشكال أخرى اكثر تنوعا الامر الذي يبرهن عليه ضمنا النقد المرعوب المضطرب والملتف حول الاسماء الكبيرة، اما القرصنة والسلب والنهب والتحكم فهي باقية كما كانت عليه في السابق ولكن من اجل ذلك ينبغي مراعاة الحذر والاحتراس الى درجة عادية جدا: هذا لا تمسه، وذلك لا تقترب منه، لا تقل مثل تلك العبارات، ولا تستخدم هذا المصطلحات وإلا وعلى هذا فما اضيق المجال سواء امام الكتاب او النقاد. اما القراء فان ما تقدمه اليهم المجلات السميكة غير صالح للمطالعة. واخيرا اليكم الاسباب الموضوعية لذلك: ليس بوسعك استعارة كتاب من المكتبة العامة لكونها عاجزة عن نيله وتوفيره، وليس بوسعك ان تقتنيه من مكتبات بيع الكتب لضيق ذات اليد، والكثير من الكتب لا تصل الى الاقاليم. بل وحتى الى سان بطرسبورج، نتيجة لقلة عدد النسخ المطبوعة. وعليه فهذا الظرف ايضا يعمل على تضييق دائرة الامكانيات بشكل لا ارادي، اما بخصوص النزعات والاتجاهات الحالية، فلا أدري ماذا ينتظرنا. ومن الممكن القيام ببعض المحاولات لتطبيق الخط المرسوم لاحقا. فمثلا كثر الهياج والزعيق في السابق على الانحاطاطيين، ثم اعتادوا عليهم ولم تعد عبارة، "عليك ان تعطي ساقيك النحيلتين الشاحبتين" زندقة فظيعة كما كانت. اما عند المستقبليين الزاعقين في بلوزاتهم بدلا من الرمزيين ذوي القمصان المنشأة، صار واضحا ان هذه ايضا ليست نهاية العالم، ويمكن فهم الحماس الذي ولده منظر مايكوفسكي في نفس خوداسيفيتش، ولكن الكثيرين لم يستطيعوا – للسبب نفسه – ان يتحملوا مايكوفسكي شاعر الثورة في المستقبل والصبر عليه. الا ان جريان الحياة وسيرورتها واستمرارها لا يمكن ايقافها وقد وجد مايكوفسكي الذي شتم وطرد من المنصة مكانه فيها. وكذلك خوداسفيتش الذي اعيد اليه الاعتبار، وهذا امر طبيعي وصحيح. كان يفجيني شفارتس مكروها لدى كورني تشوكوفسكي، وهذا بدوره كان مقيتا لدى سلوجوب، وتعرض تشوكوفسكي الى الانتقاد الجارح من قبل الرأي العام التربوي، وهكذا دواليك. ولكن البعض يقرأون ما يكتبه خليبنيكوف، والآخرون سيفريانيون، والثالثون مولعون عموما باعمال سرريكوف، والحمدلله ! وهذا ما ينبغي ان يكون في عالم الفن ! ولكن الواقعية الآن عندنا محاصرة في الركن ومطاردة، اما أنصار ما بعد الحداثة فهم – على حد زعمهم – يحتفلون بعيد الانتصار. الا ان هذا النصر موهوم ومزعوم. وميمي بعض الوقت فتهدأ هياجات هؤلاء وأولئك، وسيكون استعراض حصيلة النتائج او بعضها على اقل تقدير في متناول اليد. ولقد كان بين السوفييت في حينه الشاعر السوفييتي لوجوفسلي، فاستطاع ان ينظر بعين الاعتبار الى احاسيس الكسندر بلوك الرومانتيكية ويقتبس منها. ويمكن ان تقرأ هنا وهناك ان برودسكي استخدم اساليب مايكوفسكي. وقد تعلم راين شيئا او اشياء من سلوتسكي. اما يفتوشثينكو الديمقراطي جدا فقد اختلس النظر الى نتاج خليبنيكوف. الا يمكن ان يحدث فجأة ان تغدو تعرجات بريجوف بمثابة الدرس لدى احدهم؟ كل شيء جائز! فقد كت بليفين الماكر "من عالم الحشرات"، ولم يلتفت اليه اي احد من واضعي قوانين الموضة رغم وقع السرقة الادبية من تشابيك مؤلف المسرحية المعاصرة تماما من حيث روحها "من عالم الحشرات" والتي كتبت قبل ستين عاما من ولادة بيليفن (ونشرت عندنا في سلسلة "المسرح العالمي"). ان كل مؤلفات مروجيك الحائز حاليا على الشهرة الواسعة تتوافق تماما مع مسرحيات تشابيك "الابيض" و"الام" وغيرها. وماذا في الامر؟ ان تداخل الموضعات في الفن قضية مألوفة. وربما ستغدو نزعة ما بعد الحداثة مقروءة تماما في وقت ما من الزمن، وستعتبر طريقة واضحة من حيث الفكرة (وحتى تتمتع بوضوح الافكار)، كل شيء جائز! وهذا التداخل هو الافق المستقبلي الاكثر توفعا. وباذن الله لن يتبرأ سردنا من وصية بوشكين الذي اكد ان النثر يحتاج الى الافكار، والافكار، اما الشعر فانه يتطلب قليلا من البلاهة.. واذا كنا نعتبر أن بيت "عاصفة تغطى السماء بالجهامة" يتصف قليلا بالبلاهة، فماذا يمكننا ان نقول اذن عن شعرائنا الحاليين؟!
مرة أخرى تتولد الرغبة في الشعور بالامل حيال نمو الموضوعية ل النقد. ومرة أخرى نحاول ان نصور لأنسنا انه سوف تظهر اسماء أخرى جديدة.
ـــــــــــــ
* فاليريا نوفودفورسكايا – كاتبة وصحفية يمينية متطرفة وقفت الى جوار اصلاحات يلتسين الجديدة، ومن اهم المناصرين لحكومة جيدار وتشوبايس وكريينكو. يتم استخدامها من قبل جميع الحركات والاحزاب اليمينية المعادية للحركة الوطنية والشيوعيين. وهي من اهم المعارضين لوجود الحزب الشيوعي الروسي، وتطالب بشدة بمنعه وترحيل الشيوعيين خارج البلاد.
ترجمة: أشرف الصباغ (كاتب من مصر يقيم في موسكو)