لعل الراهن التشكيلي العماني بمختلف توجهاته وتعدد تجاربه لم يصل بعد الى نقطة تمكن الباحث من فرز واستقراء الحالات الابداعية المتناثرة هنا وهناك بشكل يقترب من العشوائية في غالبيته ، لكنه من المؤكد أن هناك – في ذلك الصمت النبيل البعيد عن أبواق المفتعلين – تجارب تتخلق لتؤسس ذائقة جمالية من خلال التجريب وارتياد العوالم الجديدة للتشكيل.
ولعل المعرض الأخير للفنان العماني حسين عبيد – والذي أقيم بصالة الجمعية العمانية للفنون التشكيلية بمسقط – واحد من أهم المعارض التي تقدم التجريب من خلال الخامة والموضوع والتكنيك… وهذا المعرض ليس تجربة فنية جديدة لهذا الفنان فحسب بل ولمشهد التشكيل العماني ككل.. حيث استلهم حسين عبيد كل أعمال معرضه – والذي حمل عنوان " إيحاءات الروح " – من انشطارات الروح وتشظيها وعلاقتها بالجسد وبالأشكال الهندسية المجردة مستخدما في ذلك وباقتصاد شديد لفة تشكيلية رامزة تتخذ من الأبعاد الصوفية العميقة مرمى لتوجهاتها ومقاصدها، فهو يصور الروح بهيئات مختلفة ومتشابهة في الأن نفسه ، يجمعها فيما يبدو شيشان جليان هما: الزمن الطاعن المتأبا في خلفية اللوحة وحالات التمزق والشتات التي عادة تملأ بأشلائها المبعثرة وجه اللوحة القريب.. وفي معظم اللوحات يبرز اللون البني (الطيني) بدرجاته المتفاوتة كأداة ارتباط واقتراب من الأصل الصلصالي الأول للتكوين والخلق الانساني، جاعلا من ذلك اللون قاسما مشتركا هاما بين الأمرين.
تتميز أعمال هذا الفنان من حيث طرقا لجماليات ذات بنائية وتركيبية حديثة توا لفت وتآلفت فيها الموضوعة العميقة والأشكال المجردة التي شكلت الوعاء الذي تقمصته الروح في شتى صورها وتجلياتها،كما تجلت فيها أيضا براعة واتقان الفنان في استخداما الذكي للألوان وفي المساحات الفارغة التي تشكل أيضا جزءا هاما من تكوين أعماله.
وعلى الرغم من جنوح حسين عبيد في أعماله الأخيرة إلى مناطق تشكيلية وعرة وغير مأهولة الا أن الاختزال من خلال التجريد واللون استطاع أن يكفل له توصيل خطابه التشكيلي الى المشاهد دون تكلف أو اغراق في رمزية غير مدروسة.
وتظهر اللغة الاختزالية كإحدى أهم اللمسات التي اعتمد عليها حسين عبيد في تقصيه لرؤاه واشاراته التي يستعيض عنها ببدائل بصرية بسيطة تثري الموضوع وتعمل على ربط المخطط الذهني (الفكري) للوحة مع الأداء التقني الذي يكون عادة المعبر الأول والأساسي للدخول الى نبض الفكرة… فهذه الاختزالية ما هي إلا أداة توخى حسين عبيد في استخدامها البحث المحموم داخل دائرة معينة / محددة يمكن تخيلها على انها ساعة مغناطيسية ذات اقطاب محددة تتأرجح فيما بينها ابرة رقيقة هي
(الفكرة )… أو كما يقول الناقد التشكيلي العراقي كفاح الحبيب (ان عناصر العمل الفني الذي يحققه حسين عبيد محصورة في محاور محددة ، انها شخوصية بشرية ورمزية ناتجة عن حث منتجات طبيعية ، ولكن أي شخوص وأي طبيعة ؟ فالاختزال الذي ينتجه يقدم لنا مسحا شكليا لتلك العناصر مع التركيز في فك ارتباطاتها بعوامل التكوين الذهني
للذائقة الجمالية من خلال وضع معالجات تقنية خاصة ). ان تلك المعالجات التقنية ربما ساعدت على انقاذ (ايحاءات الروح ) مما يمكننا تسميته بـ (لطخات الريشة ) أو ما يسمى في عالم الكتابة بصرير القلم حيث تطفى (الذهنية ) عل كثير من الأعمال الفنية التي يرتجي المبدع من وراثها خلق أثر حسي أو ميتافيزيقي معين خطط له.. ينظم حسين عبيد لوحته بحيث يجعل الرمز الهندسي الذي يكون عادة مربعا أو مستطيلا يملأ حيزا معينا من فضاء اللوحة – في أجزائه السفلى مناغما مع الشكل الاساسي الذي يمثل موضوع اللوحة يعاضده في ذلك التوحيد اللوني (Monochrome) بين كل تلك العناصر المتباينة تماما… فهناك كما يقول د. أحمد باقر عن تلك العلاقة (.. ومن ذلك يتضح لنا أنه تبنى محتوى لوحاته على هذا الصراع القائم بين الشكل الهندسي المربع وبين الكتل المنبورة… وكأن الصراع المحتوم في اللوحة بين الهندسي أو النظامي والطبيعي).
ويلاحظ في بعض أعمال المعرض أيضا الهالة الداكنة اللون التي تحيط بالأشكال الطبيعية (الأرواح ) والتي ربما أراد بها خلق نوع من التمايز بين ما هو روحي وما هو هندسي وربما كذلك ليدلل على حسية الروح التي جسد ايحاءاتها. ان الشكل الهندسي رغم خفرته في اللوحة يظهر تارة كمرتكز أوحامل انبنى عليه مشهد اللوحة المتخيل… وتارة أخرى ككوة صغيرة في جدار شاهق يفصل بين برزخين هما عالم المادة وعالم الروح.. إن أعمال هذا الفنان المتميز فعلا تذكرنا بأننا مجبرون ، شئنا أم أبينا، أن نبحث في يوم ما عن ثقب صفير جدا لنطل من خلاله بدافع من ايحاءات أرواحنا على عالم آخر غير عالمنا.
محمد بن علي البلوشي (كاتب عماني)