1- برحيل البردوني تتوقف دورة تجربة شعرية زاوجت، في شكلها ونمط كتابتها بين زمنين، وتصورين في الكتابة – أعني في الشعر تحديدا – أثناء حديثي عن تجربة الجواهري باعتباره أحد قمم القصيدة العمودية، كما تسمى في العرف العام، أشرت الى عبدالله البردوني باعتباره، هو الآخر، أحد آخر هذه القمم المتبقية، وباعتباره أحد الشعراء النادرين الذين حفروا في مجرى القصيدة العمودية، أفقا فرديا يتميز بفرادة تلك الاضافات التي ميزتتجربة البردوني، كما ميزت تجربة الجواهري قبله.
فالشعر المعاصر لم يكن ثورة على الشعر المعمودي باعتباره شكلا، بل ثورة على هذا الشعر باعتباره تصورا ورؤية تقوم في جوهرها على التقليد، وعلى الاتباع، ولم يعد مسموحا في سياقها، بإبداع، أو فتح أي أفق للمغايرة، والاختلاف أعني لفتح النص على مسارب الحداثة، وعلى دم جديد ورؤى مختلفة. وهذا ما جعل من هذا الشعر، في بعض التصورات النظرية التي واكبته، يعتبر القصيدة العمودية نمطا متجاوزا ومنتهيا، لانه يقوم على الاستعادة واجترار ما سبق. وهذا التصور كان يستثني تلك الأعمال الخلاقة، التي حاولت من داخل الشكل العمودي أن تعيد ترتيب أوضاعها بإعادة وضع اللغة، أو بوضعها، بالأحرى، على محك شعرية تتيح للمعنى أو الدالة أن تتخذ أوضاعا مغايرة، ناقلة النص من أفق المعنى إلى أفق الدلالة أو انفتاحها بالأحرى.
في ضوء هذا الاستثناء الذي ينخرط فيه شعراء أمثال المتنبي وأبو تمام وأبو نواس، وغيرهم، ممن أدركوا خطورة التقليد وعماءه، كان الجواهري، يعيد ترتيب انتسابات لغته وإيقاعاتها، ويسعى، بما يملك من معرفة عميقة بشعر غيره، الى توقيع الشكل العمودي بذاته هو كشاعر وبصوته وفرادته لا أن يكون مجرد مستعيد أو مردد لأصوات غيره ولأشكال وأنماط كتاباتهم، بما فيها من معان وأفكار وجزئيات شتى.
في هذا الاتجاه، كان عبدالله البردوني، يحفر مجرى تجربته لا باتخاذ الشكل الجديد، شكلا لكتابته، ولا باتباع السائد والسير على خطي من سبقا أو من جاءوا بعده، فهو كان يسعي لتوقيع نصه بخصوصيته، وبما يطبع عصره وزمنه من أحداث وقضايا , سيظل مرتبطا بها في كل كتاباته. فالشكل العمودي، لم يكن عائقا في وجه الجواهري، كما لم يكن عائقا في وجه البردوني، مع فرق التجربة واختلافات سياقاتها وخصوصيات لغتها وإيقاعاتها، وهذا ما جعل البردوني يحول الشكل العمودي من شكل مغلق دائري مفكك، إلى شكل خطي مفتوح مترابط، أو إلى نسيج متواصل سائر لا يرتد على ذاته وفق ما يمكن أن نسميه هنا بالبناء المرآتي أو التقابلي الذي ظل يميز الشكل العمودي للقصيدة العربية ويطبعها بأوضاع ثقافية، ستنعكس على بناء القصيدة وتجعلها صدى لبيئة سيرفض أبو نواس اعتبارها نموذجا له، لأنه أدرك فرق الإقامة، فاختار كما سيختار الجواهري وعبدالله البردوني، الإقامة في عصره وفي زمنه، وهي إقامة شعرية بامتياز.
2 – تميزت تجربة البردوني بإصراره على كتابة قصيدته بنفس واحد، فهو لا يترك البيت معلقا بين هواءين، فهو كان يلحم أجزاء النص، يكتبا دفعة واحدة، أو يضعه في نسق متسق لاغيا بذلك فكرة البيت باعتباره بيتا من الأبنية أو هو نسيج وحدة، كما يقول ابن خلدون ولأن قضية البردوني الشعرية بالدرجة الأولى، ثم الفكرية ؟ لم تكن لتأتي مفككة ناتئة، لذلك كان يدفع بالقصيدة في اتجاه النص، أو ما سيصطلح عليه بالوحدة العضوية، ووحدة الموضوع.
ليس هذا ما يجعل من تجربة البردوني تحظى باهتمام القراء والباحثين، لأن هذا العنصر كان سابقا عليه، لدى مدرسة الديوان وغيرها، وحتى في بعض النماذج الشعرية السابقة فالبردوني، حتى لا يبقى أسير تبعات شكل شعري مثقل بأثار العابرين، سيتجه، كما يؤكد ذلك الأكور عبدالعزيز المقالح، وكما تؤكده تجربة البردوني الشعرية، الى تحويل أو تحميل الكلمات والألفاظ والصور دلالات تنجو باللفظ من واحدية المعنى، وتعتني باللفظ باعتبارها جزءا من السياق العام للجملة أو النص، ولعل هذا ما سيجعل من البردوني يستعين بالألفاظ العامية، وبالتراكيب اللغوية البسيطة أو القريبة، بالأحرى، من الفهم العام. فلا داعي للسير خلف تداعيات الشكل، والسير وراء ما يستدعيه من تعابير وصور مثقلة بتاريخ يرى فيه البردوني تاريخ أناس مروا وأشادوا بزمنهم إن سلبا أو إيجابا فقصيدة البردوني تتقاطع فيها كل هذه المستويات، ومن خلالها كان ينسج أفق كتابة ترتبط بزمنها, وتسير في سياقه أو تتجاوزه.
فالأفق الدلالي الذي كانت تفتحه تجربة البردوني، هو ما سيتيح لقصيدته أن تخرج عن سياق الكتابات العمودية التي ظلت تستدعي السياقات المباشرة والتعابير التي يسهل على القارئ العارف بجغرافية الشعر القديم، أن يحدد انتماءها، وعند البردوني تصبح الأراضي ملتبسة، من الصعب تحديد مرجعياتها ولو أنه يعتبر من بين المتأثرين بأبي تمام بشكل خاص واستثنائي.
وفي النموذج التالي يظهر بوضوح فرق الهواء الذي يفصل بين تجربة البردوني، وبين من اختاروا الشكل العمودي كشكل تاريخي وليس شكلا شعريا. يقول البردوني:
مثلما تعصر نهديها السحابة
تمطر الجدران صمتا وكآبة
يسقط الظل على الظل كما
ترتمي فوق القامات الذبابة
يمضع السقف واحداق الكوى
لغطا ميتا وأصداء مصابة
مزقا من ذكريات وهوى
وكؤوسا من جراحات مذابة
تبحث الأحزان في الأحزان عن
وتر باك وعن حلق ربابة
عن نعاس يملك الأحلام عن
شجن أعمق من تيه الصبابة
يشعل الأشجار، تحسو ظلها
تجمد الساعات من برد الرتابة
في هذا النموذج وفي غيره , تصبح اللغة ذات أبعاد، وانشراحات، رغم ما قد يبدو لنا فيها من حصر, لا حد له فهي تتعود وتفتح مساري لتخيلات تصبح اللفظة المعزولة فيها لا معنى لها، شأنها مبنية في سياق خاص ,وهذا ما يجعل الجملة تركيبا نسقيا له ما به يبرر ورود رمزيته (إذا شئنا أن نبسط الصورة ) أو انفتاح معانيه حينما يتعلق الأمر بإجتراح معان جديدة وتعبيرات مغايرة.
وتعود بي الذاكرة في هذا السياق إلى قول البردوني التالي. وهو قول مشحون بكثافة دلالية ملبدة بإيحاءات عميقة، وبإحساس فاجع بالزمن،
هرب الزمان من الزمان
خوت ثوانيه الغبية
من وجهه الحجري
يفسر الى شناعته الخفية
حتى الزمان بلا زمان
والمكان بلا قضية
فهل زمان البردوني هنا هو الزمان الكونولوجي المعروف، وهو ما يمكن أن يقال عن المكان.. فالبردوني يحول كل شيء ويجعله يلبس ثوبا جديدا ملبدا بما يعتمل في رؤية الشاعر من تداعيات وتخاييل باهرة.
-3-
توقف عدد من الدارسين لشعر البردوني عند أحدى أبرز الخصائص المميزة لتجربته، وهي السخرية. والمتأمل في شعر البردوني سيدرك لا محالة قصدية البردوني في من , شعره بالسخرية أو بالفخاخ التي تجعل من القارئ يحذر شراكها، خصوصا حين. يعلم أن البردوني لا يهجو بل يصور ويشحن صوره بما يجرنا في أحايين كثيرة الى استعادة نموذج ابن الرومي، ولا أعنيه حرفيا حتى لا يضيع الفرق. فالبردوني ساخر وليس هجاء، وهو ما يجلوه بوضوح قوله في قصيدته الشهيرة، حين يجره الحديث عن اليمن، وشجون اليمن:
ماذا أحدث عن صنعاء يا أبتي
مليحة عاشقاها السل والجرب
ماتت بصندوق وضاح بلا ثمن
ولم يمت في حشاها الحب والطرب
كانت تراقب صبح البعث فانبعثت
في الحلم ثم ارتمت تغفو وترتقب
ولن استمر في سرد النماذج. التي يرد فيها مثل هذا النوم من السخرية السوداء، المرة التي كان فيها البردوني قاسيا على ذاته قبل أن يقسو على غيره. فلماذا الكذب والتدليس حينما يتعلق الأمر بالشعر، أو بواقع يقدم نفسه هكذا، فالشاعر حين يلتقط الواقع، فهو يلتقطه بتلك المرارة التي تضيع منه حين يكون تعبيرنا خاليا من النفس الشعري المتسم بإيحائيته وبانشراحات معانيه وقوة تصويره.
فالبردوني حين يعمد الى توظيف السخرية للتعبير عن تدمره وصراراته المتوالية، وهو الذي عاني السجن والاعتقال، فهو يقصد من وراء ذلك إلى تفجير ما يحفل به الواقع من تناقضات قبل أن يسعي لتفجير اللغة وإعادة تنسبيها، وهذا في نظرنا ما يجعل من السخرية عند البردوني، ترتبط في بعض أوضاعها بما أصبح ساريا في تجارب بعض شعراء الحداثة من هذا النوع من الكتابة أو أساليب الكتابة بالأحرى.
-4-
لن أقف عند البناء الحكائي لقصائد البردوني ولا عند الأبعاد الدرامية التي طبع بها كتابته. فقد عمت دراسات سابقة على كشف أبعاد ذلك في تجربة الشاعر ساكتفي هنا فقط بالإشارة إلى هذه المستويات، في كتابة البردوني باعتبارها من أشكال سعيه لفتح الشكل العمودي واجتناب السقوط في البناء العمودي الذي طبع القصيدة في أعتى مفاهيمها، باعتبارها بنا مفككا، وباعتبارها مسورة بعناصر بنائية تحد من طاقة تفجير الشكل وتجعله أبديا أو تعمل بالأحرى، على تأبيده.
البردوني إلى جانب الجواهري، باعتبارهما أخر الأسلاف، عملا معا، كل من زاويته، على تحيين الشكل العمودي، وإخراجه من حرفية التقليد، وحرفية البناء، بخلاف أولئك الذين اختاروا البنية التقليدية للقصيدة بعلاقاتها التاريخية وبخصائصها المباشرة. وقد جرتهم، يقول عبدالعزيز المقال، تلك المحافظة، عن قصد أو غير قصد، إلى استرجاع المضامين القديمة والأشكال التقليدية، ولذلك جاء نظمهم اجترارا, ودفعهم الاستخدام الروتيني للقوالب المتوارثة إلى الأسالب الفنية المسبوقة.
-5-
لن أتحدث عن الجانب الثوري في تجربة البردوني، أيضا، سأكتفي فقط بإيراد نموذج له، لعله، كما أراه، يكفي للكشف عن ميل هذا الشاعر إلى تسخير تجربته في قول الأشياء كما تتبدى له دون قيد ولا شرط. وهذا ما عرف عنه، أو ما أعرفه عنه، وما تقربنا كتاباته منه.
يقول من تجربته في السجن:
هدني السجن وأدمى القيد ساقي
فتعاييت بجرحي ووثاقي
وأضعت الخطو في شوك الدجى
والعمى والقيد والجرح رفاقي
في سبيل الفجر ما لا قيت في
رحلة التيه وما سوف ألقي
سوف يفنى كل قيد وقوى كل
سفاح وعطر الجرح باقى
-6-
وأريد في نهاية هذه الورقة، أن أشير الى كون البردوني لم يكن شاعرا فقط، بمعنى أنه لم يكن شاعر يكتفي بكتابة الشعر، فهو كان ينخرط فيه نظريا ونقديا. وقد كرس جزاء من جهده النظري والنقدي لإضاة تجربة الشعر اليمني.. وهذا في نظرنا يعكس بوضوح وعي البردوني الشعري. فالشعر لديه ممارسة في الكتابة بمساريه النصي والنقدي أو النظري، أعني أن البردوني كان واعيا بالمسار الذي كان يجترح شعريته في أفقه. ولعل في هذا الظاهرة ما يخفي ربما، تصور البردوني للحداثة، أو انخراطه فيها، رغم ما قد يبدر في موقفه إزاء الشعر المعاصر أو الشكل المعاصر للكتابة الشعرية من تذبذب أو التباس بالأحرى.
صلاح بوسريف (شاعر نت المغرب)